لا أصدق أني أجلس لتلقي عزاء أغالى إنسان على قلبي. رحل أبي الحبيب الذي كان لي أبًا وأخًا وصديقًا ، والذي رفض الزواج بعد إصرار أمي على الطلاق منه والزواج بآخر والسفر للخارج. لم يفكر يومًا في نفسه إنما كان يفكر في وفي مصلحتي، حتى عندما أصر على أن أتزوج من ابن صديقه فقد كان يعلم بخطرة مرضه وأنه سيتركني وحيدة لذا أصر على زواجي حتى أكون في آمان عندما يرحل. كان يظن أن زوجي هو سندي وأماني كما كان هو طوال حياتي، لكنه لم يكن يعلم أنه مجبور علي وأننا نعيش معًا كالأغراب.
لم أشكُ له من زوجي حتى لا يحزن ولا يحمل همي ولا يظل يلوم في نفسه لأنه كان سببًا في تعاستي. كتمت حزني وقهري في قلبي ورسمت على وجهي ابتسامة سعيدة استطعت خداعه بها كلما رآنا معًا. واليوم قد رحل وهو مطمئن على حالي في كنف زوجي وهو لا يعلم أنه يسعى للخلاص مني ليتزوج بمن يحب. لم أكن أحب أي شخص عندما أصر أبي على خطبتي فحاولت التأقلم مع خطيبي الصامت دائمًا لكنه لم يترك لي فرصة حتى للتعامل معه. كان يهرب بحجة انشغاله بين عيادته كطبيب بيطري وعمله بمزرعة أبي بالطريق الصحراوي.
طالما قلت لنفسي ربما لأننا ليس بيننا ما يسمح له بالحديث عن المشاعر وأنه ينتظر لما بعد الزواج. لم أحبه أو أكرهه إنما كانت مشاعري تجاهه محايدة لا تحمل عنوانًا لأن التعامل بيننا كان محدودًا جدًا. يوم زواجنا لم يكن سعيدًا أو مبتهجًا إنما بدا حزينًا ومهمومًا فشعرت بانقباض في قلبي وتخوفت مما هو قادم. بعد أن دخلنا إلى بيتنا قال لي أنه مُجبر على ذلك الزواج إرضاءً لأبيه لكنه يحب أخرى ولا يستطيع أن يكون لغيرها، وهو يعلم أنه ظلمني لأنه لم يصارحني ولكنه لن يلمسني حتى يتم الطلاق بيننا.
كانت صدمتي أكبر من كل الكلمات، حتى الدموع تحجرت في عيني ولم أنطق بكلمة إنما دخلت غرفتي وأغلقت بابها على نفسي. تساءلت لمَ فعل بي أبي وأبيه ذلك هل يظنان أن في ذلك سعادتنا؟ ها هم يجنيان علينا؟ وأنا وحدي من سأدفع الثمن وأحمل لقب مُطلقة بينما هو سينعم بحياته مع من يحب. لم يكن أمامي حل سوى تجنبه طوال فترة تواجده بالبيت التي كانت قليلة، فكان يُغرق نفسه في عمله كذلك كنت أفعل فأنا أعمل في التسويق الإليكتروني.
بعد مرور ستة أشهر من زواجنا المزعوم توفي أبي وتركني وحيدة بلا أي سند وعلي أن أواجه الحياة وأتحمل مسئولياتها وحدي. كان أول قرار اتخذته بعد انتهاء أيام العزاء هو طلب الطلاق والإصرار عليه رغم رفض والده بشدة إلا أني صممت بل أني هددته بالخلع. اضطر والده أخيرًا أن يوافق على الطلاق حتى أهدأ ثم يجبر ابنه على أن يردني. لم يكن يدرك أن ابنه يريد التخلص مني بأسرع وقت و لن يفكر في مرة أخرى.
حصلت على الطلاق وترك طليقي العمل بمزرعة والدي وبعد شهر واحد تزوج حبيبته رغمًا عن أبيه وسافر للعمل في الخارج واصطحبها معه.كان علي أن أدير أمور عملي وميراثي وحدي، فقد حصل أبناء عم والدي على حقهم في الميراث ثم انقطعوا عني وتركوني وحدي حائرة لا أعرف ماذا سأفعل في تلك المزرعة الكبيرة. قررت بيعها رغم صعوبة ذلك على قلبي فأبي كان يعشقها وبذل سنوات عمره حتى حولها من صحراء جرداء إلى مزرعة مُثمرة.
