الجميع هُنا ساكناً؛ رغم ما داخله من بركان، صامتٌ؛ رغم ضجيج روحهِ وضوضاءها التي جعلته يفقد حواسهِ وينعزل عن خارجه؛ حيٌ؛ ولكن بروتين يومه دون رُوحٍ أو شغفٍ ..
أسرع نحوه؛ مُفعمة بالحب ولكنه يطفئني حين يبتعد حاملاً روحه من جواري!
أنظر إلى نفسي متسائلة هل هناك ما أبعده عني؛ أم أن ملامحي التي عشقها قديماً تبدلت مؤخراً فصار لا يهوى النظر إليها؟
ولا إجابة لكل هذا؛ أدمع منعزلة الورى عن الجميع، ثم أخرج بينهم مبتسمة الثغر وكأنني عائدة من حفل زفافي للتو ..
أنا خديجة؛ زوجة وأم لثلاثة أطفال أكبرهم ذات عشر سنوات وأصغرهم خمس، ومن توسطتهم أكملت السبع اليوم ..
الآن؛ صار عمري ستة وثلاثون عامًا
لقد تزوجت في سن الخامسة والعشرون كنت أعمل بمجال التسويق في إحدى شركات الأدوية الطبية؛ تعرفت على زوجي الطبيب من خلال عملي لقد كان لقاءنا الأول مفعمًا بالحب والحماس لتلك الحياة الوردية التي تخيلناها سوياً ..
اليوم؛ هو عيد مولدي أضحك ساخرة من حالي فزوجي الذي عاشرته لمدة تزيد عن عقد لم يعد يذكر يوم مولدي؛ حقا لم يهتم به أو بمعايدتي ..
لا بأس أظن أن الحال كذلك مع جميع النسوة ..
أسكن في بناية بضواحي القاهرة جميع شققها عامرة؛ سكانها هادئون لا احتفالات، لا صخب، وأيضاً أظنهم منهمكين في أعمالهم اليومية والحياتية ..
فهن نساء؛ والنساء دائماً وأبداً منهمكات، يبدأ يومي باكراً - أستيقظ في السادسة إلا عشر صباحاً؛ أهرول إلى دورة المياة لأقوم بغسل وجهي وتفريش أسناني؛ وأيضاً تمشيط شعري، وذلك قبل أن يستيقظ زوجي ويرشقني بنظراته المتعجبة من مظهري وكأنه يتعارف علي لتوه؛
ثم أدلف إلى غرفة بناتي هادئة أقوم بتقبيلهم علهم يستيقظن دون مشاكسة لنبدأ يوم دراسي جديد ..
الآن؛ سأدعكم تتطلعون عن حياتي، أقصد معاناتي؛ فبعد أن قمت بمهام الأم وفرغت من تجهيز لباسهن وتمشيط شعراتهن، انتقلت إلى مهام الزوجة فأسرعت إلى فراش زوجي وجدته بدأ لتوه في الإفاقة ولكن مازال يتملكه الكسل، ناغشته مبتسمة
أسعد الله صباح الحلويين ..
كانت جوابه مضحك ولكنه أصابني بالحزن!
أين هؤلاء الحلويين؛ فلا يوجد هنا غيري وغيرك؛ وضحك بسخرية!
رسمت على وجهي أيضاً ضحكة كاذبة وأردفت؛ أنت جميع الحلويين في حياتي!
-إن كنتِ تريدين المال فلا أملك ما يزيد عن مصروف الشهر الخاص بالمنزل، وإن كنتِ تريدين الذهاب في نزهة مع صديقاتك، اذهبِ ولكن بعد أن تعدين الطعام وتنتهين من مراجعة دروس الأبناء!
انتهى من حديثه؛ وذهب إلو دورة المياة ليجد في انتظاره منشفة نظيفة ذات رائحة عطرة وضعت خصيصاً له، جميع أشياءه في متناول يده رغم إهماله في استخدامها الأخير.
كذلك وضع الماء كما يفضل دائماً بين البارد والساخن وهناك نوع الصابون الذي لا يستخدم غيره!
إنه أمراً بسيطاً في نظره ولكن تفاصيله أجهدتني.
وحين فرغ من الإستحمام خرج إلى الغرفة ليجد ملابسه في إنتظاره؛ منسقة معطرة لا ينقصه شيء!
