هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  • إيران من الداخل بعد الحرب.. 
  • معضلة فهم الحرب على إيران
  • نصر سياسي ايراني
  • قصة قصيرة/ وصاية الظل
  • ق ق ج/ سرُّ الشجرة والقوس
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة نورا عماد
  5. فتاة هربت من اليهودية

 

إلى جميع النساء احذرن فهو الموكل بسلب عقولكن ونهش المتعة من أجسادكن فلا تكونن له طوعًا.

الإهداء / إلى أسرى جلبوع  الهاربين من سجنٍ فُرض عليهم مدى الحياة.

عسى خلاصكم قريب فلا أدام الله لكم عجزًا.

 إهدائي الخاص

إلى...

  من حملني بين ثكنات قلبه وصار لي عمرًا جديد.

المقدمة ....

تلك الرواية ليست مساندة لكيان ما، ولكن لكشف الإنسانية داخلنا؛ فمازال بيننا من يحمل الرحمة بين خبايا ضلوعه.

تنهد ثم الفظ اسمه مرة واحدة فقط عند قرأته ولا تتعجل الأحداث، أراد أن يزيد جهنم فردًا؛ فخذلته لتختار النعيم ...

هنا راحيل تسرد ما عاشت لتستطيع تخطي الماضي.

ولدت راحيل  بمدينة (الخالصة) الفلسطينية التي حولها يهود صهيون إلى بلدة (كريات شمونة) بشمال  المزعومة إسرائيل  بالقرب من الحدود اللبنانية لأب يهودي شرقي يدعى آدم.

 لم ترى  والدتها قط ولم تعلم الكثير عنها سوى تلك الحكايات التي ترويها لها الجدة (أدفا) جارتهم القديمة.

 ‏تربت راحيل في بيت أبيها تشعر دائمًا بالقلق كونها لأب يهودي شرقي رغم بلوغها الثلاثين من عمرها، إلا أن شخصيتها ضعيفة وفى نظر مجتمعهم لم يكن  دينها مكتملاً فلم يكن أبيها يهوديًا متشددًا ولم تشعر يومًا بأنها تنتمي لذلك العالم، كانت تنظر للمجتمع وكأنها غريبة كونها يهودية شرقية وهم اليهود الملقبين ب (يهود سفارديم).

كانت تُلقب بين زملائها بابنة الخائنة التي هجرت زوجها وابنتها ورحلت رفقة رجل أخر.

 ‏تمنت راحيل الموت مراتً كثيرة بسبب  ما عانته من تنمر الجيران والزملاء فلم يكن لها أصدقاء يخففون عنها ما تشعر به.

 ‏لجأت راحيل للانتحار في عمر التاسعة، فقد اغلقت جميع نوافذ منزلها وسربت الغاز بالمنزل لتموت خنقًا ولكنها أشعلت النيران دون قصد، حينها ايقنت اختلاف القدرات؛ فبرغم أنها من أشعل النيران إلا أنها وقفت أمامها عاجزة لا تستطيع التحرك تنظر لشدة انتشار النيران ‏وتتعجب لعدم اقترابها منها.

 ‏وقعت مغشيًا عليها لشدة خوفها من النيران واشتعل المنزل جميعه  إلا أن راحيل ظلت في حماية، لا تستطيع النيران الاقتراب منها وهو الأمر الذي استعجب له الجميع ؛ فحين اقتحامهم المنزل وجدوا راحيل نائمة وسط  منزلها تحوطها ألسنة اللهب من كل مكان ولكن لم تقترب منها.

 ‏ذاعت تلك الحادثة بجميع أنحاء المدينة، حتى وصل الأمر إلى الحاخام الذي قال عنها إنها في رعاية الله ولن تقترب منها النيران ما دامت حية.

 ‏ايقنت راحيل أنها مميزة وشعرت بالثقة في روحها منذ ذلك اليوم وتغاضت عن مضايقات زملائها عامًا بعد عام، كبرت راحيل وتخرجت من الجامعة بعد أن درست الحقوق وأخذت منها العلم الكافي.

 لم يتزوج آدم وكرس حياته للعمل وجمع الأموال الذي كان لها عبدًا، كان ابًا قاسيًا جاف  المشاعر يفضل الأموال عن ابنته  بل وعن حياته.

 ‏تلك بداية لما نروي...

 ‏عادت راحيل من رحلة فاشلة لبحثها عن عمل تنظر إلى أبيها وما جمع من مال وتتساءل:

 أين تذهب أمواله؟

 ومازال يسكن منزله القديم ولا يتجاوز مصروفهم الحد، حتى أنه تهرب من معالجة اعوجاج قدمها مبررًا أن ذلك الاعوجاج ورثته عن والدتها وهى من عليها معالجة ما ورثته منها. 

 ‏ألم يان الأوان يا أبي ان أعالج قدمي؛ فبسبب ذلك الاعوجاج البسيط  لم أجد عمل ولم التحق بالجيش.

 ‏أي جيشٍ تقصدين؟

 ‏نحن في هذه الدولة فقط كوننا منبوذين من أي دولة أخرى، نحن من ليس لهم وطن، يهود العرب منبوذين بالشرق والغرب نختبئ لنعيش، حتى وإن كانت قدمك صحيحة فلم أكن اتركك تخدمين الجيش.

 ‏لا جيش لدولة ليس لها وجود بين شعوب العالم.

 ‏لم أكن أعلم أنك تعيش مجبر ببيتك يا أبي.

 أعيش هنا لأموت بسلام، فالجميع يريد إبادتنا وهنا نختبئ خلف سور العظمة الذي ما هو إلا هواء.

أتعلمين يا راحيل أتيت هنا بعمر العاشرة بعد أن رحلنا من سيناء مصر وإلى الآن لم يتركني شعور الخوف وعدم الأمان؛

فإن كنتي تبحثين عن عمل لتعيشي فتزوجي ولكن لا تنجبي أطفال يشعرون بالخوف هم أيضًا.

شعرت حينها بإنطفاء أولى أحلامي فلن أجد عمل ولن ادخر المال لأصلح اعوجاج قدمي.

حينها قررت النزول إلى مكتب العقارات الخاص بأبي ومساعدته بالعمل مقابل بعض الجنيهات والطعام  كما عرض سابقًا.

انهكني التعب وشعرت بالدوار واستسلمت للنوم الذي زارني فجأة؛ لأريح عقلي من التفكير ولكن اتعبت روحي وشعرت وكأن أنفاسي تهرب مني لشدة الخوف.

(رؤيتي الأولى )

رأيت في منامي بحرًا بداخله دوامه كبيرة تبتلع جميع من يقترب منها، أريد الهروب ولكن الموج يجذبني للداخل، غلبتني قوة الموج وانجذبت داخل تلك الدوامة لأجد نفسي بعالم أخر يتجول سُكانه بلباس أسود طويل مهلهل يغطيهم من رؤوسهم لأطراف أقدامهم، تنبعث منهم رائحة كريهة ورياحهم ساخنة، تجولت بالمكان لأعلم أين أنا جميعها مباني قديمة وبها مأذان تلك التي تعلو مساجد المسلمين، شوارعهم ضيقة أكاد اختنق داخلها ولا أعلم كيف أخرج وكأنها متاهة، صعدت درج وجدته أمامي لأعلم أين أنا، لأجد روحي بأحد الاماكن التي تتصف بالعظمة؛ فرغم أن المكان يبدو قديمًا ولكنه أثريًا، وقفت انظر حولي لأجد أمامي فراشًا ملكي ترقد به إحدى الجميلات حولها الجواري يعكفون على خدمتها نظرت إليها حتى حفظت ملامحها تقدمت قليلاً لأتساءل أين أنا؟

ولكن تجاهلني الجميع وكأن لا وجود لي.

حتى أتت إحداهما ونظراتها موجهة نحوي اقتربت مني وهمست في اذني:

اهربي، لن أستطيع مساعدتك.

حينها رأيت طيف أسود وكأنه غول انقض على تلك الفتاة وأخذها بعيدًا، بعد أن نظر نحوي وابتسم ابتسامة نصر

رحلت رفقته وصرخاتها تدوي بالمكان.

استيقظت على صرخاتها التي ملأتني بالخوف، جلست في فراشي التقط أنفاسي بصعوبة لشدة خوفي.

حملت  أنفاسي تلك الرائحة التي استنشقتها بذلك الكابوس.

أسرعت أبحث في غرفتي عن سبب تلك الرائحة ولم أجد شيء، كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ولم يعُد أبي بعد

  شعرت بخطوات هادئة بالخارج، ذهبت إلى نافذتي انظر من صاحب تلك الخطوات لأجد أمامي تلك الفتاة  التي رأيتها بمنامي من نصحتني بالهروب تتجول حول منزلي.

شعرت بالارتباك ولكني أسرعت في الذهاب إليها، فتحت باب منزلي وهرعت إلى الخارج أنادي: يا فتاة انتظري لا تخافي.

ولكنها لم تستمع واستمرت في المضي بعيدًا وأسرعت أنا خلفها.

لا أعلم لماذا ناديتها (مرشدتي):

 انتظري 

انتظري

ولا مجيب لندائي سوى الجدة( أدفأ ) التي هرعت نحوي توبخني:

لماذا انتِ بالخارج في ذلك الوقت؟

ألا تخشين أن يظن أحدهم بكِ السوء؟

جدة أدفأ لقد رأيتها.

من؟

فتاة زارتني بالمنام ولكن نصيحتها  لي كانت بالهروب وأنها لن تستطيع مساعدتي.

وبعد؟

الآن رأيتها من نافذتي وهرعت خلفها ولكنها لم تستجيب.

لا لا الأمر يطول شرحه، إلى الداخل لتحكي لي عن ذلك المنام.

ذهبت رفقة  أدفأ إلى داخل منزلها، جلست على اريكتها الدافئة وهناك شعرت بالأمان

الآن أحكي لي ماذا رأيتِ بالمنام؟

رأيت بحر جذبني الموج داخل دوامته ومن هناك وجدت روحي بشوارع ضيقة مساكنها قديمة بها الكثير من المأذن  وكأنها شيء أثري جميل.

وكأنك تصفين شوارع القاهرة يا راحيل.

وهل هي كذلك؟

 وهل يوجد الكثير من المأذن سوى بالقاهرة؟

ولكني لم أرى القاهرة لأصفها؟

الآن رأيتها بالمنام.

وماذا يعني ذلك؟

أن روحك معلقه بالقاهرة وأظنك ستذهبين إليها يومًا ما، الآن أكملي حلمك.

هناك ترقد جميلة على فراش ملكي حولها الكثير من الجواري تجاهلني الجميع إلا أن تلك الفتاة تقدمت نحوي وهمست في اذني اهربي لن استطيع مساعدتك، إلى أن أخذها طيف أسود عملاق.

 ‏وقبل أن أسمع تفسير أدفأ على ما سردت عليها دق أبي باب منزلها مناديًا: أدفأ

اجبته: نعم

هل راحيل بمنزلك؟

 ‏اسرعت إليه لتجتنب استيقاظ الحي في ذلك الوقت:

 ‏نعم نعم راحيل هنا، لقد قلقت عليك وأتت لتجلس رفقتي لحين عودتك.

 ‏نظر أبي نحوي و وجه حديثه إلى أدفأ: أتمنى أن لا تطول حكاياتك يا أدفأ فراحيل لم تعد فتاة بالعاشرة تستمع إلى الحكايات والقصص، لقد صارت شابة وصباحًا ستذهب رفقتي إلى العمل.

 ‏نعم أعلم ذلك وأريد أن أُباركها على تلك الخطوة.

 ‏الآن يجب أن تخلد راحيل للنوم؛ فغدًا يومٌ شاق.

 ‏اعلم يا أبي.

 ‏لم يمر ليلي مرور الكرام، ظللت طوال ساعاته أفكر في ما رأيت، أبحث عن تفسير لذلك الكابوس حتى دقت الساعة التاسعة صباحًا.

وارتفع صوت أبي بالمنزل:

 ‏راحيل استيقظي أنه يومك الأول.

 ‏مستيقظة يا أبي لا تقلق راحة الجيران؛ فأنا مستعدة.

 ‏خرجت رفقة أبي متوجهة إلى مكتبه الصغير الذي يبعد عن منزلنا بعض الدقائق، وصلت إلى مقر عملي انظر يمينًا  ويسارًا، لفت انتباهي لافتة المكتب لصغر حجمها والتي يكاد يراها  المارة.

 ‏أبي، إن تلك اللافتة صغيرة كما أنها قديمة لعل المستأجرين  يظنون أن المكتب أُغلق لعدم اهتمامك بأمره.

 ‏وهل يعلم المستأجرين أني لم أهتم بالمكتب؟

إن ‏اللافتة تخبرهم عدم اهتمامك يا أبي.

 ‏الآن بدأ الجدال بين الأب والابنة:

 ‏لن أصرف شنكل واحد هباءً يا راحيل، الآن إلى الداخل لتتعلمي أولى خطوات العمل.

 ‏جلست  أمام أبى انظر إلى مكتبه القديم المليء بالدفاتر تتراكم عليه الأتربة  منذ قرون، مكركب ولكن أبي  يعلم أين مكان جميع الأشياء

 ‏الآن يا راحيل سأعلمك الخطوة الأولى في العمل.

 ‏الخطؤة الاولى يا أبي هي أن أُنظف ذلك المكان، كذلك أُخرج تلك الدفاتر خارجه وابدلها بجهاز الكمبيوتر.

 ‏صرنا بزمن لا يمسك أحدهم بقلم و ورقه، بل يسجلون جميع ما يريدون على جهازهم يا أبي.

 ‏لا أريد أي  تكنولوجيا بهذا المكان يا راحيل ستعملين بذلك النظام القديم والا ستعودين للمنزل، آه لا تنسى نظافة المكان كما رغبتي.

 ‏جلست أمام أبي يُملي على اذاني تفاصيل العمل كيف اتعامل مع المستأجرين؟

 كيف أُقنعهم ؟

كذلك كيف أُوفر لهم جميع الخدمات المرغوبة لديهم.

 ‏انصتُ بإتقان إلى أبي، استلمت منه زمام الأمور وباشرت بالعمل، مر أسبوعي الأول بالعمل جيدًا حتى أنني تفوقت على أبي في إقناع المستأجرين وزيادة نسبة المكتب.

 ‏لفت الأمر انتباه أبي في أيام عملي الأولى وطار فرحًا بزيادة الدخل الذي جلبته له وللمكتب.

 ‏راحيل أنتِ مباركة، صدق الحاخام حين قال عنك أن الله يرعاكِ، تبدلت أحوال المكان خلال أسبوع واحد من عملك حتى أنه صار مكتب العقارات الأول بين المستأجرين.

 ‏هل يعني ذلك أن هناك زيادة في المرتب يا أبي.

 ‏لا، ولكن سيكون بعد مرور ثلاثة أشهر على عملك؛ فإن ظل الأمر هكذا سيكون هناك زيادة.

 ‏وإن زاد عدد العملاء يا أبي؟

ستكون لكِ مكافأة ضخمة ولكن بعد ثلاثة شهور.

 ‏لماذا ثلاثة شهور يا أبي؟

 ‏إنها المدة التي سأقضيها بتل أبيب بدًا من بعد الغد.

 ‏لماذا يا أبي، أنت لم تخرج حدود بلدتنا يومًا؟

سأفتتح مكتبًا جديدًا بالبلدة الأكبر.

هناك سياح ومهرجانات وترفيه لا حدود لها، سيكون المكسب من ذلك المكتب أضعاف هنا.

 ‏ولكن يلزمك الوقت لتثبت مكانتك يا أبي.

 ‏لا؛ فالمكتب موجود وله شعبيته عُرض للبيع وأنا تقدمت للشراء، تلك المدة سأجلس هناك حتى استخرج أوراقه كذلك أتابع العمل.

 ‏وهل سأكون وحدي لحين عودتك يا أبي؟

 لا تقلقي يا راحيل اليوم قمت بتركيب كاميرات مراقبة بالمنزل، كذلك المكتب لأطمئن عليكي طوال تلك المدة.

 ‏تقصد تراقبني يا أبي.

لا بأس فالأهم أن تبدل أحوالنا ونخرج من تلك البلدة إلى تل أبيب.

 هناك فرص وظيفية أفضل بالنسبة لي.

 ‏حسنًا يا راحيل أكملي العمل وعودي للمنزل، اليوم لن أعود إلا صباحًا.

 ‏اكملت عملي وودعت ذلك اليوم بابتسامتي المزيفة في وجه المستأجرين الغلظاء.

 ‏عُدت إلى المنزل مهلكة انظر إلى سقفه لأجد أبي قد ملأ أركان السقف بكاميرات المراقبة؛ لأكون تحت أنظاره طوال مدة غيابه، كذلك أغلق باب غرفته بالقفل كعادته، ترك لي بعض الطعام بالبراد ونصحني بعدم الإكثار حتى لا أعاني السمنة، تلك النصيحة وجدتها معلقة بباب البراد تجاهلتها ضاحكة، إن أبي يخشى السمنة المفرطة ولا يخشى أن أصاب بالنحافة الشديدة.

 ‏أخذت بعض اللقيمات، اغتسلت وذهبت إلى فراشي.

 ‏تمددت  بالفراش،  كذلك تركت شعري ممدًا جواري، ظللت انظر للسقف حتى هزمني النعاس وذهبت إلى عالم السواد.

(رؤيتي الثانية )

رأيتني أجلس تحت عرشٍ كبير تعتليه إحدى الملكات مرتدية تاجًا مرصعًا بالألماس يركع لها الكثير من الرجال شديدي السواد غلظاء الوجه، خشيت أن يدركني أحدهم؛ فيشهر سيفه في وجهي، تسللت بهدوء حتى وجدت أحد الأعمدة اختبأتُ خلفه وظللت انظر إلى ما يدور من أحداث في حضرة تلك الملكة، وجدت حراسها يتقدمون نحوها يحملون أحد القطع الذهبية المستطيلة، عليها قلبًا بشريًا مازال نابضًا يغطيه الدماء وكأنه استخرج حالا من صدر أحدهم، أمسكت تلك الملكة بالقلب بين يديها، اقتربت منها احدى النساء، إنها امرأة كبيرة بالعمر ترتدي الملابس القديمة البالية، شعرها أبيض طويل إلى حد قدميها، اقتربت من ملكتهم مدت يداها لتضع الملكة ذلك القلب بين يداي العجوز التي قربته  من أنفها ثم أخرجت لسانها تلعق بعض الدماء من ذلك القلب ثم التفتت إلى الملكة بعد أن ألقت به بعيدًا، كانت كلماتها قاسية على الملكة وكأنها من تملكها:

 إن ذلك لم يكن نتيجة خطيئة ، أريده لشابة

 ( وما ذلك القلب إلا لعجوز ابنة أبيها )

 ‏قبل ان تكمل العجوز حديثها شعرتُ بخطوات أحدهم تقترب مني من الخلف نظرت لأجدها تلك الفتاة التي لقبتها بمرشدتي.

 ‏إنها مرشدتي مرة ثانية ماذا تفعل هنا؟

 ‏اقتربت تلك الفتاة مني وهمست في أذني (اهربي إلى حيث ولدتِ؛ فلا ملجأ لكي هنا، صار بكل مكان ولن أستطيع انقاذك)

 ‏حينها استيقظت  بصعوبة من ذلك الكابوس، جلست في فراشي التقطت أنفاسي ثم ارتشفت بعض قطرات الماء ونظرت إلى ساعتي لأجدها الثالثة صباحًا.

 ‏تجولت  بالمنزل قليلاً، استطاعت أنفي التقاط رائحة  بها أنفاسًا غريبة وكأن تلك الرائحة تطاردني، وجدت غرفة أبي مازالت مغلقة ولم يعُد إلي الآن، اقتربت ببطء تجاه تلك الغرفة المحرمة عليّ منذ طفولتي، سمعت بعض الضوضاء بالداخل، انكمشت خوفًا في ملابسي، رن فجأة هاتفي وكأنه يحذرني من  التفكير في دخول تلك الغرفة.

 ‏أسرعت إلى حيث الهاتف لأجد المتصل أبي:

 ‏أبي لماذا لم تعود إلى الآن؟

 ‏ما بكِ يا راحيل وكأنك مطاردة وأنفاسك غائبة.

 ‏إنه فقط كابوس يا أبي، كنت انتظر عودتك ولكن غلبني النعاس واستيقظت الآن ولم أجدك.

 ‏لن أعود يا راحيل لقد ذهبت في طريق السفر إلى تل أبيب الليلة.

 ‏ألم تقل أنك ستسافر بعد غد؟

 ‏لن أُضيع تلك الفرصة بسبب بعض الإجراءات البسيطة، وكلت أمر تلك الإجراءات لكي يا راحيل، الآن اخلدي للنوم لتكوني في المكتب باكرًا.

 ‏أغلق أبي الهاتف وترك وحيدته يتملكها الخوف مما ترى في نومها، أفكر دومًا في تلك الكوابيس وتلك المرشدة ولما تنصحني بالهروب ومن أي شيء أهرب؟

 ‏سطع ضوء الشمس بنافذتي، فتحت عيوني بهدوء، نظرت إلى تلك الاشعة البرتقالية التي اقتحمت صباحي ثم  إلى ساعتي لأجدها الثامنة صباحًا.

 ‏اسرعت في  الاستعداد للنزول إلى العمل خشية أن يتصل أبي بهاتف المكتب فلا يجد رد ويعلم بتأخيري.

 ‏تجهزت، خرجت مسرعة من منزلي وغلقت بابي جيدًا كما أرى من أبي وأنا  أحدث روحي:

 ‏لو أن السارق أتى  لمنزلنا لشفق علينا، لعله سيترك مسروقاته إكرامًا لحالنا.

 ‏شعرت أدفأ بهمسي اقتربت نحوي:

 ‏راحيل.

هل تحدثين روحك أم انكِ جُننتي؟

 ‏لعل الاثنين معًا؛ فأنا أتحدث إلى روحي لأجد تفسير وإلا سأصبح دون عقل قريبًا.

 ‏أعلم أن الحياة مع والدكِ تفقد العقل ولكنك ناضجة بما يكفي لتتحملي.

 ‏لا الأمر لم يعد يخص أبي.

 ‏إذًا ما بكِ؟

 ‏تكررت كوابيس الليلة الماضية مرة أخرى، نفس الامرأة تأتي في المنام وتوجه لي النصائح بالهروب.  

تغيرت ملامح أدفأ وبدا عليها الاستعجاب:

 ‏لا لقد تجاوز الأمر حدود الكابوس، أظنك تحتاجين زيارة الحاخام ليستطيع معرفة ما تمرين به.

 ‏الآن يجب أن أذهب للمكتب وإلا حجز أبي المرتب عني تعلمين ماذا تعني له الأموال.

 ‏اعلم الآن اذهبي وأنا في انتظارك عندما تعودين.

 ‏ادفأ؟

 أريد أن أطلب منكِ أمرًا وارجو أن تبدلي قرارك السابق وتوافقي.

 ‏إن كنتي تريدين البحث عن الماضي ‏سأرفض يا راحيل، أخبرتك سابقًا لقد حرق أباكِ كل شيء؛ فلم يعد من ذاك الماضي سوى الجروح في قلبه فلا تعيدي إحياء جروحه يا راحيل.

 ‏نظرت  إلى وجه أدفأ نظرة استسلام وغادرت دون أن اتحدث، وصلت  إلى مكتبي، جلست اهتم ببعض الأعمال المعلقة حتى أنجزت جميعها، لم أشعر بالوقت حتى أتى المساء، بقيت انتظر اتصال أبي ولكنه لم يتصل تلك المدة.

 ‏مللت من الانتظار أخرجت هاتفي المحمول وتركت إحدى الرسائل لأبي.

 أبي انتظرت طوال اليوم اتصالك بهاتف المكتب ولكنك لم تتواصل معي بأي شكل، أريد فقط الاطمئنان عليك فلا تكن بخيلاً بمشاعرك.

 ‏أعدتُ ترتيب المكان واستعديت للرحيل، أردتُ الذهاب باكرًا لأسرق بعض الوقت مع  أدفأ وقبل أن انصرف من مكتبي وجدت أمامي احدى الفتيات تغطي وجهها بوشاح أسود طويل، تأخذ أنفاسها بصعوبة تلتفت يمينًا ويسارًا.

 ‏صحت بصوتٍ عالي:

 من أنتِ؟

 كيف تدخلين بتلك الطريقة، ألم تتعلمي الآداب؟

وقفت تلك الفتاة دون حديث تنهدت قليلًا، ثم مدت يدها ونزعت ذلك الوشاح عن وجهها.

 ‏دققت النظر في ملامحها اتسعت عيوني واندهشت:

 ‏راميت، ما الذي اتى بكِ إلى هنا في ذلك الوقت؟

 ‏راميت هي احدى الفتيات اللاتي تعرفت عليهن أثناء دراستي الجامعية تنتمي إلى طائفة (الحريديم)

 ‏المعروفين بتشددهم الديني والتزامهم بفروض الشريعة اليهودية، ولكنها عرفت بين زُملائها بميولها للتحرر والخروج عن سيطرة طائفتها.

كما كانوا يلقبونها بجولييت لشدة جمالها وتعلق جميع من يراها بها.

وقفت راميت أمامي باكية حانية الرأس لا تستطيع النظر في عيوني:

 ‏لم أجد ملجأ غيرك يا راحيل ألجأ إليه، لقد أخذت صفعة على وجهي أطاحت بحياتي فأصبحت مطاردة من أقرب الناس لي ولا حل أمامي سوى الهروب أو القتل.

 ‏ما الذي تقوليه يا راميت، لم أفهمك؟

 ‏أريد الآن الراحة من عناء السفر لقد سلكت طريقًا ليس بالقصير لأصل إلى هنا.

 ‏ اجلسي يا راميت اريحي جسدك والتقطي أنفاسك، اهدائي ثم تحدثي.

 ‏جلست راميت أمامي تلتقط أنفاسها بصعوبة، قدمت لها كوب ماء بارد فهذا أقصى ما أستطيع تقديمه لها نظرًا لخلو المكتب من أساسيات الضيافة.

 ‏تفضلي يا راميت.

 ‏التقطت راميت كوب الماء وأخذت تشرب دون توقف، ‏حتى تعجبت لحالها وتعجبت أكثر مما ظهر على كف يدها، لقد بدا عليه اللون الأزرق على هيئة بقع متفرقة وكأن أحدهم كان يبرحها ضربًا.

وضعت يدي بهدوء على يد راميت لأشعرها بالأمان:

 ‏هل أنتِ بخير الآن؟

 ‏نعم، لقد هدأت روحي قليلاً.

 ‏الآن ما بكِ يا راميت؟

ستطول حكايتي يا راحيل.

لا بأس أنا هنا لأستمع.

 ‏تعلمين يا راحيل منذ سنين الجامعة وقعت في شباك الحب أنا و(باروخ) صرت له عشيقة وصار لي حبًا كبير رغم تشدد عائلتي الديني  وطائفتي الذين يعيشون الحياة بأحكامٍ قاسية لا تتماشى مع ذلك العصر.

 ‏نعم، أعلم قصة الحب الكبيرة التي نشبت بينكم طوال سنين الجامعة ولكن، ماذا حدث ؟

 ‏لقد وقعت بيني وبين باروخ خطيئة كبيرة لا تغتفر، تجاوزنا الحد وصرت شريكته بالفراش.

 ‏لم اندهش من حديثها وكأني كنت أعلم.

 ‏وعدني بالزواج والحياة الأبدية رفقته حتى استسلمت، والآن أبي يرغمني على الزواج من أحد أبناء طائفتي المتشددين ولم أجد مفر؛ فذلك الشخص هو أحد أبناء رفيق أبي المخلص وشريكه بالعمل.

 والآن أنا أحمل في احشائي ابن (باروخ ).

 ‏اتسعت عيوني، شهقت من هول ما سمعت، فأنا أعلم جيدًا عواقب تلك الفعلة في طائفة(الحريديم)  لعلهم يقتلوها دون رحمة أو تعيش هاربة منبوذة من الجميع.

 ‏ماذا؟

 تحملين طفله في أحشائك.

 وما العمل في تلك الأزمة، أين باروخ؟

 ‏لا أعلم، أخبرني قبل أسابيع أنه يسعى للعمل في إحدى الشركات ب يافا  لتوفير المال لبدء حياتنا وإلى الآن لم يعُد حتى أن أخباره انقطعت ولم أستطع الوصول إليه بأي وسيلة.

 ‏الآن اهدئي سنجد حلاً لتلك المشكلة ولكن يجب أن نجد أحد الأماكن لتمكثي بها تلك الفترة.

 ‏لا أملك المال ولا أريد أن اصطنع لكِ المشاكل مع والداك؛ فجميعًا نعلم طباعه.

 ‏لا تقلقي أبي مسافر ليس بالبلدة ولكني أرغب لكِ في مكان أكثر أمنًا.

 ‏نظرت إلى مكتبي، التقطت احد الدفاتر وبدأت اُقلب بصفحاته  يمينًا ويسارًا حتى استقريت على احدى صفحاته نظرت قليلاً ثم رفعت رأسي إلى راميت.

 ‏وجدتها، هنا احدى الغرف الشاغرة بأحد العمائر القريبة لي.

 ‏والمميز أن مالكة ذلك العقار مهاجرة إلى أوروبا، هي فقط تستلم أموالها عن طريق الدفع السنوي؛ فإن مكثتي بإحدى غرف ذلك العقار بعض الوقت لحين انتهاء أزمتك لن يعلم أحد.

 ‏أشكرك يا راحيل على تلك المساندة ولكن لن تنتهي أزمتي بتلك السهولة، سأصبح سجينة تلك الغرفة، فأنا لا أستطيع البحث عن باروخ.

 ‏لا تقلقي سأفعل ما بوسعي لإيجاد باروخ وحل تلك الازمة التي تمرين بها.

 ‏أسفة يا راحيل على تلك المشاعر السيئة  التي عشتها بسبب معاملتنا لكِ تلك السنين؛ فالآن سيلقى وليدي نفس المصير لما  سببته لكِ من أذى.

 ‏تعلمت ألا التفت للماضي يا راميت وإلا مت قهرًا، لا تقلقي سينعم وليدك بحياة هادئة وستكون هذه الحياة هديتي له.

 ‏انهيت  حديثي، أخذت راميت رفقتي وتوجهت إلى عنوان العقار الذي ستسكنه راميت: هذا هو العقار يا راميت، الآن سنصعد إلى غرفتك ولن تخرجي منها أبدا إلا إن حُلت أزمتك.

صعدت  بهدوء خلفي راميت تتنفس بصعوبة بالغة مما لفت نظري:

 ‏ما بها أنفاسك يا راميت؟

 ‏أظنه إجهاد.

 ‏توقفت في الدور العاشر أمام إحدى الأبواب وأخرجت المفتاح من حقيبتي، فتحت ذلك الباب بهدوء ودخلت سريعًا وأشارت إلى راميت بالدخول خلفي.

 ‏ادخلي يا راميت؛ فتلك الغرفة هي مسكنك من الآن.

سأوفر لكِ أي شيء تريدينه سأتي كل يوم بالطعام والشراب وبعض المستلزمات ولكن عاهديني ألا تخرجي من تلك الغرفة لأي سبب كان.

 أُعاهدك يا راحيل، لن أرحل إلى أن أنال مطلبي.

‏إذًا سيبقي ذلك المفتاح حوزتي؛ فأنتِ لست بحاجة لحمله، جلبت لكِ بعض الأطعمة الخفيفة لتلك الليلة أعلم انكِ لم تتناولي الطعام منذ الصباح، إلى يسارك ستجدين أحد النوافذ ليدخل بعض الهواء للغرفة ولكن لا تفكري في الانتحار منه.

 ‏ابتسمت راميت: لا تقلقي يا راحيل لن أُسبب لكِ المتاعب.

 ‏سأتركك اليوم وأعود غدًا لأعرف منكِ كيف أستطيع الوصول إلى باروخ.

 ‏هزت راميت رأسها مجيبة بنعم، ذهبت إلى الفراش ومددت جسدها لترتاح من عناء سفرها.

 ‏ذهبت أنا  بعد أن تأكدت أني أحكمت إغلاق باب غرفة راميت.

 ‏وصلت إلى الحي، نظرت إلى منزل أدفأ وجدت أنواره مشتعلة، أدركت أن أدفأ مازالت مستيقظة

 ‏تحركت  تجاه منزلها طرقت الباب بهدوء فتحت لي أدفأ سريعًا:

 ‏وكأنك كنتِ في انتظاري يا ادفأ.

 ‏استنشقت رائحتك عن بعد أدركت أنكِ الطارق، ادخلي يا راحيل.

 ‏دخلت في صمت، جلست إلى أريكة ادفأ الدافئة كعادتي:

أريد بعض المشروب يا ادفأ.

 ‏هل تريدين نسيان شيء؟

 أو التمتع به ؟

 ‏لا...

 أريد الهروب من تلك الحياة

 ‏إذًا عليكِ بالتحدث إلى ادفأ، فأحضاني ستنقذك من الشتات الذي تغلب على روحك.

 ‏ادفأ أريد معرفة الحقيقة.

 ‏أي حقيقة تريدين يا راحيل؟

 ‏هل حقًا أخطأت أمي، هل تركتني لرغبتها أم رغمًا عنها؟

 ‏لا حقيقة في عالم أجدادك يا راحيل؛ فلا تبحثي عن المتاعب الآن، اخلدي للنوم واتركي التفكير في ذلك الأمر.

 ‏وضعت  رأسي فوق الوسادة وكأن النوم يصارعني لم أستطيع الانتصار عليه خلدت للنوم وأنا أهمس:

 لماذا رحلتِ ولم تتركِ لي سوى ساقًا عوجاء ؟

 ‏وجدتني  ادفأ استسلمت للنوم، وضعت وشاحها كغطاء لي لتشعرني بالدفء، أغلقت الأنوار وتركتني لأرتاح وما ومن راحة في عالم أحلامي.

 جاء ميعاد اللقاء...

(رؤيتي الثالثة)

 وجدت  روحي في أحد المنازل الضخمة، أبواب وغرف كثيرة لا يوجد به غير الأثاث القديم المتهالك ولا أثر لأي شخص حتى سمعت بعض الأصوات لفتيان صغار تحركت  خلف ذلك الصوت حتى رأيت بعض الفتية جوارهم فتاة واحدة جالسين جميعًا يتبادلون الألعاب يمرحون سويًا وعلى الجانب الأخر رأيت أحد الرجال يحمل بيده رأس عنزة منفصلة عن جسدها، يسيل منها الدماء ولا يبالي، دخل إحدى الغرف أغلق الباب جيدًا وبدأ الدخان يخرج من فتحات الباب، بهدوء تسللت إلى تلك الغرفة ووقفت أمامها، أمسكتُ بمقبض الباب وفتحته بهدوء حتى استطاعت عينيا رؤية ما يحدث داخلاً.

رأيت بعض الرجال ملتفين حول مائدة كبيرة وضع عليها رؤوس خنازير مفصولة عن الجسد ورأس تلك العنزة الصغيرة، كذلك بعض الشموع المضيئة، يمسكون بأيدي بعضهم البعض يرددون بعض الكلمات غير مفهومة لي، شعرت بارتفاع حرارة المكان وتسارع نبضات قلبي حتى صمتوا جميعًا عن  ترديد تلك التعاويذ و فجأة حول أحدهم نظره نحوي وكانت نظراته كالسهم مصوبة تجاه قلبي تقذف فيه الرعب والخوف ولكن لم أكن أنا  المقصودة بل وجه نظراته إلي تلك الفتاة الصغيرة التي تحسست أثرهم ورأت ما يصنعون، وقفت التقط أنفاسي بصعوبة لأستطيع تفسير ما رأيت.

 ‏ولكن هناك ما شتت تفكيري أكثر مما رأيت؛ فتلك الفتاة الصغيرة ركضت تختبئ في أحد الأركان خوفًا من عقابهم لاحظت اعوجاج ساقها  الظاهر حدثت روحي إنها ذات القدم اليسرى.

نفس الاعوجاج البسيط يظهر أثناء الركض.

من تلك، أيعقل أن أكون أنا؟

 ‏اقتربت من تلك الفتاة، وقفت أمامها ورأيت الخوف في عينيها وشعرت بارتجاف جسدها:

 ‏اهدئي لقد رحلوا ولن يعودوا الآن.

 ‏نظرت تلك الفتاة نحوي نظرة طويلة وتحدثت:

( ‏اخرجي تلك الأفعى من منزلك فهي بداية الهلاك )

 ‏لم أفهم  كلماتها، تغاضيت عن ما قالته و وجهت لها سؤالاً أخر

 ‏هل أنتِ أنا؟

 ‏قاطعني  أحد الرجال الذين يبحثون عن تلك الفتاة ممن رأيتهم، أسرع تجاهها وهو ينادي: (راشيل).

 أمسك بتلك الفتاة الصغيرة  وهو يعنفها، حينها أدركت أنه لم يراني أحد سوى الصغيرة راشيل، ودعتني بنظرة خوف إلى عيني وهى تهمس: اهربي.

استيقظت في فزع أُنادي: أمي؟

وجدت روحي في منزل ادفأ ومازالت الساعة الثانية والنصف، تحركت بهدوء خشية إيقاظها، على أطراف أصابعي خرجت من المنزل، أغلقت الباب بهدوء وتوجهت إلى منزلي، أخرجت مفاتيحي وقبل أن أقوم بفتح الباب سمعت صوت بكاء يصدر من الداخل، استجمعت شجاعتي ودخلت منزلي  مسرعة، أشعلت جميع أضواءه وجلست إلى الأريكة، نظرت إلى هاتفي ولم أجد اتصال من أبي، تفحصت هاتف المنزل ولا اتصال يخبرني اهتمامه بي.

توجهت  إلي غرفتي وفي طريقي سمعت صوت البكاء مرة أخرى، تجمدت خطواتي، دققت السمع لأجد الصوت يصدر من داخل غرفة أبي؛ فتوجهت إلى غرفته في خطوات هادئة، وضعت أذني بقرب الباب، سمعت صوت بكاء ونحيب، إنه صوت امرأة تتوسل الرحمة ولا تلفظ سوى:

(الرحمة لطفلتي)

اتسعت عيوني من الخوف والتفكير فيما يدور بغرفة أبي، أردت كسر الباب ولكني لم أستطع، وقعت أرضًا فاقدة الوعي  بعد محاولاتي الكثيرة لكسر الباب.

