في سنوات الشباب المفعمة بالحيوية والانطلاق كنت شابة أؤمن بالمواقف المحددة الواضحة فإما أبيض أو أسود أما اللون الرمادي فلم أكن أطيقه وليس له أدنى وجود في قاموس حياتي. فالرمادي لون مائع ، غير واضح المعالم وأنا أحب الوضوح. كنت ذات مبادئ وقيم ولا أتنازل عنهم لأي سبب ولا من أجل أي مخلوق. تصادمت كثيرًا مع هؤلاء الرماديين وكنت أمقتهم لأنهم قادرين على التلون مع كل طرف والتأقلم مع كل المواقف، وليس لهم مبادئ، سهل تنازلهم عن القيم والأخلاق.
كانت شخصيتي واضحة للجميع مما جعل صديق أخي يطلبني للزواج لأني -كما قال لي فيما بعد- فتاة واضحة وذات خلق ومبادئ. في البداية كان زواجا مبنيا على العقل فقط ، وكان بيننا تشابه كبير في الأفكار والمبادئ، وشيئًا فشيئًا بدأ الحب يتسلل بيننا.
تم الزواج وعشنا في سعادة لفترة ثم بدأنا مواجهة الواقع ومسئولياته ، كما سقطت كل أقنعة فترة الخطوبة وظهرت حقيقتنا، بقيت كما أنا دائما واضحة وضوح الشمس، أما هو فكل يوم كنت أكتشف فيه شيئًا جديدًا وأتغاضى عنه لتسير الحياة ، فكما قالت لي أمي:
- التغافل عن العيوب هو سر استمرار الحياة
وعندما بدأت أتغافل كانت تلك أولى خطواتي نحو المنطقة الرمادية، فقد تغافلت عن إهانة أمه لي المستمرة وقولها :
-كنت عانسًا وأنقذناك ولا أدري ما أعجبه بك ذلك المخبول فلا مال ولا جمال
وتغافلت عن أول شجار بيننا عندما جرحني بشدة وقال:
-أنت باردة كلوح الثلج بلا جمال ولا أنوثة وأخشى أن تكوني أرضًا بور
أدمت كلماته قلبي وصممت على الطلاق، لكني تراجعت لأني اكتشفت أني أحمل في أحشائي طفله فقلت لنفسي:
-لعل وجوده يحسن من حياتي
وبدأت الانزلاقات للمنطقة الرمادية ، فتغافلت عن خيانات وإهانات لتمضي الحياة ويتربي ابني بين أبويه. كما تغافلت عن حقي في راتبي وكنت انفقه كاملًا على احتياجات ابني والبيت، ونسيت احتياجاتي الشخصية، بل ونسيت نفسي.
حتى العمل جرني بشدة للمنطقة الرمادية حيث نافقت مديرتي تلك المتصابية المتسلطة حتى لا تخصم من راتبي بسبب وبدون سبب، كما كنت أتغافل عما يفعله زملائي من سرقة وتزوير وأبرر ذلك لنقسي فأقول:
-مادمت لا أشاركهم في أفعالهم فلست مثلهم
كانت الطامة الكبرى عندما جاءنا مدير متحرش، تجاوز الخامسة والخمسين ويظن نفسه شابًا ظريفًا وبموجب سلطته على الموظفات لديه يدرك أنهن لن يفضحنه. في البداية لاحظت نظراته المتفحصة لكل أجساد الموظفات وأنا منهن، ثم تطور الأمر لتحرش لفظي حيث الكلمات التي تحمل أكثر من معنى وتطورت لتحمل معنى واحدًا صريحًا وخادشًا للحياء. عند تلك المرحلة فكرت في طلب النقل لإدارة أخرى لأتجنبه فقررت أت أستشير زوجي الذي قال:
- أمجنونة أنت ؟ أتنتقلين من أفضل الإدارات في العلاوات والامتيازات المالية من أجل بضع كلمات؟ هل تظنين أنه سينظر إليك حتى ؟ ألا ترين نفسك بملابسك غير المهندمة ، المتسعة، وتلك الهالات السوداء حول عينيك؟ ووجهك الخالي من المساحيق كالأموات؟ هل سيترك كل الجميلات ليتحرش بك أنت؟
ثم ضحك بشدة وأنا أقف أمامه مذهولة من رأيه في ومن لا مبالاته وغياب نخوته.أدركت حينها أني غارقة في المستنقع الرمادي ولا سبيل للنجاة، فتلك الأوحال تغمرني ولا تترك لي الفرصة حتى للتنفس أو حتى محاولة الخروج منها، فهل أقاوم وأخرج؟ أم أستسلم لتلهمني المنطقة الرمادية وأغرق كالأخرين؟