جلست أمامه مبتسمة اقتربت منه؛ وبادرت بمساعدته في تقفيل أزرار قميصه!
-أجدك اليوم تحتكين بي كثيراً فهل من جديد؟!
-نعم إنه يوماً جديداً في حياتنا معاً أنت زوجي وأنا زوجتك؛ ألا تستحق مني إبتسامة وملامسة!
-ما أستحقه هو أن تدركين مهامك ولا تقصرين في عمل واتركِ أمر الجنون جانباً!
-أي جنون تقصد؟
-جنون النساء؛ الذي تعيشين به ليلاً ونهاراً؛
اتسعت شفتاي؛ ثم عادت إلى وضعها السابق
وأجابته ..
-اليوم يوم مميز في حياتنا ألا تذكر ما هو ذلك اليوم.
-إنتهى من لباسه؛ تحرك إلى أمام المرآة! وقف في عنجهة يمشط شعراته وأردف
اليوم ليس بشيء عظيم؛ فلا أذكر من الأحداث ما يجعله يوماً مختلفاً عن أي يوم آخر.
-أحزنني ما قال وتغاضى هو وخطى نحو الباب متجه إلى السفرة ..
حيث كان في انتظاره أبنائه على مائدة الإفطار؛ كذلك إفطار صنع خصيصاً لأجله فهو لا يتناول ما يتناوله أبنائه ..
خطوت خلفه ببطء وجدته يدنو من مليكة ابنتنا الوسطى؛ ثم وضع قبلة أعلى جبهتها وابتسم قائلاً ..
-يوم مولد سعيد يا غزالتي.
صُعقت لفعله وأدركت أنه يعلم جيداً تاريخ اليوم ويذكر أنه عيد مولد ابنتنا والتي تشاركني نفس اليوم؛ فلماذا إذن لم يُعيدني؟
جلس إلى مقعده ومن خلفه؛ جلست أنا بعد أن قمت بتبديل ملابسي وأردفت لإبنتي عيد مولد سعيد يا حبيبتي؛ وأجابت وأنتِ أيضاً يا أمي عيد مولد سعيد لكِ؛ ابتسمت لها ممتنة، ونظرت نحو أمير زوجي وجدته منغمساً في تناول فطوره أو لعله أراد أن يظهر لي ذلك تغاضيت عن فعله ..
وتناولت فطوري سريعاً بقلب باكي وفي تلك الأثناء سمعت صفارة باص المدرسة الخاص بالأولاد فأسرعت إلى حقائبهن التي إرتدينها مسرعين وقمت بتوديعهم على باب مسكني؛ وتأكدت أنهن ذهبوا في طريقهم
عدت أدراجي إلي مقعدي ..
جلست ثم وجهت أنظاري إلى أمير ورشقته بنظراتي؛ لاحظ ذلك وتساءل!
-ماذا بكِ؟
لماذا تنظرين إلي تلك النظرات؟
-أراك قد تذكرت عيد ميلاد ابنتك دون تذكره، ومع ذلك لم تذكر أن ذلك اليوم أيضاً عيد مولدي أيضاً!
-وضع هاتفه الذي كان بيده جانباً نظر إلي وكأنه يقول أهلاً بالمعارك؛ تنهد وأردف
ألم أخبرك قبل قليل أن تتركين تلك الأمور وتنسين جنون النسوة!
-أظن انكِ بالغة كفاية على تلك الأمور مر عليكِ الكثير من أعياد الميلاد؛ وسمعتي الكثير من المعايدات وأيضاً التهنئات؛ ولكنها ما زالت طفلة وتلك الطفلة هي ابنتي ألا تريدين أن أُدلالها؟!
-ما أردته هو أن أشعر بروحي في حياتك، ما أردته أن أشعر إنك تهتم لأمري ولو بالمعايدة كان ذلك سوف يفرق معي كثيراً.
-هل ستبدأين النكد اليوم باكرً؛ أتركِ مجال للنكد حين عودتنا من العمل!
-أظن أن ذلك الأمر لابد أن يُحل، لذلك أريدك أن تُطلقني!
-ماذا؟ ماذا تقولين ايتها المجنونة؟!