مرت الساعات الأخيرة من الليل وظهرت أشعة الشمس بالحي، استيقظت لأجد نفسي مستلقية أرضًا أمام غرفة أبي أشعر بوجع رأسي، كذلك جميع جسدي أثر صدمي للباب أمس.

وقفت على أقدامي، اقتربت من الغرفة استمع إلى تلك الأصوات ولا أثر لها.

تحدثت إلى روحي باستهزاء: إنها الكوابيس التي تلازمني، لابد أن العالم السفلي يريد تجنيدي في صفوفه.

تجهزت للذهاب بعد أن بدلت ملابسي ومشطت خصلات شعري، أردت الاطمئنان على أبي، فأخرجت هاتفي وقمت بالاتصال به، وجدت هاتفه مغلق ولا أستطيع الوصول إليه، تركت له أكثر من رسالة وفي النهاية خرجت من المنزل مسرعة إلى العمل، قابلت العملاء بوجه بشوش واستطعت إنجاز أعمال كثيرة، وضعت المال في خزانة أبي وأخذت منه ما استحق نظير مجهودي بالعمل.

خزانة أبي مليئة بالأموال والفضل الأول يعود لي، فلا بأس إن أخذت منه بعض النقود لأساعد راميت في محنتها.

هااا،. لابد أن أذهب إليها لأبدأ ما وعدتها به، أنهيت العمل وأغلقت المكتب جيدًا وأسرعت في الذهاب إلى راميت، توقفت بعض الدقائق أمام أحد المطاعم، أخذت الأطعمة والقهوة لراميت وأكملت طريقي، وصلت إلى العقار حيث تمكث  وصعدت مسرعة حتى لا يراني أحد السُكان، أخرجت مفاتيحي وفتحت باب الغرفة ،دخلت انادي:

 راميت

راميت

وضعت ما بيدي أعلى المنضدة وأسرعت في خلع الحذاء لشدة  ما يسببه لي من وجع:

راميت أين أنتِ؟

أتاني الرد من خلف ظهري:

أنا هنا يا راحيل.

فزعت  من ردها المفاجئ ووجودها خلفي دون أن أشعر حتى بحركتها أو أنفاسها:

لم تكوني هنا حين أتيت.

لا،  بل كنت هنا، أين سأكون والباب مغلق ولا أستطيع الخروج.

صمتُ بعض الثواني، جلست إلى أحد مقاعد المنضدة، وضعت يدي على رأسي:

 لعلي أتوهم، فلم أشعر بوجودك حين أتيت، ظننتك نائمة.

لا تفكري كثيرًا؛ فذلك الحال حين تفكري يصبح عقلك مشتت.

اجلسي يا راميت، لقد أحضرت لكِ بعض الاطعمة والقهوة لتستطيعي التركيز.

جلست راميت جواري لم  تتناول شيء وبادرت بالحديث:

أخشى أن أُسبب لكِ المتاعب يا راحيل بوجودي هنا.

لا تقلقي يا راميت فلا يوجد ما يسبب المتاعب؛ فوجودك ليس بمشكلة ولكن عدم وجودك بمنزل أباكِ هو المشكلة ولابد أن تُحل سريعًا، أين أجد باروخ؟

تعلمين أن باروخ يعيش رفقة عمته المسنة بعد أن توفى والديه، ولكنه الآن في (يافا  تل أبيب ) انتقل للعمل في إحدى الشركات هناك ومنذ ذلك الحين لا أستطيع الوصول إليه، أرسلت له الكثير من الرسائل  ولا رد حتى أنني فقدت الأمل في الوصول إليه.

هل لديك رقم هاتفه؟

نعم.

أخرجت راميت هاتفها وقامت بإعطائي  الرقم الخاص بباروخ كما أخذت عنوانه.

الآن سأذهب وأحاول الوصول إلى باروخ، هل تحتاجين شيء؟

أحتاج ونيس في تلك الغرفة؛ فأنا أشعر بالخوف الشديد فيها، كذلك لا أستطيع النوم، أشعر وكأني مراقبة من أحدهم فالليلة الماضية كانت شاهدة على أسوأ ما عشت من كوابيس ولا أريد المكوث هنا وحدي.

اعذريني يا راميت ولكن لا أستطيع البقاء معكِ، أريدك أن تكوني قوية.

صمتُ دقيقة، ثم:

أي الكوابيس رأيتِ  يا راميت؟

رأيت أحد الأبواب المغلقة تقف خلفه احدى السيدات تتوسل الرحمة يقف أمامها.....

هنا صمتت راميت ولم تكمل.

ما بكِ يا راميت، أكملي من يقف أمامها؟

لا أعرف يا راحيل فلم يكن بشري، بل كان مسخًا طويل القامة، عريض الأكتاف، غليظ الوجه،  شديد السواد، عينيه كأنها جمرات بركان، أسنانه رؤوس فأس، حين رأيته نشب الفزع في قلبي وأخشى أن أنام الليل؛ فيعاود زيارتي.

هل تحدث إلى تلك المرأة يا راميت؟

لا بل تحدثت هي.

ماذا قالت ؟

قالت ..

(اهربي إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها )

فلم أفهم ما تعنيه ولكن تعلقت الكلمات في ذهني  وكأنها رسالة إلى أحدهم.

لا تقلقي يا راميت فما تلك إلا  كوابيس لخوفك من المستقبل ولكن أعدك أن تتبدل الأحوال للأفضل، لا تقلقي.

طمئنت راميت  ببعض الكلمات، عزمت على الانصراف والذهاب إلى عنوان باروخ.

الآن سأنصرف يا راميت، سأعود غدًا بأخبار تسُر قلبك.

انصرفت بعد أن أحكمت إغلاق باب غرفة راميت واتخذت من عنوان باروخ سبيلاً لي، بعض الدقائق في الطريق بقيت أُفكر ما به أبي، فلم يتواصل معي ولا أستطيع الوصول إليه.

حدثتني روحي لعله غارق في بعض الأعمال ولا يريد ما يأخذ وقته.

وصلتُ إلى منزل باروخ، وقفت أمامه، دققت النظر في رقم المنزل وجدته ذات الرقم المدون لي بخط راميت

طرقت الباب ثلاثًا وبقيت انتظر، سمعت صوت أقدام آتية تجاه الباب في هدوء.

 انتظرت حتى فُتح الباب، وجدت أمامي سيدة عجوز كسا الأبيض خصلات شعرها وجهها ملئ بالتجاعيد، تتمسك بعصا تحميها من الوقوع أرضًا.

من أنتِ يا فتاة؟

أنا صديقة باروخ بالجامعة، كررت الاتصال به كثيرًا ولكنه لا يجيب؛ فأردت الاطمئنان على حاله.

فرحت تلك العجوز بزيارتي وأسرعت في ضيافتي.

ادخلي يا صغيرة فذلك المنزل يحتاج لروح جديدة فلم يدخله زائر منذ زمن.

دخلت  وجلست في هدوء، أغلقت العجوز باب منزلها بحذر وجلست جواري:

كنت أخشى الموت دون أن يشعر بي أحد، شعرت بالاطمئنان حين سمعت دقات الباب

هل تستطيعين زيارتي كل يوم لتستشعري وجودي؟

تبسمتُ وأردتُ أن أُشعرها بالاطمئنان:

أستطيع يا جدة ولكن أين باروخ، كيف يتركك وحيدة في هذا العمر؟

لم يتركني باروخ وحيدة برغبته.

ماذا؟

لقد كان الأمر رغمًا عنه.

كيف يا جدة؟

لقد سافر إلى يافا ليستطيع الالتحاق بإحدى الشركات ولكنه عاد بعد مدة قصيرة.

عاد ولكن لم يكن بكامل قواه، لقد تملكتها روح شريرة ولم يستطيع الخلاص من تلك الروح

ماذا؟

أي روح تملكته؟

  لقد عاد بنوبات صرع لم  يستطيع أحد الاطباء علاجها، أصبح خطرًا على جميع من حوله، هكذا فسر الأطباء حالته ليؤكد باروخ تشخصيهم له عندما  أوشك على إنهاء حياة أحد فتيان الحي لذلك قاموا بحبسه بأحد المصحات العقلية.

اندهشت بما سمعت، منعتني الصدمة من إبداء رد فعل سوى الصمت.

الآن يا فتاة هل ستعودين زيارتي؟

نعم يا جدة سأعود زيارتك كل يوم، ولكن أريد عنوان تلك المصحة الخاصة بباروخ.

هل تريدين زيارته؟

نعم أريد الاطمئنان على حالته.

أخذت عنوان باروخ، وضعت الورقة داخل حقيبتي وهممت بالانصراف سريعًا.

إلى أين يا عزيزتي؟

سأعود إلى منزلي يا جدة ولكن أعدك سوف أزورك قريبًا.

ألقيت تلك الكلمات وها أنا أمام باب المنزل استعد للرحيل،  اردفت  الجدة: لا تأتي يا صغيرة، لقد أتممت ما وكل إليّ.

ما ذلك الحديث؟

نظرت إلى الجدة سريعًا وجدتها مازالت جالسة في هدوء تبتسم دون حديث.

أسرعت في الخروج من ذلك المكان لما شعرت به من اختناق، ألقيت جميع الأمور خلف ظهري وعدت مسرعة إلى منزلي، خلعت ملابسي الثقيلة والقيت بها بعيدًا كذلك حذائي وجلست على الأريكة أمام غرفة أبي.

أُحدث روحي :  

 ما به عالمي يتبدل للأسود، ألم يكفي ما به من سواد؟

شعرت بثقل رأسي، استسلمت للنوم وسبحت في كوابيسي مرة أخرى.

(رؤيتي الرابعة )

 رأيت روحي  بمنزل آخر قديم متهالك، في أحد أركانه وعلى أريكة قديمة تجلس إحدى السيدات، دققت النظر في ملامح تلك السيدة.

من نظرتي لها ايقنت أنها زائرتي دائمًا  بالمنام، من أطلقت عليها لقب مرشدتي، يبدو عليها التعب، إنها بأواخر شهور حملها تتألم، ولكن في هدوء، أتى أحد الرجال متجهًا نحوها، وضع يده على أحشائها ليلامس جنينها.

اقترب موعد مجيئه سيُبدل أحوالنا جميعًا، أعدك سوف ننتقل من ذلك المنزل إلى منزل أخر أكثر رفاهية ، منزلاً ستكونين فيه ملكة متوجة كملكات الفراعنة اللاتي عشقتي حياتهن قديمًا، ستحيين تلك الحياة

أزاحت مرشدتي يده بعنف ونظرت إلى عينيه باحتقار:

أريد ذلك الجنين ولا أريد تلك الحياة، لقد كانت مجرد أحلام طفولية لم أعد أرغب في تحقيقها.

إن اردتي الاحتفاظ بذلك الجنين سيكشف أمرك ولن يقبل بكِ أحد، حتى حاخام المعبد لن يشفق على حالك.

سأحمى جنيني منكما ولن تستطيع يدك الوصول إليه، لن تستطيع أخذ صغيري يا ناحوم، إنه لي.   

تحرك ناحوم  في هدوء وثقة بالمكان.

وضع يده في جيبه، أخرج كتابًا صغيرًا لونه أحمر يظهر أنه قديم بعض الشيء لوحَ بذلك الكتاب في وجه مرشدتي:

ستحتاجين ذلك الشيء يومًا ما، سأتركه هنا ولكن سأعود قريبًا وحين أعود أريد الانتهاء من جميع الأمور العالقة.

ترك ناحوم  كتابه الدموي ورحل.

أسرعت مرشدتي في التقاط ذاك الكتاب، لم تهتم بفتحه تحركت مسرعة رغم شعورها بالتعب، جلست أرضًا وبدأت في نبش التراب من أحد الأركان حتى صنعت حفرة صغيرة أخذت به ووضعته في الحفرة وقامت بردم ترابها مرة أخرى .

انتهت مرشدتي من ردم تلك الحفرة وجلست أرضًا تلتقط أنفاسها، شعرت وكأن أنظارها موجهة نحوي.

سمعت تلك الهمسات مرة أخرى

اهربي ....

استيقظت من ذلك الكابوس مفزوعة على صوت دقات بالمنزل، نظرت حولي لم أجد أحد ولا تأتي تلك الدقات من خارج الباب، توجهت عيناي إلى الساعة لأجدها الثالثة صباحًا وكأن كوابيسي  تنتهي عند ذلك الحد من الوقت.

تجولت بالمنزل استمع إلى تلك الدقات لأجدها منضدة أبي الصغيرة  تدق الأرض بأرجلها، إنه ركن أبي الخاص، هنا يجلس ليرتشف  قهوته  ولا يهتم بالعالم الخارجي، اقتربت في خوف لأتاكد مما رأيت، إنها المنضدة تهتز وكأنها في مهاب الريح، تصدر صوتًا كالدقات؛ فشعرت أن بالأمر شيء وكأنها تريد أن تخبرني به.

وقفت بعض اللحظات لأستوعب ما أرى.

هناك من  تحدث داخلي ليخبرني أنه ذاك الركن الذي رأيته بالكابوس نظرت حولي قارنت المكان بتفاصيل ما رأيت بالمنام، أسرعت في تحريك تلك المنضدة وإزاحتها بعيدًا عن الركن، كشفت الغطاء وصرت أتحسس الأرض وكأني أبحث عن إبرة في كومه قش، تذكرت أين يخفي أبي صندوق أدواته، أسرعت إلى الفناء الداخلي للمنزل أحضرت مطرقة وعُدت سريعًا إلى ذلك الركن لا أدري ما أصابني من جنون، شرعت في تفتيت أرض المنزل حتى لمست يداي رمال  تربته، حينها قذفت بالمطرقة بعيدًا وأسرعت في نبش تلك الثغرة بيداي حتى صنعت حفرة صغيرة ولا أثر لشيء، فقدت أمل الوصول إلى ذلك الكتاب.

 حدثت نفسي:

ما تلك إلا كوابيس لعلي سأجن قريبًا، ولكن للحظة وقبل مغادرتي تحسست يدي شيء ملموس بين الرمال أسرعت في النبش مرة أخرى حتى رأيت أمامي ذلك الكتاب، حينها اتسعت عيوني  و ارتعش جسدي خوفًا، سحبت جسدي سريعًا للخلف خائفة، وضعت يدي على فمي خشية أن أصرخ في ذلك الوقت، دقيقة تملكت أعصابي، سيطرت على خوفي واقتربت من تلك الحفرة مرة أخرى، استطعت إقناع نفسي أن هناك أسرار وحان وقت كشفها، مددت يدي والتقطت ذلك الكتاب، كانت رائحته عطرة وكأنه أتيًا من باريس وليس من تحت الأنقاض، أسرعت إلى غرفتي، أخفضت الإضاءة وجلست إلى مقعد مكتبي، وضعت ذلك الكتاب  أمامي ولم أستطيع التفكير في الخطوة الثانية.

شعرت بالجنون وشرعت بتوجيه الحديث إلى روحي:

إن كان الكتاب  في منزلي وتلك السيدة مرشدتي تنصحني بالهروب، هذا يعني أنها سكنت ذلك المنزل قبل انتقالنا إليه.

إن هذا الكتاب أكبر دليل على وجود أمر خفي يحدث لي أو أن هناك روحًا معذبة تريد مساعدتي.

لا،  لا هي مجرد صدف لا أكثر.

وعُدت اتساءل:

هل جميع ما يحدث معي صدف لا أكثر؟

أم أنه تدابير القدر؟

حريق يلتهم جميع المنزل ولا يصابني مكروه والآن جميع تلك الأمور تحدث وكأنها إشارات من العالم السفلي، لا ليست مجرد صدف.

ذلك الكتاب سيكشف لي الكثير لابد أن أطلع على ما يحويه

كنت أخشى أن يحمل سرًا.

ينشق صدري لعدم قدرتي على احتماله ولكن حملت صفحاته الطلاسم المعقدة، كذلك بعض الذكر عن طرق تحضيرات ملوك الجان.

ذُهلت لما يحتويه ولكن لم أستطيع الوصول لشيء وكأن عقلي توقف عن التفكير.

ظللت باقي الليل أنظر إلى الكتاب وإلى كلماته المعقدة حتى استطعت قراءة احدى أسراره.

حمل ذلك الكتاب عزائم وتحضيرات خدام وملوك الجان، منهم القوي الشديد ومنهم الغاضب الثائر، كذلك الملك المتوج على عرشه، منهم العاصيين لسيدنا سليمان وسبق أن تعرضوا للعذاب بسبب عصيانهم، حمل ذلك الكتاب الكثير والكثير من الخبايا والأسرار.

لفت نظري ذِكر أحد الملوك من الجان والذي يتم تحضيره للانتقام وإخضاع المرغوب فيه لأمرك، أغلقته سريعًا، لقد أخذ بعقلي ولم أعد أستطيع التفكير في ما يحدث، أسرعت إلى هاتفي أحاول الاتصال بأبي لعله يعلم عن ذلك الأمر شيئًا أو يطمئن قلبي ببعض الكلمات، أريد أن أشعر بوجوده جانبي لأستطيع التفكير.

ولكن كحال كل يوم لا مجيب لاتصالاتي، أخفيت ذلك الكتاب في حقيبتي، تذكرت راميت ووعدي لها سأعود قريبًا.

نظرت إلى ساعتي لأجدها الثامنة صباحًا، أسرعت إلى راميت وأنا أحمل لها ذاك الخبر السيء عن باروخ.

وقفت أمام باب غرفتها واستجمعت شجاعتي ودخلت مسرعة أنادي راميت بعد أن أغلقت الباب خلفي، جلست انتزع الوشاح من حول عنقي أنظر إلى حال الغرفة.

 كيف هي مرتبة إلى تلك الدرجة؟

 ألم تنام راميت على الفراش؟

ألم تتناول كوب قهوة؟

 أم أنها تهتم بالتفاصيل إلى ذلك الحد.

لم أُكمل حديثي بعد، قاطعتني راميت:

نعم أنا أهتم بأدق التفاصيل، لذلك أهتم بأمر غرفتي أيضًا.

شعرت بالإحراج بعض الشيء ولكن تجاوزت الموقف:

اجلسي يا راميت أريد أن أخبرك أمرًا.

هل استطعتِ الوصول إلى باروخ ؟

تنهدت بصمت، ثم ...

 ‏تقريبًا.

 ‏كيف؟

 هل رفض مقابلتك؟

رفض الاستماع إليكِ، أم أنه رفض الاعتراف بما بيننا ؟

 ‏لا يا راميت لم أقابله، لقد قابلت عمته تلك المسنة.

 ‏وبماذا أخبرتك؟

 ‏أخبرتني.....

 ‏تحدثي يا راحيل فلم أعد أستطيع صبرًا.

 ‏أخبرتني أن باروخ عاد منذ فترة من يافا.

 ‏تحمست راميت ولمعت عينيها:

وأين هو الآن؟

 ‏بأحد المصحات العقلية، لقد أصيب بنوبات صرع، تقول عمته هناك  روحًا  شريرة تملكته ولم يستطيع أحد الأطباء تفسير ما حدث له.

 ‏لا هذا مستحيل تلك العجوز الشمطاء تريد دماري، إنها تخفي وجوده، صنعت تلك الكذبة ليستطيع باروخ الهروب وعدم الاعتراف بما بيننا.

 ‏ولكنها سجلت لي عنوان المشفى الذي يخضع فيه باروخ للعلاج.

 ‏لا يا راحيل، لا تصدقي تخاريف تلك الشمطاء، باروخ يعمل في يافا إنه بأحسن حال وأفضل صحة.

 ‏وما يؤكد لكِ هذا يا راميت؟

 ‏أشعر به يا راحيل، أشعر بسكونه وهدوء روحه، أشعر بجنونه وحبه، أشعر أنه مازال بعيدًا ولكن رغمًا عنه فهو مشتت التفكير يخاف من المواجهة.

 ‏إن صدقتي القول سيعود يا راميت.

 ‏ولكن هل سأبقى هنا حتى يعود؟

 ‏لا لن أعيش في ذلك السجن.

 ‏الموت ينتظر خروجك من ذلك الباب يا راميت، لقد خالفتي عادات وشعائر طائفتك وليس في قانونهم سماح أو غفران.

 ‏لن أموت على يد عائلتي سأجعل موتي على يدي لعله سيكون أكثر رحمة.

 ‏ماذا تقولين يا راميت؟

 ‏أقول ان الموت هو خلاصي الوحيد بعد أن تخليتي عن مساعدتي.

 ‏لا يا راميت، لم اتخلى عنكِ.

 ‏ولكن ..

 ‏ولكن ماذا يا راحيل؟

 ‏وضعت  يدي  في حقيبتي، أخرجت ذلك الكتاب و وضعته على المنضدة أمام راميت: ‏انظري يا راميت، لقد وجدت ذلك الكتاب أسفل بناء منزلي بعد أن رأيته بمنامي.

 ‏ماذا؟

 ‏كتاب أحمر اللون به الكثير من التعاويذ والطلاسم، وجدته أسفل بناء منزلي ولا أدري لماذا تحدث تلك الأمور لي؟

 ‏التقطت راميت ذلك الكتاب وبدأت في قراءة ما دون به.

 ‏هذا وكثير من الأمور تجعلني مشوشة التفكير يا راميت.

 ‏صاحت راميت فجأة: لقد وجدتها.

نظرت إلى وجهي وعيونها تشع بالحماس: لقد وجدتها يا راحيل.

 ‏ماذا وجدتي؟

 ‏التعويذة التي ستجعل من باروخ عبدًا لي، سيأتي سريعًا راكعًا يطلب العفو والسماح على ما فعل بي.

 ‏هل جننتي يا راميت؟

 ‏لا يا راحيل، لقد فشلت جميع محاولاتي بإعادة باروخ، الآن فقط بعض الكلمات والطقوس ستجعل منه ضعيفًا دوني حتى يعود حينها سأسامحه، حينها فقط سوف نبدأ حياة جديدة لكلانا، حياة ليس بها خوف من الأهل والطوائف.

 ‏لا أدري كيف اقنعتني راميت برأيها، ظللت أستمع إليها لحين انتهت وكأني منومه مغناطيسيًا.

 ‏ولكن يا راحيل.

 ‏ماذا؟

 ‏الم تفكري لماذا ظهر هذا الكتاب  في ذلك الوقت؟

 ‏لا،  ولكن شعرت إنه لمساعدة أحد.

 ‏إنها أنا يا راحيل، لقد ظهر لمساعدتي.

 ‏كيف؟

 ‏ذلك الكتاب مُلك لكِ، لا يجدر لغيرك كشف خباياه لأنه اختاركِ تكوني حاملته.

 ‏إذًا ...

 ‏أنتِ وحدك من يستطيع فك طلاسمه واستخدم تعويذاته.

 ‏ماذا، لا أستطيع يا راميت.

 ‏ولكن عليكِ مساعدتي، حينها ستساعدين روحك أيضًا، ستنكشف لكِ جميع الأسرار وستجدين إجابات لما يحدث لكِ، خذي ذلك الكتاب وانفردي بروحك واسبحي في خباياه لعل أسراره تستطيع تدبير أمورنا.

 ‏أخذتُ الكتاب  من يد راميت ووضعته في حقيبتي، لم اذهب إلى العمل ذلك اليوم، تجاهلت اتصالات العملاء المتكررة.

 ‏تجولت تائهة بالشوارع وبين المباني أبحث عن رائحة جديدة تذهب بعقلي بعيدًا عن التفكير في أمر الكتاب و راميت  وأبي ولكن لم  أجد ما يهدي روحي، أخذت بي أقدامي إلى منزل أدفأ ووقفت أمام بابها، طرقت بعض الطرقات الهادئة أتت نحوي مسرعة ملهوفة احتضنتني:

 ‏راحيل، أين كنتي يا فتاة؟

لقد انشق قلبي من القلق حين غادرتي ليلاً.

 ‏ما تلك الاشواق الحارة يا أدفأ لا داعي للقلق أنا هنا.

 ‏أتعلمين يا أدفأ، أنتِ الوحيدة التي تشعرني بوجودي، انتِ الوحيدة التي تلاحظ غيابي وتشعر نحوي بالقلق، هل هكذا الأمومة يا أدفأ؟

 ‏جميع الأمهات  تشعرن بالقلق والحب والخوف نحو أبنائهن، يضحون بحياتهن مقابل حياة ابنائهن ولكن كثيرًا تُفسر الأمور لصالحهم بل ويفترون قولا وفعلاً على من يقدمون لهم الحياة.

 ‏ماذا تقصدين؟

 ‏أقصد أن الأمهات هن حوريات الجنة.

 ‏لماذا شعرت أنكِ تقصدين أمي؟

 ‏نظرت أدفأ إلى عيوني صامته، وضعت يدها على كتفي، أشعرتني لمستها بالأمان وأخذت منها القدر الكافي من الطمأنينة وهممت في الذهاب إلى منزلي.

 ‏إلى أين يا راحيل ابقي هنا الليلة.

 ‏أعدك يا أدفأ سأبقى جميع الليالي ولكن ليس الليلة.

 ‏سأعود ولكن الليلة أريد أن انفرد بروحي لعلي أجد ما أبحث عنه.

 ‏وعن ماذا تبحثين؟

 ‏نظرت إلى أدفأ نظرة أخيرة قبل ذهابي وبصوت هادئ وصفت ما أبحث عنه:

 ‏السكينة، الطمأنينة وهدوء الروح.

 ‏لا أدري لماذا سمعت صوت أدفأ يكرر جملة راميت ( اهربي إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها)

 ‏سكنت في مكاني التفت إلى أدفأ:

 ماذا تقولين؟

 ‏ابتسمت في وجهي: أنصحكِ بالنوم  جيدًا يا قناة؛ فالصباح مرهق والليل هو  فرصتك للراحة.

 ‏شعرت بارتباك، أصبح الأمر خارج عن السيطرة لقد تجاوز حد الكوابيس.

 ودعت أدفأ وذهبت إلى منزلي، ذهبت مسرعة للاستحمام، أردت إسقاط المتاعب عن رأسي وانتهزت فرصة خلاء المنزل من أبي، خرجت عارية ملتفة في احدى الأقمشة القطنية القصيرة تاركة شعري المبلل منسدلًا أعلى خصري، ذهبت إلى غرفتي ووقفت أمام المرآة أحدث روحي:

 ‏إن هذا الجمال لم يكتمل بسبب أمي، لا أعلم لماذا أرث اعوجاجًا لم يكن لي، ألم يكن بمقدور ربي أن يخلقني كاملة دون الاستعانة بچينات والدايّ؟

 ‏لا بأس فأنا الآن أملك في يديّ ثروة، ولابد أن أُحسن استعمالها؛ فإن وجدت الحلول  لمشكلة راميت سأجد ما يصلح اعوجاج قدمي.

هناك ‏تقدمت  إلى مكتبي  والتقطت ذاك الدفتر وأخذت أبحث بين أسراره حتى عثرت على  تعويذة (شومير)، قرأت في خبره ما يعلمني أنه المنشود ليأتي بباروخ ويكون طوع راميت؛ فأخذت أقرأ تعليمات تحضيره وصرفه.

 ‏أطفأت أنوار المنزل جميعها وأشعلت بعض الشموع بغرفتي ثم جلست أرضًا عارية كما اُمِرت، أحضرت قلمًا أحمر اللون، رسمت طلاسم (شومير) على راحة يدي، وضعت الكتاب أمامي وأخذت اردد (الشبشبة)  وهى التعاويذ المطلوبة لتحضيره.

( ‏يا شومير ويا عفروت وأنت يا خطفون وأنت يا شاهر وأنت يا غيطور وأنت يا غيهون ويا باهر ويا شنهر ابن داهر افعلوا ما تؤمرون).

 ‏رددت  تلك الشبشبة سبعون مرة حتى فقدت الإحساس بما حولي، شعرت وكأني  في ظلمة بلا نهاية.

نفق يكسوه الظلام شديد الحرارة ولا أستطيع الإحساس، أدركت أنه الوقت المناسب لسرد ما اريده كما قرأت في تعليمات تحضيره.

 أريد باروخ يأتي راكعًا يطلب الزواج من راميت، يكون لها عبدًا مطيعًا تلك الحياة وإلى الأبد، أوامري لك يا شومير  أنت وأعوانك أن تأتي به في الحال دون عناء مني، فإن كان؛ فلك ما تريد.

أنهيت  تلك الكلمات ولم أعرف عواقبها.

 غلبني النعاس واستسلمت له لأنتقل لعالمهم دون أن أدري ..

(رؤيتي الخامسة )

 ‏أقف في فناء منزل قديم اشتم رائحة الدم تفوح بالمكان.

 ‏نظرت حولي رأيت احدي الخنازير مذبوحة الرأس موضوعة في إناء كبير، دققت النظر في ذلك الإناء وجدت ذات  الطلاسم الذي رأيتها بالكتاب مرسومة على جلود الخنازير، شعرت  بالخوف، وضعت يدي  أعلى فمي و كتمت صرخاتي، استنشقت من خلفي احدى الروائح الكريهة وسمعت صوت أنفاس وكأن أحدهم يتربص بي، تملكت روحي وسيطرت على خوفي، التفت في بطء و تفاجأت بأحد الرجال مكبل اليدين بسلاسل حديدية عاري الجسد لا يرتدي سوى  بنطال مهلك.

 ‏تارك لحيته متشابكة وكأنها خيوط عنكبوت نظرت نحوه بخوف؛ فوجدته باروخ لقد تأكدت من ملامحه، اقتربت منه وعيوني مليئة بالخوف وهمس في هدوء ( اهربي )

 ‏استيقظت اتصبب عرقًا وكأني هاربة من أحد الوحوش البرية، وجدت أشعة الشمس ملأت المكان  لم أشعر بتغير كبير، فقط بعض الإعياء وكأني نائمة منذ مدة طويلة، اندهشت لرؤيتي الشموع مازالت مضيئة منذ ليلة أمس، أطفأت نيرانها الصغيرة وأسرعت في ارتداء  ملابسي وعند خروجي لاحظت وجود الكثير من الجرائد أمام باب منزلي، انحنيت ملتقطة إحداهما، إنها بتاريخ سابق ثلاثة أيام وكذلك الباقية ليست بتاريخ اليوم، وقفت دقيقة لم استوعب الوقت التي وجدت روحي  فيه.

 ‏أمس كان السادس عشر من الشهر إذًا اليوم هو السابع عشر.

 أيعقل أن تتم طباعة جرائد سابقة للزمن بأخبار لم تحدث؟

 ‏أسرعت إلى منزل أدفأ، طرقت الباب طرقات متتالية، أتت أدفأ مسرعة لتجدني الطارقة:

 ‏راحيل؟

ما  بكِ يا فتاة؟

وأين كنتِ، لقد قلق قلبي وانشق صدري لغيابك؛ فلم يدق أحدهم بابي ولم أشعر بالحياة لغيابك.

 ‏وهل غبت  كثيرًا يا ادفأ؟

 ‏ثلاثة أيام  كنت أذهب إلى منزلك، أقوم بطرق الباب ولا مجيب، أحاول الاتصال بكِ ولكن هاتفك دائما مغلق، ظننت أن هناك من سحر بعقلك وأوقعك في شباكه ليهرب بقلبك بعيدًا.

 ‏حينها أدركت أنني غبت عن الوعي ثلاثة أيام بعد تلك التعويذة.

 ‏ابتسمت في وجه ادفأ لأهرب من تساؤلاتها:

 ‏لا داعي للقلق  يا ادفأ كنت أعمل ولم استطيع التواصل معكِ.

 ‏سأحضر كوب حليب دافئ سيقضي على شتات عقلك ويعود لكِ بالهدوء.

 ‏أسرعت ادفأ لتحضير كوب الحليب بينما تصفحت أنا جرائد اليوم.

 لا أدري لعله القدر جعل أنظاري تتوجه إلى خبر دُون بالجريدة (مقتل طبيب نفسي على يد أحد المختلين عقليًا بالمشفى)

 ‏اسرعت في قراءة تفاصيل ذلك الخبر لأجد أن المشفى يحمل نفس الاسم الذي دونته لي تلك العجوز عمة باروخ، إنه  المشفى الذي يمكث فيه باروخ.

ولكنهم لم  يذكروا اسم القاتل. 

 ‏في حركة لا إرادية جمعت أشيائي وخرجت مسرعة متجاهلة نداءات ادفأ.

 ‏اخذتني خطواتي للذهاب إلي مشفى باروخ المدون على احدى الورقات بحقيبتي، وقفت أمام بوابته الحديدية وسوره الشاهق، أنظر إلى مبانيه ونوافذه الحديدية أحدث روحي:

 في أي سجن يعيشون، سجن الخطيئة أم سجن المرض؟

 ‏توجهت إلى استعلامات المشفى للسؤال عن باروخ، وهل هو أحد نزلاء المشفى؟

 ‏لأجد إجابة صادمة:

 ‏نعم هو أحد النزلاء ولكن عليكِ المرور على مدير المشفى ليوقع على طلب زيارتك.

 ‏في طريقي إلى مكتب المدير لفت نظري أن جميع جدران المشفى بيضاء، جميع الغرف مغلقة وتنتشر كاميرات المراقبة بكل ركن، استمريت في التقدم حتى وصلت إلى غرفه دون أعلاها مدير المشفى.

 ‏استأذنت بالدخول وكان الرد:

 ‏ادخلي يا فتاة فأنا في انتظارك.

 ‏زادت حيرتي ولكني تحليت بالصبر، جلست أمام مدير المشفى، من نظرتي الأولي له بشوش الوجه

 دائمًا مبتسم، خالط الشيب مقدمة رأسه، قصير القامة قليلاً.

 ‏جلست في هدوء رددت إليه الابتسامة.

حدثت روحي سرًا:

‏كيف كان في انتظاري؟

 ‏أخبروني في الاستعلامات استفسارك عن باروخ كذلك طلب زيارتك له.

 ‏نعم، ولكنهم أخبروني يجب توقيعك على أوراق  الزيارة أولًا.

ماذا تقربين لباروخ؟

رفيقته، كنا زملاء في الجامعة وبعد التخرج انقطعت جميع سبل التواصل بيننا.

وكيف علمتي بوجوده هنا؟

أردت الاطمئنان عنه فذهبت إلى منزل عمته حيث يعيش؛ فأرشدتني عمته عن عنوان المشفى الذي يمكث فيه لتلقي العلاج.

نعم باروخ هنا منذ مدة طويلة والغريب أنه منذ قدومه للمشفى لم يأتي أحد لزيارته، شخّص الأطباء حالته بالصرع والجنون، دائمًا يميل للعزلة والبعد عن زملاؤه النزلاء.

نفذت جميع حيل الأطباء لعلاج نوبات صرعه فحين يتملكه الجنون لا يستطيع أحد الاقتراب منه.

إلى أن ..

إلي أن ماذا؟

 إلي أن قام بسرقة مشرط طبي لتنفيذ جريمته؛ فمنذ يومان افتعل أحد المشاكل بين النزلاء وحين تملكته نوبة صرع

 أمر طبيبه المعالج بعزله في إحدى الغرف لمتابعة حالته وفي الليل استطاع تنفيذ حيلة على ضابط الأمن الخاص به وسحبه داخل غرفته حيث قام بذبحه.

ماذا ؟

هل هو الذي تتحاكى عنه الأخبار ووسائل التواصل؟

مجنون يذبح حارسه

نعم هو.

كيف؟

كيف لمجنون غير قادر على استيعاب ما حوله ذبح أحدهم.

هذا الأمر لم يستطيع أحد الأطباء  تفسيره.

 لقد قام بسرقة أحد الأدوات الطبية الحادة التي يستخدمها التمريض، واستطاع الإفلات بها وتدبير الأمر ليقتل حارسه ولا ندري لماذا لم يهرب بعد أن  قام بفعلته، كانت الفرصة متاحة له للهروب ولكنه بقى ساكنًا لا ينطق سوى تلك الكلمات (لقد ارتكبت خطًأ )

هل أستطيع رؤيته؟

نعم بالتأكيد ولكن سيكون هناك حاجز بينكم خوفًا من رد فعله غير المتوقع.

وافقت على اقتراح الطبيب، أردت رؤية باروخ لعل أمره يتبدل فور رؤيتي.  

 انتقلت رفقة مدير المشفى بين الأروقة أتساءل:

ماذا يجري خلف تلك الأبواب، هل صنعت لتكون سجنًا لهم.

أم سُجنوا خلف ظلمات عقولهم؟

تسألني روحي هل يدركون أن هناك عالم أخر خارج أسوار تلك المشفى؛ لأجيب لعلهم لا يدركون أن هناك حياة خارج  غُرفهم، وقف المدير أمام احدى الأبواب الحديدية، التفت إلىّ وأشار بنظراته إلى الداخل:

انظري ..

تقدمت خلف الطبيب لأرى باروخ يجلس أرضًا مكبلاً بسلاسل حديدية عاري الجسد لا يرتدي سوى بنطال، إنه الصورة الحقيقية لما رأيت في منامي.

همس الطبيب برفق: انظري، لقد اضطررنا لوضعه في تلك الزنزانة خوفًا من أن يقوم بذبح أحدهم مرة أخرى.

هل أستطيع الاقتراب منه أكثر؟

لا ؛فالاقتراب منه ليس بالأمر الصائب ولن ندعك تواجهي مصير ليس معلوم أمامه.

حينها نظر باروخ تجاهي، ابتسم بهدوء وكأنه تائه في صحراء واسعة والآن أتى منقذه، تقدم نحوي ببطء حتى وقف أمامي عينيه موجهة إلى عينيّ بيننا الحاجز الحديدي الذي تمسك به جيدًا، همس ببعض الكلمات التي جعلتني أتأكد إنه ليس بمجنون.

راحيل، الآن فقط أتيتي؟

لم أصدق أنك هنا حتى الآن، أكذب عيوني لقد كنت ...

