كنت دائمًا أحلم حلمًا يراه الجميع مستحيلًا، فقد كنت أحلم بحج بيت الله الحرام وكان ذلك مستحيلًا لأني لا أمتلك المال وسني صغير فلن تُتاح لي فرصة الحج التابع للحكومة حيث أن نفقاته أقل. كلما سمع أحدٌ بحلمي يراني مجنونة أو حالمة وأن ذلك لن يتحقق. لكن كل ذلك لم يمنعني من الحلم واليقين بتحقيقه لأني لا أطلب من البشر بل من أكرم الأكرمين صاحب البيت العتيق الذي إن أراد شيئًا يقول له كن فيكون.
كلما سألني أحد الحجاج او المعتمرين من أقاربنا وجيراننا ماذا تريدين أن نحضر لك؟ أجيب أدعوا لي أن يرزقني الله بالحج فيضحكون ويقولوا: كم انت طامعة على الأقل اطلبي العمرة فتكون إجابتي: أنا طامعة في الكريم الذي لا يرد السائلين.
تمر السنوات والحلم يملك علي كل قلبي وخاصة وأن أبي كان من عشاق حج بيت الله الحرام فكان دائمًا يقول: تلك متعتي في الدنيا. فأردت ان أجرب مثله تلك المتعة التي طالما حكى لنا عنها منذ طفولتي وغرسها في قلبي.
تقدمت للحج التابع للحكومة ورُفض الطلب، فلم أيأس بل قدمت مرة أخرى ولكن كل الظروف المحيطة بي كانت تشير إلى أنه من المستحيل أن يُقبل طلبي هذا العام. لم احزن إنما رفعت رأسي للسماء وقلت : يارب علي السعي والنية وأنت وحدك من تملك تحقيق المستحيل.
وظهرت نتيجة المقبولين في الحج التابع للحكومة وكانت المفاجأة المُدوية، فقد استجاب الكريم ودعاني صاحب البيت للزيارة فبكيت فرحًا وأنا أحمد الله على فضله وكرمه والكل يتعجب من ذلك. أفقت من فرحتي على تساؤل مهم: كيف ستدبرين نفقات الحج وأنت لا تملكين منها شيئًا؟ فأجبت بنفس اليقين: من رزقني بالحج سيدبر لي نفقاته.
كان لي مبلغ صغير كميراث من أبي فاستخدمته وبعت مشغولاتي الذهبية الغالية على قلبي لأنها أخر ذكرى لي من أبي رحمه الله، كما بعت مشغولات ابنتي الذهبية ووعدتها أن أعوضها وأنا لا أعلم من أين ولكن يقيني بالله كان كبيرًا. ومنحتني أمي اسورتها الذهبية التي كانت تدخرها للزمن وتدبرت النفقات.
كنت أحمل هم ابنتي الصغيرة المتعلقة بي لكن وجود أمي معها كان مصدر طمأنينتي فهي رغم كبر سنها ستعتني بها.
تركت كل الدنيا بمشاكلها خلف ظهري وذهبت إلى بيت الله الحرام وقلبي يعصف به الشوق والرجاء. فالشوق للزيارة والاستمتاع بالروحانيات، والرجاء بأن يتقبل الله مني وأن يمحُ الذنوب وأفوز بالعفو.
دخلت إلى صحن الكعبة وقد أعددت الكثير من الأدعية ولكن كلها تبخرت من رأسي ووقفت مبهورة بالمشهد العظيم الذي ملك لُبي وروحي. فمشاعري خليط من الفرحة والشوق والرهبة فأنا أقف في بيت الله الحرام بين يدي مالك الملك فماذا أقول؟ فكل الكلمات لا يمكنها أن تصف ما يعتمل في قلبي، وكل كلمات الحمد لن تعبر عن مدى شكري لفضل الله. شعرت أن لساني عجز عن النطق لكنه وحده يعلم ما قلبي وخاطري، ومازلت حتى يومنا هذا لا أتذكر ما قلته في اول مرة.
قضيت عدة أيام في مكة وأنا حريصة على أن أصلي في عدة أماكن في الحرم وبعد انتهاء الصلاة أذهب لأرى الكعبة من مكاني وأكثر من الدعاء.
وحان وقت الحج واكتظت دروب مكة بالحجيج الذين أتوا من كل فج عميق. فرأيت الأفارقة الفقراء الذين لا يعرفون العربية والذين يفترشون الشوارع المحيطة بالحرم، ويتحملون كل شيء مقابل أن يؤدوا مناسك الحج. ورأيت السيدات من أفغانستان وباكستان ولا يعرفون القراءة والكتابة ولا العربية ولكنهن كلما رأين مصحفًا فتحنه ليتأملن كلماته الشريفة ثم يقبلنه بتعظيم وإجلال.
رأيت الناس من كل الجنسيات تركوا الأهل والمال والمناصب ووقفوا على باب الرحمن يرجون عفوه وغفرانه. وعلى عرفات الله رأيت دموعًا تُسكب وأكف مرتفعة إلى عنان السماء فالكل يطمع في كرم الكريم ولطفه ورحمته.
بعد أن انتهت المناسك كان علينا أن نودع الحرم الذي تعلقت قلوبنا بكل ركن فيه فانسكبت العبرات وفاض الحنين حتى قبل أن نغادر ورزقنا الله صلاة في صحن الحرم في مواجهة الكعبة رغم شدة الزحام. قلت لعل الله تقبل مني تلك الحجة وكنت على بقين بأني سأعود مرة أخرى للحج رغم مشقته. رغم أن حلمي الجديد لم يتحقق لكني مازلت أتشبث باليقين فكما فتح لي صاحب البيت الباب أول مرة وحقق الحلم المستحيل فهو وحده القادر على أن يحققه لي مرات عديدة لأطفئ ذلك الشوق والحنين إلى بيت الله الحرام.