-اهداء-
لتلك الأيام التي ردت إلي عقلي، وأخبرتني أن لا عزيز يُذل، فعزيز القلب يبقى عزيزًا، مهما دارت الأيام وتبدلت الأحوال.
في القطار.
محطة قطار تعلوها أصوات المسافرين؛ وبعض الباعة الجائلين، وهناك أيضاً رنين هاتف لا ينقطع بيد احدى الفتيات،
متجاهلة ذلك وكأنها صامة، حتي اقتربت منها احداهن وهمست لها، هاتفك لا ينقطع رنينه.
أجابت، أسمع ولكنني متجاهلة، وبحركة سريعة نظرت الفتاة إلي هاتفها، وظهر أمامها على الشاشة ..
إتصال من أبي!
أغلقت الهاتف؛ ثم وضعته في حقيبتها، وعَلَى صوت القطار بالمكان يعلن دخوله المحطة، واستعد الرُكاب ووقف الجالسون وبدؤا في حمل حقائبهم، ثم اصتفوا على الرصيف ..
هناك عشيقان في مقدمة الصفوف، تفضحهم عيناهم كذلك أيادهم المتشابكة ..
نظرت الفتاة إليهما في إعجاب وهمست لروحها ربما عُشاق جُدد فالبدايات دائماً جميلة صادقة ..
استقر القطار على القضبان واندفع الرُكاب داخله، ودلفت الفتاة من باب القطار وبحثت عن أكثر الأماكن هدوءًا، حتى وجدت مقعدان خاليان جلست على أحدهم وتُركت المقعد المقابل لها فارغًا، تحرك القطار وبعد دقائق ظهر شاب يحمل حقيبة سوداء متوسطة الحجم تفوح من ملابسه رائحة عطرية جذابة، نظر حوله حتى وجد المقعد المقابل للفتاة فارغًا وهنا نظر إليها مبتسم وأردف: ينفع أقعد هنا؟
بادلته الفتاة الإبتسامة، وأجابت سريعًا: اه طبعاً اتفضل.
جلس الشاب ثم وضع حقيبته إلي جواره وكالتصرف المعتاد للكثيرين، وجهَ أنظاره إلى النافذة وشرع في النظر إلي الأماكن والبلاد التي يمر بها القطار سريعًا، ثواني معدودة وعاد بنظره إلى الداخل والتقت عيونه بعيونها وأصابه الخجل ونظر أرضًا ..
حادثه شعوراً غريبا، نظر إليها مرة أخرى؛ ولبى الشاب ذلك النداء الروحي، ونظر إلي ملامحها وشعر أنه لفت انتباهها، فصرف نظره إلي حقيبته التي أخرج منها كتاب (الموسوعة الموسيقية الميسرة) للكاتبه رتيبة الحفني.
ظل هكذا لبضع دقائق، ينظر إلى الفتاة ثم تعود أنظاره أدراجها إلى صفحات الكتاب التي لم تُقلب بعد!
ابتسمت الفتاة وأرادت الوقوع به؛ ودون خجل خرجت الكلمات من بين شفاهها
اسمي سمية - ارتسم التساؤل على ملامحه وأجاب
نعم!
لاحظت إن عيونك منزلتش من عليا وكأنك قاصد تحفظ ملامحي، واستنتجت إنك عايز تعرف اسمي.
هااا!
إيه مالك، قولي اسمك إيه؟
أحمد، اسمي أحمد
تعرف دي أول مرة أركب فيها قطر يا أحمد
-بجد؟
-آه بجد.
_ودي كمان أول مرة ليا أركب قطر
-صدفة!
-اه فعلاً، صدفة.
-مسافرة فين يا سمية؟
-مش عارفة.
-نعم!!
-بجد مش عارفه، إيه آخر محطة للقطر؟
-تقريبًا أسوان.
-بس إزاي مسافرة ومتعرفيش محطتك؟
-تقدر تقول هربانة.
-هربانة!
-هربانة من أهلك؟
-هربانة من المسؤولية والخوف والضغط من الوجوة والناس اللي اتفردوا عليا في حياتي وكمان الظروف والعادات اللي لازم أراعيها.
-ياااه، انتِ هربانة من المجتمع كله، مش الأهل بس.
-الأهل مجرد سبب من الأسباب.
-أنا شايف أدامي شابة حلوة، والأكيد مثقفة، إيه يخلي واحدة زيك تعمل كده؟
-تقدر تقول حابة أحس بالحرية
-أي حرية؟ أظن إننا في زمن خالي من القيود تقدري تشتغلي، تخرجي، تحبي تتجوزي، وليكِ حرية الإختيار في حياتك.
-تقدر تقول إني هربانة من كل ده، هربانة من الروتين الممل اللي بنبني عليه حياتنا؛ هربانة من قيود الشغل؛ والخروج؛ والحب؛ والاكيد الجواز.
حابة أغير المكان؛ أغير وجوه الناس اللي أعرفها ومتعودة عليها؛ أنا مش مجرد شجرة؛ علشان تستمر حياتي وتنتهي في نفس المكان؛ وعلى نفس الروتين!