قاطعني باروخ ليتحدث هو:

 أعلم، ليس هذا مكاني ولكني لا أستطيع سوى تنفيذ ما يأمرني به

من يأمرك يا باروخ؟

إنه يأمرني الآن بعدم الإفصاح عن شخصه، وإلا سيقتلني مثل راميت.

لم تمت راميت إنها في انتظارك يا باروخ، أنت من أخلف وعدك معها، ذهبت ولم تعد تركتها لتواجه مصير محتوم بالموت.

هي ليست راميت وانما أفعته المخلصة يا راحيل.

اهربي يا راحيل، اهربي إلى (أراضي لمس جبين الساجدين ترابها )

قال باروخ تلك الجملة لتكن نهاية حديثه معي، رفض بعدها الحديث وعاد إلى موضعه وجلس في هدوء ينظر إلى الأعلى وكأنه يتحدث إلى أحدهم بعينيه.

خرجت من ذلك المشفى مسرعة، التقطت أنفاسي بصعوبة وكأني غريقة تترجى النجاة.

لم أجب على تساؤلات الطبيب المتكررة بما يقصده باروخ واتخذت من الطريق إلى مسكن راميت سبيلاً لي حتى توقفت السيارة أمام العقار، تركت له بعض المال وأسرعت في الصعود إلى أعلى، لم انتظر المصعد لاستعجالي، تحديت الألم في ساقي وصعدت الدرج مسرعة حتى وقفت أمام باب غرفة راميت، فأخرجت كومة المفاتيح من حقيبتي وقمت بفك أقفال الباب ودخلت مسرعة.

الغرفة نظيفة مرتبة وكأن لا أحد بها أخذت أصيح:

 راميت

 راميت

فتشت الغرفة، كذلك نظرت من النوافذ لا أدرى أين ذهبت، وجدت جميع الأشياء التي جلبتها سابقًا مازالت في البراد على حالها، فلم تقترب راميت من الطعام أو الماء، كذلك الفراش مرتب كحال أول مرة اتيت الغرفة، حينها شعرت بالخوف دارت داخلي تساؤلات لم أستطيع الإجابة عنها، تذكرت عنوان راميت وذهبت مسرعة من ذلك المكان وقفت بمنتصف الشارع تائهة أبحث عن إحدى سيارات الأجرة حتى توقفت إحداها؛ فصعدت بعد أن أخبرته بوجهتي، مرت نصف ساعة وأنا في طريقي إلى منزل عائلة راميت، كنت أخشى أن يفعلوا بها مكروه ظنًا مني أنهم استطاعوا الوصول إليها وأخذها بالقوة، وصلت إلي وجهتي.

 الحى شوارعه ضيقه به الكثير من الأطفال مزين لاستقبال حفل زفاف أحدهم.

 استطعت الوصول إلى العقار الذي تسكنه عائلة راميت، صعدت ابحث عن رقم ٦الذي يحمله منزل عائلتها لأجده أمامي مباشرة، وقفت صامتة لبعض اللحظات واستجمعت قوتي، رتبت مظهري وملابسي وطرقت باب منزلهم، لم يطل انتظاري لقد اتت إحداهن مسرعة إنها شابة  تبدو في الثامنة عشر من عمرها، قصيرة بعض الشيء ولكنها جميلة تشبه راميت في ذاك السن وكأنها نسختها من الماضي.

وقفت أمامي متسائلة:

من انتِ؟

أنا راحيل.

هزت رأسها مستنكرة ردي.

من راحيل؟

ماذا تريدين؟

أنا رفيقة راميت أريد الاطمئنان على حالها، فلم أستطيع الوصول إليها عن طريق الهاتف، ظلت تنظر إليّ وهي صامتة. أتت إحدى النساء ممسكة بعكازها  ليست بكبيرة ولكن يبدو عليها المرض، قطعت ذلك الصمت بيننا:

تفضلي بالدخول يا فتاة، لماذا تقفين بالخارج؟

خطوت خطواتي داخل منزلهم وجلست إلي أريكة صغيرة في منتصف المنزل، جلست أمامي تلك السيدة والفتاة الصغيرة

سمعتك تذكرين راميت، هل أنتِ صديقتها؟

نعم صديقتها أريد الاطمئنان عليها، انقطعت كل سُبل الاتصال بها فضلت أن أتى بنفسي لأطمئن عليها.

لا أعرف لما بكت تلك السيدة ذرفت عيونها الدموع ولم تستطيع حبسها.

هل ازعجتك؟

لا أسعدني مجيئك اليوم؛ فمنذ رحلت راميت لم يشتاق إليها أحد، كنتِ انتِ أول من يشتاق إليها ويأتي للاطمئنان على حالها.

حدثت روحي هل يشتاقون إليها بعد أن هربت منهم، هل مازالوا يبحثون عنها إن لم تكن هنا فأين هي الآن، إلي أي مكان ذهبت؟

أين رحلت راميت فلم تكن من هواة السفر والترحال؟

لم يكن ترحال بلا كان سفر بعيد إلى حيث البرزخ.

بيننا حجاب لا ينكشف إلا بالموت لقد رحلت راميت إلى مسكنها الأخير.

هنا شعرت بصاعقة ضربت ضلوع  صدري وشتت أفكاري.

موت، هل ماتت راميت؟

جاوبتني تلك الفتاة الصغيرة برد سريع ممزوج بالبكاء: نعم لقد ماتت راميت، رحلت عن ذلك العالم وتركت لهم الحياة ليتمتعوا بقسوتها وتنعم هي بالحياة الابدية.

متي ماتت راميت، وكيف؟

منذ شهرين لقد مرت بأزمة نفسية عصيبة شعرت فيها بالوحدة ولجأت للانتحار أكثر من مرة ولكنها فشلت، أردنا مساعدتها وعرضها على أحد الأطباء النفسيين ولكن قد فات الأوان ونجحت راميت في الانتحار بعد أن صنعت مشنقة في غرفتها باستخدام أحد الأحبال.

حينها شعرت وكأن العالم ضيق حتى أنه لا يتسع لي أكاد اختنق تحدثني روحي:

 إن ماتت راميت  فمن كانت رفقتي؟

 من أتت لتطلب النجاة والمساعدة؟

 هل عِشت تلك المدة مع طيفها الراحل؟

 لا لا فهذا جنون لابد أن راميت مازالت حية، هم من اخترعوا تلك الكذبة ليتبرؤوا منها.

صرخت فيهم دون شعور:

مازالت راميت حية لما تفترون عليها بالموت؟

 لقد أتت إليّ تطلب المساعدة تخشى أن تقتلها طائفتها لو علموا بحبها لباروخ.

زادت دموع تلك السيدة حتي تبدلت عيونها إلى اللون الاحمر لشدة البكاء: أشعر بصدمتك لقد فقدت ابنتي بسبب أحكام تلك الطائفة، عاشت تلك الأيام بعيدة عن أحضاني، ضغطنا عليها جميعًا وتركناها تواجه الحياة بمفردها.

تركت الأريكة وأسرعت في الجلوس بجوار والدة راميت.

ماذا حدث  لتصل لتلك، أي حياة فرضت عليها لتواجه ذلك المصير؟

كان لأبيها شريك بالعمل أراد أن يزوجها بابنه الأكبر، كان  كثير الأموال ولكنه غير متزن عقليًا يعانى انفصام في الشخصية  كما أنها كانت تهوى أحد زملائها ولم يكن لي علم إلا .....

صمتت ولم تستطيع إكمال حديثها.

أكملِ إلا ماذا؟

لم أكن أعلم بتلك العلاقة إلا بعد حملها.

شعرت أن عيوني اتسعت وانقبض قلبي، استطعت السيطرة على روحي وأكملت هي حديثها:

حين ضغطنا عليها بالزواج من ذلك الشاب اعترفت لي بتلك العلاقة وما نسج عنها في احشائها، ترجتني أن أكون جوارها وانتظر باروخ عشيقها لحين عودته.

وبعد ذلك؟

لم يكن الانتظار أمرًا سهل في ذلك الموقف، أرغمتها على الإجهاض وتقبل الزواج من ذلك الشاب وإلا أخبرت أبيها وطائفتها بفعلتها.

ظللت تلك المدة احوطها امنعها من التفكير في الخلاص ليصبح ليس أمامها أي خيار آخر، ولكني فعلت الخطأ لقد فقدت السيطرة على روحها ولجأت للانتحار، ولكنها فشلت أكثر من مرة وكررت المحاولة حتى استطاعت النجاة والهروب من تلك الحياة؛ ففي صباح أحد الأيام وجدتها معلقة بأحد الاحبال المربوطة بسقف غرفتها من رقبتها وقد انتهي أمرها.

لا أدري ما حدث لي شعرت حينها، بالجنون ضحكت عاليًا باستهزاء.

أنتِ تتوهمين أليس كذلك، راميت مازالت حية ذلك الجنين في أحشائها مازال ينبض ينتظر القدوم إلى الحياة، لقد كانت رافقتني منذ أيام ولكنكم استطعتوا الوصول إليها وأخذها بالقوة، سأذهب الآن وأطلب المساعدة لتخليص راميت من بين أيديكم أيها القتلة.

تحركت الأخت الصغرى لراميت بالمكان وقفت أمام مكتبة صغيرة، أخرجت دفترًا من بين الكتب وعادت مرة أخرى جواري.

وجدتها تخرج بعض الصور والكثير من الأوراق التي تحمل ختم الدولة.

مدت يدها نحوي بتلك الصور وهي صامتة، تحدثت والدتها وهي تنظر نحوي خذي تلك الصور، إنها الحقائق الأخيرة التي تركتها لنا راميت لنيقن أنها رحلت للأبد.

التقطت تلك الصور لأجدها راميت معلقة من رقبتها بأحد الحبال المربوطة بسقف غرفتها ترتدي فستان زفاف بسيط وكأنها كانت تنتظر ذلك اليوم ولم يأتي لتصنعه هي ليكون آخر يومٍ لها

تأكدت حينها من حديث والدتها التي أخبرتني أن تلك الصور التقطت بواسطة فرقة البحث الجنائي.

أخذت ذلك الدفتر وجلست اقرأ في أوراقه وبين سطوره.

دون في تلك السطور تاريخ الوفاة.

وفاتها الثانية والنصف صباحاً.

جميع التفاصيل التي حملتها راميت دونت بذلك الدفتر ليكون إعلان وفاتها وتشخيص كيفية الوفاة.

جلست بانهزام إلى الأريكة بقيت صامتة لا أُحرك ساكنًا، أغمضت عينييّ لأتذكر كل المواقف الغريبة التي حدثت بيننا حين ظهورها فجأة من خلف ظهري حديثها الغريب بأنها باقية حتي تحقق ما تريد، كذلك غرفتها الباقية على حالها منذ أول يومٍ لها، الطعام الذي لم تقربه.

كيف عاشت تلك المدة دون طعام؟

لأجد تفسير واحد لجميع الأسئلة التي دارت داخلي.

لم تكن راميت وإنما حليفة الشيطان أتت لتحقق له رغبة ولا أدري ما هي؟

القيت بأوراقهم أرضًا، حملت حقيبتي وأسرعت في الخروج من منزلهم، نزلت الدرج ولا أدري كيف حتى وصلت إلى منتصف الشارع، قمت بالوقوف أمام إحدى سيارات الأجرة وأسرعت في إعطائه عنوان منزلي، مرت ساعة حتي وصلت إلى وجهتي ووقفت في منتصف الحي أنظر إلى الساعة إنها الواحدة بعد منتصف الليل، أنوار منزل أدفأ منطفئ كذلك جميع الحي نيام وكأنهم في سبات أو لعله تأثير البرودة عليهم، أسرعت إلى منزلي أغلقت بابه جيدًا وجلست خلفه ضممت أرجلي إلى أحضاني فلم أجد من يحنو عليّ بأحضانه في تلك البرودة.

أحدث روحي....

أعلم أن ذلك المنزل صار سجني ولكني لا أملك مكانًا آخر غيره وإن وجد المكان فذلك الشيء لن يتركني، لن يتركني لابد إنهم يريدون أمرًا ما.

 هل يريدون أن أذهب معاهم؟

 ‏ أم هو سحر اُديت طقوسه ليتم التخلص مني والذهاب بعقلي؟

 ‏لا أدري ولكن هناك روحًا شريرة تسعى خلفي تريد أن أصل لدرجة الجنون ولكني لن استسلم، لن أعيش تلك الحياة المريضة، لن أكون عابدة لتلك الوساوس، إنه الكتاب وحده من يستطيع مساعدتي لابد وأن به إحدى التعويذات لتنقذني توجهت إلى غرفتي أخفضت الإضاءة وقمت بتبديل ملابسي، جلست إلى مكتبي واخذت أنظر إلى ذلك الكتاب خشية أن أقوم بفتحه تلك المرة، فلا استطيع التخلص من كوابيسي.

 ‏إن الاقتراب من ذلك الكتاب سيزيد الطين بله، سيحضر شياطين أخرى تسعى خلفي سأذهب إلى الحاخام لأستطيع إنقاذ روحي.

 ‏انتقلت إلى فراشي ووضعت جسدي بهدوء، نظرت إلى سقف غرفتي وأخذت أبكي وحيدة وأتذكر كلمات راميت ويشعر قلبي بالخوف.

 ‏من تلك الفتاة إن لم تكن راميت، من رافقت تلك المدة، لماذا اتت، ولما ذهبت؟

 ‏هل أخذت ما أرادت؟

 ‏تذكرت إصرارها على تلاوتي لتلك التعويذة  لتحضير الملك (شومير)  تحدثت إلى روحي لعل تلك التعويذة هي ما أرادت.

 ‏ويبقى السؤال الأهم:

 ‏من تلك الروح التي رافقتني تلك المدة؟ 

 ‏أغمضت عيناي في محاولة مني للنوم الذي زارني سريعًا.

(رؤيتي السادسة )

 ‏رأيت أحد الجبال الشاهقة يصدر منها صوت امرأة تتوجع تطلب المساعدة من أحدهم ولا مجيب لها، أسرعت خلف ذلك الصوت أبحث بين فتحات الصخور من أين يأتي الصوت؟

 ‏ حتى توصلت إليها..

 ‏وجدتها مرشدتي جالسة أرضًا واضعة أحد الاقمشة بفمها لتكتم صرخاتها، ممسكة بسكين حاد طويل قليلاً بجوارها نارًا مشتعلة تصرخ لشدة ما بها من ألم يبدو أنها ستضع مولودها الآن.

 ‏بقيت ساكنة في مكاني لا أتحرك، فقط أشاهد ما يحدث لها، أشعر وكأني في زمن آخر غير الذي أعيشه وأن أحدهم يريد أن أطلع على الماضي ولكن أي ماضي وأنا لا أعلم من هؤلاء، أردت مساعدتها ولكنيّ لم أستطيع فالأحداث جارية ولا فارق لوجودي، ظلت تتألم ولكنها صابرة تصرخ صرخات مكتومة دون وجود مساعد لها في ذلك الأمر العظيم، هنا رأيت كم هو مؤلم خروج روحٍ  من روح أخرى، أيقنت كم تعاني الأم في تلك اللحظة لتهب الحياة لمولودها، مر وقت طويل تعاني فيه تلك السيدة حتى استطاع وليدها الخروج من ظلمات  الأرحام إلى النور، أمسكت تلك السيدة وليدها بيدها نظرت إليه مبتسمة فاقتربت قليلاً لأستطيع الرؤية  بوضوح لأجدها فتاة نعم فتاة جميلة يكسو رأسها الشعر الأسود، قربت تلك السيدة السكين من وليدتها، ارتعش جسدي ظنًا أن تلك المجنونة ستقتلها صرخت أنادي: لا  لا انتظري.

ولكنهم في عالم آخر لا تصل صرخاتي إليهم، خاب ظني فلم تقتل وليدتها بل قامت بقطع الحبل السُري بينهم وإحكام إمساكه ولف وليدتها في أحد الاقمشة وضعتها في أحضانها ومددت جسدها بالكامل أرضًا وصارت تبكي وجعًا، انتفضت من فراشي على صوت بكاءها قادمًا من الخارج، استيقظت في نفس التوقيت المعلوم من الليل تجولت في المنزل اكتشف من أين تأتي الصرخات حتى ايقنت صدورها من غرفة أبي. 

 ‏وقفت أمام غرفته لأستمع لتلك الصرخات إنها ليست المرة الأولى التي أسمع تلك الأصوات تخرج من غرفه أبي.

 ولكنها محكمة الغلق ولا أمل أن أستطيع اقتحامها لاكتشف تلك الأصوات إلا بكسر قفلها.

 ‏اخشى أن يعود أبي ليجدني عبثت بخاصته فأصير مطرودة خارج المنزل لعصياني أوامره.

 ‏اقتربت أكثر وضعت أذني بقرب الباب.

 ‏لأسمع بعض الكلمات  أثناء البكاء لامرأة.

 ‏اتركها مازالت صغيرة أعدك أن أكون خدامتك ولكن اتركها.

 ‏ولا مجيب لتلك الكلمات فلا صوت يصدر سوى صوت تلك المرأة.

 ‏جلست إلى الأريكة أمام غرفة أبي أتحدث إلى روحي، أعيد ترتيب ما يحدث لي

 ‏زادت كوابيسي برحيل أبي.

 ‏ظهر طيف راميت بحياتي عندما رحل أبي وحاولت الوصول إليه ولم أستطيع

 ‏ أيعقل أن غيابه تلك المدة  أمرًا عاديًا؟

أم لغيابه خبايا لابد أن اكتشفها.

..هنا قررت  السفر إلى تل أبيب للبحث عن أبي وتفسير ما يحدث لي ولكن يجب أولا  تسوية جميع أموري قبل الرحيل.

انتظرت حتى الصباح وقمت بتبديل ملابسي أردت الذهاب إلي مكتب أبي ولكن أوقفتني رائحة القهوة الصباحية التي تعدها أدفأ، لقد انتشرت رائحتها بالمكان  ولم أستطيع السيطرة على حبي للقهوة واتجهت مسرعة إلى منزل أدفأ.

قمت بطرق باب منزلها عدة طرقات بعدها أتت مسرعة تجيب:

 من الطارق؟

 ‏لأرد أنا من خلف بابها:

 ‏وهل هناك من يزعجك غيري إنها أنا؟

 ‏فتحت أدفأ مسرعة وهي حاملة لفنجان القهوة خاصتها

 ‏راحيل أدخلي يا فتاة اشتقت للحديث معك.

 ‏وانا أيضا يا أدفأ ولكني اشتقت لأحضانك.

 ‏الآن سأحضر لك الفطور ثم نتحدث سويًا وأنتِ في أحضاني.

 ‏لا لا اريد الطعام ..فقط أريد تناول فنجان قهوة من صنع يديك.

 ‏الآن فهمت ما أتى بكِ، سأعد لك قهوتك حالاً.

 ‏أسرعت أدفأ في إعداد القهوة، خرجت حاملة الفنجان رائحته تأخذ العقل اشتهيته قبل أن أتذوق مذاقه، وضعت أدفأ الفنجان أمامي على الطاولة وجلست على الاتجاه الآخر تنظر إليّ وأنا أتذوق قهوتها.

 ‏لقد وجدت حلاً.

 ‏أي حل، ولماذا؟

 ‏لأمر تلك الكوابيس التي تزورك كل ليلة، ذهبت إلى الحاخام وأخذت منه موعد وهو في انتظارنا اليوم مساءً

 ‏ادفأ، متي فعلتِ هذا؟

 ‏حين اختفيتِ تلك الأيام الماضية تذكرت أمر تلك الكوابيس وأسرعت في طلب المساعدة من الحاخام ووافق ولكنه طلب رؤيتك واليوم موعدنا.

 ‏ولكني سأسافر إلى تل أبيب للبحث عن أبي ولن أستطيع مقابلة الحاخام.

 ‏إن كان السفر إلى تل أبيب للبحث عن أباكِ أمرا ضروريًا؛ فذلك الأمر لا يحتمل التأجيل يومًا آخر وسأتركك تسافرين.

 ‏وهل ستجدى تلك المحاولة نفعًا؟

 ‏نعم ستجدي منافع كثيرة لعل أهمها أن فؤادي سيطمئن على أحوالك.

 ‏استمعت إلى حديث أدفأ.

أخبرتني روحي: لا بأس بمحاولة أخرى؛ فرحلة البحث عن أباكِ لن تقلع طائرتها دون عودة.

 ‏انتهيت من تناول قهوتي استئذانت أدفأ بالذهاب إلى العمل على وعد بلقاء مساءً يجمعنا بالحاخام.

 ‏ذهبت في طريق المكتب تتردد داخل مسامعي أصوات تلك السيدة ونداءها المستمر، أتعجب لما يحدث معي ولكني شديدة الاحتمال، أستطيع أن أطلق على روحي لقب (جبل من الصبر)

 ‏وقفت أمام المكتب أخرجت مفاتيحي وقمت بفك اقفاله والدخول سريعًا، جلست إلى مكتبي وقمت بترتيب بعض الأوراق كذلك أنهيت بعض الأمور العالقة بالعمل.

 ‏لا أدري لما سمعت صوت راميت وكأنها تقف أمامي تتحدث إليّ.

 ‏ترددت كلماتها وهي تطلب المساعدة في أذني، صار المكان مصدر قلق لي وتخيلت دخولها المكتب كالمرة الأولي لها حين رأيتها تقف أمامي، شعرت بالخوف ولكن الأمر هان حين تردد العملاء على المكتب، مرت ساعات العمل جمعت أموالاً لا بأس بها في ذلك اليوم.

 ‏أسرعت في إغلاق المكتب ونزلت إلى الشارع ولا أدري أين وجهتي أخشى الذهاب إلى المنزل لأكون سجينة لتلك الكوابيس، تذكرت موعد أدفأ مع الحاخام؛ فقمت بإيقاف إحدى سيارات الأجرة وطلبت منه الذهاب سريعًا.

 وصلت إلى أدفأ لأجدها في انتظاري أمام منزلها ممسكة بحقيبة صغيرة وتنظر إلى ساعتها في قلق وتوتر.

 ‏ظهرت أمامها فجأة ليرحل قلقها سريعًا فور رؤيتي.

 ‏أين كنتِ يا فتاة فالموعد الآن وإن تعدينا ذلك الموعد لن أستطيع تحديد موعد آخر.

 ‏الآن أنتِ من يأخرنا بحديثك الزائد الأهم أني أتيت، هيا لنذهب.

 ‏أسرعت رفقة أدفأ إلى الكنيس حيث الحاخام الذي كان في انتظارنا.

 ‏نعتذر عن التأخير أيها الراب إنها فقط زحمة سير.

 ‏لا بأس تفضلا بالجلوس.

 ‏جلسنا أمام الحاخام في خشوع، عرفته من النظرة الأولي ولكنه هرم بالعمر، إنه من قال قديمًا أنى في حماية الله ولن تستطيع النيران الاقتراب مني.

 ‏أيها الراب ألم تذكرني؟

 ‏لم أنساكِ يا راحيل ما حدث معكِ معجزة لا تُنسى، وعندما أخبرتني أدفأ عن أمرك طلبت منها أن تأتي بكِ لعل لما حدث قديمًا بقية والآن تكتب سطورها تلك القصة.

 ‏ليست بقصة أيها الراب وإنما حياة أخرى أعيشها؛ فليلي ليس للخلود للنوم والراحة وإنما لعالم آخر أسبح في خباياه.

 ‏هي سيدة جميلة تنصحني دائما بالهروب، تريد الخلاص من أحدهم تتوسل الرحمة لطفلتها.

 ‏أعيش ماضيهم وكأني بينهم أيها الراب.

 ‏وبعد ؟

 ‏رأيت تلك السيدة في أحد الكوابيس تقوم بدفن أحد الكتب القديمة  تحت الرمال في أحد الأركان بمنزلها وحين قمت بالبحث عن ذلك الكتاب وجدته بمنزلي.

 ‏تبدلت ملامح الحاخام وأصبح متعجبًا لما يسمع صاح مسرعًا.

 ‏وأين ذلك الكتاب؟

 ‏هنا في حقيبتي.

 ‏أريني ماذا يحوى؟

 ‏إنها فقط طلاسم وتعويذات سوداء لا أرى فيها فائدة.

 ‏أخرجت الكتاب من حقيبتي أخذه الحاخام وقام بفتحه والتقليب بين صفحاته وقراءة بعض السطور، كل هذا والذهول يكسو ملامحه دقائق حتى فرغ من مطالعة الكتاب وضعه جانبًا وقال:

 ‏لا بأس إنها فقط بعض الطلاسم والتعويذات.

 ‏سنقوم ببعض الطقوس الدينية التي ستبعد تلك الأرواح عن عالمك وتجعل بينكم حاجزًا لا يستطيعون عبوره.

 ‏

أما عن أمر ذلك الكتاب سيبقى هنا في الكنيس لنبحث في أمره ولكن لاحقاً.

هنا سمعت هاتف داخلي يقول لي اهربي.

وضعت يدي على الكتاب التقطه سريعًا ووضعته في حقيبتي.

أشكرك أيها الراب ولكن ذلك الكتاب بعث لي وليس لأحد، أما عن تلك الطقوس فلست بحاجة إليها أظن زيارتي للكنيس كافية لأكون بخير.

هنا أسرعت في الخروج من المكان تلحقني أدفأ وهى توبخني بكلماتها:

انتظري يا راحيل، لما تتصرفين بتلك الطريقة، ‏سنخسر رعاية الراب، ستغرقين في ذلك العالم وخباياه.

 ‏انتظري لتستطيعي النجاة.

 ‏حينها وقفت في منتصف الشارع التفت إلى أدفأ.

 ‏وقفت أمام وجهي تلتقط أنفاسها بصعوبة تتهته ببعض الكلمات غير المفهومة.

 ‏لا يريد المساعدة يا أدفأ، ذلك الحاخام لا يريد المساعدة فقط يريد الكتاب ولن اتركه إنه خاصتي ولا يجوز لأحد أن يستغل ما به لصالحه.

 ‏وما ادراكي بهذا؟

 ‏ذلك الهاتف داخلي اخبرني بنية الراب من ذلك الكتاب.

 ‏نظرت أدفأ حولها امسكتني من يدي وطلبت مني الرحيل من هنا سريعًا.

 ‏أخشى أن يكون ذلك الكتاب ما هو إلا لعنة حلت عليكِ لتدمر عالمك.

 ‏وأنا أظن أنه النجاة الوحيدة لي من ذلك العالم يا أدفأ.

 ‏الآن يجب أن أبحث عن أبي، أريد أن الملم أشيائي المفقودة ولعله أهم تلك الأشياء.

 ‏هل ستسافرين الليلة؟

 ‏لا في الصباح فالليل ليس ملكي وانما للغوص في عالم آخر.

 ‏وصلنا للحي بعد حديث طويل كان بطول الطريق الذي قطعناه مشيًا على الأقدام أنا وادفأ

 ‏حان وقت راحتك  يا أدفأ.

 ‏لا راحة بعد الليل يا راحيل  سأبقى وحدي برحيلك لن يدق بابي ثانية.

 ‏سأعود قريباً يا أدفأ فقط سأطمئن على أبي وأعود لأكمل حكاياتي الناقصة.

 ‏أشعر أن تلك الحكايات لم تبدأ بعد يا راحيل.

 ‏فمنذ قدومي لذلك المكان وانتهت جميع حكاياتي.

 ‏لن أغيب كثيرًا يا أدفأ  لأني سأشتاق لقهوتك وحديثك الدافئ وتلك الأحضان  التي تتسع لي حين عودتي من الخارج.

 ‏ستظل هكذا لحين عودتك الأن اخلدي للراحة فرحلة غداً شاقة.

 ‏ودعت أدفأ بقبلة أعلي جبينها وتوجهت إلى منزلي ارتحت قليلاً على الأريكة أمام غرفه أبي بدلت ملابسي ولا أدري لما قمت بإعادة الكتاب إلى مكانه أسفل بناء منزلي، صنعت القهوة وجلست أستمع إلي أحد البرامج المملة على التلفاز، أخذني النوم في عالمه واستسلمت دون أن أرتشف قهوتي وتركتها جواري وصوت التلفاز عاليًا، تلك الليلة لم أسبح في عالم الخبايا ولكني شعرت بتحركات أحدهم جواري، سمعت صوت خطوات هادئة وأنفاس مكتومة، أريد الاستيقاظ من النوم ولا أستطيع كأني مكبلة الأيادي ظللت أُحرك رأسي يمينًا ويسارًا حتي استطعت الخروج من ذلك الجاثوم، نظرت حولي لأجد بعض الرجال يتجولون في منزلي خافيين وجوههم يبحثون بين الأشياء قاموا بقلب المنزل راسًا على عقب.

 ‏استفقت من غيبوبة النوم رفعت رأسي وصحت فيهم جميعًا: من أنتم؟

 ‏وبدأت في الصراخ.

 ‏للحظة شعرت بأنهم لصوص أتوا ليسرقوا المنزل  حتي ظهر أمامي حاخام الكنيست ولكن رجاله أسرعوا تجاهي وقام أحدهم بربط يداي وإغلاق فمي صرت أصيح كالمجنونة ولكن دون فائدة؛ فتلك الصرخات مكتومة لن تصل لأحد

 ‏اقترب الحاخام مني وصاح في وجهي:

 ‏ أين الكتاب؟

 ‏أين؟

 ‏قام رجله بإزالة يده تاركًا فمي يتحرر لأرد على سؤاله:

 ‏كنت أشعر بأنك أحد رجال الدين الفاسدين واليوم تأكدت.

 ‏قام رجله بلطم وجهي حتي نزفت أنفي.

 ‏وأمسك خصلات شعري بقوة لأصرخ في وجهه لقد اخذوا الكتاب ‏ولن تستطيع إعادته من بين أيديهم.

 ‏من؟

 ‏ابتسمت بسخرية: ملوك الكتاب، لقد استعادوا ملكهم.

 ‏ليرد بسؤال آخر وهو ممسكٌ بخصلات شعري بعنف:

 ‏كيف؟

 ‏كان هنا أمامك على المنضدة والآن اختفي حين خلدت للنوم رأيتهم يأخذونه ويفرون من المنزل.

 قاطع حديثي أحد رجاله القادم من داخل غرفتي: لا أثر لذلك الكتاب بجميع أرجاء المنزل أيها الراب

 ‏نظر الحاخام إلى غرفة ابى:

 ‏لا... بقيت تلك الغرفة المغلقة اكسروا ذلك القفل وابحثوا في أرجائها.

 ‏لم أستطيع كتمان شعوري صرخت في وجوههم: لا أحد يقترب من غرفة أبي إنها مغلقة منذ سفره؛ فكيف سأقوم بوضع الكتاب داخلها ؟

 ‏التفت إلي الحاخام مستهزًأ بكلماتي: وأنا سأقتحم تلك الغرفة رغمًا عن أباكِ.

 ‏بكيت: سيقتلني أبي لن يصدق ما حدث.

 ‏

 ‏سأرحمك من ذلك العذاب وسأرحم عيونك من تلك الدموع كذلك، سأوفر على أباكِ قتلك.

 ‏نظر إلى رجاله محدثًا أغلظهم: اقتلوها واقتحموا تلك الغرفة لعل الكتاب بها وإن لم يكن فقد تخلصنا منها وأصبح أمر البحث عن الكتاب سهلًا

 ‏فزعت من كلماته، رأيت أغلظ رجاله وأقواهم أتيًا نحوي يحمل سكينًا بين يديه؛ فارتعش جسدي وصرخت كالمجانين أطلب المساعدة ولكن صرخاتي مكتومة لا تتعدى حدود صدري بعد محاولات كثيرة مني للخلاص من بين أيديهم شعرت بثقل رأسي ودوار امتلكني، رأيت في تلك اللحظات رياحًا عظيمة هبت بمنزلي رياحًا جعلت من الحاخام ورجاله كالسكارى شعرت بهم يتركون يداي يهربون واحداً  تلو الآخر من منزلي وكأن رياح الموت تلاحقهم.

رأيت الحاخام يقترب مني ينظر إلى عيوني، أيقن إني رأيت شفاهه تتحرك ولكني لم أسمع ما قاله من كلمات وقبل أن تغلق عيوني رأيت الحاخام يفر هربًا من منزلي.

بقيت هكذا حتي الصباح لا أعرف ما حدث، تلك الساعات الأخيرة من الليل حتي انتصفت الشمس بالسماء ولم أودع أدفأ للذهاب إلى تل أبيب، ايقنت أن لغيابي خابية وأتت إلى منزلي مسرعة ووجدت بابه مفتوحًا على مصراعيه وجميع أشياء المنزل  مكركبة وكأنه مسروق، لعلها ارتجفت حين رأتني مستلقية أرضًا يداي مقيدتان وفمي مغلق بأحد الأقمشة على صوت أدفأ  المتكرر وهي تنادي:

 راحيل

راحيل

وجدتني أدفأ ايقظتني ولكن مازالت عيوني تائهة في غيبوبة النوم التي عشتها ليلاً، بعد محاولات أدفأ لإفاقتي استطعت تجاوز تلك الدوامة واستيعاب ما يدور حولي.

وجدتني في فراشي وإلى جواري أدفأ ممسكة بكوب ماء ترتعش يداها وعيونها باكية:

ماذا حدث يا راحيل، هل كانوا لصوصًا ؟

لا يا أدفأ بل رجال دين.

ماذا؟

أراد الحاخام قتلي من أجل الكتاب.

الحاخام، لا...  لا أفهم ما تقولين يا راحيل.

هنا اعتدلت في جلستي لأسرد لأدفأ ما حدث:

استيقظت على وجود الحاخام ورجاله بمنزلي ليلاً، فتشوا جميع أرجاء المنزل من أجل الكتاب وحين فشلوا في العثور عليه استعملوا القوة لإجباري على الحديث حينها رفضت رغم ما شعرت به من ألم.

وبعد؟

أمر الحاخام أحد رجاله بقتلي وكسر القفل الخاص بباب غرفة أبي.

وبعد؟

لا أدري يا أدفأ فحين اقترب مني أحد رجال الحاخام وفي يده السكين، هبت رياح قوية شلت حركتهم وجعلت رأسي يدور، رأيتهم يفرون واحدًا تلو الآخر يلحقهم الحاخام بعد أن تحدث ببعض الكلمات غير المفهومة، لقد كنت في حالة مريعة لا أستطيع الشعور بما حولي.

الآن أصبح تفسير ما يحدث مستحيل يا راحيل.

لا عزمت أن اكتشف الأمر سأذهب إلي الكنيست أريد فضح أمر الحاخام أمام جميع رعاياه.

لا يا راحيل.

ماذا؟

 لقد أراد قتلي يا أدفأ، هل مازالتِ تعتقدين أنه رجل الدين الصالح.

لن تصلين إلى إجابات لتساؤلاتك يا راحيل، لقد وجدوا الحاخام فجرًا مقتولاً أمام الكنيست وانتشر الخبر في أرجاء البلدة.

ماذا، كيف حدث هذا؟

وجد مقتولًا بطريقة وحشية وكأن أحد وحوش البرية قطعه إلى أشلاء.

كنت أعتقد أن لإصراره امتلاك الكتاب أسبابًا ستكون تفسير لما يحدث لي.

الآن لا تفسير لكوابيسك يا راحيل.

كان اعتقادي الأكبر أن ديني سيكون حبل النجاة من تلك الدوامات ولكن لا طمأنينة سكنت صدري حين زرت الكنيست ورأيت الحاخام، الآن لن أهرب من ما أعيش فقط سأهرب من اليهودية بحثًا عن الطمأنينة، بحثًا عن دين يبدل خوفي لأمان أشعر به

سأذهب بحثًا عن أبي وبحثًا عن تفسير لتلك الأحداث التي اقتحمت حياتي.

إلى أين وجهتك يا راحيل؟

إلى تل أبيب حيث أبي.

وبعد؟

لا أدري يا أدفأ ولكن سأبحث عن سبيل للراحة.

تركتني أدفأ قليلاً استطعت تجميع أشيائي، كسرت القفل الخاص بغرفة أبي.

وجدتها معطرة بعطره الخاص مرتبة جيدًا، لم أهتم بالتفتيش بين خباياه، كانت وجهتي خزانته كسرت قفلها وهنا تفاجأت بالأموال التي  لا حصر لها، كان أبي يهوى جمع الأموال حتي تكدست خزانته بها.

حدثتني روحي لا تتركي تلك الأموال حتي لا تصل إليها يد اللصوص في غيابك.

قمت بجمعها ووضعها في حقيبتي أغلقتها جيدًا وأسرعت في الخروج من تلك الغرفة، شعرت بأن  أنفاسي مقبضة داخلها التفت إليها لأنظر فيها نظره أخيرة وابتسمت بسخرية: أيها الروح المعذبة لن تجدي من تسيطرين عليه بكوابيسك فالمنزل الآن لكِ.

حملت الحقيبة وتوجهت إلى الركن حيث الكتاب قمت بإزالة أرضية منزلي وبعض الرمال حتي أمسكت بالكتاب، نفضت الأتربة عن غلافه قمت بفتحه وكأني أطمن على ما به وضعته بجوار الأموال ورحلت عن ذلك المنزل.

لا أدري لما شعرت بالراحة للمرة الأولى عند إغلاقي لباب المنزل، التفت إلى الشارع  لأقوم بإيقاف إحدى السيارات وجدت أدفأ أمامي تحتضني بقوة دموعها لا تتوقف تطلب مني العودة سريعًا.

راحيل لن يُطرق باب منزلي حتى عودتك فكوني في رعاية الله.

لا تقلقي يا ادفأ سأعود سريعاً أنا كالسمك في الماء لا أستطيع الخروج منه وأنتِ مائي يا أدفأ.

حملت حقائبي وقمت بإيقاف سيارة أجرة وتوجهت إلى تل أبيب، ظللت طوال الطريق صامتة أنظر حولي من نافذة السيارة حتى وصلت أعتاب تل أبيب، مبانيها شاهقة الارتفاع، قصورها ضخمة تلفت الأنظار حقًا، إنها (تل الربيع ) كما يطلقون.  

