الآن تتحدثون عني وقد كنت مجهولًا لا يعرفني أحد سوى أهلي وجيراني، كلكم تتساءلون عن سر ذلك السجود. دعوني قبل أن أخبركم بالسر أن أخبركم أني وجدت ما وعدني حقًا، وجدت النعيم الذي افتقدته في الدنيا، وجدت رحمة الله التي تفوق كل تصور.
لا تسعني كل كلمات اللغة لأصف لكم ما وجدت ولكنه أعظم من كل ما تتخيلون.
دعونا نبدأ الحكاية من البداية فقد رأت أمي في المنام قبل أن تعلم أنها تحملني في أحشاءها أن رجلًا مباركًا بثياب ناصعة البياض منحها شال أبيض يحتوي على شيء وحينما فتحته وجدته مصحفًا فابتسم الرجل المبارك وقال لها:
-اجعلي ابنك القادم يحفظه في قلبه ويهب له حياته
وانصرف واستيقظت أمي وهي متفاءلة بتلك الرؤيا وعندما علمت بحملها قررت أن تهبني لخدمة الدين وأن تجعلني من حفظة القرآن.
حكت لي أمي أنها طوال مدة حملها لم تكن تستمع في المذياع سوى للقرآن الكريم فقط حتى يتسلل إلى مسامعي، وأن ولادتي كانت أيسر من ولادة كل أخوتي لذا أسمتني تيسير. كان لأسمي نصيب كبير من قدري فكانت حياتي كلها تيسير، فيسر لي الله حفظ القرآن الكريم في سن مبكر، كما يسر علي سنوات الدراسة لأني كنت سريع الحفظ.
لم أكتفِ بحفظ القرآن إنما كنت أسعى لفهمه من خلال قراءة التفاسير المختلفة، وإلى تطبيقه في حياتي. نشأت في خان يونس في قطاع غزة المُحاصر من كل جهة فكان يصعب علينا الخروج منه أو دخول البضائع والأدوية. كنا نعيش في سجن كبير مفتوح نتعرض فيه للإذلال لأننا فلسطينيين ونتمسك بأرضنا وحقنا في الحياة بحرية.
نشأت على قمع قوات الاحتلال الغاشم لنا وعدوانه الوحشي علينا وقتل أهلنا وتدمير ممتلكاتنا، بل وانتهاك حرمة المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
كل ذلك أثار بداخلي الغضب فليس المؤمن الذي يستسلم للظلم والضيم ولا يدافع عن عرضه ومقدساته فقررت أن أهب حياتي فداءًا للأقصى ولأهلي و حرية وطني.
التحقت بالمقاومة في فترة الشباب وتدربت معهم في سرية تامة. واصلت دراستي وكنت إمام المسجد في حينا وتزوجت بفتاة تعينني على طريقي وتشاطرني أحلامي. لاحظت استعدادات المقاومة لشيء ما لا أعرفه ولا أعرف موعده ولكني أعرف أنه سيحدث فارقًا في حياتنا.
حتى كان يوم السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ وانطلقت معركة طوفان الأقصى وقررت ألا أدع تلك الفرصة تفلت من يدي، فتلك فرصتي التي طالما حلمت بها فإما أن نحقق النصر لوطننا ونحرر أقصانا، أو ننال شرف الشهادة في سبيل الله.
تركت بيتي وأسرتي وشاركت في عدة عمليات و رغم وحشية القصف الذي لم يرحم صغيرًا ولا كبيرًا إلا أن شعبنا أبدى صمودًا يُسجل على صفحات التاريخ، كما سيسجل التاريخ تقاعس الجميع عن نصرتنا ولم يبقَ لنا إلا الله الذي سينصرنا كما وعدنا.
بعد أن عاني شعبنا الويلات التي يشيب لها الولدان من عدوان بربري همجي يستهدف الحجر والبشر وكل الكائنات لمدة تزيد عن ثمانين يومًا، خرجت في عملية فدائية وقلبي يخبرني أنها الأخيرة. استعنت بالله وكالعادة سألته إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة وقلبي يتمنى الشهادة والنصر معًا.نفذت العملية كما هو مطلوب مني وأثناء تحركي أصابتني شظية في مقتل فأدركت أني ميت لا محالة فتحاملت على نفسي ورفعت رأسي وأشرت بعلامة النصر لعل هناك من يراني فيدرك أني أحلم بالنصر وما استشهادي إلا خطوة في سبيل تحقيقه. زاد الألم حتى كاد يمزقني وخارت قواي فأدركت أن اللحظة قد حانت فأردت أن ألقى ربي كما اعتدت ساجدًا لأشكره على عظيم فضله وكرمه وأسأله أن يمن على فلسطين بالنصر المبين. فاضت روحي وغادرت جسدي إلى نعيم مقيم لدى رب رحيم.
ظن العدو الذي صور لحظة استشهادي أنه إن نشر الفيديو الذي سجل كل ذلك أنه نصر له وسيفُت في عضد المقاتلين وهو لا يعلم أن الشهادة بالنسبة لنا أمل وحلم عظيم، فكانت النتيجة أن حقق الفيديو مشاهدات لم يتخيلها أحد.
صرت حديث الناس وأطلقوا علي لقب الشهيد الساجد، بل وصرت قدوة للشباب ونموذجًا للثبات والإيمان. لقد أرادوا أن يقتلوني ويهزوا ثبات المقاومين وأراد الله تكريمي وتثبيت الجميع.
كانت حياتي ومماتي في سبيل الله وكان كرم الله وجزاؤه أعظم.
تمت