-كما سمعت أريد أن اُطلق لقد سئمت تلك الحياة!
-لا لا لقد زاد الوضع سوء عن المسموح به أنا الذي سئمت تلك الحياة المليئة بالنكد ليلاً ونهاراً وحتى قبل النزوح إلى العمل
فمتى ستتوقفين عن سرد تلك التفاهات على مسامعي كل يوم!
-أجابته وأنا أضب مائدة الإفطار في غير مبالاة!
أريد حياة أخرى؛ ، رجل آخر يجمع شتات روحي يهمس لي كل صباح، صباح الخير يا حبيبتي، رجلاً لا أخشى أن تنظرني عيناه كل صباح ويصيح قائلاً اذهبي إلى المرآة وانظري إلى روحك تبدين أكبر سنًا، أريد رجلاً يهتم بأمري؛ حين أعاني من الطمث الغير منتظم، يذهب رفقتي إلى الطبيبة خوفًا علي وليس تأدية عمل وواجب شخصي، أريده حنون، شغوف يحب الحياة ينقل لي طاقته الإيجابية، يعايدني كل عيد، يحتفل بي كل يوم وكأنني أهم انتصاراته بل انتصاره الوحيد في تلك الحياة!
وأخيراً رجلاً يربت بيده على كتفي حين بكائي المتكرر دون سبب واضح ودون أن ينعتني بالمجنونة؛ رجلا لا يكترث لأمر الطبخ والطعام والفراش فقط ..
-أجابني في ضجر.
لقد مللت تلك الحياة رفقتك، ما بالك تهتمين بتلك الأمور التافهة وبل تصرين دائماً وأبداً إنني من الأوباش فلا أهتم بأمرك، ولا أدرك كيفية التعامل معك
ألا تذكرين إني حب عمرك واختيارك كما تقولين دائماً؛ فوق هذا زوجك وأبو بناتك.
من ذا الذي يحمل أعباء الحياة فوق أعناقه؛ لباسكم - شرابكم - إطعامكم؛ كذلك جميع مستلزمات المنزل والبنات وتعليمهن؟
من الذي الذي يحمل عبء أوقات الترفيه التي ترغبونها كل عام؛ ألم أكن بجانبك وقت المرض؛ ألم أحنو عليكِ في شدتك
إنك ناكرة لجميع الأيام التي جمعتنا ..
-أريد تلك الأيام أنا تستمر على وتيرتها الأولى؛ لا ارغب أن تمر الأيام بنا ونحن نبتعد عن بعضنا البعض لذلك يجب علينا أن نتبدل لأجلنا.
-أتريدين أن أتبدل؟
-نعم، وكذلك أنا.
-فقل لي: ماذا ترغب أن يتغير في شخصي.
جلس أمير إلي مقعده أمام شاشه التلفاز وضع قدماً فوق الأخرى ولم أدري لم تلك العنجهة التي بدأ فيها ..
ثم أردف؛ أريدك في الصباح أماً تهتم بأبنائها فتعد لهم الفطور الشهي ثم تمشط شعراتهم ليذهبان إلي صفوفهم في كامل أناقتهم.
كذلك؛ تهتمين بتعليمهم وصحتهم وترتبت أولويات حياتهم وأيضاً تصحيح رغباتهم لتتماشى مع تلك الحياة ..
-وماذا أيضاً؟
-أريدك زوجة تهتمين لأمري تعلمين ما بي دون حديث؛ فالرجل بطبعه لا يميل لكثرة الحديث لذلك عليكِ أن تفهمين ما بي من نظرة إلى حالي.
فتعلمين متى تتحدثين ومتي تصمتين؛ ويفضل أن لا نتبادل الحديث في الليل فالليل جُعل للراحة والإستجمام ..
-وماذا أيضاً؟
-هنا تبدلت نظرة أمير همس قائلاً
أريدك امرأة كاملة تتعلمين كيف تجذبني إليها من نظرة عين فلا بأس أن تقللي من أدبك حين يجمعنا فراش واحد.
تحلي بالخلاعة واخلعي ثواب الحشمة فأنا زوجك ولست بغريب.
-وماذا أيضاً؟
-كذلك لا تتفوهين بالتفاهات التي تجعل بيننا مسافة فملاحظتك الدقيقة لتلك الأمور سوف تجعلني أنفر من جلستنا سويا بل وحياتنا أجمعها.