وصلت إلى وجهتي  (بلدة نحماني ) إنه ذلك المكان الذي ذكره أبي حين أخبرني بقدومه إلى تل أبيب ولكن لا عنوان محدد له.

صرنا منتصف الليل وأنا اتجول بالشارع بحثًا عن ما يرشدني إلى أبي، ظننت أن المكان سيكون هادئاً ولكنها المدينة التي لا تنام، بعد عناء طويل وصلت إلى أحد الفنادق الضخمة ولكن لا بأس، أريد أن أعيش حياة الترف وأُحرم من الحياة لاحقًا؛ فلن يشفع لي عند أبي عليها إنها كانت رحلة للبحث عنه، وقفت في باحة الفندق أخرجت أوراقي وقمت بحجز الغرفة ليلتان.

صعدت إلى غرفتي وضعت الحقائب أرضًا وطرت إلى النافذة انظر منها لأشاهد سماء صافية، نجومها تتلألأ فالليل هنا يختلف عن بلدتنا، شعرت بالسكينة بعض الشيء، بدأت في تفريغ حقيبتي لأحصل على ملابس جديدة تليق بذلك المكان ولكن دون جدوى فلم أكن امتلك من الملابس ما يجعلني أنثى بل كانت جميعها ملابس تقليدية.

جلست أنظر إلى حقيبتي تحدثني روحي.

تملكين الكثير من الأموال فلا بأس إن امتلكتِ فستان  يبرز جمالك.

وكأن الشيطان راودني، أخذت الكثير من المال خرجت من غرفتي بعد أن أغلقتها جيدًا وأسرعت إلى أحد أكبر المراكز التجارية تجولت بين الأروقة، رأيت الكثير والكثير من تلك الأزياء النسائية، اشتعلت الرغبة داخلي في امتلاك أفضلهم بل وأسرعت في اختيار أجملهم.

لونه أحمر طويل ولكنه مجسم يأخذ شكل جسدي حين ارتديته شعرت بكوني أنثي جميلة ولكن ما أثار غضبي هو اعوجاج قدمي الذي يؤلمني حين ارتداء الأحذية ذو الكعب ولكن تحملت ذلك الألم من أجل أن اكتمل في نظر نفسي ومن حولي، اشتريت ذلك الفستان دفعت ثمنه نقديًا طرت به فرحًا حتى وصلت غرفتي بالفندق مرة أخرى.

لم أهتم بالطعام الذي قدم لي حين عودتي قدر اهتمامي بذلك الرداء الأحمر، ارتديته مرة أخرى ووقفت أمام المرآة انظر إلى نفسي فرحة لأنها مرتي الأولى التي ارتدي بها فستان.

وجدت أمامي إحدى زجاجات النبيذ الأحمر أعلنتها ساعة احتفال بتحرري من قيود أبي والعالم، فتحت تلك الزجاجة.  

وصرت أشرب الخمر كالمجنونة لا أتوقف عن تناوله، شعرت بالدوار بعض الشيء، ظهرت أمامي مرشدتي ولكنها سريعًا ما اختفت حدثت روحي إنه فقط تأثير الكحول ولكنها أمامي مرة أخرى في المرآة تنظر إلى عيوني باكية اقتربت من المرآة وفي يدى زجاجة النبيذ أنظر إليها وهي تبكي في صمت.

العجيب لم أري نفسي في المرآة أردت أن أقترب منها

لماذا تبكين؟

ليكون ردها المفاجئ: اهربي لن تستطيعين النجاة.

لتكون هذه جملتها الأولى والأخيرة في ذلك الوقت قبل أن تختطفها أحد الاطياف السوداء بعيدًا، وهنا ظهر انعكاسي بالمرآة.

جلست أرضًا دون شعور، فلم ينتابني حينها الخوف أو الرغبة في الهرب بل كانت رغبتي الوحيدة هي النوم الذي

أخذني  في عالمه كطفل صغير ينام في مكانه لا يأبه  للعالم من حوله، نمت أرضًا وفي يدى زجاجة النبيذ، لم تزرني الكوابيس تلك الليلة بل كان مجرد حلم رأيت فيه أبي يصلى بالكنيست ولكن يداه ملطخة بالدماء يبكى قهرًا ويطلب الغفران من الله والمسامحة، وكأنه ارتكب معصية لا تغتفر، مرت الساعات الأخيرة من الليل كذلك ساعات النهار الأولى وأنا غارقة في نومي لا أُحرك ساكنًا، استيقظت بعد أن انتصفت الشمس بالسماء الجو، هادئ تمامًا ولكن برأسي ضوضاء لا تتوقف، تناولت حبة مخدرة تمحو أثر ليلة البارحة رفعت سماعة الهاتف وقمت بطلب فنجان قهوه سريع.

أسرعت في إنعاش جسدي بالماء وتبديل ملابسي وانتظرت القهوة التي تناولتها سريعًا، خرجت إلى الشارع أبحث عن  مكتب التنظيمات الذي نظم المزاد للمكتب العقاري الذي رغب أبي في شراءه.

البلدة هنا مشعلة بالطاقة، فجميع من بها راقصين محترفين والفضل يعود لمدرسة الرقص الأشهر على الإطلاق بالحي، الجموع هنا لا يحملون همًا ولا ضيقًا ويعيشون الحياة من أجل المتعة فقط فلا يهتمون بالقادم ولا ينظرون إلى الماضي.

ظللت اتجول بين الجموع، مرت ساعات وأنا أبحث هنا وهناك حتى عثرت على أحد المقاهي العريقة بذلك الحى، أعلم كم يعشق أبي تلك الأماكن العريقة فهنا يلقى متعته، جلست إلى أحد المقاعد وقمت بطلب قهوة وظللت انظر إلى من حولي لأعلم أيهما مقيم وأيهما سائح حتى وقعت أنظاري على أحد الرجال من كبار السن يختلف عن الآخرين فالجموع حوله مهتمين بالحديث وأخذ الصور والنظر إلى المكان وهو في عالمه الخاص يمسك بأحد الجرائد يقرأها بتمتع، علمت إنه من المقيمين في الحي فلو كان سائحًا لن يضيع فرصة التمتع بالمكان، تركت مقعدي وذهبت للجلوس جواره

لفت انتباهه ونظر نحوي وابتسم وهو يهز رأسه.

ابتسمت له وجلست في هدوء.

أغلق جريدته واعتدل في جلسته، التفت نحوي وهمس بصوته المنخفض:

لما تجلسين وحدك فهذا المكان للعشاق؟

لم أملك عاشقًا ليكون معي في تلك الأماكن.

 لا بأس فمازالت الحياة أمامك والأيام قادمة من أجلك.

 ‏وماذا لو أني أخشى تلك الأيام، أخشى أن أكون وحيدة كما أنا.

 ‏هل هذا سبب حزن عيناكِ ؟

 ‏لا فتلك حيرة وليست بحزن.

 ‏ولما الحيرة يا فتاة فمازالتِ شابة تملكين حقك في الحياة.

 ‏تلك الحيرة  لغياب أبي، لقد ذهب دون أن أعرف أين وجهته كما فعلت أمي سابقًا، ‏أنا هنا الآن لأبحث عنه.

 ‏وأين ذهب؟

 أتى إلى تل أبيب نزل بذلك المكان كضيف ليستطيع تخليص أوراق إحدى المكاتب العقارية ولكنه لم يعود انقطعت أخباره ولا أعرف من أين أبدأ.

لم يأتي أحد هنا ولم يقم بزيارة الحانات والملاهي الليلة، هناك ستجدين إجابة لسؤالك، هناك حتمًا من رأه ولو صدفة.

 ‏لا فأبي ليس من هواة السهر وتبذير الأموال، الأكيد هو عدم اقترابه من تلك الأماكن.

 ‏أين ستبحثين ؟

 ‏أبحث عن مكتب التنظيمات الذي نظم المزاد للمكتب العقاري الذي رغب أبي في شراءه من خلال ذلك المكتب سأصل لأبي

 ‏صمت ذلك الرجل قليلاً: اظنه كان ينعش ذاكرته تمتم بعض الكلمات  بصوت منخفض ثم نظر إليّ وهو مبتسم

 ‏وجدتها

 ‏ اظنك تقصدين مكتب هارون شيل لتنظيم المناسبات

 ‏صدقًا لا أعلم إن كان هو أو لا  ولكن لا بأس إن سألت ليطمئن قلبي.

أرشدني العجوز إلى عنوان ذاك المكتب، لم ارتشف قهوتي فقد أخذت ما أردت وأسرعت إلى ذلك العنوان، مرت دقائق قليلة حتي وصلت للعقار الموجود به المكتب، لم انتظر المصعد بل صعدت للدور العاشر على أقدامي، وصلت أمام المكتب متعبة أنفاسي غائبة؛ فجلست قليلاً استرد أنفاسي، ملأت صدري بالهواء وانتظرت بعض اللحظات حتى أتت سكرتيرة المكتب فتاة بالغة ممشوقة القوام طويلة الشعر عيونها واسعة كعيون الريم أظنها تلفت أنظار الرجال من النظرة الأولى لها، تحركت من مكاني وجلست أمامها.

 ‏تحدثت بصوت  جميل لتكتمل صورتها الأنثوية في نظري

 ‏بماذا أخدمك؟

 ‏أريد بعض الأجوبة.

 ‏لماذا، هل تستفسرين عن تكلفة حفل زفاف أم خطوبة؟

 ‏لا لا فالأمر ليس كذلك بل أريد إجابة لسؤال أخر

 ‏وهل أستطيع أن أساعدك في أمر أخر

 ‏نعم ..

 ‏نظم مكتبكم مزادًا لبيع أحد المكاتب العقارية الكبيرة بالحي منذ شهر او أكثر كان أبي أحد المشتركين بالمزاد لشراء ذلك المكتب: فمنذ أن أتى إلى هنا انقطعت أخباره.

 ‏لذلك اتيت هنا  لعلي أصل إليه من خلال أوراقه المقدمة بالمكتب لديكم.

 ‏تعرفين هذا الإجراء غير قانوني؛ فلماذا أساعدك؟

 ‏أعلم أن الأمر معقد ولكن يجب أن أصل إليه سريعًا.

 ‏لم لا تخبرين الشرطة؟

 ‏أظنه بخير ولا يريد ازعاجه فإن تأكدت من ذلك فلا داعي لإخبار الشرطة.

 ‏اقتربت مني اخفضت صوتها قليلاً: أساعدك ولكن يبقي الأمر سرًا.

 ‏وافقت على الفور.

 ‏الآن اعطيني اسمه وإن كان سجل في مكتبنا للمزايدة سيظهر أمامي سأقول لكي فقط عنوانه

 ‏نعم... نعم

 ‏الاسم؟

( ‏آدم  ديفيد غيرشوم )

 ‏بحثت قليلاً على حاسبها.

 ‏ثم نظرت نحوي مخفضة رأسها كذلك صوتها:

 ‏نعم سجل في مكتبنا ولكنه انسحب من المزاد قبل إكماله.

 ‏ألا يوجد له عنوان؟

 ‏انتظري ..

 ‏انظري سجل عنوانه بفندق (ذا نورمان)  بنحماني .

 ‏هنا اندهشت إنه نفس الفندق الذي اسكنه شكرتها وانصرفت سريعًا.

 ‏لعلها اندهشت لرد فعلي السريع  ولكني لم أستطيع السيطرة على شعوري بالاختناق، أسرعت إلى الشارع وقمت بإيقاف إحدى سيارات الأجرة وطلبت منه العودة إلى نحماني حيث الفندق.

 ‏لم تمر تلك الدقائق هاينة بل كنت أشعر بنيران الغضب تتملكني.

 أحدث روحي:

 ‏ لماذا يهرب مني أبي؟

 ‏وتكون إجابتي وكيف يهرب ويترك جميع أمواله؟

 ‏

 ‏توقفت السيارة أمام الفندق اردت إخماد النيران داخلي حتى استطيع أخذ إجابة لسؤالي.

 ‏ذهبت إلى مكتب الاستعلامات بالفندق أخرجت بطاقتي كنزيلة ووضعتها أمام السكرتير الذي نظر إليّ في استغراب:

 ‏ماذا؟

 ‏أنا نزيلة بهذا الفندق أريد أن استفسر عن شيء:

 ‏هل أزعجتك الخدمة؟

 ‏لا.

 ‏إذًا كيف أساعدك؟

 ‏والدى (آدم ديفيد غيرشوم )

 ‏هو أيضاً نزل في ذلك الفندق منذ شهر أو أقل، ‏هل أستطيع معرفة متى رحل عن الفندق.

 ‏تعلمين قوانين المكان لا أستطيع الإفصاح عن معلومات النزلاء إلا بإذن  مسبق منهم وإلا ..

 ‏وإلا ماذا، تعرضت للرفد أو الخصم أو الازعاج من مديرك سأخبرك أمرًا، ‏من أبحث عنه

هو أبي ولا أريد سوى معرفة متى غادر الفندق والآن سأعوضك عن الخصم الذي لن يحدث.

 ‏أخرجت من حقيبتي الكثير من الأموال وضعتها أمامه على المكتب، نظر إليها في صمت.

أسرعت يداه في سحب الأموال ووضعها في حقيبته ثم نظر إلى حاسبه ووضع اسم أبي

 ‏نزل السيد آدم ديفيد ضيف على الفندق أول أيام  الشهر الماضي، ظل ليلتان وطلب

الشيك للانصراف سريعًا.

ماذا ؟

 ليلتان فقط وأين بقى هذه المدة؟

 ‏هز رأسه مستنكرًا.

 ‏هل تستطيع معرفة اي الغرف اُقام تلك المدة.

 ‏نظر إليّ في صمت.

 ‏قطعته بسؤال آخر:

 ‏أي الغرف؟

 ‏نفس الغرفة التي تقيمين بها الآن.

 ‏ابتسمت بسخرية مما أسمع أردد داخلي ليست صدف وإنما تدابير.

 ‏التقطت حقيبتي أعلى ظهري والتفت للرحيل دون مبالاة

وكأني مهزومة للتو من فقدان عزيز.

 ‏سمعت السكرتير ينادي اسمي:

 ‏أنسة راحيل.

 ‏التفت إليه في هدوء:

 ‏ماذا بعد؟

 ‏هناك معلومة أخرى أظن ستساعدك في العثور على السيد آدم.

 ‏عدت إليه مسرعة استمع إلى ما يقوله:

 ‏السيد آدم قبل أن يقوم بطلب الشيك للانصراف، ‏طلب من خدمات

الفندق السياحية أن يقوموا بحجز تذكرة سياحية له إلى لبنان.

 ‏ماذا؟

 ‏لبنان، ما الأمر الذي يخفيه والدى؟

 ‏هل عشق إحداهن وسافر ليقضي أيام سعده؟

 ‏لا فلا أظن أن يتخلى أبي عن المال لأجل الحب، فهو لا يعرف

سوى حب المال.

 ‏اندهش السكرتير من حديثي، ظل صامتًا ينظر إليّ باستغراب.

 ‏رحلت عن وجهه صعدت إلى غرفتي خرجت من ملابسي وجلست

عارية أمام النافذة أتطلع إلى جموع الساهرين، انظر إلى رقصهم وتميل أجسادهم.

أُحدث روحي:

 ‏لعل أبي في مأزق ويريد مساعدتي، لم يصلى أبي كثيرًا فلم يكن يهتم لأمر دينه فقط يعلم كونه يهودي فإذا رأيته بالمنام يصلى يطلب المغفرة فهو الآن في مأزق يريد المساعدة.

 ‏ستكون لبنان رحلتي القادمة هناك سأبحث عن أبي.

 ‏هناك سأبحث عن الخلاص من ذلك العالم السفلي وأحداثه التي تلاحقني لعليّ أجد من يرشدني للخلاص ولكن اليوم سهر حتى الصباح رقص وخمر ومرح فلن أعيش تلك الأيام مجددًا.

 ‏ارتديت ردائي الأحمر تزينت بأحمر الشفاه اللامع تركت شعري منسدلاً على أكتافي لا بأس ببعض الروائح العطرية التي تجذب الأنظار.

 ‏ونزلت إلى الحانة وسط الساهرين لأكون واحدة منهم ليس هذا فقط بل أجملهم، أخذت بعقل جميع الموجودين بعد أن استطعت السيطرة على اعوجاج قدمي، فرغم شعوري بالألم إلا أن قاعدتي في ذلك الوقت كانت مظهرك أهم من الألم ظللت طوال الليل أشرب الخمر وأنتقل من مكان لأخر بين السكارى، أتبادل القُبل مع أشخاص لم أراهم قط في حياتي أرقص بجنون حتي دقت الساعة الرابعة صباحًا، اكتفيت من الخمر شعرت بالاشمئزاز من القُبل المتكررة، خلعت حذائي وتوجهت إلى الفندق كنت أشعر بالدوار، كذلك ألم بالرأس و طنين بالأذن لا ينقطع، تجولت بالفندق وأنا في حالة يرثى لها حتى وقفت أمام مكتب الخدمات.

 ‏لم تتركني الزغطة من أثر الكحول كذلك لا أستطيع التحكم في حركات جسدي.

 ‏لم أدري من يقف أمامي.

 ‏سمعت سؤال تكرر أكثر من مرة:

 ‏بماذا اخدمك؟

 ‏تكرر ذلك السؤال عدة مرات وأنا في عالم آخر.

 ‏استفقت دقيقة استوعبت ما يوجه إليّ من حديث:

 ‏أريد حجز تذكرة سياحية إلى لبنان في أقرب وقت.

 ‏استعلم المكتب سريعًا عن الرحلات الجوية إلى لبنان وعاد إليّ:

 الرحلة القادمة غداً في تمام الخامسة مساءا يا فندم.

 ‏ها؟

 ‏عاد حديثه مرة أخرى: الرحلة القادمة غداً في تمام الخامسة مساءً يا فندم.

 ‏نعم نعم احجز لي تذكرة كذلك شيك المغادرة سأذهب غدًا إلى لبنان.

 ‏القيت عليه تلك التعليمات وصعدت إلى غرفتي لا أتذكر ما حدث منذ دقيقة،

لا أعرف ما حدث وكيف صعدت إلى غرفتي تلك الليلة الثانية التي استسلم فيها للنوم

مرتدية ردائي الأحمر وتفوح من فمي رائحة الكحول.

 ‏صعدت إلى فراشي اهلوس ببعض الكلمات.

 ‏أضحك باستهزاء:

يا له من قدر كم كنت قريب يا أبي فمن بين كل الفنادق وكل الغرف أنام الآن في فراشك السابق وغرفتك لليلتان

 ‏ماذا يخفي لنا القدر يا أبي؟

 ‏كانت تلك كلماتي الأخيرة قبل أن يهاجمني النوم ولا أدري عن عالمي شيء إلا حين استيقظت على دقات الباب المتتالية

 ‏فتحت عيوني ولكني ما زلت متعبة لا أشعر برأسي ولا جسدي ولا يتوقف طرق الباب.

 ‏اردت إكمال النوم ولكن هناك من يزعج راحتي، اتجهت إلى الباب مسرعة أريد أن اوبخ الطارق ولكني تفاجأت بأحد العاملات تصرخ في وجهي.

 ‏ميعاد الطائرة

 ‏ميعاد الطائرة

 ‏لا أعرف عما تتحدث دخلت وتركت لها الباب مفتوحًا ووضعت جسدي على الفراش مرة أخرى

 ‏لتاتي هي خلفي تيقظني بحركات سريعة.

 ‏صحت في وجهها:

 ‏من أنتِ؟

 ‏وقفت على مقربة مني.

 ‏إحدى العاملات لقد قمت بإيصالك إلي غرفتك أمس كانت حالتك يرثى لها من أثر شرب الكحول.

 ‏وبعد؟

 ‏وضعتك في فراشك تحدثتِ قليلاً إلى روحك ثم خلدتِ للنوم.

 ‏إذًا أي طائرة تقصدين؟

 ‏أخبرتني  في طريقنا للغرفة أن أقوم بإيقاظك غداً قرب  موعد رحلتك

وحين استعلمت عن موعد طائرتك أتيت لإيقاظك كما أمرتني.

 ‏ألا تعرفين إلى أين تتجه هذه الرحلة؟

 ‏لبنان فالفوج سوف يتحرك الآن.

 ‏وضعت يدي على رأسي: أنه الكحول أربك ذاكرتي فلم أعد أتذكر شيء.

 شكرا لكِ، لقد فعلتي الصواب أتأسف عن سوء المعاملة ولكن تعلمين إنه الكحول.

 ‏تركتني العاملة، أسرعت في خلع الرداء وضعته جانبًا وجمعت أشيائي سريعًا كان أهمها الأموال والكتاب طلبت أحدهم من الخدمة ليساعدني في إنزال اغراضي، دقيقة حتي صعدت إليّ تلك العاملة مرة أخرى انزلت جميع حقائبي وعادت مرة أخرى كما أمرتها.

 تبحث عن حقائب أخرى تنزلها ولكنها لم تجد.

 ‏وقفت أمامي جميع الحقائب في انتظارك، كذلك الفوج على استعداد للرحيل.

 ‏أشكرك.

 ‏التقطت الرداء الأحمر من موضعه وقدمته إلى تلك العاملة التي نظرت إلى

الثوب في اندهاش وكأنها تحدث روحها:

 ‏هل هذا  لأجلي؟

 ‏أسرعت في الرد على ذلك السؤال قبل أن تطرحه.

 ‏نعم هذا الثوب لكِ الآن.

 ‏لي؟

 كيف؟

 إنه باهظ الثمن فكيف يعقل أن امتلكه.

 ‏بالفعل هو ملكك الآن خذي يا فتاة فلا أريد أن أتذكر تلك الليلة.

 ‏أخذت الثوب من يدي وعيونها فرحة، تركتها بالغرفة تنظر إليه في اندهاش وفرح وأسرعت إلى مكتب الخدمات بالفندق قمت بإغلاق حسابي في الفندق، استلمت جواز سفري كذلك تذكرتي كل هذا حدث دون معاناة مني فالأموال تحل العقد لحقت بالفوج السياحي المتحرك من الفندق، أمرنا المرشد بعدم الإفصاح عن هويتنا الإسرائيلية أو ديننا وبرر ذلك بعدم تفاهم العرب لوجودنا أو حقنا في الحياة وصفهم بالمتطرفين،  زرع  حديثه الخوف داخلنا وقرر الجميع عدم الإفصاح عن هويته والاستكفاء بالتمتع بالرحلة زاد على حديثه أن جميع الأماكن التي سننزل بها في تلك الرحلة تعلم جيداً تلك القوانين وتوفر لنا الحماية كذلك تضمن لنا رحلة سعيدة، لم أكن أهتم فلم تكن تعنني تلك الأمور.

 ‏حان وقت الطائرة وصعدت إلى مقعدي، استرخيت وشعرت بالهدوء ولكني حزنت على أدفأ فمن سيكون رفيقها تلك الأيام، لم أهتم بالأحداث من حولي تغاضيت عن كونها رحلتي الأولى خارج البلاد وفضلت السكون وإغماض عينيّ حتى تمر الرحلة.

 ‏ساعات قليلة  محلقين في الجو أشعر وكأني  بين السحاب، وقفت المضيفة في منتصف الطائرة توجه إلينا بعض التعليمات أنظر إليها ولا أبالي حتي هبطت الطائرة في مطار بيروت واستعدت الجموع للنزول سريعًا.

 ‏هنا بدأت أذني تسمع الكلمات العربية التي طالما ما تحدث بها أبي أمامي كذلك أدفأ.

 ‏أستطيع أن أتفهم لغتهم لكثرة ما تعامل بها أبي معي.

 ‏وجدت ترحيب شديد من أفراد المطار كذلك بعض المسافرين، أظنهم لا يعرفون هويتنا، كذلك رأيت نظرات احتقار في عيون البعض يتهامسون سرًا ولكن نظراتهم كفيلة بفضح ما يقولون.

 ‏تغاضيت عن تلك النظرات، أكملت أوراقي في المطار وخرجت برفقة الفوج إلى الخارج في انتظار وسيلة النقل المكلفة بنقلنا.

هناك ‏جبال شاهقة تكشفها لنا الأنوار الشديدة، صرخات الفتيات وضحكاتهم العالية تملأ المكان، أيضًا  كلمات الترحيب العربية الشديدة من بعض الفتيان يرغبون في المساعدة وإيصالنا لأي مكان.

ولكن الجميع خائف فعند معرفتهم هويتنا تنقلب وجوههم ويفرون من أمامنا بعد وصلة توبيخ لا تنقطع حتى يختفي أثره.

أتى الباص المخصص لنقلنا للفندق، صعدت في هدوء واخترت أحد الأماكن بجوار النافذة حتى أستطيع النظر إلى روعة المكان فأنا أعشق الأماكن الجديدة وزحامها، أحب أن أسبح في عوالم مختلفة فأعرف ثقافتهم وعاداتهم .

تجولنا في منتصف البلدة و يا لروعة بيروت، مدينة ساحرة هادئة رغم الزحام ولكن تُشعرك بالرقى؛ فنسائها جميلة كحبات اللؤلؤ يتجولون بين الشوارع في هدوء جميعهم ملكات للجمال، ابتسمت لروعة ما أرى، ظللت طول الطريق أنظر إلى الشوارع ومتجوليها حتى وصل الباص إلى الفندق.

بعد تلك الرحلة لابد من الراحة ولكن لا راحة لي، فلا أعرف من أين أبدأ بالبحث عن أبي، صعدت إلى غرفتي وأخذت قسطًا من الراحة أظنه الأطول في حياتي؛ فقد مر الليل وأنا في راحة كاملة والغريب لم تزورني الكوابيس تلك الليلة، هنا شعرت بالراحة وهدوء الروح، مر الليل الأول في هدوء ولم أكن أعلم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة حتى أتى الصباح.

نسقت ملابسي وأخذت بعض الأموال في حقيبتي، أغلقت غرفتي وتجولت بين أروقة الفندق حتى سمعت صراخ أحدهم أتيًا من بعيد فأسرعت خلف تلك الصراخات حتى وصلت إلى مصدره، إنها إحدى الغرف المغلقة يصدر منها أصوات الصراخ ولكن الفندق خالي تمامًا ليس هناك أحد.

أسرعت في فتح ذلك الباب والدخول مسرعة أرغب في تقديم المساعدة لطالبها، ولكن عند دخولي تغير العالم حولي فلم أدخل إلى غرفة فندق بل إلى غرفة مهلكة، آثاثها قديم تملأها الحشرات الزاحفة، هرعت إلى الباب مرة أخرى ولكنه لم يُفتح، حاولت جاهدة ولكن دون فائدة، أوصد الباب جيدًا، توقفت الصرخات ولكن بدأت الأشياء في التحرك من حولي،

الغرفة مكركبة يبدو أنها إحدى غرف الفندق القديمة جداً، بها الكثير من الأثاث القديم والآن بثت الحياة في تلك الأشياء؛ فأصبحت تتحرك وتتطاير في الغرفة احتميت بأحد الجدران، صرخت أطلب المساعدة ولا مجيب أظن ما يحدث لي داخل تلك الغرفة لن يشعر به أحد فأنا في عالم آخر.

(رؤيتي السابعة )

رأيت إحدى الجميلات نائمة في فراش ملكي أظنها تلك الفتاة التي رأيتها بمنامي الأول، حولها الكثير والكثير من الجواري ولكن لا أحد يستطيع الاقتراب منها سوى ذلك الطيف الأسود، إنه قريبٌ جدًا منها، يستطيع أن يستمع دقات قلبها، رأيته يلمس على شعراتها السوداء بأصابعه الطويلة ينظر إليها بحب ثم يقبض على يدها حينها شعرت بضعفه أمام تلك الجميلة.

حرك يده كالسيف سريعًا في الغرفة فاحترقت جميع الجواري واختفت تلك الجميلة، بقى هو أمامي مباشرة واقترب مني أكثر فأكثر حتي صارت أنفاسه مختلطة بأنفاسي، أشتم رائحة كريهة تكاد أمعائي تتحرك من مكانها ولكنيّ ثابتة لم أتحرك.

سمعت صوته للمرة الأولى، غليظ يبث الرعب داخل القلوب، أظنه الصوت الأقرب لصوت الشيطان إن لم يكن هو.

همس بقربي وهو يشير إلى قلبي:

(أريد ذلك النابض بين أضلاعك، هذا القلب ملكًا لي ) 

لا أعرف ما قصد ولكن كانت نجاتي حين دق جرس الكنيسة

وازدادت معه نبضات قلبي.

دقات

دقات

 متتالية اختفي على أثرها ذلك الطيف، فر بعيدًا وهدأت جميع الأشياء بالغرفة وسكنت في موضعها

أما عن باب الغرفة؛ فقد فُتح دون عناء مني، أسرعت  إلى الخارج حتي صرت بمنتصف باحة الفندق ينظر الجميع نحوي يتعجبون لأمري، أظنهم يسمعون دقات قلبي وصوت أنفاسي الغائبة.

أسرعت إلى الشارع لا أعلم أين سأذهب، لا تساعدني كلماتي العربية القليلة في فهم من حولي، لجأت للتحدث باللغة الإنجليزية، تجولت بالشارع أتساءل عن أقرب كنيسة، تلك التي سمعت رنين جرسها، أرشدني أحدهم إلى كنيسة

(مارجاورجيوس ) الأرثوذكسية إنها قريبة  للحد الذي يخبرني أن رنين الأجراس يعود لها، فضلت الوصول إليها مشيًا على الأقدام أنظر إلى الجموع مبتسمة منبهرة بما أرى، عالم بسيط تشعر بينهم بجمال الخُلق والخلق.

حتي وصلت أعتاب الكنيسة هناك وقفت خائفة بين جموع المحتشدين للدخول أتساءل هل ينبغي أن أدخل؛

فأنا لستُ على دينهم.

 يبدو أني لفت النظر نحوي حين وقفت في المنتصف تائهة.

 ‏شعرت بإحدى الأيدي تمتد بحنان على أكتافي، التفت سريعًا وجدتها شابة تبدو في منتصف العشرين من عمرها، شعراتها قصيرة حد رقبتها، عيونها بنية اللون وشفاهها حمراء داكنة تبتسم ابتسامة عريضة تتحدث لي: 

 ‏لماذا تقفين هكذا؟

 ‏لم أجد إجابة ولم أفهم كلماتها.

 ‏أخبرتها  بالإنجليزية أني لا أفهم سوى القليل من العربية وكلماتها ليست من القليل الذي أفهمه

 أجابتني بالإنجليزية:

 ‏لماذا تقفين هكذا؟

 ‏أخشى الدخول.

 ‏أنتِ هنا بين يدى الله.

 فماذا تخشين؟

ما تلك إلا جدران وما هؤلاء إلا بشر مثلنا.

 ‏ثم مدت يدها بالسلام.

 ‏اسمي ياسمين أعمل مدرسة ومرشدة روحية.

 ‏شعرت نحو ياسمين بالراحة كتلك التي أشعر بها حين أكون رفقة أدفأ

 ‏مددت يدي إليها بالسلام وأخبرتها عن اسمي:

 ‏أنا راحيل.

 ‏اسم جميل، من اي دولة يا راحيل؟

 ‏هنا شعرت بالخوف، ايقنت حين سأقول من أي دولة أتيت ستتركني وحيدة وسط تلك الجموع

 ‏ولكن استجمعت شجاعتي وقررت مواجهة الموقف، نطقت بكلمة واحدة:

 ‏اسرائيل.

 ‏ليكون رد فعلها مختلف مخيب لظني فلم تهتم كثيرًا لذلك الأمر:

 ‏وماذا تفعلين هنا؛ فهنا كنيسة، أظنك تبحثين عن إحدى المعابد اليهودية.

 ‏لا لا بل أبحث عن تلك الكنيسة، لقد سمعت رنين أجراسها وبثت في قلبي السكينة لهذا أنا هنا.

 ‏امسكت ياسمين بيدي دون حديث، جذبتني خلفها كطفلة صغيرة حتي تعديت حدود مدخل الكنيسة وصرت داخلها.

 ‏صرح عملاق يخطف الأنظار وكأنك في عالم الأحلام، زخرفة المكان تأخذ العقل، تلك الرائحة الزكية الطاهرة تشعرك بالراحة والاطمئنان، جلست إلى أحد المقاعد و أنا إلى جوارها، استمعت إلى صلاتهم وطلب الغفران والدعاء بالسلام والمحبة لجميع العالم، وجدت روحي افعل كما يفعلون ضممت يداي إلى بعضها البعض وشرعت في التأمين خلفهم فحين الانتهاء من كل دعاء كانت روحي هي من تقول آمين.

 ‏انتهت تلك الصلاة ومضى الوقت وبدأ الجميع في الانصراف حتى خلى المكان نسبيًا والتفت ياسمين نحوي مبتسمة

 ‏الأن تشعرين بالراحة؟

 ‏بعض الشيء، ولكن كيف....؟

 ‏ولم تترك ياسمين لي مجال لإكمال سؤالي.

 ‏أعرف ما ستقولين، كيف علمت بتعب روحك وعدم سكينتك.

 ‏حين اقتربت منكِ في الخارج شعرت بكم الطاقة السلبية التي تحوطك، أعرف جيدًا كم ينقصك الإحساس بالأمان والحب من أحدهم أنتِ في حاجة لشعورك بخوف أحدهم عليكِ.

 ‏كيف تعرفين تلك الأشياء؟

 ‏ألم أقل لكِ إني مرشدة روحية؛ فروحك هي من أخبرتني هذا؟

 ‏هنا لم أستطع حبس دموعي ولا احتجاز كلماتي.

 ‏أريد الحياة، أريد أن أحيا بلا خوف، أريد أن أشعر بالاطمئنان، يكفيني فقدان عائلتي الآن أفقد الإحساس بالأمان والطمأنينة، أريد أن أحيا.

 ‏لا حياة بدون عناء يا راحيل ولكن.

 ‏ولكن ماذا؟

 ‏لكل داءً  دواء، سأكون جوارك حتى تصلين إلى الأمان الذي ترغبين فيه.

 ‏الآن فقط شعرت معني أن يكون جوارك أحد لا يهتم.

 من تكون، أو ماذا تفعل؟

 لا يهتم سوى بك، سعدت بتلك الصدفة التي جمعتني بياسمين.

 ‏صرت مدانة بالفضل لتلك الكنيسة، لقد انقذتني سابقًا من ذلك الطيف والآن أرسلت لي ملاكًا ليغير حياتي.

 ‏امتد حديثي مع ياسمين، أخبرتها عن أبي  وأنه سبب قدومي بيروت كذلك أخبرتها عن تلك الكوابيس التي تراودني إلا سرًا واحدًا بقى بقلبي وهو أمر الكتاب.

 ‏الآن صرتِ قريبة لي؛ فقد حملتي جميع همومي، أريد ذلك الدواء الذي أخبرتني بوجوده، أريد أن أتخلص من تلك الكوابيس والهروب من عالمهم.

 ‏لا بأس يا راحيل فالصبر فريضة علينا جميعًا لنصل إلى غايتنا.

 ‏أمر اباكِ سهل، ستقدمين طلب لسفارتك بالاستعلام عن مكانه كونك ابنته فإن كان ببيروت ستصلين إليه وإن كان خارج لبنان ستعرفين إلى أين ذهب؟

 ‏وماذا عن الخلاص من كوابيسي.

 ‏نظرت ياسمين حولها بالمكان، ابتسمت ثم أخذت نفسًا عميقًا: انظري يا راحيل ستجدين هنا الخلاص من ذلك العالم السفلي ستجدين هنا الراحة والطمأنينة التي تبحثين عنها.

 ‏نظرت متعجبة:

 ‏هنا؟

 ‏نعم هنا.

 ‏ولكن كيف؟

 ‏ستعلمين لاحقًا يا راحيل.

 ‏الآن سأتركك تتجولين بالمكان تتمتعين برحلتك ولنا لقاء.

 ‏وكيف سألقاكِ؟

 ‏هنا سنلتقي هنا.

 ‏دون مواعيد؟

 ‏نعم دون مواعيد.

 ‏لا أعرف سبب تلك الراحة التي شعرت بها تجاه ياسمين، شعور جعلني أفتح لها قلبي لتطلع على جميع خباياه والعجب إنه لقائي الأول بها.

 ‏تركتني ياسمين وانصرفت بقيت بالكنسية بعض الوقت، احببت ذلك المكان لما شعرت فيه من راحة.

 ‏والآن حان وقت الطعام تجولت بأحد الشوارع وتناولت وجبات خفيفة، لا أرغب في العودة إلى الفندق وتكرار ما حدث هذا الصباح.

 ‏ظللت باقي اليوم أتجول هنا وهناك، استمع إلى حديث المارة أضحك على كلماتهم القليلة التي أفهمها؛ فمنذ الصباح وأنا استمع إلى دقات الأجراس تخرج من الكنائس يقابلها الناس بابتسامة، يدعون أن تحل مباركة الله على جميع أمور حياتهم وهذا الدعاء كثيرًا ما كنت أسمع أدفأ تردده.

 ‏وبعد تعب شديد وإرهاق من التجول بحثت عن إحدى الحدائق لأستريح قليلاً.

 ‏جلست تحت حماية أحد الأشجار من أشعة  الشمس وأخرجت هاتفي وقمت بطلب الاستدلال على عنوان سفارتي ببيروت، ‏سريعًا قاموا بالرد على طلبي وإعطائي العنوان بل اردوا توفير وسيلة نقل أمينة لي ظنًا منهم أني بمشكلة

 ‏ليكون ردي: لا فأنا في أمان تام.

 ‏طلبت تحديد موعد لدخولي السفارة.

 ‏انتظرت دقائق واهتز هاتفي برسالة تحمل موعدي إنه غدًا في الثامنة مساءً.

 ‏أغلقت هاتفي بعد الاطلاع على الرسالة ووضعته بحقيبتي وجلست في هدوء لم أُحرك ساكنًا، استمتع بالأجواء الجديدة التي أعيشها.

 ‏أتى الليل وكان لابد من رجوعي إلى الفندق وإلا سببت أزمة، حملت حقيبتي وتوجهت إلى الفندق، أردت أن أعود على أقدامي حتى أشعر بالتعب والإجهاد وأخلد للنوم سريعًا.

 ‏وكان ذلك.