-انتِ لو شجرة، هتكوني شجرة مزهرة في يوم خريفي، وسط أشجار كتير اتخلى عنها ورقها ودبلت أزهارها.
-ده أكتر غزل ممكن يتلاعب بقلب أي ست،
ويخليها تفرح وعيونها تلمع والضحكة تنور ملامحها
ده شيء غير منصف ليكِ ياسمية.
-حتي وإن كان، ولكنه لمس قلبي.
-ينفع ترجعي ،تتراجعي وتعيشي حياتك.
-هعيشها، لكن بالشكل اللي حابه اعيشها عليه.
-أقدر اسأل؟
-طبعاً.
-هربانة من معاناة؟
نفسية، حرب داخلية صراع بعيشه؛ كل يوم بيني وبين روحي التانية.
-أي روح؟
روح حابة التحرر الخروج عن المألوف، حابة تجربة الحياة بأحداث جديدة مختلفة.
-تقصدي أي تحرر؟
-جميع أشكال التحرر أولهم التحرر من فكر المجتمع؛ ونظرات البشر وحكمهم المسموم؛ وكأنهم ربي.
تحرر من عاداتهم المريضة؛ اللي بيها دمروا كل شيء ممكن يكون حلو!
روح حابة تمشي في الشوارع بدون قلق؛ أو خوف؛ وده مش هيحصل غير وأنا لوحدي منفردة بروحي بعيد عن القطيع.
-ولو حبيتِ؟
-لو الحب ده هيكون مجرد قيد فاههرب بسرعة؛
عايزة اتحب بدون قيود مملة؛ وروتين الحياة الزوجية؛
-أنا حبيتك!
-هنا وقف الزمن، اتسعت عيون سمية، وهربت كلماتها؛ أرادت الحديث لكنها تلعثمت، جمعت الكلمات؛ ونطقت متلجلجة
إيه اللي بتقوله ده؟
-أنت حتي متعرفنيش ولا عمرك شوفتني، اللي تعرفه عني مجرد اسم وبس!
-الحب مش محتاج معرفة يا سمية، أنا كنت غريق في بحور عشق بدون معشوق ولاقيتك خلاص، تسمعي عن الحب من نظرة عين!
-أيوة، بس، بس ده مستحيل!
-المستحيل أصبح ممكن ووقعت من نظرة عين
بس!
-ههرب معاكي من الدنيا.
-مش يمكن أطلع مستاهلش.
-بس أنا أستاهل أكون معاكي.
-أخاف.
-من إيه تخافي؟
-حبك يكون قيد لروحي؛ ووقتها مقدرش أهرب.
-أوعدك.
-توعدني بإيه؟
-أكون أنا دنيتك الجديدة، اللي تهربي لها وقت ما تحبي مش تهربي منها.
-تعرف إنها أول مرة أتحب، وأحس إني عايزة أحب.
توقف القطار بإحدى المحطات؛ وعلت أصوات الرُكاب المغادرين ودلف غيرهم؛ لرحلة جديدة
ووسط تلك الضوضاء همست سمية لروحها بصوت هادئ؛ لقد هربت بحثاً عن الحرية لا الحب، ثم أعلت صوتها متسائلة ..
-هل ستستطيع معي صبرًا؟
-نعم.
-هتكون رفيق الدرب وشريك الحياة، من غير قيود وعادات المجتمع!
-هاكون
-هتتحمل تقلباتي المزاجية وبكائي المستمر لو إن وزني زاد بعض الكيلوات!
-نعم.
-هنا هدأت الضوضاء وعاد الهدوء، شعرت سمية بالإختناق ووضعت يديها أعلى رأسها، وأمسكت بحجابها وسحبته أمام أعين الرُكاب؛ ثم افلتته في الهواء؛ من نافذة القطار؛ ودعت الهواء يتلاعب بخصلات شعرها مبتسمة الثغر؛
وظل أحمد ينظر إليها مبتسماً دون حديث ..
واردفت (إنك تلاقي حد يقبلك ويحبك بجميع عيوبك فده شيء جميل إحساس عمري ما حسيته)
تغاضي أحمد عن فعلتها وأجاب: عين المُحب مش بتشوف غير الحلو بس، وأنا شوفتك بعين المُحب.
-تفتكر هتفضل تحبني طول العمر؟
-طول العمر.
-هتتحمل عجزي، هتتحمل أثر الزمن على وشي وجسمي؟
-وقتها هيكون المهم بالنسبة لنا الدفء والونس وكوباية شاي بالنعناع وقت العصاري، واننا نتكلم عن ذكرياتنا.
-صمتت سمية قليلاً.
-ثم التقطت حقيبتها فتحت سحابها وأخرجت علبة سجائر وقداحة وأشعلت إحداها ونفخت غبارها في الهواء وابعدت عيونها عن أحمد وكأنها لم تتحدث إليه مسبقًا ..
بادلها الصمت لثواني معدودة ثم أقترب قليلا وهمس.