-أفهم من ذلك.
-إنك في الصباح؛ تريدني أكون أماً لك ولأبنائك؛ وفي الظهيرة شيف يبدع ويحسن صنع الطعام والحلوى!
-وفي المساء؛ مدبرة منزل تقدم على راعية الأبناء؛ وتقديم الطعام وأيضاً سرقة بعض الوقت للمذاكرة!
-وفي الليل؛ تريدني أنثى ولا بأس أن أتجرد معك من حشمتي؛ وأن أرتدي ثواب الخلاعة فأصير فتاة الليل المتمارسة الخاصة بك!
-ومع هذا وذلك لا أضحك لا أبكي لا أشتكي فجميع شكواي ما هي إلا تفاهة نسائية؛ لا محل لها من الإعراب في قاموس الرجال.
-نعم هذا صحيح!
-هل سألت روحك ماذا أريد في تلك الحياة التي تمنيتها؟!
بادر بالنفخ من فمه؛ مصدراً صوت أووف
أعلم أعلم تريدين حنان!
-أن أظل إلى جوارك دائماً؛ فلا أهب لروحي بعض الوقت بعيداً عن المنزل وضوضاءه تريدين أن أظهر حبي لكِ وللجميع أيضاً فهذا وذاك يقولون أنظروا إلى تلك المرأة كما يهواها زوجها.
-هل سأظل دائماً ذلك المتيم الهائم في حبك!
-إن الحياة عجلة لا تتوقف أمسينا في حال وأصبحنا في حال!
-أمسيت تحبني، فهل أصبحت تنفرني؟
-لا لا هذا جنون مبالغ فيه إن أمر احتمالك فاق طاقتي؛ أريد أن أبتعد كي أستريح
ألقي كلماته وغادر مغلقًلا الباب خلفه بشدة وتركني في حالة لا أحسد عليها فالدموع محتبسة في عيني ولا أستطيع أن أتركها ولا أعلم لما وصلت لذلك الحال من اليأس!
فالحياة بيننا أصبحت من منظوري مستحيلة فلا أجد سبب لأحيا جواره سوى أنني أريد أن أنزل بالوزن!
قمت بتجهيز حقيبتي؛ ليست حقيبة ملابسي بل حقيبة العمل وضعت مساحيق التجميل التي جعلتني أشبه الورود؛ تزينت بالكحل الأسود لأخبئ خلفه دمعي؛ وجلست أنتظر رنين هاتفي لتخبرني صديقتي التي أعمل رفقتها أنها أتت أسفل البناية بسيارتها ..
وفي تلك الدقائق؛ بدأت أنظر لحياتي على أنها معاناة فلست سعيدة في أي شيء أقوم بعمله!
فحين أذهب للعمل؛ أشعر بالإحباط وحين أعود إلى منزلي أشعر بالإجهاد ولا أجد من أرتكز عليه!
وجودي بالمطبخ؛ أصبح تكفيراً لذنوبي كما أظن فلا أشعر أن ما أصنعه محمودًا مهما فعلت!
كذلك تلك الأوقات التي أقضيها مع بناتي، أصبحت ثقيلة على كاهلي؛ أريده أن يشاركني تلك العبثيات؛ فلا يقتصر دوره بالمنزل على الأكل والنوم فقط!
فأين أحاديثه اللطيفة التي سرقت قلبي؟
كم أود الفرار من تلك الحياة إلى آخرى أهرب من قيود الزواج اللعينة؛ علِ أتحرر من قبضته فأصبح خاوية البال فلا أبحث داخله عن حبي ولا أنتظر منه عاطفة فالإنتظار قاتل والعشم الخائب جعلني أذبل يومً بعد يوم!
رن هاتفي؛ معلناً وجود صديقتي بالأسفل حملت أشيائي وتركت همومي جانباً؛ وهممت بالإسراع في النزول قائلة لروحي إستيقظي واجهي العالم ..
أدلي ستائر ابتسامتك اللطيفة لتكون ستار على ما تحمله روحك من ألم؛ فلا داعي أن ينظر إليكِ العالم بشفقة، كذلك عملك لا يرحب بالضعفاء المقهورين ..