 ‏صعدت إلى غرفتي مهلكة أشعر بالتعب، جلست قليلاً ثم أسرعت في تبديل ملابسي والاطمئنان على النقود والكتاب.

 ‏مرة أخرى سمعت اجراس الكنيسة وكأنها تناديني، تنهدت أمام نافذتي وملأت صدري بهواء بيروت ثم صعدت إلى فراشي، مددت جسدي ووضعت رأسي إلى وسادتي، حينها شعرت بما يسمى بشلل النوم أو بلغة أخرى الجاثوم، شعور كأني مقيدة لا أستطيع الحراك أو الصراخ، أهرب ولا أعلم إلى أين.

 ‏لم أستطيع هزيمة جاثومي واستسلمت للأمر، ودعت غرفتي بنظرة أخيرة مهزومة بالنوم وحللت ضيفة على عالمهم.

(رؤيتي الثامنة )

 كانت رؤيتي تلك المرة مختلفة شعرت وأيقنت أني أعيش الماضي لأحدهم؛ فتلك الفتاة الصغيرة راشيل تعود زيارة أحلامي مرة أخرى.

 ‏ولكنها الآن بعمر ما بين التاسعة والعاشرة، رأيتها بأحد الشوارع تلعب بين أطفال كثيرة، هي الفتاة الوحيدة بينهم

 ‏تتدلل عليهم رغم اعوجاج ساقها ولكنها فاتنة الجمال.

 ‏ظهرت إحدى النساء من بعيد تحمل في يدها سكينًا ملطخًا بالدماء رفعت صوتها بالنداء 

 راشيل....

 راشيل....

 ‏نظرت تلك الفتاة إليها.   

وأسرعت في الذهاب إليها دون تفكير، أمسكت تلك الفتاة بيد السيدة وذهبت رفقتها إلى أحد المنازل.

 ‏تسللت خلفهم مسرعة أعلم جيدًا لن يشعر بي أحد حتى صرت خلفهم أشاهدهم من بعيد، إن ذلك المنزل الذي رأيت فيه راشيل حين أمسك بها أحد الرجال بعد رؤيتها لما يفعلون، أخذت تلك السيدة راشيل ودخلت إلى نفس الغرفة التي كان يجتمع بها الرجال، أسرعت خلفهم وفتحت الباب في هدوء رأيت راشيل ممددة على المنضدة عارية الجسد وحولها الكثير من النساء ورجل واحد، تنظر نحوي عيونها موجهة إلى عيوني وكأنها تبصرني وتعلم بوجودي.

 ‏رأيتهم يقومون بوضع الدم على جسد راشيل وذلك الرجل إلى جوارهم يتلو بعض الكلمات غير المفهومة وكأنها تعاويذ أو طلاسم للعالم السفلي، بقيت راشيل تحت أيديهم لا تحرك ساكنًا، لا تنظر إليهم حتي وقفوا جميعًا حولها في خشوعٍ تام ينظرون إلى ذلك الرجل نظرة تمجيد وكأنه إلههم الأكبر.

 ‏اقتربت تلك السيدة التي تحمل السكين في يديها، أمسكت بيد راشيل وقامت بعمل جرح كبير بيد راشيل جعلها تنزف الكثير من الدماء، الغريب في تلك الفتاة صبرها على ما شعرت من ألم؛ فلم تبدى أي رد فعل سوى تغيير ملامح وجهها وكتمان الصراخ والشعور بالألم داخلها، شفقت على ما بها، تمنيت لو أستطيع مساعدتها ولكن ليس لي مكان بعالمهم. فتحت راشيل عيونها فجأة نظرت نحوي نظرة حادة، ‏وتحدثت:

( ‏اهربي إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها )

 ‏هنا استفقت التقط أنفاسي سريعًا وكأني في سباق.

 ‏نظرت حولي استوعبت أنه كابوس آخر فلا مهرب لي من تلك الكوابيس.

 ‏لملمت شعري وجلست في فراشي خائفة، لا أدري لما فكرت في ياسمين في تلك اللحظة ظللت هكذا بقية الليل حتى بزغت الشمس وسمعت دقات أجراس الكنيسة، سريعًا قمت بتبديل ملابسي وأسرعت إلى الكنيسة، وقفت تلك المرة أيضًا خارجها انتظر أن تظهر ياسمين تمسك بيدي وتدخلني إلى الداخل ولكنها لم تأتي.

 ‏طال الانتظار ولم تظهر ياسمين استجمعت شجاعتي وقررت الدخول دون مساعدة أحد.

 ‏فالأمر لا يحتاج المساعدة ولكن روحي هي من تريد دفعة إلى الأمام.

 ‏الكنيسة ممتلئة بالمصلين يرددون شعائرهم ولا أستطيع تمييز تلك الوجوه، أخشى أن أنظر لأحدهم فيدرك أني لست على دينهم.

 ‏تجولت قليلاً لأبحث عن أحد الأماكن الفارغة وأخيرًا مقعد به فتاة واحدة تجلس في خشوع، ضامة يداها إلى بعضهم البعض تتهامس بالحديث بينها وبين الله، لم أرد مضايقتها جلست جوارها في هدوء لا أعلم ماذا سأفعل؟

 ‏فقط أنظر أمامي لا أحرك نظري أو جسدي، سمعت صوت ياسمين تهمس في رفق:

 ‏هل حان موعدك؟

 ‏التفت أبحث من أين يصدر ذلك الصوت لأجدها الفتاة التي جواري إنها ياسمين.

 ‏فرحت كطفل وجد أمه بعد عناء بحث:

 ‏ياسمين، هل هذه أنتِ؟

 ‏كنت انتظرك بالخارج لم أعلم بوجودك هنا.

 ‏ولما تنتظرين؟

 ‏كنت أخشى الدخول وحدي؛ فذلك المكان يشعرني بالخوف والسكينة  كلا الأمرين معًا لا أعلم كيف

 ‏الآن حان موعدك حين استطعتِ عبور ذلك الباب وحدك.

 ‏أما عن الخوف من ذلك المكان فهو من الله فلا ترتكبين معاصي.

 ‏وماذا عن السكينة والهدوء الذي يسكن روحي بهذا المكان؟

 ‏إنه الأمان الإلهي فالله لن يضيع رعاياه.

 ‏ابتسمت ولكن تذكرت حديث ياسمين عن موعدي.

 ‏أي موعد تقصدين؟

 ‏ذلك الذي بينك وبين الله لقد اقترب.

 ‏شعرت أن ياسمين تقرأ أفكاري، تشعر بما يدور في خاطري منذ الأمس.

 ‏اقتربت قليلاً منها:

 ‏لا أدري هل الصواب فيما أفكر أم ....؟

 ‏الصواب أنكِ تختارين دينك بإرادتك، ذلك الدين الذي تشعرين فيه بالراحة والسكينة ورضا الله حينها ستكونين على أرض صلبة.

 ‏كيف عرفتي فيما أفكر أشعر وكأنك تخترقين قلبي ليصير أمامك كتابًا مفتوح

 ‏لكل آن أوان يا راحيل الآن حان موعدك في السفارة فتلك الرحلة للبحث عن اباكِ

 ‏هنا شعرت بالخوف، انكمشت روحي خوفًا، حملت حقيبتي ورحلت سريعًا من ذلك المكان احدث روحي لم أخبر ياسمين بموعدي في السفارة فكيف علمت.

 ‏خرجت مسرعة التفت حولي، فمن كانت تشعرني بالأمان أصبحت أهرب منها الآن.

 ‏أسرعت إلى السفارة، جلست انتظر موعدي، هناك رجالاً يدخلون ويخرجون دون اهتمام تفوح منهم أزكى الروائح العطرية، ظللت أنظر لكم التأمين داخل السفارة وخارجها شروطهم الأمنية المشددة وحدثت روحي لعلهم يشعرون بالخوف وعدم الأمان.

 ‏حتى حان موعدي دخلت إلى أحد المكاتب الفخمة، طرازها قديم أثري، أعلم جيدًا كم يعشق أبناء دولتي الاشياء الأثرية وكأنهم يخبرون الجميع أن ذلك التاريخ يعود إليهم.

 ‏جلست أمام أحد الرجال وهو على الجانب الآخر خلف مكتبه.

 ‏ينظر إلى جهازه الحاسوب ويلقي بعض النظرات نحوي من حين لآخر حتي انتهى من عمله وفرغ لي

 ‏بماذا أخدمك، هل لديك شكوى، أم ترغبين في تقديم مساعدة لبلدك.

 ‏لا أعلم أي مساعدة أستطيع تقديمها لبلدي وأنا ببلد أخر، أخذت نفسًا عميقًا وتحدثت:

 ‏انا هنا لأبحث عن أبي.

 ‏تبحثين عن ماذا؟

 ‏أبي ..

 ‏لقد سافر من كريات شمونة إلى تل أبيب للمزايدة على إحدى المكاتب العقارية.

 ‏ابتسم الرجل في استهزاء هناك تل أبيب (تل الربيع) أما هنا فنحن في بيروت احدي العواصم العربية

 ‏أعلم لقد سافر من تل أبيب إلى بيروت في جولة سياحية مدتها ثلاثة أشهر.

 ‏إذًا فهو سائح لما تبحثين عنه؟

 ‏لعله تزوج أو وجد الراحة في البعد

لا...

 ‏لماذا لا؟

هل يعاني مرضًا يمنعه الزواج؟

 ‏

 ‏ لا  لم يتزوج أبي منذ كان بالعشرين من عمره لخوفه على الأموال فهو لا يعرف سوى حبه للمال لم يريد يومًا أن يأتي بإحداهما   فتخذ قلبه كذلك أمواله

 ‏ولكن الأمر جائز؟

 ‏حتى وإن كان، ماذا يمنعه من الحديث معي لمدة شهرين حتى قبل انتقاله إلى بيروت، فمنذ غادر أبي المنزل وهاتفه مغلق كذلك حسابه الخاص ترك أمواله ومكتبه ورحل لم يلتفت للخلف.

 ‏الآن اتضحت الرؤية سنبحث عن اباكِ ولكن لن نقطع جولته السياحية إن كان يتمتع بها

.... ‏وهذا ما أريد

 ‏أعطاني ذلك الرجل ورقة بيانات وطلب أن أقوم بملأتها.

كذلك أخذ جميع إثباتاتي الشخصية، غاب عني بعض الوقت ثم عاد يحمل أوراقي، سحب ورقة البيانات من تحت يدي نظر إليها.

 ‏الآن سنقوم بعملنا والبحث عن أباكِ متى دخل بيروت وأين نزل، كذلك سنعرف إن كان غادر بيروت أم لا

 ‏نعم.

 طلب مني الانصراف والانتظار حتى تصلني رسالة أخرى بموعد آخر، وقعت بعض الأوراق وأخذت أوراقي وغادرت المكان.

 ‏لم أستطيع مقاومة سحر البلدة وشدة جمالها وروحت كعادتي أتجول بالمدينة، أنظر حولي فالجميع هنا عشاق إلا أنا. تحدثت إلى روحي:

 ‏ومن يرافق عوجاء القدم؟

 ‏وجدت إحدى الفتيات تقوم بالتجول في يدها بعض الورود توزعها بين المارة وعلى وجهها ابتسامة تسكن قلوبهم تعمدت القرب منها لأحصل على زهرتي.

 ‏اقتربت أكثر فأكثر ولكن تلك الملامح تبدلت حتي صارت مرشدتي من  تقف أمامي في جسد بائعة الزهور، تنظر نحوي بحب وتبتسم سمعت صوتها يكرر جملتها الدائمة:

( اهربي إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها )

 ‏شعرت بالخوف من ذلك المكان تركت الزهرة تسقط أرضًا وأسرعت في الهروب من ذلك المكان.

 ‏الآن أصبح الشارع أيضًا  كفراشي يسحبني إلى عالمهم، الآن لن يكون الأمر مجرد كوابيس بل أصبح حقيقة تتجسد أمامي حتى بوضح النهار.

 هربت حتى وصلت إلى أعتاب الكنيسة، جلست أرضًا مجهدة متعبة لم تعد تساعدني طاقتي على الاكمال والصعود عاليًا،

 ‏فقدت الوعي أمام الكنيسة ولا أدري ما حدث بعد ذلك، استيقظت لأجد نفسي بفراش بإحدى الأماكن المغلقة جدران المكان كالجبال، غرفة نوم كاملة ولكن أظن جدرانه صخور.

 ‏تركت الفراش..

لأعلم أين أنا ولكن مازال رأسي يؤلمني.

 ‏تجولت بالمكان حتى وصلت إلى باب الغرفة، مددت يدي قمت بفتح قفله وأسرعت إلى الخارج أحدث روحي: أين أنا

 ‏حتى رأيت ياسمين تجلس أمامي.

 ‏أتت مسرعة نحوي قامت بإسنادي، ‏واتجهت بي إلى الأريكة.

 ‏أين أنا؟

 ‏أنتِ هنا بمنزلي.

 ‏منزلك؟

ولماذا أنا هنا كيف أتيت؟

 ‏الآن ستشعرين بالإجهاد مرة أخرى يجب عليكِ الراحة.

 ‏كيف أتيت هنا؟

 فأنا لا أذكر سوى فقداني الوعي أمام الكنيسة.

 ‏حسنًا، قد فقدت الوعى أمام الكنيسة وأثرتي ضجة كبيرة بين الجموع ما لفت انتباهي لأجدك ملقاة أرضًا، ساعدني البعض في نقلك إلى منزلي وحين أتيت بالطبيب أخبرني بإجهادك وأمرني بالراحة لجسدك كذلك تفكيرك.

 ‏ولكني لا أشعر بالراحة في هذا المكان أريد العودة للفندق.

 ‏كذلك لا راحة هناك بين جدران غرفتك.

 ‏كنت أشعر تجاهك بالاطمئنان، الآن صار يتملكني الخوف فور اقترابك مني.

 ‏لعلها روحك تخشى أن أكشف خباياها، قلت لكي سابقًا أنا مرشدة روحية.

 ‏الهذأ السبب تشعرين بما يدور بعقلي.

 ‏لا.

 ‏ليس لهذا السبب؟

 ‏إذًا لأي سبب؟

 ‏الوقت ليس مناسبًا يا راحيل الآن يجب أن ترتاحي.

 ‏نظرت إلى المنضدة أمامي وجدت بعض الفواكه جوارها سكينًا صغيرًا، أمسكت ذلك السكين وجهته إلى عنقي وصرخت في وجه ياسمين.

 ‏لا راحة لي في هذا العالم إن لم أفهم ‏ماذا يحدث لي.

 ‏من أنتم؟

 لما تجمعني بكم الصدف لتصيروا جزءً من حياتي؟

 ‏هل أنتِ من الأموات ؟

 هل تريدين الانتقام من قاتلك؟

 ‏هيا قولي؛ فأنا أعلم كم صرت جاذبة للأموات.

 ‏لا لا يا راحيل اهدئي، سأخبرك كل شيء.

 ‏لن أنزل ذلك السكين عن عنقي حتي تخبريني كل شيء من أنتِ وماذا تريدين مني؟

 ‏هيا قولي هل أنتي ميتة؟

 ‏لا يا راحيل لست أنا.

 ‏إذًا من؟

 ‏سأخبرك كل شيء ولكن عليكِ بالهدوء.

 ‏هدأت قليلاً حين شعرت الصدق في حديثها.

 ‏أنزلت السكين عن عنقي ولكن مازال في قبضة يدي:

 ‏الآن أخبريني.

 ‏كنت أنتظرك منذ سنين، أبحث عنكِ يومًا بعد يوم بجميع الكنائس و دور العبادة حتى وجدتك ذلك اليوم أمام الكنيسة.

 ‏تبحثين عني، لماذا؟

 ‏أنتِ وحدك القادرة على تغير ما مر عليه الزمن، أنتِ وحدك قادرة على بث الراحة لروح ارجوان.

 ‏لا أفهم ما تقولين؟

 لا يجب أن أخبرك أكثر من ذلك يا راحيل؛ فالأمر سيكشف أمامك رويدً رويدًا  في موعده ولكن الآن أريد أن أخبرك أمر.

 ‏ماذا؟

 ‏لست أنا من يريد إيذاءك، اعلمي أني تأذيت كثيرًا لأجل أن أحميكِ ولكن  لن تستمر حمايتي لكي كثيرًا لابد من وجود  حماية كافية لأجلك.

 ‏وأين سأجد تلك الحماية؟

 ‏ابحثي داخلك ستجدين روحك ترشدك إلى ذلك الأمان الأبدي

 ‏الآن تستطيعين الرجوع إلى غرفتك؛ فالحقيقة في انتظارك.

 ‏أي حقيقة تنتظرني؟

 ‏هل دبر الأمر ليختفي أبي وأتي إلى هنا؟

 ‏لا يا راحيل فأباكِ ليس طرف في ذلك الأمر، في جميع الأحوال كنتي ستأتين ما كان أباكِ إلا سببًا لقدومك.

وأين سأجد أبي؟

 ‏ستعلمين في الوقت المناسب يا راحيل، الآن عودي إلى غرفتك.

 ‏خرجت من منزل ياسمين تائهة كحال الأطفال في سوقٍ بل أهل لا أعرف

 أين أنا، وأين وجهتي؟

 ‏أوقفت إحدى سيارات  الأجرة وأعطيته عنوان، ظللت طوال الطريق أفكر في حديث ياسمين أتساءل أي حقيقة تنتظرني؟

 ‏من تلك أرجوان التي تنتظر مساعدتي؟

 ‏ولا إجابة لتلك التساؤلات لدى روحي.

 ‏وقفت السيارة أمام الفندق وعلى غير العادة لم أشعر حين توقفت بل بقيت مكاني لم أتحرك، تعجب السائق لحالي

 وتحدث ببعض الكلمات العربية؛ فلم أفهم معظمها ولكن البقية كانت نداء حتى استفقت من غيبوبة الشرود التي تملكتني اعتذرت له، قدمت بعض الأموال وانصرفت إلى داخل الفندق مسرعة.

 ‏إنه الليل راحة لجميع البشر وجحيمي المنتظر، أسرعت إلى غرفتي بعد أن تفقدت مكتب العمل في باحة الفندق، فلم يسأل أحد عني وكأني لست بذلك العالم.

 ‏حدثتني روحي: نعم، فلسنا محور الكون بالنسبة لأحدهم.

 ‏فتحت غرفتي وكالعادة أسرعت أطمئن على الكتاب والأموال لأجدها مازالت مكانها، بعد دقائق قمت بطلب القهوة. والوقوف أمام نافذتي رأيت من بعيد أحد الرجال خارجًا من الفندق لا أدري لم لفت انتباهي، ظللت أنظر إليه وإلى تحركاته، أشعل سيجارة والتفت اتجاه الفندق ونظر إلى النوافذ حتي التقت عيونه بعيوني حينها رأيت نظرات خبيثة في عيونه، أغلقت نافذتي على الفور؛ فقد راودني شعور أني مراقبة، أكملت قهوتي وجلست بالفراش أنتظر أن يهزمني النعاس وانتقل لعالمهم ولكن الأمر لم يحدث حتى...

( رؤيتي التاسعة )

رأيت تغير الغرفة من حولي صارت غرفة صالون قديمة ولكنها أثرية، أجلس مكاني ولكن تحول الفراش إلى أحد المقاعد ولا أعرف كيف؟

ايقنت أني انتقلت لذلك العالم دون النوم وفي أثناء حديثي الروحي دخلت إحدى الفتيات جميلة الشكل صغيرة لكنها ترتدي فستان زفاف قديم  بعض الشيء، لونه أبيض بسيط، خصلات شعرها صفراء طويلة قليلاً، عيونها زرقاء كموج البحر ابتسمت حين رأيتها تجولت في المكان فرحة تتطاير بثوبها، أتى خلفها أحد الفتيان طويل القامة يرتدي بدلة، عيونه لامعة من الفرح يبدو يوم زفافهم، إنه حقًا زفافهم، لقد أسرع إليها ذلك الشاب ترك قبلة أعلي شفاهها وبارك لها زفافهم.

 ‏سمعت صوتًا قادمًا من الخارج، إنه صوت سيدة ولكنه قوي تنادي

 أرميا،  أرميا.

 ‏التفت ذلك الفتى مسرعًا إلى نداءات تلك السيدة وقال: أمي؟

 ‏أتت تلك السيدة مسرعة ترتدي فستان طويل أسود مرصع بالألماس، إنها كذلك طويلة قوامها رشيق شعراتها منسقة مظهرها يخبرك بأنها إحدى الملكات.

 ‏ايقنتُ أن تلك السيدة هي والدة الفتى ويدعى ارميا.

 ‏نظرت تلك السيدة إليهم في غرور وتكبر، أسرع أرميا تجاهها وقبل يدها:

 ‏أمي .....

 ‏نعم أمك.

 ألم يكن بمقدورك تأجيل الزفاف حتى عودتي؟

كيف لا احضر حفل زفاف وحيدي وابن الكنيسة الأكبر؟

 ‏عذرًا يا أمي ولكن الأمر .....

 ‏أعلم ما الأمر، لقد حملت تلك الفتاة بطفلك كان لابد من الزواج سريعًا ولكن هي لا تليق بنا، لا تليق بنسلنا

 لا أعلم كيف وافق الكاهن على ذلك الزفاف؟

 ‏أمي أنتِ تهنين أرجوان.

 ‏أعلم.

 ‏هنا ايقنت أن تلك الجميلة هي أرجوان من ذكرتها ياسمين.

 ‏انظر إليها كيف ستكون أمًا لأحفادي؟

 ‏نظرت الفتاة إلى نفسها، بكت قهرًا وانكمشت في ملابسها.

 ‏يكفي يا أمي.

 ‏لك تلك الليلة رفقتها لتكون سببًا لعدم قتلها.

 ‏أما عن أحفادي أنا من سأختار والدتهم.

 ‏انصرفت تلك السيدة دون الالتفات إليهم مرة أخرى، أسرعت في صعود الدرج  وبقى أرميا وارجوان التي تملكها الحزن

 ‏

 ‏... أشاهد ما يحدث وكأني أعيش بينهم ولكني في عالمهم طيف لا أستطيع التدخل لتغير الماضي.

 ‏شاهدت أرجوان وارميا يعيشون أيامًا من السعادة رفقة بعضهم البعض في ظل غياب تلك العجوز عنهم،

 ‏رأيتها أيضًا بإحدى الكنائس تقوم بتقديم بعض التعاليم المسيحية  يناديها الجميع بالسيدة (ماريان).

 ‏شعرت أنها رشيدة في ذلك الوقت ولكنها تتلون لتكون حرباء في منزلها، تدبر الأمور لصالحها لتخلق من أرجوان شخصية غريبة أمام زوجها تنعتها دائمًا بالساحرة والغموض، بالأمس كان أرميا لا يبالي اهتمامًا لذلك الحديث ولكن ها هو أمامي أرى تغير نظرته تجاه ارجوان؛ فلم تعد مليئة بالحب كالسابق.

 ‏زاد الضغط على أرجوان حين تبدلت معاملة زوجها؛ فالآن وبعد مرور شهور مازالت ارجوان في منزل أرميا تتحمل اتهامات والدته من أجل ذلك الصغير، كانت تضع يدها فوق أحشائها تتحس نبضات قلبه تبتسم حين تشعر به، تحدث روحها:

 ‏أنت ربيع عالمي وسنيني، لا أظن أني أستطيع مواجهة ذلك العالم من دونك، إنها أيامًا قليلة يا صغيري وتنير ظلمتي

 ‏وعلى الجانب من (رؤيتي)...

 أرميا يجلس بغرفة والدته كطفل صغير أمام أقدامها، تنظر إليه بحب ولكن ممزوج برغبة في الوصول لأمر ما

 ‏تأكد لي الأمر حين تحدثت:

 ‏أخبرني يا أرميا .

 ‏ماذا يا أمي؟

 ‏كيف عرفت أن ذلك الجنين في أحشاء ارجوان هو لك؟

 ‏ماذا؟

 أرجوان تعشقني فلماذا افكر في غير هذا؟

 ‏أعلم كم تعشقك ارجوان ولكن العشق ليس سببًا كافيًا كي يؤكد أن ذلك الجنين لك.

 ‏ماذا تقصدين يا أمي؟

 ‏كيف تعشقني ولكنها تحمل جنين لشخص آخر غيري.

 ‏العشق لا يكفي لحدوث الأمر، من الممكن أن يكون عشقها لمالك أو جمال خلقك أو عشقت تلك الرومانسية المفرطة في إحساسك.

 ‏كذلك من الممكن أن تكون عشقت رجولة أحدهم وليس أنت.

 ‏أيعقل، ‏ولكن أرجوان.

 ‏ما بها أرجوان، أليست من البشر لا تخطئ ؟

هل هي من الملائكة؛ فأنا لا أري لها جناحين.

 ‏تبدلت ملامح أرميا، ترك والدته تشعر بالنصر وذهب مسرعًا إلى غرفته حيث أرجوان

 ‏قابلته ببسمة لطيفة هادئة.

 ‏قابلها هو بعنف ونار تشتعل في عيونه.

 ‏أمسك يدها بعنف، ضغط عليها لتشعر بالوجع حتي صرخت:

 ‏ما بك يا أرميا؟

أنت تشعرني بالوجع.

 ‏هذا الشعور سيكون بداية موتك إن صح وكان جنينك لرجل آخر

 ‏هل حقًا من بأحشائك ليس لي؟  

 ‏ما تلك الخرافات يا أرميا أنه ابنك، قسمًا بالمسيح إنه نطفتك.

 ‏كيف سيكون لآخر ولم يمسسني غيرك.

 ‏ستفصل بيننا الكنيسة ولكن بعد مولده، إلى ذلك الوقت ستكونين في إقامة جبرية فلا خروج من ذلك القصر حتي تضعين مولودك.

 ‏انفعلت أرجوان، سأكون أسيرة هذا القصر كما جعلتني أسيرة قلبك، ستفصل بيننا الكنيسة ولكن حينها سأخبره

 كم ظن أباه السوء في أمه، سأخبره كما عانيت بين تلك الجدران العالية فلم يسمع صراخاتي أحد.

 ‏أنهت أرجوان حديثها بالبكاء الشديد، جلست أرضًا وابتعد أرميا عنها حتى غادر الغرفة، هنا استيقظت على طرقات متتالية على باب غرفتي إنهم مسؤولي التنظيف يريدون تنظيف غرفتي أثناء وجودي.

 ‏استيقظت أشعر بالدوار، نظرت من غرفتي رأيت الشمس منتصفه، بدلت ملابسي وأخذت حقيبتي أخرجت العاملين سريعًا من الغرفة، أخبرتهم    :

لا أريد إكمال التنظيف الآن يمكنكم ذلك فور عودتي، أسرعت كالمجانين إلى الكنيسة أرغب في ملاقاة ياسمين، أخذت بعض الأطعمة الخفيفة من مطعم الفندق، أسرعت في تناولها لتشعرني بالطاقة وذهبت إلى الكنيسة، انتظرت قليلاً لتظهر ياسمين أمامي ولكن لا أثر لها، تجولت في المكان بحثًا عنها حتي صرت داخل الكنيسة فوجهت أنظاري إلى الجموع بحثًا عن ياسمين لأجدها في مكانها المعتاد وكالعادة المكان جوارها خالي رغم اكتظاظه بالبشر أسرعت في الانتقال جوارها جلست دقيقة ثم همست إليها:

لقد رأيتها.

لم تلتفت ياسمين إليّ ولكن تحدثت كعادتها في هدوء:

من ؟

ارجوان لقد رأيتها، الآن أرى ما مرت به.

لا ليس جميع ما مرت به للأمر بقية، هل سيحدث ذلك مرة أخرى؟

حتي تصلين إلى الحقيقة يا راحي.

هل هي روح تريد المساعدة؟

بل تريد الحياة التي لم تنعم بها.

كيف، أيعقل أن يرغب الموتى في الحياة؟

حينها نظرت ياسمين نحوي.

نعم يرغبون في حياة هادئة مع من يحبون ولكن تلك الدنيا لم تخلق للراحة، غادرت أرجوان الحياة ولكن مازالت روحها معلقه بها لأكثر من نصف قرن.

والآن سوف تتحرر تلك الروح التائهة لتنعم بحياة أبدية.

ولماذا أنا؟

إنه بحوزتك تلك التعاويذ المدونة بالكتاب الدموي، تجعل من أعوانه أحرار حينها ستحل عقدة أرجوان.

لا أفهم ما تقصدين؟

سيأتي ذلك الأوان ولكن ليس الآن.

وماذا لو رفضت؟

ستبقين هكذا تائهة طول الحياة .

حين تكتمل  الحقيقة أمامك ستسعين للمساعدة.

ولكن ...

ماذا يا راحيل؟

أشعر وكأني مراقبة؛ فهناك أحدهم تتبعني من الفندق حتى هنا.

لا تقلقي يا راحيل فذلك من أبناء بلدك وخادم سفارتك يريد فقط الاطمئنان على أحوالك بتلك البلد.

متي ستكتمل تلك الرؤية؟

بقي نقطتان يا راحيل فاستعدي.

لم أعُد أستطيع تفسير ما يحدث لي، أشعر بأني في أحد أفلام الرعب ولا أستطيع الخلاص من شعور الخوف.

اذهبي الآن إلى الكاهن، اطلبي أن يباركك اقتربي أكثر من الله ستشعرين بالاطمئنان.

كيف يباركني ولست ...

أعلم ولكنه سيدعو لروحك بالاطمئنان وعسى أن يكون قريبًا.

تقدمت في هدوء نحو الكاهن وقفت صامتة أنظر إليه والتفت إلى ياسمين فلم أجدها، شعرت بالخوف فكيف تتركني هكذا  سمعت صوت الكاهن يرتل بعض الكلمات من كتابٍ بيده، شعرت بالدوار وتشوشت رؤيتي، رغبت في الحركة ولكن لم أستطع صحت انادي:

 ياسمين

ياسمين

 حتي فقدت الوعى

ولا أدري ماذا حدث بعد ذلك ولكني استيقظت بمنزل أرميا.

(رؤيتي العاشرة )

زادت شكوك أرميا في أرجوان والفضل الأول يعود لوالدته، أغلق جميع أبواب القصر، أمر بعدم خروج أرجوان خارج حدود غرفتها كذلك مراقبتها حتي وقت وضعها.

لم تتحمل أرجوان تلك المعاملة حتى صارت تهلوس ببعض الكلمات من أثر ذلك السجن، لم تشعر تلك العجوز بالشفقة على حالها بل خططت لتزيد عليها الأمور.

رأيت تلك العجوز ماريان تتجول  بقصرها حتى صارت على أعتاب جناحها بالقصر، أمرت إحدى خادماتها أن تأتيها مسرعة.

أسرعت تلك الخادمة في تلبية طلبها وأتت مسرعة.

وقفت العجوز ماريان بمنتصف غرفتها ترتدي فستان أسود طويل به الكثير من الألماسات اللامعة وكأنها النجوم في جنح الليل.

وقفت الخادمة بجوار باب الغرفة لم تستطيع الدخول دون استئذان:

أمرك يا سيدتي؟

اغلقي ذلك الباب جيدًا.

أغلقت الخادمة باب الغرفة ولكن دون إصدار صوت.

تحركت العجوز ماريان  لتجلس إلى أقرب مقعد أمامها.

الآن تقدمي.

تقدمت الخادمة في بطء حتى صارت تحت أقدام تلك العجوز:

صرتي جدة وإلى الآن تعملين خادمة.

هذا أمر الله علينا ونحن بما قضى راضيين.

ماذا عن أحفادك وأولادك، هل راضيين بما يعيشون من فقر؟

أظنهم مجبرين يا سيدتي، فالرضا لم يرسم أثره على وجوههم.

ماذا لو تغيرت أحوالهم؟

ماذا لو صاروا من أغنياء البلدة، واتيحت لهم الفرصة ليتعلموا في الخارج حيث الغرب  

كيف يا سيدتي، فنحن لا نملك سوى قوتِ يوم.

الآن سأخبرك كيف؟

لم تكن الخادمة من تنتظر إجابة سؤالها بل كان أنا.

اجلسي أرضًا أيتها الخادمة.

جلست الخادمة مسرعة: لكِ ما تريدين يا سيدتي.

الآن سأخبرك كيف.

أعلم أن عزيزتك ( ابنتك ) حاملاً فهي الآن على مشارف الولادة.

 نعم يا سيدتي

 كذلك أرجوان ستلد قريبًا.

 أعلم يا سيدتي.

  ماذا لو أخبرتك أن حفيدك سيكون هو وريث ذلك القصر ومالك جميع ما أملك،  تبدلت ملامح الخادمة متعجبة اتسعت عيونها وصبرت لتكمل سيدتها الحديث: سأخذ حفيدك ليكون وريثي في مقابل ما تريدين من أموال، كذلك حفيدي سيكون عوضًا لابنتك عن مولودها.

هل تقصدين أن نتبادل المواليد يا سيدتي ماريان؟

  نعم ما أقصده هو كذلك تأخذين حفيدي وما أردتي من أموال ويكون حفيدك مالك قصري والمتحكم الأول والأخير في أموالي.

 ولكن لماذا ؟

أسيكون حفيدك مسخًا؟

أم سيولد بعاهة لا علاج لها؟

 لا أريد أن أسمع سؤالك مرة أخرى وإلا ستكون الإجابة سكينًا ينغرز في أحشائك أو تصبحين طعامًا للضباع.

 عذرًا يا سيدتي عذرًا، إنه عقلي عجز عن استيعاب ما تقولين لذلك أردت السؤال ولكن لن يتكرر ثانية.

 صمت دام لدقيقة بين الخادمة وسيدتها وكأنها تحسن التفكير في الأمر حتي بدت على ملامحها الثقة، قامت من جلستها أيضًا تجولت تلك الخادمة بالغرفة حتي وقفت أمام المرآة نظرت إلى روحها ثم مدت يدها إلى صندوق المجوهرات الخاص بسيدتها: هل تمانعين إن ألقيت نظرة على تلك الأحجار الثمينة.

 لا .. فما تستطيعين حمله فهو لكِ.

 أخذت  تلك الخادمة تلتقط الكثير من المجوهرات والأموال حتى ملأت عباءتها، جلست أمام سيدتها مرة أخرى مبتسمة:  الآن وليدنا طوع أمرك إن كان صبيًا أو فتاة سيصبح خادمك.

 حسنًا، كوني في الجوار؛ فحين تشعر احدهن بألم الولادة سنجبر الأخرى على نفس الشعور لتكون ساعتهم واحدة.

  أمرك يا سيدتي، أمرك يا سيدتي.

 ظلت تردد تلك الجملة حتى غادرت غرفة سيدتها.

وهى محنية الرأس ولكن ملامحها تحمل الكثير من الخبث وكأنها شيطان رجي، انصرفت الخادمة وبقيت العجوز بغرفتها وقفت في نافذتها تنظر إلى حديقتها حتى رأت أرميا أتيًا من بعيد، أغلقت نافذتها وأسرعت إلى الداخل تزينت وبدلت ملابسها وكانت في انتظار ابنها الذي اتى إلى غرفتها بحثًا عن حنان الأم، قام بطرق الباب عدة طرقات حتي سمع صوت والدته تسمح له بالدخول.

  أمي.

 ما بك يا أرميا؟

 وقف أمامها يتطوح، يبدو عليه السُكر تفوح منه رائحة الخمر:

 أمي أريد الموت، أشعر وكأني سجين كيف لها أن تخون حبي، كيف لها أن تخون تلك الأيام التي قضيناها سويًا.  

إنها فتاة جميلة ولكنها فقيرة، فتيات الفقراء يستطيعون بيع أجسادهن لمن يدفع أكثر، لمن يقدم لهم الطعام وها قد فعلت.

 ولكني لست مقتنع سأصبر حتى تلد جنينها، وإن ثبت خيانتها سأقتلها يا أمي، سأقتلها، لا لن نقتلها بل سنقتل ذلك الجنين الذي سينسب إلينا رغمًا.

ثم...

 ثم ماذا يا أمي؟

سنتركها تعود إلى حياة الفقر وقلة الحيلة بعد أن صارت ملكة بقصرك، أعتقد أنه أبشع عقاب تستحقه،  لم يكن أرميا وحده من يسمع إلى تخطيطات والدته بل أيضًا خادمتها التي سمعت تخطيطها لقتل الجنين فور تأكدهم بعدم انتمائه لنسلهم. انصرفت في صمت ويبدو أنها هي الأخرى تخطط لشيء آخر، وفي الداخل أكمل أرميا حديثه مع والدته:

  وماذا عني يا أمي؟

 لقد عشقتها ولا أستطيع الابتعاد عنها.

 ستنسأها أستطيع أن أمحو ذاكراها من حياتك إلى الأبد.

 كيف يا أمي؟

 تحركت العجوز تجاه  منضدتها الخاصة حيث الكثير من زجاجات الشراب والكؤوس،  أمسكت إحدى الزجاجات ووضعت القليل منها  في كأس كبير ثم بهدوء أخرجت من خباياها إحدى الزجاجات الصغيرة بها مادة بيضاء، وضعت القليل في الكأس واكملت صب المشروب، اختفت تلك المادة البيضاء في الشراب وكأنها لم تكن، أخذت العجوز الكأس وعادت إلى أرميا، مدت يدها إليه بالكأس:

  في ذلك الشراب ستجد الراحة مما تعاني.

  نظر أرميا إلى الكأس، التقطه مسرعًا ووضعه على شفاهه وقام بإرتشافه دفعة واحدة دون توقف، جلست العجوز ماريان  أمام ابنها تنظر إليه في رغبة، يشعر أرميا بفقدان الوعى، بدا ذلك عليه من تصرفاته الغريبة وقف في منتصف الغرفة يتطوح يمينًا ويسارًا يصدر أصواتًا غريبة ثم نظر إلى والدته بشغف:

 اراكي جميلة الجميلات يا أمي؟

 نعم وماذا أيضًا؟

أرغب في تقبيلك دون تفكير.