-لسه بحبك،
-غلبت كلماته صمتها ابتسمت خجلاً؛ أفلتت السيجارة من يديها عبر النافذة، ووجهت انظارها إلى أحمد وأردفت ..
-للمرة الأولي أكون مش عايزة اللي بسمع له يسكت، تعرف إن كلامك جميل، يخطف القلب خصوصاً لو قلب مشتاق
مش يمكن جميل علشان ليكِ.
-هو أنا جميلة كده؟
-مش شرط تكوني جميلة الملامح، رغم إنك فعلاً جميلة الملامح، المهم إنك خطفتي قلبي في دقائق كده!
-خطفت قلبك!
-هي مش دقائق شوفي عدينا على كام محطة وقابلنا أد إيه من البشر في بلاد كتير، يعني وقت وبلاد.
-أدركت سمية الوقت؛ وصاحت المحطات! محطتك أنت عديت محطتك؟
-تقدري تقولي إني عديت محطات كتير ولسه مقررتش النزول
-وهتقرر امتى؟
-أول ما رجلك تدوس الأرض، هتلاقيني ماسك ايدك؛ خطواتي جنب خطواتك.
-أنت مجنون؟
-أبقى مجنون لو غيرت محطتك، أنا ما صدقت لاقيتك.
-أغمضت سمية عيناها قليلاً أخذت شهيقًا مليء صدرها بالهواء والراحة ورددت: أوقات الحب غريبة غير معروفة وكأن القلب بيختار أكتر حد ممكن منكملش معاه
فتحت سمية عيناها، حملت حقيبتها ودون حديث توجهت إلى مقعد آخر جوار احدي السيدات، رحبت بها بابتسامة وتركت لها متسع لترتاح، جلست سمية وعيون أحمد موجهة نحوها في حيرة
أخرجت دفتر خاص بالرسم وقلم رصاص من حقيبتها وشرعت في كتابة بعض الكلمات وسط صفحة بيضاء فارغة
(شوفت في عيونك حاجة غريبة؛ وكأنك عاشقني من يوم ما اتولدت؛ حبك هيعطلني عن حاجات كتير سعيت إليها وقطعت نص مشوارها، علشان كده ههرب ..
أثنت سمية خطابها عادت بدفترها إلي حقيبتها، اقتربت من الجالسة جوارها امألت إليها وهمست وهي تشير تجاه أحمد ..
(أول ما القطر يقف وانزل المحطة؛ أعطي له الورقة دي).
التقطت السيدة الخطاب قبضت عليه جيدًا، وهدى القطار استعدادًا للوقوف في المحطة القادمة؛ حملت سمية حقيبتها، وقفت على أقدامها نظرت إلى أحمد مبتسمة، وظن أنها ستعود أدراجها إليه؛ وخاب ظنه لقد حملت روحها واسرعت الخُطىء تجاه باب الخروج وسط تكدس الرُكاب؛ واستطاعت العبور من بينهم؛ وصارت على رصيف محطة لا تعلم لأي بلد تكون ..
نظر إليها أحمد في حسرة حمل حقيبته وأسرع خلفها، وقفت في وجهه تلك السيدة رافعة يدها تحمل ورقة!
-قالت لي أول ما أنزل والقطر يتحرك أعطي لك الورقة ..
أخذ أحمد الخطاب واسرع تجاه الباب ولم يستطيع الوصول إلا بعد أن تحرك القطار وغابت سمية عن أنظاره وصرخ قلبه داخله ..
-لماذا تركتها؟
-عاد إلى مقعده يشعر بخيبة أمل وحسرة تملكت فؤاده فتح الخطاب، وقرأ محتواه واغمض عيونه ليقبض على دمعه، لكن خانه وانهمر الدمع من عيونه في صمت ..
عاد أدراجه إلى وجهته ونفض غبار العشق عن قلبه؛ واستسلم لروتين حياته كحال الجميع، والآن وبعد اثنى عشر عامً جلس يسترجع ذكريات ذاك اليوم وحيدًا بغرفة مكتبه، بعد أن رأى صور سمية بإحدى صفحات الفيس بوك تحت إعلان عن دعمها، كونها المنادي الأول لتحرر النساء من جميع القيود والتقاليد التي فرضها المجتمع عليها،
أغلق هاتفه والتقط قلمه وصاغ على ورقه كلمات في عشقها ..
أحبك رغم السنين، رغم هروبك المتكرر من الجميع، أحبك رغم الألم الذي تركتيه بقلبي من الوهلة الأولى؛ أحبك حتى وإن اجتمع العالم ضدك؛ ونعتوكِ بالمجنونة؛ وصاحبة الأفكار الشاذة، أحبك رغم جنونك الذي يرفضه المجتمع ومن حولك، أحبك رغم البعد بيننا، فلم يكتب لنا قرب إلا لدقائق معدودة ورغم ذلك لم تفارقين ذاكرتي ولم يخوني عقلي في حفظ ملامحك،
إلى من نبض القلب لها من نظرة عين ما زال قلبي يحتفظ بكِ .