ظهر في حياتي أحد أقرباء والدتي الذين قطعوا علاقتهم بنا منذ سنوات وجاء لتعزيتي فقابلته ببرود .أخبرني أنه كان على تواصل مع والدي منذ فترة وأن والدي عرض عليه أن يعمل معه في المزرعة بسبب خبرته الواسعة رغم صغر سنه فهو لم يتجاوز الثلاثين،وأنه يضع كل خبراته رهن إشارتي وسيساعدني في إدارة المزرعة مقابل نسبة من الربح. استشرت المحامي فأشار علي بالموافقة مع وضعه تحت المراقبة.
بدأنا العمل معًا وكنت أنا المدير الإداري وهو المدير التنفيذي واختار طبيبًا بيطريًا يعرفه للإشراف على الجزء المخصص للمواشي. كنا نلتقي كل يوم ونتحدث بخصوص المزرعة وكنت أشعر معه بارتياح كبير، حتى أننا بدأنا نتحدث عن خصوصياتنا فعرف ظروف زواجي وعرفت أن تعثره المالي سبب عزوفه عن الزواج. بعد ستة أشهر عرض علي الزواج فوافقت وتزوجنا في المزرعة. عشت معه أجمل خمس سنوات في عمري وأنجبت ابنتنا التي كان يعشها لأنها كانت تشبهني كما كان يقول. كان حنونًا، طيبًا، يدللني كثيرًا ويخبرني أني مكافأة الله له على صبره.
بينما كنت عائدة من عند الطبيب بعد أن تأكدت من خبر حملي الثاني بعد سنوات من إنجاب ابنتي وكنت أطير فرحًا لأخبره، أخبرني العاملون في المزرعة أنه وقع له حادث تصادم مع سيارة نقل ونُقل على أثرها للمستشفى. تركت ابنتي مع الخادمة وأسرعت إليه ففوجئت بخبر وفاته. وكأن القدر يُصر دائمًا على حرماني ممن أحب وأشعر معهم بالسعادة. رضيت بقدري وها أنا أجلس لأتلقى العزاء وأتساءل ماذا سيحدث لي ولابنتي وللطفل في أحشائي الذي لم يرَ النور بعد؟ وماذا تُخبئ لنا الأيام؟
بعد أسبوع من وفاة حبيب عمري فوجئت بزوجي الأول يأتي إلي لتقديم واجب العزاء فشكرته وتحدثت معه بطريقة رسمية ولكنه أفاض معي في الكلام وأخبرني أن والده مات مقهورًا بسبب زواجه رغمًا عنه ورحيله وتركه وحيدًا، وأن حبه الوحيد الذي ضحى من أجله بكل شيء كان مجرد سراب. لقد تخلت عنه عندما اكتشفت أنه عقيم كما أن والده عاقبه بحرمانه من ثروته،فلم ستبقى معه؟ فالحب لا يُغني عن كل ذلك.
تركته وتزوجت بزميل دراستهما وصديق عمره فغدر به كلاهما وتركا في قلبه جرح دامي. فكره الحياة في الغربة وقرر العودة والبدء هنا من جديد وبمجرد عودته عرف بوفاة زوجي فجاء لتقديم واجب العزاء. اعتذر لي عن جرحه وظلمه لي وأخبرني أن الله انتقم لي فأذاقه نفس الألم. أخبرته أني تسامحت ونسيت بمجرد زواجي مرة أخرى فلم أعد ناقمة عليه.
استمر في الاتصال بي ومساعدتي في إدارة المزرعة بحكم خبرته السابقة،وصرنا أصدقاء فطلب مني أن نتزوج بعد أن أضع طفلي لأني أحتاجه لرعاية المزرعة وتربية طفلي ولأنه يحتاج لأن يعيش الجو الأسري الذي حُرم منه للأبد. كان طلبه مفاجأة بالنسبة لي فأخبرته أني كنت أحب زوجي ولن أستطيع أن أحب سواه. منحني وقت للتفكير وأخبرني أن كلانا يحتاج للآخر وزواجنا سيكون بالعقل وربما تولد بيننا العاطفة بالعشرة. كانت ابنتي قد تعلقت به لأنه يعاملها بحنان يعوضها عن فقد أبيها. كذلك فكرت أن ابني يحتاج لأب ومن الأفضل أن يولد فيجد له أب يرعاه ويحميه.
انجبت ابني وبعد النفاس وافقت على الزواج منه وقلت لنفسي ربما تكون مجرد جوازة والسلام وربما العشرة الطيبة تخلق بيننا مودة، لكن الأهم أن مصلحة أولادي تُحتم على القبول وأن أدع الغد للغد.
تمت