 هنا أنا من ذُهلت ولكن لا أستطيع تغيير ما حدث بينهم ظللت أراقب وأنا أشعر بنفور من ذلك العالم، أرغب في الهروب ولكن لا مفر إلا أن ينتهى ذلك الكابوس،  تقدمت العجوز إلى أرميا حتى وقفت أمامه، ملست على شعراته في هدوء:

 أتدري يا أرميا تلك الرحلة السابقة لي في بلاد الغرب  كنت لأبحث لك عن فتاة تستطيع حمل لقب عائلتنا، كذلك لا تكون عارًا على نسلنا ولكن ..

 أجابها أرميا وهو غائب عن الوعى:

   ولكن ماذا يا أمي؟

 لم أجد من تستطيع حمل لقب عائلتنا غير من تقف أمامك الآن.

  ابتسم أرميا وهو تائه في سكرات غيبوبته:  

أرغب بشدة في جعلك ملكة من جديد.

  شعرت بالاشمئزاز من هول ما رأيت في ليلتهم، رغبت لو ينتهي ذلك الكابوس سريعًا ولكني لم أستطيع التغلب على غيبوبة النوم التي تملكتني، مر الليل وأنا أتجول في القصر وبين أروقته حتى سمعت صوت  أرجوان يصدر من إحدى الغرف التي تبدو كالسجن، إنها نائمة تتألم، تستغيث وتطلب المساعدة ولا مجيب لها، أدركت إنها ستلد في تلك الساعة أسرعت أطرق أبواب القصر بكل قوتي ولكنها لم تصدر صوتًا، أتت إحدى الخادمات في هدوء، إنها تلك الخادمة التي خططت لتبديل حفيدها، وقفت أمام أرجوان لم تشفق عليها حتى بنظراتها، أغلقت باب غرفتها جيدًا وأخذت المفتاح رفقتها وأسرعت إلى سيدتها، استيقظت السيدة من أحضان أرميا، بدلت ملابسها سريعًا وكأن شيئًا لم يكن فتحت بابها في هدوء:

 ما بكِ أيتها الخادمة؟

إنه الصباح الباكر, لمَ تطرقين الباب هكذا هل جننتي؟ 

لا يا سيدتي إنها أرجوان تلد، تضع مولودها في ذلك الوقت.

لم تندهش العجوز، نظرت إلى أرميا الذي تحرك بالفراش، يبدو أنه سمع حديثهم:

اذهبي الآن وافعلي ما أمرتك به.

الآن.

تركت تلك الخادمة مفتاح الغرفة بيد سيدتها وأسرعت إلى ملحق القصر حيث ابنتها لتستعد لإجبارها على الميلاد في تلك اللحظة.

أخذت العجوز مفتاح الغرفة واستعدت للخروج.

ولكن استيقظ أرميا الذي نظر إلى نفسه في اندهاش.

 ماذا أفعل في فراش أمي عاريًا؟

 ‏أجابته والدته على سؤاله دون أن تسمعه، لقد عدت أمس مخمورًا، طلبت اللجوء إلى فراش أمك كطفل صغير

 ‏ابتسم أرميا فهو لم يدرك ما حدث بالأمس.

 ‏أمي؟

 ‏ماذا؟

 ‏هل حقًا ما سمعت، هل تلد أرجوان في تلك اللحظة؟

 ‏نعم إنه وقت كشف الحقيقة.

 ‏ولكن هل أستطيع أن أكون موجود؟

 ‏لا، لن تستطيع فلأبد أن ترى المولود للمرة الأولى في الكنيسة حين وقت اكتشافنا الحقيقة، حينها سنتأكد من مشاعر الأبوة التي ستشعر بها حقيقة أم مجرد انبهار بطفولة المولود.

 ‏الآن ستبقى هنا لحين إكمال الأمر.

 ‏خرجت العجوز بعد أن أغلقت باب غرفتها بداخلها أرميا، توجهت إلى أرجوان التي أهلكها التعب والألم، لم تشفق هي الأخرى على حالها، جلست أمامها في هدوء تام.

 ‏نظرت أرجوان إليها وهي تستغيث طالبة المساعدة.

 ‏ولكن كان للعجوز ماريان رأي آخر: ستلدين ذلك الصبي لقدرٍ معلوم، سيصبح من رعاة الأغنام كحال عائلتك، أما عن حفيدي سيكون من تلك الاحشاء، قالت العجوز تلك الكلمات وهي تضع يداها على أحشائها.

 ‏ملامح أرجوان خائفة ممزوجة بالتعب والاندهاش لما تسمع ولكنها تجاهد روحها لتستطيع إخراج تلك الروح من أحشائها، ظلت ساعات تقاوم حتى شعرت بجنينها يخرج للحياة حينها لم تستطيع أرجوان إكمال الأمر، فقدت الوعى لشدة التعب أسرعت العجوز في التقاط الوليد، قامت بقطع حبله السري نظرت إليه لم تشعر تجاهه بالحنين، دقائق واتت الخادمة مسرعة تلتفت حولها تحمل صغير ابنتها بين يديها، وقفت أمام سيدتها:

إنه صبي.

 ‏ردت  العجوز ماريان:

كذلك هذا أيضًا صبي: الآن لكي حفيدك، أما عن هذا سيكون ملك ذلك القصر.

 تبادلوا الأطفال، رأت أرجوان ما حدث ولكنها لم تستطيع النطق ولا تحريك ساكنٍ لشدة ارهاقها، عادت لتفقد الوعى مرة أخرى.

 ‏نظرت العجوز إلى الجنين لتجده مختلف تمامًا عن حفيدها حتى أن الخادمة قامت بوضع أحدي المواد الحارقة على يده لتصير علامة أبدية على يده أينما ذهب.

 ‏لما فعلتي ذلك بالصغير؟

 ‏حتي أستطيع التفرقة بينه وبين حفيدكم، تعلمين لا أستطيع الاقتراب من حفيدك ولكن يحق لي الاقتراب من حفيدي وترك إحدى العلامات بجسده لأستطيع معرفته ولو بعد سنين.

 ‏سأعاقبك على فعلتك هذه ولكن ليس الآن؟

 ‏الآن انصرفي بحفيدك، وإن نطق لسانك حرف ستصبحين رمادًا اشتعلت فيه النيران منذ قرون أنتِ وعائلتك. 

 ‏لكي السمع والطاعة يا سيدتي، أخذت العجوز الطفل نظرت إلى أرجوان وتركتها غارقه في دماءها ورحلت، أمرت جميع الخدم بإغلاق غرفة أرجوان جيدًا، وعدم السماح لها بالحركة حتى عودتهم من الكنيسة.

 ‏ذهبت العجوز إلى غرفتها، وضعت الوليد وبدلت ملابسها وأيقظت أرميا طالبة منه الإسراع في تبديل ملابسه للذهاب إلى الكنيسة.

 ‏ارميا، ارميا لقد حان الوقت لكشف الحقيقة.

 ‏هل وضعت أرجوان يا أمي؟

 ‏نعم وضعت صبي، ولكن ...

 ‏ولكن ماذا يا أمي؟

 ‏لا يشبهنا يا ارميا، ليس حفيدي ولا صغيرك، إنه نسل لعائلة أخرى وسنتأكد بعد قليل.

 ‏أيمكن أن أراه يا أمي؟

 ‏لا، فتلك تعليمات الأب دانيال ولا يجوز مخالفتها.

 ‏تحضر أرميا في استعجال، نسى أرجوان والسؤال عن حالها، انساق خلف الشيطان وأسرع رفقته إلى الهلاك.

 ‏ذهبت السيدة رفقة ابنها و المدعو حفيدها إلى الكنيسة، قد دبرت الأمر مسبقًا واستطاعت اللعب بعقل ارميا وإقناعه بعدم ملامسة الوليد إلا بأمر خادم الرب.

 ‏

 ‏كانت في انتظارها جلسة روحية حضرها أعوانها بأمر منها، كانت ضحيتهم في تلك الجلسة هو الوليد، لقد قاموا بوضعه في منتصف الماء المسكوب في إناء كبير، جردوه من  ملابسه وبدأ أمامهم كقطعة لحم صغيرة، ظل ارميا  ينظر في عجب مما يفعلون يود لو يصيح في الجميع ينهيهم عن فعلتهم ولكنه متماسك إكرامًا لوالدته ومكانتها.

 ‏أخذ أحدهم بيد المولود وقام بنغزه بطرف سكين حاد، صاح الوليد صراخًا ولا شفقة في قلوب من حوله، نزف الدماء من عروقه حتى تلون الماء من حوله باللون الأحمر.

 ‏لم يستطع ارميا صبرًا بعد ما رأي صاح فيهم جميعًا:

يكفى هذا القدر فلا أطيق أن أري ذلك الوليد يتألم، حتى وإن لم يكن وليدي ولكني أشعر بنفس الألم الذي يجعله يصرخ

 ‏يكفي يا أمي.

 ‏نظرت العجوز  ماريان إليه نظرة مرعبة، تحدثت إليه عيونها صبرًا، فلنا كبرياء ولن يُكسر، صمت ارميا حتى انتهوا من الصبي وطلب أحدهم منه الاقتراب، ليقف في منتصف المياه ويردد ببعض الكلمات.

 ‏ردد أرميا دون توقف حتي تاه في عالم آخر، لم يشعر ارميا بما يدور حوله إلا حين شعر بنغزة سكين حاد في ذراعه الأيسر، فتح عيونه ليجد الدماء تسيل من جرحه ونظرات الجميع موجهة إلى دماءه، انتهى ارميا من تلك الجلسة، خرج من الماء وذهب إلى احدى الغرف يستريح في انتظار حكم الكنيسة في ذلك الأمر، وجد الصغير بجواره في الغرفة، تقدم نحوه وجلس جواره في هدوء، ظل ينظر إليه وقلبه يحمل الكثير من الحب ونظراته مليئة بالحنان:

 ‏انتهى الأب دانيال من جلسته توجه إلى السيدة، جلس جوارها بعيون فرحة ووجه مبتسم:

 ‏إن زوجة ابنك طهور فلم يمسسها سوء ارميا.

 ‏بدت الصدمة على وجه العجوز ودت لو تقتلع لسانه ‏من حنجرته ولكن لم تستطيع:

 ‏ماذا تقول أيها الأب دانيال؟

 ‏أقول أن ذلك الوليد حفيدك فهو نطفة  ابنك كما أثبت طهارة أمه من كل فعل شنيع

هنا ساقت الأقدار ارميا ليقف  على مقربة منهم  ويستطيع سماع ما دار من حديث

 ‏جن جنون العجوز ماريان  وأسرعت في الذهاب إلى الوليد لتجده خلفها يحمله أرميا بين يديه.

 ‏أسرعت تفتش في الوليد عن آثار الحرق في يده ولا أثر لها، هنا اقتنعت أن الخادمة قامت بتبديله مره أخرى قبل المجيء به إلى الكنيسة.

 ‏وقف ارميا مذهولًا فرحًا لما سمع يهلل ويصرخ فرحًا وإلى جواره والدته صامتة، تقتلها الصدمة لما فعلت بها الخادمة أسرعت إلى عربتها وأمرت السائق في الإسراع للعودة إلى القصر، ظلت طوال الطريق صامتة لا تستطيع النظر إلي عيون ارميا الفرحة بمولوده وزوجته.

 ‏تتساءل بينها وبين روحها:

 ‏متي بدلت الخادمة الطفل؟

 ‏ولماذا فعلت بعد أن أخذت ما أرادت من مال وجواهر.

 ‏سأجعلها تتعفن في ذلك العالم حتى القيامة.

وصل أرميا رفقة وليده و والدته إلى القصر، طار إلى غرفة أرجوان فرحًا وجدها مغلقة بالأقفال، صاح في الخدم أمرهم بفتح الأقفال، أسرع إلى أرجوان وجدها غارقة في دماءها، شفق على حالها وما بها فوضع صغيرها جوارها، أسرع في إفاقتها.

 ‏استجابت أرجوان سريعًا إلى محاولته وكأنها اشتمت رائحة صغيرها، فحين فُتحت عيونها ورأت أرميا انهارت في البكاء:

 ‏هل قتلت صغيرنا؟

 ‏لا لا يا أرجوان إنه هنا جوارك.

 ‏أسرعت أرجوان في أخذ الصغير ووضعه بين أحضانها.

 ‏هل هذا وليدي، هذا هو؟

 ‏نعم يا أرجوان لقد براءتك الكنيسة، إنه صغيرنا، أخشى ألا تسامحيني ولكن ها أنا أطلب العفو على ما عشته تلك الفترة.

 ‏هنا ارتاحت روحي ووددت لو ينتهي كابوسي عند ذلك الحد، وأعود إلى عالمي تاركة أرميا وزوجته في تلك الحالة.

 ‏ولكن سريعًا ما تبدلت الأحوال؛ فحين تجولت بالقصر بحثًا عن ما يرجعني لعالمي رأيت العجوز تبحث بين خبايا الخادمة في غرفتها حتى عثرت على إحدى الرسائل التي تركتها الخادمة لتصل إلى يد سيدتها.

 ‏قامت العجوز  بفتحها سريعًا، قرأت سطورها بعيون غاضبة مليئة برغبة الانتقام وددت لو أستطيع مطالعة تلك الرسالة.

 ‏انتظرت حتى انتهت العجوز من قراءتها وخرجت من الغرفة مسرعة غاضبة تاركة الرسالة بأرض الغرفة.

 ‏هنا التقطت تلك الورقة التي اشعرتها بالانكسار وأسرعت في مطالعتها.

 ‏أعتذر لكِ سيدتي فأموالك لم تكفي لتشفي جرح ابنتي.

 ‏لقد أعدت لك حفيدك واستعدت قرة عيني وحفيدي، أما عن الأموال والجواهر فهي تعويضًا عن تلك الحياة التي عشتها قهرًا بقصرك، كذلك ثمن صمتي على أفعالك التي لا تغتفر.

 ‏ختمت الخادمة رسالتها بتلك الكلمات.

 ‏قبل أن تهرب رفقة حفيدها وابنتيها.

 ‏لقد أخذت الأموال والجواهر واستطاعت خداع العجوز، صدقًا شعرت بالفرح والانتصار على غرورها الذي لا حد له.

 ‏لم تنتظر العجوز لحظة، لقد اجتمعت  بخدامها من قُطاع الطريق والصيادين وأمرتهم بالبحث عن تلك الخادمة وعائلتها كذلك عدم ايذاءهم.

 ‏لقد كانت أوامرها واضحة.

 ‏اليوم أعرض عليكم الكثير من الأموال والجواهر مقابل تلك الخادمة، لا شأن لي بعائلتها، فقط أريدها.

 ‏تطّفل أحد الرجال بسؤاله عن سبب الذي فعلته الخادمة:

 ‏سيدتي، لقد كانت خادمتك المخلصة منذ سنين، بئر أسرارك والمفضلة لديكِ بين الخدم

 ‏أي فعل فعلت لتهرب خوفًا من عقابك؟

 ‏التفتت السيدة إلى صاحب السؤال، اقتربت منه، وقف أمامها محني الرأس يخشى أن يأخذ أنفاسه؛ فتصدر بعض الأصوات.

 ‏تعلم جيدًا لا أحب التدخل  فيما لا يعنيك ولكن تلك المرة سأخبركم بما فعلت.

 ‏لقد قامت بسرقة إحدى المجوهرات النفيسة بصندوقي، إنها جوهرة والدتي التي ورثتها عن اجدادها.

 ‏تلك الجوهرة ليست قيمتها ملايين فقط وإنما هي إرث العائلة وحضارتها، إنها رمز عائلتي ولن أسمح لها بمخالطة تلك الجوهرة بباقي الجواهر رخيصة الثمن بالأسواق.

 ‏تقدم أحد الرجال بعض الخطوات وأحنى رأسه وسلاحه.

 ‏لكِ ما تريدين يا سيدتي؛ فعند الفجر ستكون تلك الخادمة بين يديكِ.

 ‏عادت العجوز إلى كرسيها وأمسكت كيس النقود وقامت برميه تجاه الرجل الذي التقطه سريعًا

 ‏ولك ما تريد من أموال وأكثر حين العودة بها حية على أقدامها، واترك عائلتها فلا شأن لي بهم.

 ‏أمرك يا سيدتي.

 ‏انحنى الرجال طوعًا لأمرها، أخذوا النقود وعزموا على البحث عنها سريعًا؛ فذهبت العجوز إلى غرفة أرجوان رأت أرميا يحتضن وليده وزوجته وكأنه عائدٌ من سفر طويل.

 ‏تملكها الغضب ولكن تماسكت أمام ابنها.

 ‏هنيئًا لكِ يا أرجوان صار وليدك حفيدًا لعائلتي ووريث أملاكي ولقبي.

 ‏نظرت إليها أرجوان في صمت تتملكها مشاعر الخوف، ودت لو تستطيع الإفصاح عن ما رأت ولكنها عجزت عن التعبير.

 ‏ابتسمت في هدوء ناظرة إلى سيدتها: ما وليدي إلا حفيدًا لكِ يرغب في الحنان والاستقرار؛ فلم يعرف قيمة ما يملك بعد.

 ‏نظرت العجوز إليها في كبرياء: ولكني أعرف قيمة ما أملك ولن افرط فيه.

مرت أيامًا وأيام والعجوز في انتظار عودة رجالها بالخادمة، وارجوان في قلق دائم على وليدها ولا تستطيع الإفصاح عن ما تشعر به.

 ‏ولكن ها أنا استشعر ما تمر به؛ فقلقها الزائد جعلها مهووسة لا تستطيع النوم إلا بعد إغلاق جميع الأبواب والنوافذ، تشعر وكأن أحدهم سيسرق قرة عينها.

 ‏حتى ظلام أحد الليالي، والجميع نيام ولا صوت سوى عقارب الساعة تتحرك وبعض نسمات الهواء اللطيفة، أتى ضيف متخفي يطرق باب الغرفة الخارجية للسيدة ماريان في هدوء.

 ‏لفت انتباهي وأردت  معرفة شخصه وما سبب قدومه في تلك الساعة ولكن أسرعت العجوز بفتح الباب وإدخاله سريعًا، كشف الضيف عن وجهه ورأيت أنه أحد رجال العجوز المكلفين بالقبض على الخادمة.

 ‏ما خبرك الذي أتى بك في منتصف الظلام؟

 ‏إنه خبر سار أظنه سيسعد قلبك يا سيدتي.

 ‏ماذا؟

 ‏تلك الخادمة العجوز التي كلفنا بالقبض عليها وإرجاعها للقصر

 ‏ما بها؟

إنها تقف بالخارج رفقة رجالي ينتظرون أمرك بالدخول يا سيدتي.

 ‏وماذا عن عائلتها واحفادها؟

 ‏فعلنا ما امرتِ به تركناهم في طريقهم فلا شأن لنا بهم.

 ‏هل اخذتوا منهم المال والجواهر؟

 ‏لا يا سيدتي فلم يقترب رجالي سوى من خادمتك العجوز.

 ‏خيرًا ما فعلت، فلا أحب أن اتركهم جياع يطلبوا الإحسان في الطرقات بعد أن عاشوا مكرمين بمنزلي

 ‏الآن ...

 ‏رهن إشارتك يا سيدتي.

 ‏ادخل تلك الخادمة  وانتظر في الخارج رفقة رجالك، لعلي احتاج إليك.

 ‏أمرك يا سيدتي.

 ‏فعل الرجال ما اُمِروا به، ادخلوا الخادمة اجلسوها تحت أقدام سيدتها وتركوها عائدين إلى الخارج.

 ‏نظرت العجوز في كبرياء: الآن عُدت إلى مكانك الطبيعي، فلا ملجأ  لكِ سوى تحت أقدامي.

 ‏كم كنت أتفاخر بكوني خادمتك الأولى المطيعة، من تثقين فيها وتكون دومًا اختيارك الأول.

 ‏أما الآن .....

 ‏هنا سمعت باب إحدى الغرف بالأعلى يغلق في هدوء تام.

 ‏أسرعتُ إلى الدرج  لأرى من القادم حتى ظهر أمامي أرميا يحمل بين يداه وليده يتجول في هدوء بحثًا عن والدته

 ‏يداعب صغيره ويقبل جبينه.

 ‏لم تراك جدتك بعد، لقد كانت مشغولة تلك الأيام الماضية، الآن ستتفاجأ بوجودك أمامها لا تصدر أصواتًا.

 ‏يعلم أرميا بوجود والدته بغرفتها الخارجية ولكن لا يعلم لأي سبب، فقط أراد مفاجأتها بالصغير في ذلك الوقت المتأخر.

 ‏تقدم في هدوء حتي وصل أعتاب غرفتها.

 ‏وقبل أن يتقدم إلى الداخل رأى خادمتهم  تجلس غارقة في دماءها تحت أقدام والدته

 ‏سمع حديثهم وأراد الاختباء ليعرف ما بينهم.

 ‏ما دار في خاطر  أرميا  حينها أن الخادمة اغضبت والدته وتريد معاقبتها، اختبأ ليشفق على حالها فيما بعد دون علم والدته.

 ‏ماذا عن الآن أيها الخادمة؟

 ‏الآن لا أستطيع النظر إلى وجهك وأنا أعلم كم المحرمات التي فعلتيها.

 ‏انفعلت العجوز ماريان ولطمت بقدمها وجه الخادمة حتى حركتها بعض خطوات عن مكانها.

 ‏حين امرتني بتبديل الأحفاد كنت أعلم كم الشر الذي تخفيه لأرجوان ولكن لم أعلم مقصدك وأنك ستقتلين الصغير،

 أي روحٍ في جسدك تستطيع مساندتك لفعل تلك الفواحش؟

 ‏لقد رأيت الليلة التي جمعتك بابنك، لقد تجسد أمامي الشيطان في هيئتك، سمحتِ لتلك الروح الشريرة داخلك بفعل الفاحشة ومع من؟

 ‏مع ابنك أرميا.

 ‏رأيتك حين قدمت له المشروب السحري ليغيب عن عقله ويذهب بكِ الي دنيا أنتِ من أرادها.

 ‏الهذأ السبب أخذت بحفيدك قبل ذهابي للكنيسة؟

 ‏الهذأ السبب حطمتي آمالي في تحطيم تلك الفتاة وإخراجها من حياة ابني؟

 ‏اردت أن  أرد لك القلم، أُشعرك بما تشعرين من حولك به، أردت أن انصف أرجوان بعد أن تركتها غارقة في دماء ولادتها دون مساعدتي لها خشية حد سيفك.

 ‏لم أكن أنا ما يستعجب لحديثهم بل كان أرميا الذي غلب الذهول على ملامحه ولكنه كتم صوت الصدمة داخله، رغبة في معرفة ما خفى عنه.

 ‏تذكر أرميا تلك الليلة وما حدث بينه وبين والدته رغمًا عنه، شعر بالنفور وعدم الاتزان وأكمل عليه الأمر حين سمع حديث والدته.

 ‏اردت مساعدة أرجوان لهذا السبب اخذتي بالصغير وأفراد عائلتك وشرعتِ في الهروب، متناسية أن تلك البلاد تحت قبضتي وسلطتي، الآن ستدفعين حياتك ثمنًا لما فعلتي وما علمتِ.

 ‏هاا، أمرًا آخر سيلحقك حفيدي قريبًا رفقة والدته أرجوان

 الآن هل تستطيعين أن تقدمي لهم المساعدة، فلن يكون هناك من يشفق عليهم بعدك.

 ‏أما عن حفيد عائلتي سيأتي لتلك الدنيا قريبًا، سيكون من نسلي، من تلك الأحشاء سيكون خالصًا مخلصًا لنسله.

 ‏ختمت العجوز ماريان  حديثها واعلت صوتها تنادي على رجالها اللذين أتوا مسرعين.

 ‏طوع أمرك يا سيدتي.

 ‏خذوا  تلك الحثالة خارجًا ومع إشراقة الصباح اربطوها مع الحجارة والقوا بها في اليم.

 ‏ابتسمت الخادمة غير بالية بما سيفعلون بها.

 ‏ستتعفنين في تلك الحياة وحيدة فلن يكون لكِ وريث.

حتي من بأحشائك سيكون مسخًا فهو نطفة محرمة، سيكون مسخًا تخشاه جميع البلاد والقرى.

أدعو الله أن يكشف غطاء البصر عن ابنك ليعلم جميع فواحشك.

خرجت الخادمة رفقة الرجال مكبلة الأيادي يسحلوها خلفهم ذاهبة الي أجلها الذي حددته سيدتها، أغلقت العجوز باب الغرفة، سمعت أصوات لطفل وليد أسرعت إلى الخارج بحثًا عن مصدر ذلك الصوت ولكن سبقها أرميا واستطاع الاختباء رفقة وليده ليغيب عن مطلع عيونها.

ابتسمت بسخرية: لعلي جننت اهلوس بصوت الصغير في الأسفل في حين ينعم هو في الأعلى رفقة والديه.

قريباً سينتهي ذلك الكابوس وسأتخلص من أرجوان وصغيرها.

صعدت العجوز في هدوء درج قصرها حتى وصلت إلى غرفتها وقامت بغلق الباب، حينها أدرك أرميا ما حدث له وسبب معاملة والدته لزوجته تلك الفترة الماضية.

صدمة تملكته لم يستطع التعبير وكأن عقله قد شُل، ركع على ركبتيه وبين يداه صغيره، بكى من هول ما تذكر أراد لو يحرق ذاكرته ولكنه لم يستطيع، شعرت بما فيه من قهر واضطراب مشاعر، شفقت على حاله ولكني لم استطيع مواساته.

دقائق استعاد أرميا عقله، حمل صغيره بين احضانه وصعد إلى غرفته.

كانت أرجوان في انتظاره:

أين كنت؟

لم يملك أرميا إجابة لسؤالها، بدا عليه شعور الإعياء وعدم التركيز،

حتي رد على سؤالها بسؤال آخر:

ماذا؟

أين كنت؟

لقد أتت والدتك منذ دقائق وتساءلت عن مكانك وكأنك لم تكن معها.

فحين أخبرتها إنك ذهبت لتقضي سهرة الليلة معها، اندهشت واخبرتني أنها لم تراك.

ألم تخبرني أنك ذاهب إليها؟

هل أمي كانت هنا؟

نعم منذ دقائق.

شعر أرميا علمها بأنه من كان بالرواق، أراد الذهاب بزوجته وصغيره من ذلك المكان سريعًا.

أراد اختراع إحدى الحجج للذهاب بهم بعيدًا في أسرع ما يمكن.

أرجوان في الصباح سنذهب إلى رحلة صيد في القصر الشمالي، استعدي صباحًا كذلك الصغير سيكون رفقتنا.

ما بك يا أرميا، هل سأذهب في رحلة صيد وأنا ما زلت متعبة من إجهاد الميلاد، فلن ستسمح والدتك بخروج الوليد من ذلك القصر بهذه السرعة؟

لا عليكِ من والدتي الأمر لي؛ فأنتِ زوجتي وهو صغيري، سنغادر ذلك القصر صباحًا ولا حديث آخر سوى ما قُلت.

لم تستطع أرجوان الرد سوى بنعم.

نعمت أرجوان بالنوم الهادئ رفقة صغيرها.

ولكن لم تغفو عيون أرميا، قد قام بإغلاق باب غرفتهم جيدًا كما وضع سيفه على مقربة وظل متأهب لمن يطرق غرفتهم.

مر الليل وساعات النهار الأولى ودق جرس الكنيسة واهتزت أرجاء القصر وفزع أرميا من نومه على دقات باب غرفته تعلوها دقات جرس الكنيسة ونداءات والدته المتكررة.

أسرع إلى فتح الباب ليجد والدته تقابله بابتسامة عريضة:

لماذا تلتزم فراشك إلى ذلك الوقت، لقد شعرتُ بالقلق على حالك وصحتك.

أنا بخير يا أمي.

أجدك بخير، تحمل سيفك في وجهي، هل كنت تحارب ليلاً أم تسترق السمع؟

ماذا؟

لا عليك، فالإفطار في انتظارك، أرغب في تناول قهوتي الصباحية رفقتك، عجل في تبديل ملابسك والحق بي.

أمي لن أستطيع تناول الفطور رفقتك اليوم.

وقفت العجوز ماريان صامته تنظر إلى أرميا

ولماذا لا اليوم؟

سأجهز روحي وعائلتي للذهاب في رحلة صيد إلى القصر الشمالي.

وهل لست من عائلتك، لماذا لم تخبرني؟

أمي إن الأمر خاص بي وارجوان، أريد أن أُعوضها عن تلك المدة التي عاشتها وحيدة ولم أهتم لأمرها.

وهل ستذهب اليوم؟

لا، سأذهب الآن فقط سأعطيهم الأمر بتجهيز عربة السفر ومستلزمات الطريق.

لا عليك سأدبر لك الأمر، فقط استعد أنت وعائلتك، أما عن العربة فهي رهن اشارتك.

أعيش ماضيهم متعجبة من تلك الحياة، أتساءل كيف أستطيع الخروج من ذلك الكابوس، كيف أهرب إلى احضان أدفأ ولا أذكر ما رأيت وما عشت تلك الفترة ؟

ولا أعلم أين باب الخروج من دوامة الماضي، أجبرت على الاستمرار لأجد الخلاص.

رأيت أرجوان تحتضن صغيرها والخدم من حولها يحملون الحقائب يضعوها في عربة السفر.

استقل أرميا وعائلته الصغيرة العربة بعد أن رفض فكرة أن يرافقه أحد حتى مربية الصغير.

كانت في وداعه والدته التي التف الخدم من حولها جميعهم خافضين الرأس.

تقف أمامهم تلوح بالوادع إلى أرميا حتي غاب عن انظارها.

التفتت إلى الخلف وصاحت في رجالها أحضروا العربة.

وكأنها شعرت بما يخطط له أرميا.

أوقعت وشاحها عن أكتافها، احضر رجالها ثلاث عربات جميعها مجهزة، أمرت رجالها بالصعود إلى العربات والذهاب خلف أرميا، استلقت هي أسرع العربات وفي الخارج رجالٌ يحملون الأسلحة وكأنهم ذاهبون إلى أحد الحروب

أسرعت العجوز بجيشها تطارد ابنها دون شعوره بهم، لم يأخذ الطريق إلى الشمال سبيلاً له، بل تحرك غربًا، أراد الابتعاد عن سلطان والدته حتى أتي الليل الآخر وظن أرميا أنه نجح في الإفلات من قبضة والدته.

أوقف عربته في أحد الأرجاء بالقرب من إحدى الغابات الكثيفة، أشعل النيران بجوار العربة لتخشى الضباع الاقتراب.

أرميا إلى أين نحن ذاهبون فذلك الطريق لن يصل بنا إلى قصر الشمال.

بل سيصل بنا إلى الحرية من كل قصر تملكه أمي، سنترك تلك الحياة المزيفة، سنبني حياة أخرى فقط نحن الاثنين وإلى جوارنا صغيرنا.

لماذا يا أرميا، هل اكتشفت الحقيقة؟

أي حقيقة تقصدين، هل تعلمين أمرًا تخفيه عني؟

أعلم ..

ماذا تعلمين؟

لقد عانيت من جبروت والدتك تلك المدة ولم أستطيع النطق بما حدث، لقد رأيتها تبدل صغيري مع حفيد الخادمة ولكن شفقت الخادمة على حالي وقبل هروبها أخبرتني أنها ردت لي صغيري مرة أخرى وستهرب الآن خشية جبروت والدتك

هل هذا ما تخفيه عني؟

قبل أن تنطق أرجوان كلماتها التالية.

شعر أرميا بخطوات هادئة تقترب منهم، أخرج سيفه وأمر أرجوان بالصمت واحتضان صغيرها فتح باب العربة بهدوء ثم أخرج يده ملوحًا بالسيف، لم يجد شيء، عاد إلى العربة وقبل أن يغلق بابها سمع صوت والدته أتيًا من خلف ظهره:

ذلك الطريق لن يصل بك إلى قصر الشمال.

التفت أرميا في ذهول:

أمي؟

نعم أمك، أمك  التي أردت الهروب من قصورها، أهكذا سيكون حالك حين خروجك من قصري، ستسكن الغابات وتشعل النيران خاشيًا الضباع.

إنها رحلة يا أمي وسأعود قريبًا.

ضحكت العجوز ماريان  ضحكات عالية ساخرة من حديث ابنها:

أتحسب أن تلك العجوز تجاوزت العمر وأصبحت دون عقل.

أعلم جيدًا أنك في طريقك للهروب رفقة عائلتك، كما أعلم أنك الآن تعرف كل ما خفي.

فحين سمعت صوت صغيرك بالأسفل شعرت أن أرجوان من بالخارج ولم أهتم لأمرها فقد كان محكومًا عليها بالموت من وجهة نظري؛ فقلت لا نفع فيما علمت وسمعت، ولكن حين صعدت إلى غرفتك وجدتك أنت الغائب حينها أصدرت حكمي عليك رغم قساوة ذلك الحكم على قلبي.

ولكن ..

ولكن ماذا يا أمي؟

ولكن لا مفر فأبي كان دائمًا يقول حين تتراجعين عن أمرًا لابد من المضي قدمًا فيه حينها، أعلمِ أن الضعف تملك

 من شخصك ولابد من إحياء القوة في قلبك بقتل أعز ما يملك.

   ‏وانا أعز ما تملكين يا أمي؟

   ‏التفتت العجوز إلى رجالها أمرتهم بصوت غير مهزوز أو متردد: اقتلوه وزوجته.

   ‏اشنقوهم في تلك الأشجار وارموا بجثتهم في أقرب بئر.

   ‏أما عن الصغير فاحضروه لي.

   ‏لم يستطيع أرميا النجاة رغم محاولاته الهجومية  على رجال والدته، حاول الدفاع عن اسرته ولكنه فشل حين فقد سيفه في معركته مع رجال والدته، وقع أرضًا بعد ضربة سددت إليه من الخلف لتخترق خلايا صدره وتتدفق الدماء من اوردته تغير ألوان ملابسه إلى اللون الدموي.

   ‏يلتقط أنفاسه الأخيرة بصعوبة، لم تتمالك أرجوان حزنها حين رأته يصارع الموت، استطاعت الإفلات من بين ايدهم والإسراع إلى أرميا حاملة صغيرها بين أيديها.

   ‏وعلى الجانب الآخر تلك العجوز تصيح في رجالها لا تتركوها تصل إليه.

   ‏ليستمع أمرها أحد الرجال ويقوم بتصويب سيفه تجاه خطواتها ليخترق السيف أحشائها ولكنها أصرت على الصمود لتصل إلى أرميا زاحفةً.

   ‏ارميا .. أرميا

هل اخترق السيف صدرك ليخونك عهدك بحمايتي، استيقظ يا أرميا لقد طعنوا زوجتك حتى سالت دماءها واغرقت أوراق الأشجار التي طال عطشها.

شد أرميا على راحة يدها، أمرها بالاقتراب: سنكون معًا دون منازع؛ فهناك رحمة لا تنتهي.

 فارق أرميا الحياة وكانت تلك آخر كلماته.

أخذ الرجال الصغير من أحضان أرجوان دون شفقة، وقفت العجوز أمام جثة ابنها لم تلقى نظرة عليه، بل نظرت نظرة انتصار إلى عيون أرجوان الميتة: سيلحق بكم ذلك الصغير ولكني لن أريح أرواحكم بوجودكم معنا.

   ‏الآن اذهبي إلى الجحيم؛ فمقعدك به محجوز.

   ‏لم تستطيع أرجوان تحريك ساكنٍ، فقد كانت في سكرات الموت حتى فاضت روحها إلى ربٍ رحيم، تاركة وليدها بين يديّ قاهرة لا ترحم.

   ‏فعل الرجال ما أمرتهم به وألقوا بجثمان ارميا وزوجته في أقرب بئر.

   ‏أخذوا الصغير ورحلوا رفقة سيدتهم التي عادت إلى القصر تأمر خدامها بصنع الحلا وتوزيعه وتزيين القصر دون سبب موضح للجميع.

   ‏ولكنها تعلم جيدًا ما السبب وهو إحياء القسوة داخلها من جديد، فلم تعد تشعر بتلك الحياة أو مشاعرها الزائفة على حد قولها.

   ‏الآن شعرت بأنفاسي ترتد إلى اضلاعي، شعرت بلمسات أحدهم على رأسي وبعض الهواء يتخلل خصلات شعري

   ‏استيقظت من ذلك الكابوس الطويل أُنادي:

 أمي ، أمي.

   ‏كانت تلك المرة الأولى التي استنجد فيها  بأمي. 

   ‏وجدت ياسمين جواري حاملة كأس ماء تقطر منه على وجهي.

   ‏أين أنا؟

   ‏في منزلي.

   ‏ألم أكن في الكنيسة حين غفوت إلى عالمهم.

   ‏نعم، ولكنك الآن في منزلي.

   ‏لقد استشعرت قرب أمي.

   ‏لم تكن بعيدة يومًا يا راحيل.

   ‏نظرتُ إلي ياسمين متعجبة: هل تعرفين أمي؟

   ‏صمتت ياسمين قليلاً، تجولت في المكان ووضعت الكوب من يدها ثم جلست أمامي مرة أخرى

   ‏تلك المرة سأساعدك يا راحيل ولكن..

   ‏ولكن ماذا؟

   ‏ستكملين تلك الحياة حتي نصل إلى الصغير ونستطيع جمع أرجوان بصغيرها وتحرير روحها من تلك الحياة لتستكين في هدوء.

   ‏ولماذا أنا من فرضت عليها تلك الحياة، لماذا أعيش ماضيهم، لماذا ؟

   ‏تملكين ما لا يملكه غيرك، ذلك الكتاب الذي قدر لكِ يحمل بين صفحاته الكثير من الخبايا والأسرار، تلك الأسرار يريدها اشماداي ليحرر أعوانه من الجن والشياطين.

   ‏ماذا هل تستغلين امتلاكي لذلك الكتاب؟

   ‏هل تريدين أن أفعل ما فعلته سابقًا؟

   ‏أنتِ مجبرة على فعل ذلك يا راحيل، فلن أستطيع مساعدتك سوى  بتلك التعويذة، من ستحرر ناصور ليعود طوعًا ل اشماداي، ‏حينها سأساعدك.

 ‏ساد الصمت بيننا قليلاً أفكر في حديث ياسمين حتى اقتنعت أنه لا مفر مما قدر لي.

   ‏أوافق على طلبك ولكن ...

   ‏ولكن ماذا؟

   ‏ستخبرينني جميع ما خفى.

   ‏سأخبرك أمرًا يرتاح له فؤادك، الآن عودي إلى غرفتك حيث كتابك، اجلسي في هدوء مفترشة الأرض عارية الجسد

   ‏اطفئ الأنوار واشعلي الشموع وابحثي في خبايا ناصور، ‏حينها ستصلين إلى باقي الحقيقة وينتهي عذاب أرجوان.

   ‏عجلة حياتي سريعة بعض الشيء ولا أملك الوقت لأفكر في أحداثها، لملمت اشيائي وأسرعت في الذهاب  إلى الفندق وفي الطريق شعرت بخطوات أحدهم خلفي تتابعني حتى أبواب الفندق، إنه نفس الشخص الذي كان يتبعني منذ الصباح

   ‏لم أعد أبالي فلن يكون أسوأ مما أراه.

   ‏ابتسمت في وجه الموجودين، لفت انتباهي وجود الوفد كاملاً في الفندق وكأنهم يتأهبون للذهاب، اقتربت من مسؤول تلك الرحلة:

وكأنكم ستغادرون الفندق؟

   ‏نعم ولكن لنا عودة.

   ‏ابتسمت في استخفاف:

   ‏حقًا؟

   ‏سيذهب الجميع في رحلة اكتشاف في أعلي الجبال، سنكون هناك لثلاثة أيام.

   ‏كم أود مرافقتكم تلك الرحلة، ولكنيّ أخشى الجبال، فهنيئًا لكم تلك الرحلة.

   ‏صعدت متغاضية عن تلك الغوغاء الصادرة عنهم نتيجة حماستهم الزائدة لتسلق الجبال.

   ‏فتحت غرفتي ألقيت بجسدي أعلي فراشي.

   ‏نظرت قليلاً إلى سقف غرفتي حتى شعرت ببعض الراحة، انتفضت من الفراش، تجردت من ملابسي وبللت جسدي، تعطرت بعطري المميز، تركت شعري منسدلاً على اكتافي، اطفأت أنوار غرفتي وأشعلت شمعة واحدة وكأني مدربة على تلك الطقوس، أفعل ما أستطيع استيعابه ولكن ها أنا مجبرة على مجارية الأمور من حولي لأصل إلى ما يخفيه ستار الماضي عني.

   ‏أكملت الطقوس بأخذ الكتاب وفتحه والبحث بين خباياه لأصل إلى خبر ناصور المارد، بدأت في قراءة بعض السطور ولكن ارتعش قلبي وشعرت بالخوف، هنا توقفت قليلاً، استشعرت أنفاسًا دافئة حولي، أحكمت إغلاق قبضة يدي وأغلقت عيوني، شعرت ببعض الطاقة تسرى في جسدي وهناك من أمرني بالمتابعة.

   ‏أقسمت عليك يا ناصور بالحضور وتنفيذ الأمور  أيروش هيرلش هيورش هيروة ميشة طيطوش طيطواش عمارش قيروش مرنواش، أجب ياناصور واحضر لي في مكاني هذا بالسمع والطاعة لهذه الاسماء، أيروش بريش جريوش دغرش هيرش وروش زليش مطمارش بحق هذه الأسماء أنت واعوانك وخدامك من العفاريت وأولاد الشياطين بحق شيوش برش برهيوم هوسيه أجيبوا مسرعين لطاعة ما سمعتموه، بحق أطش برطيوه طوه، وإن تخلفتم يغضب عليكم رب العالمين وتكونوا لأدم من الساجدين روأش قمارش أزرواش هياريش هواطيش، مطيعين لهذه الاسماء هشهيش مشهيش زجرتكم وقهرتكم بطرهاروش هواظيس، اسمعوا قسمي وشموا بخورى وأحضروا مجلسي بحق ما به، عليكم عزمت وبالسماء أقسمت وهمهمت الوحا الوحا، العجل العجل، الساعة الساعة،  أحضر وأخبرني بأي بقاع الأرض دُفن وليد أرجوان وصغير أرميا.

   ‏قرأت تلك الطلاسم سبع وعشرون مرة حتى شعرت بالاختناق وفقدت السيطرة على أفعالي  وفاضت روحي إلى عالمهم مرة أخري.

( رؤيتي الحادية عشر )

 لا عجب أن أعود إلى قصر العجوز ماريان  مرة أخرى ولكن تلك المرة باحثة عن صغير أرجوان، لم أرغب في العودة إلى ذلك الكابوس ولكن شاءت الأقدار. 

   ‏لأرى ما لا يستطيع عقل استيعابه، لقد رأيت العجوز تقف أمام منضدة غرفتها واضعة الصغير أمامها عاريًا يرتجف لشدة البرودة، يصرخ دون منقذ.

   ‏ومن تقف أمامه لا تملك من الرحمة مثقال ذرة.

بيدها إبرة حياكة طويلة سميكة بعض الشيء تقوم بغرزها في أجزاء متفرقة بجسد الطفل؛ فتنهمر الدماء من تلك النغزات تدرك جيدًا أين تقوم بنغزتها، لقد اختارت الصدر وأحسنت الاقتراب من القلب، كذلك تفرقت نغزاتها بجميع جسده ظل يتعذب دون معرفة معذبه، ظللت أصرخ ولا نفع لتلك الصرخات سوى ما تركته داخلي من ألم، لم ينزف الصغير الكثير من الدماء وكأنها مشيئة الله الذي شفق على حاله وأخذ بروحه الطاهرة سريعًا ليترك لها جسدًا دون روح تصطنع فيه ما تشاء؛ فحين شعرت بسكونه وأدركت مفارقة روحه للجسد، ‏قامت بإحضار ثوب أبيض طويل وضعت الصغير داخله وقامت بلفه عدة مرات حتى اختفت ملامحه، أمرت رجالها بوضعه في العربة وقامت بتبديل ملابسه للأسود وصنع بعض الدموع الزائفة بعيونها واستقلت العربة وأمرت سائقها بالتوجه إلى الكنيسة وها أنا جوارها أنتظر رؤية إلى أين ستذهب تلك العجوز حتى توقفت العربة  أمام  الكنيسة.

   ‏حملت العجوز حفيدها بين يديها، توجهت إلى الداخل وهى تصطنع البكاء وتتقن التمثيل، وقفت أمام الكاهن تمد يدها بالصغير وهي تبكي: لم يبقى من عائلتي سوى ذلك الصغير، لقد رحل أباه ورحلت أمه؛ فلم يتذوق حليب ثديها.

   ‏لقد تركوه وحيدًا ليتركني هو الآخر.

   ‏نظر الكاهن في اندهاش وشفقة على ما بها.

   ‏كثرت تساؤلاته: ما الذي حدث لعائلتك؟ 

ذهبوا في رحلة صيد، رحلة لتجديد الأرحام بينهم والاستمتاع بالحياة رفقة صغيرهم ولكن هاجمتهم الضباع ومزقت أجسادهم  إلى أشلاء ،عاد رجالي بحفيدي فهو من استطاعوا إنقاذه ولكنه فارقني منذ ساعات قليلة متأثرًا بما أصابه من جروح وقهرًا على فراق والديه.

   ‏اليوم أتوسل للكنيسة أن تقبله بين رعاياها، أن يكون مهده الأخير بين جدرانها فلا يفزع بين  أصوات التراتيل ولا يشعر بالبرودة بين نفحات شموعها المضيئة.

   ‏قبله الكاهن، أخذ بالصغير دون النظر إليه فهو يعلم جيدًا مع من يتعامل، فهي من خدام الرب وأعليين القوم.

   ‏أخذ به إلى أسفل الكنيسة حيث السرداب؛ فهناك يقومون بدفن بعض الكهنة الكبار ورجال الدين.

   ‏شفق الكاهن على ذلك الجسد الصغير، قام بوضعه في إحدى التوابيت ودفن الصغير هناك بين رجال الدين وتحت أساسات الكنيسة.

   ‏ابتسمت العجوز حين انتهت من ذلك الكابوس، خرجت من الكنيسة كالطاووس يتباهى بريشه الفتان

   ‏ووصلت إلى عربتها وأمرت سائقها بالعودة إلى القصر.

   ‏هنا استفقت من ذلك الكابوس وأظن لن أعود لتلك الحياة ثانية لم أستطيع صبرًا لإكمال ارتداء ملابسي، لأذهب إلى ياسمين، أخذت بملابسي وصرت كالمجنونة تتجول شبه عارية، إنه النهار والجميع عيونهم موجهة نحوي، أسرعت في ارتداء ملابسي قبل الخروج من الفندق.

   ‏أسرعت إلى الكنيسة بحثًا عن ياسمين لأزف لها ما علمت من خبايا الماضي.

   ‏وجدتها هناك في الانتظار تترقب وصولي، ابتسمت قليلًا حين رأتني وقابلتني بحماس:

   ‏هل كشف لك ناصور عن خبايا الماضي؟

   ‏نعم لقد كشف عن ما حدث، لقد رأيت ما لا يستطيع عقل استيعابه وعلمت بمدفن الصغير

   ‏وأين، أين مدفنه؟

   ‏هنا، حيث تقفين، كان دائمًا هنا تحت أقدامك ما تبحثين عنه لم يكن ببعيد.

   ‏ماذا؟

   ‏لقد قتلت العجوز الصغير بوحشية ثم أتت به والدموع تسبقها ترجو أن يكون من رعايا الكنيسة بعد أن فارقته الروح استسلم الكاهن لطلبها وأخذ بالصغير ليدفن بين رجال الدين أسفل الكنيسة.

   ‏صمتت ياسمين قليلاً ثم هزت برأسها: اليوم ستنجو جدتي من عذاب فعلتها ستسكن روح أرجوان بسكون صغيرها إلى جوارها.

   ‏أي جدة تقصدين يا ياسمين؟

   ‏إنها الخادمة التي تشاركت الاسم مع عجوز القصر ماريان، لقد قُتلت ولكن لم تستكين روحها بقت معلقة في تلك الحياة نظرًا لذلك الذنب الذي حملته.

   ‏ذنب أرجوان؛ ‏فحين يدفن الصغير جوار أمه ستنتهي تلك اللعنة وتعود أرواحهم إلى البرزخ، إلى حيث ينتمون.

   ‏وماذا عن عجوز القصر، هل تمتعت بالحياة بعد ما فعلت؟

   ‏هل تجاوز الرب عن معصيتها وعاشت منعمة؟

   ‏هل يجوز أن يتجاوز الله عن فواحشها.

   ‏لقد عادت إلى القصر بعد أن هجرها الخدم وجميع من حولها، صارت وحيدة تقتلها الوحدة وأيضًا الكبرياء.

 ‏تخلى عنها الجميع رغم ما تملك من أموال وجواهر، صارت جليسة إحدى الكراسي المتحركة أشبه بالشيء العفن

لا يجرؤ أحدهم على الاقتراب منها.

‏وماذا بعد؟

   ‏انتهت فقبل أن تموت جوعًا على كرسيها هجم قصرها الكثير من الضباع الضالة، فحين هجر القصر سكانه أصبح ملجأ للضباع، يبحثون فيه على ما خلفه الإنسان بعد رحيله ليجدوا سيدة القصر و ابنة أعلى القوم جليسة أحد الكراسي المتحركة ولا تقدر على تحريك ساكنٍ؛ فقامت بافتراسها الضباع.

   ‏ابتسمت في سخرية فرحة لما علمت بما مرت بها لعل الضباع أتت لتأخذ بثأرها حين اتهمتها ظلمًا بافتراس أرميا وزوجته.  

   ‏وماذا عن ما أعيش، ألن ينتهي يا ياسمين؟

   ‏ستنعمين بالراحة قريبًا ولكن الآن اعلمي أن والدتك لم تهجرك لأجل رجل بل هجرت الدنيا لتمنحك حياة جديدة تنعمين بها.

   ‏ماذا، ‏ماذا تقصدين؟

   ‏تعرضت والدتك لأشد أنواع السحر لأجل اغراضٍ طمع بها أجدادك كانت هي قربانهم ولكنها نجت لتلدك بسلام وحين أرادت الاحتفاظ بحياتك كان السبيل هو دفع حياتها، الآن.....

   ‏

   ‏ماذا الآن ؟

   ‏عليكِ النجاة اهربي إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها.

   ‏وماذا عن أبي؟

   ‏لقد ذهب إلى أرضٍ طمع في امتلاكها.

   ‏هناك حقائق أخرى ستكشف يا راحيل الآن، عليكي الرحيل وسيفتح لكِ القدر أبوابًا لعالم آخر.

   ‏انتهت قصة أرجوان عند ذلك الحد، لقد سكنت روحها عندما نقل صغيرها إلى جوارها، صاروا جميعًا من خبايا الماضي.

   ‏ماضي لا يعرفه الكثير ولكني استطعت نبشه.

   ‏عدت إلى الفندق وفي طريقي وصلتني رسالة عبر هاتفي.

   ‏وجدتها رسالة خاصة من سفارتي يطلبون مني الحضور في أقرب وقت.

   ‏حينها لم أستطع الإكمال والذهاب إلى الفندق، بدلت وجهتي إلى السفارة لأصل هناك في وقت قصير.

   ‏تغاضي الجميع عن مظهري غير المرتب، جلست أنتظر المسؤول  في مكتبه حتى تفضل بالدخول

   ‏وقفت في مكاني كنوع من الاحترام لذته ولكنه ابتسم وأمرني بالجلوس.

  ( ‏راحيل آدم غيرشوم )

أتت إلى بيروت في جولة سياحية ولكن الهدف من تلك الجولة هو البحث عن أبيها

   ‏هززت رأسي بنعم.

   ‏ولكن لماذا؟

 دائمًا كانت وجهتك الكنيسة فلم تذهبي إلى مكان آخر سوى الفندق، الكنيسة والسفارة

   ‏هل ترغبين في تغيير دينك؟

   ‏صمتت بعض الثواني، ‏ثم....

   ‏وهل هذا يجعلكم تراقبوني؟

   ‏هل تغيير ديني أمر سياسي أظنه ليس بالشيء المهم، فلن أكون مصدر إلهام لغيري؛ فحياتي ليست كحياة غيري

   ‏الآن، قدمتي شكوى بالبحث عن والدك المفقود.

   ‏نعم.

   ‏بالبحث والتتبع علمنا بوجود والدك في مصر، لقد سافر إلى مصر في رحلة سياحة علاجية، أظنه الآن يتمتع بحياته ولا يريد إشراك أحدهم بالأمر.

    ‏ذلك  الأمر يعود لي، هناك أمور ناقصة بين الأب والابنة ولابد من إكمال تلك النواقص.

استأذنت بالرحيل وذهبت سريعًا متجهة إلى الفندق، ‏عادت غرفتي مرتبة كسابق عهدها، انفعلت حين لم أرى الكتاب ولكن ها هو أعلى المنضدة، لابد أن خدمة الغرف اكملوا مهمتهم بتنظيف غرفتي، ‏ارتحت أرضًا و أمسكت بحقيبتي وأخرجت منها جميع الأموال، ‏أموال كثيرة ولا أعرف كيف استمتع بها وكأنها لعنة تركها أبي؛ ‏فكثيرًا من الفتيات يتمنون نصف ما أملك، ‏فها أنا أملك المال وأتنقل من بلد لأخرى، كذلك أملك حريتي، تلك الحرية التي يطمع بها الكثيرون ولكن لا أستطيع     ‏الاستمتاع بتلك الحياة، جلست اتحدث إلى روحي:

     ‏مصر، هل سأسافر الي هناك لأبحث عن أبي، ‏متي ستنتهي تلك الرحلة؟  

 ‏كم أشتاق لأدفأ، أشتاق أن أجلس إلى جوارها استنشق عطرها وتروى لي تفاصيل حكايات لم تحدث سوى بخيالها     ‏حين تملكني الحنين، اخرجت هاتفي وقمت بطلب أدفأ. 

  ‏رنات

رنات

انتظرت ‏حتى فُتح الخط وسمعت صوتها تجيب ‏وتتساءل من المتصل، حينها لم اتمالك دموعي التي أخبرتها من أكون.     ‏ردت بصوت حنون:  

  ‏راحيل يا صغيرتي أين كنتِ تلك المدة؟

 أيهون عليكِ أمري وتتركيني وحيدة؟ 

  ‏لا لم يهون يا أدفأ.

   ‏لماذا تبكين؟  

 ‏اشتقت إليكِ.

    ‏كذلك حالي أشتاق أن احتضنك يا صغيرتي ولكن لا بأس فللشوق نهاية وسنلتقي قريبًا

    ‏سأسافر إلي مصر يا أدفأ  

  ‏ماذا؟

 مصر؟  

  ‏نعم .. مصر ..معشوقتك.

     ‏يا ويلي من ذلك الحنين لمصر وترابها. 

  ‏علمت بوجود أبي هناك كذلك علمت أن ما أبحث عنه بمصر.

    ‏وهل ستلحقين بوالدك، أم عما تبحثين؟ 

  ‏كلا الأمرين مرتبطين ببعضهم سأعود قريبًا يا أدفأ، ‏لقد شرفت رحلتي على الانتهاء والوصول لأخر محطة   

 ‏أظنها ستكون محطتك الأخيرة يا راحيل فلا تيأسي.

    ‏لن أعود إلا بعد انكشاف الحقيقة كاملة يا أدفأ، الآن وداعًا.

   ‏ودعت أدفأ وأسرعت في تجهيز حقائبي كذلك أخبرت مسؤولي الفندق بحجز مكان لي بأحد رحلات السياحية إلى مصر     ‏وكان الرد سريعًا غير ظني، كانت تلك البشارة الأولى لي، فحين عزمت على الذهاب إلى مصر وجدت جميع أموري سهلة ميسرة فلا وجود لتعقيدات، مر يومين وها هو يومي الثالث لم أخرج من باب غرفتي بالفندق حتي أتاني اتصال من إدارة الفندق يخبروني أن جواز سفري أصبح جاهزًا للسفر إلى مصر وأي يوم أريد حجز الطيران، لم أفكر كثيرًا ولم اتردد في قراري أخبرتهم أن يتم الحجز سريعًا حتى وإن كان اليوم، ‏عدت لانتظار ردهم، مرت ساعات قليلة حتى انتصف النهار وسمعت دقات الكنيسة وكأنها تقترب من قلبي، دق هاتف غرفتي مرة أخرى ليخبرني المسؤول عن ميعاد  رحلتي في الثالثة فجر اليوم، ‏نظرت إلى حقائبي وقمت بتأكيد الحجز وأسرعت في تبديل ملابسي وجمع أشيائي     ‏ووضعت الكتاب رفقة الأموال وحملت حقيبتي وغادرت الغرفة، ‏اردت توديع ياسمين والقاء نظرة أخيرة على الكنيسة     ‏توجهت إلى غرفة الاستقبال بالفندق أنهيت أموري العالقة وقمت بدفع الكثير من الأموال، ‏تركت حقيبة ملابسي لحين ميعاد ذهابي، أردت الذهاب سريعًا إلى الكنيسة أسرعت في الطريق وكأن خطواتي تسبقني ‏حتى وصلت أعتاب الكنيسة هناك زحام شديد وبعض رجال الشرطة لا افقه ما يقولون بالعربية ولكن علمت أن هناك جنازة بالكنيسة والجميع في حالة حزن، ‏انتظرت قليلا لم تظهر ياسمين تجولت بالمكان بعض الشيء كذلك لا أثر لها قررت الدخول في هدوء لعلي أصل إلى ياسمين، ‏كانت صدمتي قوية حين رأيت الجميع  في حالة حزن جالسين في أماكنهم يبكون قهرًا فلا صوت لهم سوى الأنين على رأسهم يقف بابا الكنيسة يلقى عليهم بعض الكلمات يتخللها الحكمة والموعظة كذلك أخبرتني ياسمين أن جميع أحاديثهم بحكمة وموعظة ليفقهها القوم، ‏جلست على مقربة أستمع إليهم أنتظر ظهور ياسمين حتي انكشفت الرؤية أمامي رأيت تابوت معلقًا أعلاه صورة ياسمين.

حقًا هي ؟  

  ‏إنها ياسمين، هنا صُعقت وتثلج قلبي وانقبضت أنفاسي، ‏صرت أصرخ: ياسمين ..ياسمين.

التفت الجميع نحوي ولكن لم  أكن في حالة تجعلني أتمالك أعصابي، تركت مشاعري تبوح بما تحوى من ألم صرت. كمجنونة تُركت لتواجه الحياة ولا تملك سوى الصراخ لتعلن عن غربتها.

ترك البابا المنصة  وأتى نحوي جلس في هدوء ملس على اكتافي بحنان:

لا تحزني فتلك ليست النهاية.

لم يشاركني أحدهم الحياة كما شاركتني ياسمين، لقد كنت تائهة حتي وجدتني

أعلم.

تعلم؟

نعم.

 لقد أخبرتني ياسمين كم شعرتي بالغربة وترغبين في حياة هادئة.

لقد رحلت قبل أن اتشارك معها تلك الحياة .

ماذا حدث، كيف ماتت ياسمين؟

لم تمت ولكنها قُتلت.

ماذا، قُتلت؟

نعم.

وجدها بعض الأخوة في أطراف الغابة مذبوحة الرأس دون شفقة ولا يدرى أحد لماذا ذهبت إلى الغابة

هدأت قليلاً، تذكرت لماذا ذهبت ياسمين إلى الغابة.

لقد  أخذت بصغير أرجوان لتعود به إلى أحضان أمه هناك حيث دُفنت بالغابة ولكن من فعل ذلك بها

من قام بذبحها دون شفقة؟

شعرت أن ذلك أثر تلك التعويذة التي القيتها ذلك اليوم.

أخرج البابا إحدى الأوراق من عباءته قدمها لي.

تلك الورقة تركتها ياسمين قبل رحيلها بعدة أيام طلبت أن تكون أمانة في عهدتي حتى التقي بكِ، لو أن  حدث لها  سوء

وها قد حدث.

تلك الأمانة اليوم لكي.

أخذت بالورقة لم استطع فتحها بل وضعتها بحقيبتي وبقيت بين الجموع لتوديع ياسمين لم يطل الأمر حتي ودعتنا ياسمين وذهبت إلى عالم أخر، بقيت قليلاً أمام قبرها لم أكن أعلم كلمات تُحسن وداعها بل ظللت ابكي ووضعت الورود على قبرها وغادرت المكان متجهة إلى الفندق، أنهيت جميع الحسابات بالفندق أخذت بحقائبي واتجهت إلى المطار، ودعت بيروت وجبالها بنظرات حزينة، وددت لو أبقى أكثر من ذلك، وددت لو تعود ياسمين وابقى رفقتها بعض الوقت ولكن لا عائد من البرزخ.

وصلت إلى المطار أنهيت جميع الأمور جلست أنتظر النداء على رحلتي

حتي سمعت رقم الرحلة.

أخذت نفسًا عميقًا، لم التفت خلفي توجهت إلى البوابة ومنها إلى الطائرة.

روائح عطرية كثيرة جميعها قوية تأخذ العقل.

جلست في مقعدي أخرجت تلك الورقة التي تركتها ياسمين.

كلمات وحروف كثيرة فحين وقعت عيني على اسمِ المدون أعلى الورقة انهمرت الدموع من عيوني

راحيل صديقة أيامٍ قليلة، أود لو سمح لي الوقت بمقابلتك سابقًا لنتشاطر سويًا أحاديث لن نمل منها

ولكن هذا ما فرض علينا.

كنت على يقين بقدومك فكل شيء مدبر منذ سنين، كُتب عليّ الانتظار حتى ألقاك، أعلم جيدًا حين نلتقي ستكون تلك الأيام  هي العد التنازلي لحياتي.

اهربي يا راحيل من تلك الأراضي إلي أرض الصالحين، سيكون لك منقذ فهذا ما قدر عليكِ.

حين تقرأين تلك الكلمات سأكون أنا في عالم آخر لا أنصحك بالبكاء مؤكدًا سنلتقي.

انتهت كلمات ياسمين واقلعت الطائرة متوجهة إلى مصر، أظنها ستكون أرض الصالحين التي ستحتويني ذلك ما شعرت.

غفوت قليلاً بعض الساعات حتى استفقت على إرشادات الهبوط، أحكمت حزامي وأغمضت عيوني حتى هبطت الطائرة واستقرت أرضًا.

أخذت بحقيبتي واستعددت لمقابلة رياح مصر.

كان يوم عاصف ولكنه دافئ مقارنه ببيروت وبلدي، وجوه مائلة للسمرة كانت في انتظاري جميعهم مبتسمون.

بقيت بعض الساعات القليلة حتي دقت الساعة الثامنة صباحًا، أخذت حقائبي بعد أن  أخذت جميع الأختام على جواز سفري.

توجهت إلى بوابة الخروج هناك عالم آخر، هواء لم استنشقه يومًا، لم أستطع تفسير ما أشعر به و اكتفيت بالابتسام في وجوه الحضور حولي كالمجنونة.

بقيت في ساحة  الانتظار لا أعلم إلى أين سأذهب، انشغلت بالنظر إلى من حولي ونسيت أمري حتى توقفت أمامي إحدى السيارات، أخرج الرجل رأسه من نافذة سيارته وتحدث بالإنجليزية:

هل ترغبين في التوصيل إلى مكان؟

لم أفكر كثيرًا عندما اجبته: نعم

والغريب لا أعلم إلى أين سأذهب استقليت السيارة وامرته بالإسراع

وجاء رده:

 إلي أين؟

لا أعرف، هل تستطيع إيصالي إلى أحد الأماكن للإقامة فترة قليلة

هل ترغبين في فندق؟

و هل يحيط بالفندق بعض الأماكن الدينية؟

لماذا تريدين القرب من الأماكن الدينية في فترة سياحتك؟

أشعر بالراحة والاطمئنان بقربي من تلك الأماكن، كما أريد دراسة بعض الأماكن الدينية.

ابتسم السائق وهز برأسه وانطلق بسيارته بين زحام الطريق

هواء منعش يداعب خصلات شعري.

أشعر أن العالم هنا حقيقي ليس بينهم تزييف.

تجولت السيارة بعض الدقائق حتى مرت ساعة كاملة.

لم تغريني الفنادق الفاخرة التي توقفت أمامها بحثت داخلها عن الراحة والطمأنينة فلم أجدها.

انتقلت لأكثر من مكان بحثًا عن الاستقرار المؤقت ولكن في كل مرة كنت أعود للسيارة وأنا اهز رأسي بالرفض.

بعد معاناة السائق معي ورحلتي للبحث عن فندق تحدث:

ألم تعجبك تلك الأماكن الفاخرة؟

لا لم تعجبني.

لماذا؟

لم أشعر فيها بالطمأنينة.

أريد رؤية واضحة لمصر، شوارع، حي به الكثير من  السُكان، لا أريد غرفة فندق مغلقة اتشبع من النظر إلى روعة جدرانها، أريد تلك الحياة في الشوارع.

هنا أوقف السائق شاحنته وتحدث سريعًا:

عرفت ما تريدين.

سأنقلك إلى قلب مصر، هناك حيث حارة اليهود تسكن إحدى السيدات.

تلك السيدة جعلت من منزلها مسكنًا للسياح بأسعار مخفضة تريد أن تبرز حب المصريين لجميع البلاد.

حقًا ستقبلني تلك السيدة بمنزلها؟

ولما لا؟

أردت اخباره بهويتي ولكني ترددت كثيرًا.

أخشى عدم قبوله لي كوني يهودية

نظر السائق في المرآة نحوي: هل إسرائيلية؟

هززت رأسي: نعم.

انطلق دون أن يفتح فمه بالحديث معي مرة أخرى.

وصل إلى حارة اليهود وتحدث إلى روحه.

سبحان الله وكأن قلبي كان يدرك من تكونين.

المكان مكتظ بالسكان وأصحاب المحلات، شوارع تلك الحارة ضيقة تتسع فقط لسيارة واحدة

يوجد بالحارة الكثير من المحال التجارية البسيطة.

أصحابها يجلسون خارجها مبتسمين يرتشفون الشاي الأحمر.

شردت في تفاصيل تلك الحياة وملامح  المصريين.

ابتسمت وأنا انظر من النافذة كحال الأطفال.

توقفت السيارة أمام إحدى العمارات السكنية القديمة قليلاً.

نزل السائق وأسرع في جلب أغراضي  من حقيبة سيارته، دق على نافذة السيارة:

هنا يا آنسة.

نزلت بهدوء رافعة رأسي للأعلى أنظر إلى العمارة ثم يمينًا ويسارًا.

تلك العمارة هي مسكن السيدة فاطمة، هنا يقيم السياح من جميع البلاد الذين يبحثون في الآثار التاريخية.

نعم فالمكان هنا أثري.

ستجدين حولك جميع ما ترغبي به.

حمل السائق حقائبي وصعد الدرج وإلى خلفه أنا أنظر إلى روعة تصميم المكان حتي وقف أمام احدى الأبواب وضع الحقيبة أرضًا ودق الباب دقات متتالية وخلفه يظهر صوت امرأة تجيب: نعم

فُتح الباب وجدتها امرأة بأواخر الأربعين تقريبًا، ترتدي ملابس واسعة وحجاب طويل يتعدى خصرها، وجهها ممتلئ وبسمتها عريضة رحبت بنا المرأة مبتسمة، ورد السائق السلام مناديًا إياها بالحاجة فاطمة.

في الداخل الكثير من الغرف منزلها بسيط كحال منزلنا، ولكني شعرت فيه بالحياة، وضع السائق حقائبي وتحدث إلى الحاجة فاطمة بالعربية.

فهمت من حديثهم بعض الكلمات ولكن لم أستطع فهم باقي الحديث، أنهى السائق حديثه ونظرات الحاجة فاطمة موجهة نحوي، أقترب السائق منها أدنى من أذنها لعله يخبرها سرًا، هنا شعرت أنه يخبرها عن هويتي ولكن لم أُبدي أي رد فعل.

انتهي الحديث بينهم نظر السائق نحوي، وطلب مني أوراقي الشخصية لتسجيل إقامتي في فندقها الصغير.

هززت رأسي نعم وضعت يدي في حقيبتي أخرجت أوراقي وقمت بإعطائها للسائق، في ذلك الوقت سمعت صوتًا عاليًا وكأنه نداء أحدهم، تذكرت أني سمعت تلك الأصوات في بيروت ولكن لم تكن قريبة كتلك.

دفعني حب الاستطلاع إلى توجيه سؤال للسائق.

ما تلك النداءات المتكررة؟.   

أبتسم قائلاً: أذان العصر إنه نداء الصلاة.

فهمت، إنه أذان المسلمين.

 كم هو قريب أستطيع فهم بعض الكلمات بل جميعها.

توجهت إلى شرفة احدى الغرف المفتوحة، كانت أقربهم لذلك الصوت بقيت أستمع إلى أن فرغ المؤذن من نداء الصلاة

أتى السائق من خلفي حاملاً أوراقي وفي الخارج الحاجة فاطمة انظارها موجهة نحوي.

أخذت أوراقي وقمت بمحاسبة السائق وشكره على خدمتي.

أخذ أمواله وهز رأسه ردًا على شكري له وانصرف، بقيت أنا في مواجهة الحاجة فاطمة

التي وقفت أمامي مبتسمة موجهة سؤالاً لي:

 أستكون هذه غرفتك؟

 ‏أجبتها:

 ‏أشعر هنا بالطمأنينة:

 ‏ولكن...

 ‏ولكن ماذا؟

 ‏إنها الأقرب لذلك المسجد، ألن يزعجك مكبر الصوت؟

 ‏أظن لا، فلم يزعجني بل جذبني إليه.

 ‏إذًا فالغرفة لكِ.

 ‏ادخلت حقائبي إلى الغرفة، قمت بترك مبلغٍ من المال للحاجة فاطمة كتأمين على الغرفة وسريعًا دخلت إلى غرفتي، أغلقت جميع النوافذ والأبواب وجعلتها ظلام مصطنع، خلعت حذائي أولًا لأريح قدمي ثم ملابسي لأشعر ببعض الحرية مددت جسدي على الفراش واستسلمت للنوم بعد تلك الرحلة.

(رؤيتي الثانية عشر )

 ‏وجدت في أحلامي مرشدتي تقف أمام احدى الأبواب العملاقة وأنا إلى خلفها، تلك الفرصة الأولي لي معها

 ‏اقتربت منها قليلاً أمسكت ذراعها.

 ‏إلى أين ذاهبة؟

 ‏التفتت نحوي في هدوء بملامح وجه محبطة.

 ‏إلى قدري.

 ‏أي قدر؟

 ‏لم تنطق سوى  تلك الكلمات ورحلت، فُتح الباب ودخلت بخطوات هادئة ومن خلفها أنا.

 ‏وجدت الكثير في انتظارها أخذوها إلى الداخل بدلوا ملابسها إلى بيضاء ناصعة، أجلسوها أمام نيران هادئة تلتقط منهم أشياء صغيرة بين أصابع يدها تقوم بترديد بعض الكلمات بين شفاهها ثم تنفخ في يدها وتضع ما بها في النار حينها تشتعل تلك النيران وتظهر ألسنتها.

من بين الجموع ظهر أمامي ذلك الرجل الذي رأيته سابقًا يعطي الكتاب إلى مرشدتي ناحوم، لقد عاد وأراه الآن يقف أمامها مبتسم يدور حولها كحيوان مفترس ينتظر فريسته.

لم يكن ذلك بالأمر الأهم بالنسبة لي.

إلا حين رأيت وتأكدت رؤيتي لأبي بين تلك الجموع يجلس بهدوء ينظر إلى تلك الفتاة بشهوانية:

نطقت متعجبة:

أبي!

لم يلتفت إلى الحضور ولكن سمعت صوتي مرشدتي ووجهت انظارها نحوي حزينة تتساقط الدموع من عيونها

انتهي كابوسي عند ذلك الحد استيقظت وأنا انادي:

أبي!

أبي!

وجدت الظلام المصطنع تحول إلي آخر حقيقي لقد رحل النهار وأتى الليل

وأتى بكوابيسي معه.

جلست في الفراش التقط أنفاسي، نظرت إلى هاتفي لأعرف أي وقت أعيش، وجدتها الثالثة صباحًا، يومٌ جديد لي في مصر.

تكرر صوت الآذان في ذلك الوقت أسرعت إلى  فتح نافذتي لأجد الكثير من سُكان الحي متجهين إلى المسجد 

وقفت أستمع إلى نداء الصلاة وأنا أتحدث إلى روحي:

ما علاقة أبي بما رأيت؟

هل لأبي وغيابه شأن لما يحدث لي؟

هناك روحًا أخرى أجابتني:

نعم ...

 سمعت تلك الإجابة قريبة من أذني.

شعرت بالخوف.

من رفقتي في تلك الغرفة؟ 

 فلا يوجد غيري، أعلم ذلك جيدًا ولكن شعرت بوجود أحدهم قربي.

تجاهلت ذلك الخوف حين أتت نسمات صباحية تداعبني، شعرت ساقي بالإرهاق من أثر وقفتي أمام النافذة، كنت أنتظر أن أستمع لنداء الصلاة مرة أخرى.

ولكن لم يحدث عدت إلى فراشي لأرتاح قليلا حتى بزغت الشمس وملأت أرجاء غرفتي.

سمعت خطوات هادئة بالخارج توقفت أمام غرفتي ودق بابي.

أسرعت خلف الباب أجيب:

 من؟

 ‏لتجيب الحاجة فاطمة:

 أنا.

 ‏فتحت الباب نظرت إليّ مبتسمة:

 صباح الخير.

 ‏رددت الصباح بابتسامة.

 ‏منذ قدومك أمس وأنتِ في غرفتك ولم تتناولين شيء، أردت الاطمئنان، هل أنتِ بخير؟

 ‏فرحت لسؤالها عن حالي فلم أشعر سابقًا باهتمام أحدهم لأمري.

 ‏نعم أنا بخير يا حاجة فاطمة ولكن لا أعرف كيف اندمج في ذلك المجتمع.

 ‏لا عليكِ فحين تخرجين من تلك الغرفة ستجدين التعامل ليس مستحيلاً.

 ‏الآن هيا إلى الفطور، نحن هنا نقدم الفطور مجانا للنزلاء، ابتسمت من جمال ما شعرت به، خرجت رفقتها من الغرفة، لاحظت اعوجاج قدمي لم أكن أرتدي حذائي حينها نظرت نحوي في شفقة، تجاهلت تلك النظرات وذهبت حيث الفطور

 ‏جلست أمامي الحاجة فاطمة صامتة.

 ‏ثم:

 ‏هيا تناولي فطورك.

 ‏مددت يدي تناولت بعض اللقيمات في صمت لتبادر الحاجة فاطمة بالحديث:

 شاهدكِ سليم في نافذة غرفتك عند الفجر، ألم تشعرين بالراحة في المكان؟

 ‏ما دار بعقلي هو سؤالها من سليم؟

 ‏لتجيب إنه ابن أخي وشريكي بذلك المكان.

 ‏وكيف استطاع رؤيتي؟

 ‏كان ذاهبًا لصلاة الفجر وشاهدكِ بالنافذة فجرًا.

 ‏لم أنعم بالراحة سابقًا كتلك الليلة.

 ‏ولكن سمعت نداء الصلاة مرة أخرى وأسرعت إلى النافذة لأسمعه بوضوح.

 ‏بقيت أنتظر ترديده مرة أخرى ولكن لم يحدث.

 ‏الا تعلمين أن الأذان مرة واحدة كل صلاة يتبعه إقامة الصلاة.

 ‏لا، لم أعلم فلم يحدثني أحدهم عن شعائركم سابقًا.

 ‏سأحدثك ولكن صبرًا، فالأيام قادمة، الآن احسنِ الفطور وبدلي ملابسك

 ‏وتجولي بعض الشيء.

 ‏نحن هنا في حارة اليهود، مسكن أجدادك بمصر سابقًا فالجميع ولد وتربى هنا

 ‏إن أجدادي من يهود السفارديم، أي اليهود العرب، ‏ولدوا وتربوا بمصر.

 ‏جميعهم تركوا أيام من أعمارهم هنا.

 ‏الآن لكِ نصيب لتعيشي ايامًا بمصر فاجعلِي  تلك الأيام ذكريات لا تنسى.

 ‏فرغت من تناول فطوري، شكرت الحاجة فاطمة واتجهت إلى غرفتي وفي طريقي للغرفة فتح الباب شاب طويل اسمر الملامح بشعر مجعد قليلاً وملابس مرتبة.

 ‏نظر نحوي، ألقي التحية وابتسم ثم ذهب إلى الحاجة فاطمة قبل يدها والقى عليها التحية.

 ‏تردد بينهم اسم سليم، هنا علمت أنه سليم ابن أخ الحاجة فاطمة.

 ‏فتحت باب غرفتي وقبل دخولي، ‏سمعت الحاجة فاطمة تنادي:

 ‏راحيل

 ‏راحيل

 ‏اجبتها: نعم.

 ‏هذا سليم سيكون لكي عونًا إن احتجتِ أمرًا.

 ‏ابتسمت شاكرة الحاجة فاطمة، عدت إلى غرفتي، أغلقت بابي جيدًا وأسرعت إلى النافذة أشاهد الجموع وحركة السكان بالحي كذلك البائعين والمشترين.

 ‏تحدثني نفسي: ‏لما يعاملوني بلطف، كنت أخشى معاملة الجميع حين معرفة هويتي.

 ‏ولكن لم اُقابل منهم سوى الكرم، تلك التساؤلات تدور داخلي وأنا أبدل ملابسي مستعدة للخروج.

 ‏ارتديت ملابس تصلح للوقت والمكان، حملت حقيبتي بها الأموال والكتاب وخرجت بعد أن أغلقت باب غرفتي جيدًا

 ‏كانت الحاجة فاطمة في انتظاري خارجًا.

 ‏هل ستخرجين الآن؟

 ‏نعم أود اكتشاف المكان، كذلك التجول قليلاً.

 ‏ودعتني مبتسمة شعرت وكأنها تنتظر خروجي لتستطيع البحث عن خبايا غرفتي، تركت لها أمر الغرفة وأسرعت في النزول.

 ‏كتبت العنوان سابقًا في إحدى الورقات وجعلتها بحقيبتي.

 في الشوارع ‏ أشخاص يتسابقون مع الزمن لكسب لقمة العيش.

 ‏الحي هنا جميعه محال تجارية كذلك أشياء تراثية وخامات يدوية الصنع، يرتفع صوت البائعين بالحي ليشعرك بالحياة

 والكثير من المنازل هنا قديمة  العهد ومازالت على حالها منذ أكثر من مائة عام.

 ‏لا أدري لماذا توقفت أمام احدى المحال أنظر إلى منتجاته، يعرض لوحات فنيه صنعت من بقايا المرايا جمعت تلك البقايا لتقع في يد فنان أجاد استغلالها وصنع أجمل اللوحات الفنية.

 ‏رحب صاحب المحل بي وعرض أكثر من لوحة ولكنها لوحة واحدة التي لفتت انتباهي.

 ‏لوحة مزينة باللون الأزرق من بقايا المرأة.

 ‏محفورًا بها بعض الكلمات حقًا لم أفهم ما حُفر بها ولكن شعرت بالسعادة حين  وقعت أنظاري عليها

 ‏أريد تلك اللوحة الزخرفية.

 ‏تلك المزينة بالأزرق؟

مد يده إليها ...

تلك؟

نعم هذه.

 ‏اخذها الرجل وضعها في إطار ورقي ليحفظها ثم في الكرتون وقدمها لي،

 ‏أخرجت أموالي وقمت بإعطائه ثمنها وحملتها بين يديّ.

 ‏وقبل ذهابي تذكرت أن أتساءل عن ما دون بها:

 ‏ماذا كُتب على تلك اللوحة؟

 ‏ألا تعرفين لفظ الجلالة؟

 ‏لا ...

 ‏سأخبرك، كُتب على اللوحة ( ‏الله منقذي ) باللغة العربية.

 ‏ابتسمت وغادرت المكان دون حديث حتى وصلت إلى الصرح الديني العظيم الذي يصدر منه نداء الصلاة ليلا ونهارًا،

 ‏وقفت أمام المسجد وبنيانه القديم بعض الشيء أنظر في ذهول إلى روعة التصاميم الخارجية وهندسة المكان التي تلفت الانتباه والانظار.

 ‏هناك الكثير من السياح جميعهم يقومون بالتصوير الفوتوغرافي والتجول بالمكان، رأيت فوج سياحي اتيًا رفقة مرشد يخبرهم الكثير عن المكان والمسجد.

 ‏تسللت بينهم لأستمع إلى معلومات المكان.

 ‏اشار إلى المسجد متحدثًا هذا  ( مسجد القاضي بركات بحارة اليهود داخله ضريح عبدالله بن المنسي )

 ‏وظل يشرح الكثير والكثير عن تاريخ ذلك المسجد ومتى تم تجديده وتكلم معهم في أمر الضريح داخله ولمن يُنسب

وقفت أمام أبواب المسجد متعجبة.

وها أنا مرة أخرى أقف أمام باب أخر من التاريخ ولكن هذه المرة من التاريخ الاسلامي.

أخذ المكان بعقلي وأدهشني روعة التصاميم، بقيت انظر إلى جمال المكان وارتفع الأذان والإقامة وأنا هناك، قريبة للحد الذي جعل قلبي يرتعش، لا أعرف لما شعرت بالخوف والطمأنينة في وقت واحد، كذلك الشعور الذي راودني سابقًا أمام أعتاب الكنيسة.

بقيت في مكاني لا أُحرك ساكنًا.

ظن الجميع أن بي شيء حتى أن أحدهم أقترب مني متسائلاً:

هل أنتِ بخير؟

لأجيبه: نعم أنا بخير.

ازدحم المسجد بالمصلين، لم أملك الجرأة الكافية لأتقدم بينهم  بعض الخطوات وأُشاهد صلاتهم، انتهى المصلين وانتشروا ثانيًا بالحي من بين هؤلاء كان سليم الذي وقف أمامي مباشرة:

لما تقفين هكذا؟

هااا، لا أعلم ولكن جذبني نداء الصلاة كذلك عمارة المسجد.

تعلمين ذلك المسجد بُنى منذ قرون طويلة ظل شامخًا مدة لا بأس بها إلى أن اُعيد ترميمه في الوقت الراهن مع مراعاة الحفاظ على تراثه.

وكيف علمت ذلك؟

أنا باحث في الآثار الإسلامية، وذلك المسجد أحد الآثار التاريخية لهذا أعلم.

هنيئًا لك علمًا لا يفقهه الكثيرون.

استئذن سليم بالرحيل واكملت أنا جولتي بالحي حتى شعرت ببعض الإعياء، شيء ما ذكرني برؤيتي الأولى الذي رأيت فيه شوارع ضيقة وبيوتًا قديمة متقربة إلى بعضها البعض وكأني كنت هنا سابقًا، شعرت برياح ساخنة تلمس جسدي، تحركت ببطء في المكان حتى جذبتني احدى البيوت القديمة، منزلاً يحمل طابعًا قديم، وقفت دقائق مدققة النظر.

أتساءل أين رأيت ذلك المنزل سابقًا؟

لأرد سريعًا على روحي، إنه ذلك المنزل الذي رأيت به مرشدتي للمرة الأولى، هناك شعرت بتدفق الأحداث بعقلي.

رأيت كوابيسي جميعها وكأنها شريط ينعاد تكرره أمام أنظاري، تحدثني روحي دون توقف وكأن حواسي  خرجت عن سيطرة عقلي. 

تلك الصغيرة التي رأيتها بكابوسك، هي ذاتها مرشدتك، تعيشين  ما مرت به صغيرة وكبيرة تنصحك بالهروب، ولا تعلمين إلى أين، صمت تلك الوساوس وتحدثت أنا:

اعوجاج ساقها.

قال أبي إني ورثت اعوجاج ساق أمي.

أهذه أمي؟

أتلك الفتاة صغيرة وكبيرة هي أمي؟

شعرت بعدم الراحة والخوف في ذلك المكان أسرعت في الهروب، ركضت وكأن ساقي لم تكن  يومًا حتي وصلت إلى مسكني.

صعدت الدرج مسرعة  وضعت يدي على جرس  المنزل دون تركه أتت الحاجة فاطمة مسرعة:

ماذا بكِ؟

انسحبت  من جوارها وأسرعت تجاه غرفتي دون رد.

أغلقت باب غرفتي جيدًا ووضعت الإطار الذي حملته جانبًا، وتمددت أرضًا، لم أشعر بهذا الخوف سابقًا، أخذ جسدي وضعية الجنين لشدة الخوف الذي تملكني، وغفوت في كوابيسي.

(رؤيتي الثالثة عشر)

رأيت منزلي هناك في كريات شمونة ولكنه قديم، تقف مرشدتي هناك في منتصف غرفه أبي يبدو على ملامحها الخوف وقلة الحيلة.

ترتدي ملابس واسعة وكأنها فاقدة الكثير من وزنها لتبدو هكذا.

 تقدمت إلى الداخل لأرى  جيدًا، هناك صغير على الفراش يبكي دون توقف وأمامه مرشدتي تدمع ولا تقترب منه.

أتى رجلان من بعيد يرتديان ثياب سوداء وعلى رأسهم قبعات كبيرة تخفي ملامحهم، اقترب أحدهم من الصغير واقترب الآخر من مرشدتي.

خلع كلًا منهم قبعته وانكشف الغطاء عن ملامحهم.

إنهم أبي وذلك الرجل ناحوم. 

ما سر هذا الرجل، من يكون؟

ولما أرى أبي للمرة الثانية؟

وقف أبي أمام مرشدتي وبالخلف  ذلك الرجل يحمل الصغير.

تحدث أبي إليها في كبرياء:

ألم تقرري بعد يا راشيل؟

لن أكون قربانكم بعد اليوم، لقد امتلأ قلبي بصغيرتي، أريد أن أكمل حياتي رفقتها.

وماذا عن العهد الذي قطعه أجدادك؟

 ماذا عن الأموال والجاه والسلطان الذي ينتظرنا، كذلك حياة الخلود؟

 ‏هنيئًا لكم تلك الحياة الأبدية، هنيئًا لكم الأموال وما تطمعون.

 ‏أريد طفلتي، أريد الحياة جوارها ولو ساعات قليلة.

 ‏تعلمين جيدًا لن نعيش تلك الحياة دون صغيرتك فهي منقذنا.

 ‏رأيت راشيل تركع على ركبتيها طالبة العفو تصرخ بأعلى صوتها: صغيرتي، أريد صغيرتي، الرحمة لرضيعتي.

 ‏تلك الأصوات والنداءات أدركتها مسامعي قبلاً، إنه ذلك الصوت الذي سمعته كثيرًا يخرج من غرفة أبي.

 ‏ركعت راشيل طالبة الرحمة ولا شفقة في عيون ناظريها.

 ‏رأيت أمامها ذلك الطيف الأسود الطويل يضحك ساخرًا من حالها، ذلك المشهد ما ذكرته راميت سابقًا، الآن تتجمع جميع الأحداث، الآن أدرك أن تلك من لقبتها بمرشدتي هي والدتي راشيل.

 ‏ كيف لا، وهي تحمل نفس الاسم.

 ‏ كيف لا، وهي تعاني اعوجاج ساقها كحال ساقي.

  كيف لا، وهي من قامت بدفن الكتاب ليقع في يدي وكأنه قُدر لي.

 ‏كيف لا، وهى من تنصحني دائمًا بالهروب من تلك الحياة؟

 ‏اليوم علمت أمي، أشعر بالحزن لعدم معرفتي لها سابقًا.

 ‏الآن فقط وحين تأكدت بكونها والدتي، لم تعد تشعر بوجودي في عالمها ‏وكأني طيف.

 ‏خرج أبي ورفيقه من المنزل تاركين راشيل باكية. 

 ‏تجولت في أرجاء الغرفة وقفت أمامي صغيرةً حملتني في هدوء ولطف مبتسمة إلى وجهي، ‏كم وددت الآن لو أتذكر رائحتها لو أشتم أنفاسها، لو أني أشعر بدفء أحضانها، ولكن لم يكن لي نصيب لأعيش لحظات تذكر معها.

 ‏صغيرتي سأمنحك الحياة رغمًا عنهم جميعًا ستكونين في أمانٍ دائم وسأكون جوارك دائمًا.

 ‏حملت  أمي حقائبها وحملتني و ودعت المنزل أمي (كم اشتقت تلك الكلمة ).

 ‏صورة ذلك الحي قديمًا لم تفارق ذاكرتي، اخذتني أمي إلى منزل أدفأ.

 ‏وقفت تلتفت يمينًا ويسارًا ثم دقت الباب دقات متتالية.

 ‏فتحت أدفأ وكانت سيدة جميلة في شبابها، هادئة كحال شيبها الآن.

 ‏راشيل ! ماذا بكِ صباحًا؟

 ‏لم يعفو عني قدري.

 ‏ادخلي، فلن نتحدث بالباب.

 ‏دخلت أمي وجلست إلى أقرب أريكة يبدو عليها القلق.

 ‏تحدثي يا راشيل ما الأمر ؟

 ‏يريدون إكمال ما حدث. بالماضي لقد خططوا لكل شيء مسبقًا الآن لا مفر

 ‏من ‏آدم وذلك الشيطان ناحوم لقد تقرب مني وصنع بيننا الفتنة في غياب آدم ليقع ما أرادوا

 ‏والآن؟

 ‏سأعود إلى حيث نشأت، هناك سأكون فداءً لصغيرتي.

 ‏وماذا عن الصغيرة؟

 ‏لن يمسوها بأذى في غيابي، فلا فائدة من ذلك، ستظل رفقة أبيها إلى أن تستطيع إدراك الأمر، أعلم أنها ستفلت من ذلك الطغيان يومًا ما.

 ‏الآن أريد عهدك لي ألا تذكرين خبري لها مهما أساء لي.

 ‏راحيل أمانتك وتلك الذكريات احرقيها؛ فلا تجعلي لي وجود حتى لا تستطيع راحيل رؤية وجهي يومًا.

 ‏لماذا، ألن يكفيها مفارقتك لها؟

 ‏هكذا لن يكون ألمها مضاعف، سيقتصر على كونها فاقدة والدتها، لا أريدها أن تمعن النظر في ملامحي يومًا باكية.

 ‏لكي ما تريدين يا راشيل، فلن أكون أنا صوت الضمير الذي يعذبك يكفيكِ ما بكِ.

 ‏الآن ارحلي سريعًا، سأكون عين راحيل الحارسة، لن يمسها آدم بسوء.

 ‏رحلت راشيل تاركة خلفها صغيرتها لم تكن تعلم ما تخفيه الحياة.

 ‏وقفت أدفأ تودع راشيل وبين أحضانها صغيرتها.

 ‏كانت أدفأ في منزلها حائرة تذهب من نافذة إلى أخرى، تنظر في اتجاه جميع الطرقات، لم يمر الليل كاملاً حتى أتى أبي رفقته ناحوم.

 ‏ظلت أدفأ في انتظار رد فعلهم على عدم وجود أمي حتى على صوتهم وانفعل أحدهم على أحد الزجاجات وقام بكسرها.

 ‏حملتني أدفأ وذهبت تجاه منزلي نادت في هدوء:

 ‏آدم

 ‏آدم

 ‏خرج أبي مسرعًا مجيب نداءها.

 ‏ماذا هناك يا أدفأ؟

هنا صغيرتك.

ماذا، وأين راشيل؟

أرادت أن تكون الحياة لصغيرتها، لذلك رحلت، رحلت لتصنع حياة أبدية لها ولكن بعيدًا.

ماذا؟

هذا ما تركت لك من حديث معي، الآن ستكون راحيل في أمان دائم.

وإلا ...

وإلا ماذا؟

تعرف جيدًا قوانين أرضٍ تجمعنا.

تركتني أدفأ رفقة أبي وعادت إلى منزلها بعد أن تأكدت من خوفه.

والان قُدر لي أن أكون سجينة هذا المنزل.

ظهر ناحوم بوجه شيطاني:

تلك الصغيرة لا فائدة لها من دون راشيل.

فهي كالآفة التي التصقت بنا، وكأن راشيل تعاقبنا على ما فعلنا.

وكيف الخلاص من تلك الأزمة؟

سأذهب خلف راشيل، لن أعود سوى بها إن لم تكن حية لتكون جثة أو رفات؛ فهكذا نريدها

الآن أمام مجتمعك، تلك الفتاة صغيرتك فلتبقى رفقتك.

غادر ذلك الشيطان خلف والدتي، وبقيت أنا رفقة شيطان آخر.

دقات

دقات

 أخرجتني من كابوسي، إنها الحاجة فاطمة تصيح: افتحي ذلك الباب.

فُتح بابي وواجهت إعصار الغضب في عيون الحاجة فاطمة:

ما الأمر، ألاحظ تغييرك منذ قدومك إلى مسكني، فلا تبدين لي سائحة تريد التمتع بالسفر والحياة،

لماذا أنتِ هنا؟

جلست غير مهتمة بما تقول افكر في أمري.

أحدثك لماذا أنتِ هنا؟

لأبحث عن ما ينقذني، أُمرت أن أهرب إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها وايقنت أنها تلك الأرض حين رأيت المصلين يسجدون فتلامس الأرض جبينهم.

ما هذا الحديث؟

لم تكن رحلتي إلى هنا للسياحة؛ بل كانت لأبحث في خبايا الماضي عن ما ينقذني من حاضري، أنا هنا لأبحث عن أبي،

أنا هنا لأبحث عن ما حدث ماضيًا ليُقدر لي حياة مليئة بالأموات واللعنات.

 ‏ وقفت الحاجة فاطمة مندهشة بعض الشيء لا تدرك حديثي.

أغلقت باب غرفتي وجلست على مقربة مني.

الآن أخبريني حقيقتك من تكونين، وفسري حديثك.

جلست  اتحدث، أسرد تفاصيل ما عشت سابقًا، لا أملك إثبات على ما أقول ولكن أخبرتني روحي ستكون جانبي دون اهتمام، طالت جلستنا حتى انقضى النهار وأتى الليل ومازلت أسرد من خبايا حياتي الكثير والكثير، كانت الحاجة فاطمة مستمعة جيدة، فلم تقاطعني حتى انتهيت.

لاحظتُ بعض الشكوك، ارتسمت على ملامحها، أردت إثبات حديثي لها أسرعت إلى حقيبتي وأخرجت منها كتابي الدموي ووضعته بين أيديها.

وما كان منها إلا فتحه والاطلاع على ما بين صفحاته وما احتوت سطوره، نظرت مندهشة:

ما هذا، ذلك الكتاب لا يملكه إلا شيطان أراد تدمير البشر ومن حوله.

لقد قُدر لي لم أسعى يومًا لامتلاكه، بل لم أكن أعلم بوجوده إلا حين وقعت في ذلك الفخ.

الآن أعلم جيدًا أن تلك هي والدتي، ولكن هناك الكثير من الخبايا لم تكشف بعد.

لن أساعدك إلا حين تأكدي من صدق حديثك؛ فإن كنتِ من الصادقين سأكون لكي عونًا حتى تستطيعي الخلاص والوصول إلى أباكِ.

وكيف ستتأكدين من صدق حديثي، أو لا ؟

تلك مهمتي الآن اخلدي للراحة وذلك الكتاب سيكون بحوزتي حتى تأكدي من صدقك.

أتعلمين لم يفارقني ذلك الكتاب منذ وجدته إلا الآن، كنت أشعر بخوف شديد من فقدانه سابقًا، الآن لا لقد انتهى الخوف وشعرت بالهدوء والسكينة.

لم تتحدث الحاجة فاطمة كثيرًا، أخذت الكتاب ورحلت تاركة خلفها قلبي يشعر ببعض الراحة.

ليل آخر بين جدران مسكن الحاجة فاطمة.

ولكن يسكنه الهدوء فلم تزورني الكوابيس تلك الليلة.

نمت طويلاً، فلم أشعر بكم الوقت الذي خلدت فيه للنوم.

استيقظت أشعر ببعض الإعياء، كذلك ازدواجية في الرؤية، بدلت ملابسي سريعًا وتحركت إلى خارج غرفتي

لم أجد أحد؛ فالمكان خارجًا هادئ وكأن ليس به سُكان.

جلست إلى منضدة الطعام وقرعت جرس الخدمة.

أتت إليّ  إحدى المساعدات متسائلة: 

كيف أخدمك؟

أريد كوب قهوة  وبعض الشطائر، أين الحاجة فاطمة؟

في الخارج ذهبت للتسوق باكرًا برفقة سليم، الآن ستعود.

ظللت انتظر عودة الحاجة فاطمة، أتت قهوتي وتناولت بعض الشطائر، كذلك ارتشفت القهوة كاملة.

أتت الحاجة فاطمة رفقتها سليم وبعض الرجال يحملون الكثير من المقتنيات، وضعوا مقتنياتهم جانبًا

ورحل الرجال لتظل الحاجة فاطمة وسليم الذي جلس أمامي مباشرة ولكنه صامت، دق جرس الخدمة وطلب كوب حليب ساخن وجلست جواره الحاجة فاطمة مبتسمة، ألقت تحية الصباح وأمرت مساعدتها بكوب حليب أخر لها.

كنت أتوقع استيقاظك اليوم.

ماذا، اليوم؟

نعم فذلك هو اليوم الثالث لك غارقة في أحلامك، لا تفارقين الفراش وحين طلبت منك الاستيقاظ رفضتي وعُدتي للنوم

وهل خلدت للنوم يومين كاملين؟

نعم.

لم أذكر ما حدث وكأنه لم يحدث.

لا يهم، الأهم استيقاظك الآن يبدو إنك تحتاجين الراحة.

نعم وقد حصلت عليها.

تناول سليم حليبه، قبّل يد الحاجة فاطمة وغادر صامتًا.

تنهدت الحاجة فاطمة في هدوء، وبدأ عليها علامات الرضا.

ألم تزورك الكوابيس تلك الأيام؟

لا ..

ولكني اشتقت لأمي.

الآن ستذهبين رفقتي إلى أحد الصالحين.

ماذا؟

من سيكون لكي عونًا حتى تجتازين تلك المحنة.

وماذا عن شكوكك في أمري؟

لا فلم يعد هناك شكوك لقد تأكدت من صدق حديثك معي، والآن أساعدك لأمران أولهم صدق روايتك.

والأمر الثاني؟

له أوان آخر فلا تتعجلي.

الآن استعدي لنذهب إلى أبو الصالحين.

أثناء قيامي وعند استعدادي للرحيل سمعت صوت الحاجة فاطمة

تنادي: راحيل انتظري.

التفت إلى الحاجة فاطمة مجيبة: نعم

مدت يدها حاملة كتابي: إليكِ كتابك.

ألن يبقى معكِ؟

لا حاجة لي به ستحتاجين إليه قريبًا.

التقطت الكتاب وتوجهت إلى غرفتي، قمت بتمشيط خصلات شعري وترتيب مظهري، حملت حقيبتي وتوجهت خارجًا. انتظرت قليلاً حتى خرجت الحاجة فاطمة من غرفتها، ألقت بعض الأمور على مساعديها.

أغلقت غرفتها خارجًا وأمرتني بإتباعها.

تجولت بالحي رفقة الحاجة فاطمة التي سردت لي الكثير من أخبار الحى وتاريخ سُكانه.

وقفت أمام المنزل المشهود في ذلك الحى متسائلة: أي تاريخ يحمله هذا المنزل يا حاجة فاطمة؟

ذلك المنزل ليس قديمًا، شيدته عائلة يهودية أصيلة، تلك العائلة كانت الأكثر تماسكًا بين جميع عائلات اليهود.

يقولون اشتهروا بكثرة البنين، فلم يكن لهم أحفاد من الفتيات سوى واحدة.

تحدثت سرًا إلى روحي: إنها تلك العائلة.

أكملت السير رفقة الحاجة فاطمة حتى وصلنا إلى أعتاب أحد المنازل، وقفت الحاجة فاطمة تدق الباب دقات متتالية، لم ننتظر كثيرًا حتى فُتح الباب ووجدننا أمامنا فتاة في مقتبل العمر، عيونها واسعة كذلك طويلة القامة بعض الشيء ولكنها في أنظاري جميلة.

رحبت كثيرًا بقدومنا وافسحت لنا المجال للجلوس.

تحدثت إل  الحاجة فاطمة بالعربية، لم أفهم الكثير من حديثهم.

ثم توجهت إلى احدى الغرف استأذنت بالدخول ثم دخلت وأغلقت الباب خلفها، ظلت قليلاً داخلاً، ثم خرجت مبتسمة تسمح لنا بالدخول.

في الداخل عالم آخر، المكان مليء بالهواء الساخن و رائحة يدعونها المسك.

 ‏يجلس على أحد الكراسي رجلاً ذو لحية طويلة بعض الشيء مختلطة بالشيب يقرأ في أحد الكُتب

 ‏رفع أنظاره إلينا وأشار بالجلوس.

 ‏جلسنا في هدوء أشعر بالخوف التفت يمينًا ويسارًا ليس هناك ما يجعلني أشعر بالخوف ولكنه إحساس يراودني

 ‏أغلق أبو الصالحين كتابه نظر نحوي بتعجب، أخرج سبحة طويلة من خبايا ثيابه وظل هكذا صامتًا ينظر نحوي فلم تتوجه أنظاره إلى الحاجة فاطمة أبدًا.

 ‏شعرت أن جسدي يرتعش وجميع أطرافي باردة، ‏نطقت كلمات محددة:

 ‏أشعر بالخوف.

 ‏أوقف أبو الصالحين تسبيحه ثم نظر إلى الحاجة فاطمة وتحدث بصوت هادئ: ‏ذلك من عمل شيطانٍ رجيم يهودي ليئم.

 ‏كان أبو الصالحين يلقي كلماته العربية والحاجة فاطمة تساعدني في فهم ما يقول.

 ‏

 ‏افعال يشيب لها العقل ارتكبت قديمًا لتكون تلك الروح هي الثمن

 ‏لذلك ألقاها الله في طريقك لتجد الخلاص بعونك بعد مشيئة الله

 ‏سيكون الخلاص قريباً ولكن عليها بالصبر.

 ‏عاد أبو الصالحين ينظر نحوي:

 ‏اعلمي أن الله لن يترك رعاياه كذلك لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

حتى وإن كنت على غير دينك؟

حتى ذلك؟

نعم

 فالحياة أمامك لا تيأسي وأعلمِ إنك ستكونين من رعاياه قريبًا.

أريد معرفة الحقيقة، أريد أن أدرك ما يحدث لي، أتيت إلى مصر بحثًا عن أبي ولكن أشعر أن قدومي دُبر له لأكون هنا، أشعر أن أمر عظيم سيحدث لي هنا.

تحلى بالصبر فما قُدر لكِ ليس بهين ولكن سنقتلع ذلك الجذر لتنعمين بهدوء الحياة.

وضع أبو الصالحين يده في حقيبة قماشية أمامه وأخرج منها أوراق كثيرة جميعها مخطط بها باللون الأحمر.

مد يده نحوي بتلك الأوراق أمرني بأخذها ووضع القليل منها في كوب ماء وارتشاف بعض القطرات صباحًا ومساءً، كذلك وضع باقي الأوراق تحت وسادتي ثلاثة ليالي كاملة.

أنهى أبو الصالحين حديثه وعاد إلى قراءة كتابه

وهل سأجد أبي؟

ستجدين الحقيقة كاملة، ستجدين الماضي وستحسنين ترتيب القادم ولكن احذري الالتفات إلى إغراءه.

من؟

آشماداي.

ومن ذلك؟

إنه الشيطان الأكبر من عهد العهد قديمًا مع أجدادك.

انصرفي فلم  يعد لنا حديث وعودي عند اكتمال حقيقتك.

انصرفت رفقة الحاجة فاطمة، عدت إلى مسكني، لم اطق الانتظار لتمر الثلاثة أيام، كنت على عجلة من أمري.

أسرعت في إحضار أحد الأكواب الكبيرة وضعت القليل من الأوراق داخله مثلما أمرني أبو الصالحين وغطيته بالماء كاملاً وارتشفت منه القليل، وضعت ذلك الكوب في غرفتي وذهبت لتبديل ملابسي أردت ذلك اليوم أن اساعد الحاجة فاطمة في ترتيب مائدة الغداء، كذلك سرقة بعض الوقت رفقتها لتروي لي الكثير من خبايا الماضي في تلك الحارة.

انتظر الظلام حتى خلعت ملابسي وغمر غرفتي.

إنه هنا أشعر بأنفاسه ورائحته تقترب مني وكأنه خارجًا من كومة لتجمع القاذورات.

بقيت في مكاني ثابتة أتنفس، حتى اقتربت تلك الأنفاس مني.

تلك المرة التي رأيته بوضوح كضوء الشمس، إنه أشد من ظلام الليل وليس لطوله حدود.

وجهًا منكمش وكأنه صاحب ألف عام.

عيونه واسعة بها نار مشتعلة غاضبة

وقف أمامي صامتًا لا أستطيع النظر إليه ثم حرك بإصبعه فانكسرت مرآتي ثم انكسرت تلك اللوحة المصنوعة من بقايا المرايا.

وما بقي منها سوى  تلك القطعة التي تحوى لفظ الجلالة. 

لن أشعر بالخوف.

لن ينقذك ما تفعلين سلمي لي ذلك القلب.

مازال ينبض داخل جسدي ولن تستطيع امتلاكه.

اشتعلت النيران في أطراف يده وارتفعت درجة حرارة الغرفة وظل يقترب نحوي حتى رفع نداء الصلاة وتردد اسم الله في المكان وملأ الغرفة.

اختفى وكأن لم يكن له وجود، أخذت نفسًا عميقًا كاد يفارقني، أسرعت إلى نافذتي فتحتها على مصراعيها ليتردد داخلها صوت المؤذنين.

أدركت أن الله جانبي، أدركت أني اقتربت من الحق، كنت أبحث عن ما يخلصني والآن وجدته.

أتت الحاجة فاطمة تدق بابي بعد أن غبت عنها تنادي:

راحيل

 راحيل

 ولم أستطيع الرد فقد كنت في عالم أخر، أستمع إلى صوت  نداء الصلاة من نافذتي.

فتحت الباب سريعًا ظنًا منها أني لست بخير.

وجدتني أمام النافذة.

ما بكِ شاردة هكذا، ألم ترغبي في المشاركة.

هاااا، أريد الاقتراب من نداء الصلاة، أريد تأدية تلك الصلاة.

اندهشت الحاجة فاطمة واتسعت عينيها.

وهل تعلمين كيف تؤدين الصلاة.

لا ولكن أريد تأديتها، لقد انقذني نداءها؛ فماذا عنها؟

عفوًا وغفران من الله، راحة لا تنقطع وجنة ليست على الأرض.

أريد الذهاب رفقتهم إلى المسجد والاستماع إلى نداء الصلاة القادم.

لن يكون الآن فبين العصر والمغرب مدة لا بأس بها.

كذلك ...

ماذا؟

يجب أن تكوني مسلمة  أولًا لتستطيعي تأدية الصلاة في المسجد.

وهذا ما أريد.

أريد تغيير ديني؛ فأنا وجدت ما اطمأنت إليه روحي.

فرحت الحاجة فاطمة وارتسمت البسمة على شفاهها.

الآن تجهزين معي الطعام.

غدًا أخذك إلى من يصلح لكِ الأمر، من يهديكِ حديثه وتسلمين على يده.

ابتسمت دون حديث، أكملت ارتداء ملابسي وخرجت إلى مطبخ الحاجة فاطمة أساعدها في تجهيز المائدة، ذلك يومي الأول الذي أشعر فيه وكأن لي عائلة.

تملكني النشاط وتغلبت على أمر ساقي ومر اليوم سعيدًا.

عدت إلى غرفتي فرحة، وجدت كتاب صغير وضع في غرفتي، التقطه وخرجت إلى الحاجة فاطمة:

ما ذلك الكتاب؟

إنه القرآن الكريم، وضعته في غرفتك ليكون حارسًا لكي، كذلك سيبعد الأشباح عن كوابيسك.

إذًا سأعود به إلى غرفتي.

وضعت الكتاب أعلى وسادتي وجلست إلى أحد المقاعد بغرفتي، التقطت إحدى الروايات القديمة التي جلبتها رفقتي وشردتُ في أحداث الرواية، ناسية ما حولي ومن الغريب دخولي أحداث الرواية التي انقلبت لتكون إحدى كوابيسي.

( رؤيتي الرابعة عشر )

هناك رأيت راشيل تتجول في شوارع قديمة تبدو لي ذات الشوارع التي أتجول بها الآن حتى استقرت أمام المنزل المشهود في جميع كوابيسي، لعله المنزل الذي رأيته رفقة الحاجة فاطمة.

تقف أمامه تنظر إلى جدرانه الخارجية، اقتربت بعض الشيء تجولت حول منزلها ثم قامت بدفع الباب والدخول إلى ساحته، وقفت قليلاً تنظر إلى أرجاءه تفتش بين اثاثه القديم حتى عثرت على احدى الأقمشة الحريرية البيضاء.

أخذتها لتجعل منه  وشاحًا على رأسها، صعدت إلى الطابق العلوي واتجهت إلى إحدى الغرف، فتحت بابها ووقفت قليلاً  تنظر إلى ما تحويه الغرفة من أثاث.

نفس عميق أخذته ثم ذهبت إلى الداخل، اوصدت الباب خلفها جيدًا، وأنا هناك أسعى للوصول إلى تلك الغرفة ولكن أشعر بما يقيد حركتي ويجعل منها بطيئة.

وصلت بعد دقائق فتحت الباب بهدوء نظرت داخلاً، وجدت راشيل تجلس إلى أحد المقاعد الفخمة من حولها الكثير من المقاعد الخالية معلقًا على الجدران ورقات رُسم بها طلاسم وبعض الحروف المعكوسة، تأكدت من رؤيتي لتلك التعاويذ سابقًا في كتابي الدموي.

أخرجت راشيل سكينًا من جانب مقعدها نظرت إلى السكين ولم تتردد ثانية في جرح يدها جرحًا كبير لتنزف دمًا جعلته يتساقط على ذلك الوشاح الأبيض ليتحول إلى اللون الأحمر القاتم، ألقت بعض التعويذات وعلى صوتها وتحول إلى صوتٍ آخر يميل إلى الرجولي.

شعرت بالخوف فلم تكن تلك منقذتي.

تحولت الأحداث وتبدل المكان لأجد روحي في منزلي بكريات شمونة تجلس أمامي راشيل متزينة في شبابها ومن خلفي أتى ذلك الشيطان ناحوم:

اليوم ستكون ليلتنا، لقد أخبرني الكاهن أنه اليوم المشهود لذلك الفعل.

أشعر بعدم الرغبة في إكمال ذلك الأمر.

أيعقل هذا؟ 

دائمًا رغبتي بالاقتراب مني.

لهذا رفض الجميع زواجنا وقالوا سيكون زواجًا مكتملًا.

تعلمين جيدًا ما نسعى للقيام به، فلا داعي للمراوغة.

الآن أحسنِ التفكير في مستقبل سيجعل منكِ ملكة مثلما اردتي.

لا أريد تلك الحياة المزيفة، لا أريد آدم فلمساته تشعرني بالاشمئزاز، كذلك اقترابك مني يشعرني بالخوف.

لقد ضحيت بي قديمًا وجعلت مني زوجة لآدم لتصل إلى غايتك، ألن تضحي بي الآن لتصل إلى ما رغبت دومًا؟

زواجك من آدم ما قُدر لكِ منذ كنا صغار ولن أضحي بكِ، لهذا نسعى أن يكون لنا صغير يحمل دمك ودمي لنصل سويًا إلى ما رغبنا.

تلك الكلمات جعلت مني تائهة..

 من أكون؟

ابنة من أنا؟

ما هدفهم من ولادتي؟

أليس آدم بأبي؟

تلك التساؤلات تتردد داخلي ولا مجيب.

شهدت دموعي تلك الليلة على ما كان بينهم من فواحش ولا عجب أن أهرب من ذلك الكابوس رغمًا عني.

استيقظت باكية أنادي:

 أدفأ

أدفأ

فُتح الباب وأتت الحاجة فاطمة مسرعة تجيب: ما بكِ يا فتاة ما بكِ؟

لست ابنه أبي، لقد خططوا لقدومي من فاحشة بينهم لغرضٍ دبروا له قديمًا بينهم.

تلك المرة ارتميت في أحضان الحاجة فاطمة أرغب في الخلاص من ذلك العالم، أريد الموت فلا أريد كشف حقائق أخرى

سكنت في أحضانها ولم تسكن دموعي، شعرت بحنان لمستها على اكتافي.

ومرت أيام وايام أخري وأنا هاربة من النوم، هاربة من الدخول إلى ذلك العالم؛ فعندما أشعر باقترابي لتلك الكوابيس أردد اسم الله ثلاثًا كما علمتني الحاجة فاطمة.

بقيت في مسكني  ثلاثة أيام لا اتحرك لا أتناول الطعام فقط بعض قطرات الماء أشعر بنفور من ذلك العالم وتراودني فكرة الموت كثيرًا.

(رؤيتي الخامسة عشر)

 إنه بداية  ليلي الثالث، زارتني إحدى الملكات لعالم آخر، تلك التي رأيتها بكابوسي الأول شديدة الجمال إلى حد لا يوصف، وقفت أمامي في هدوء تمد يدها نحوي:

تلك الحياة لي؛ فما قدر لكِ هو الموت، ذلك القلب الذي ينبض داخلك خلق لأجلي.

لم يساعدني سوى صوت الآذان الذي ارتفع بالمسجد ليهز أرجاء غرفتي، هنالك خرجت من غرفتي مسرعة تجاه الحاجة فاطمة أنادي:

حاجة فاطمة

حاجة فاطمة

اجابتني مسرعة: ما بكِ؟

أريد الذهاب إلى أبو الصالحين.

الآن؟

نعم الآن، لقد آن الأوان لتغيير تلك الحياة والخروج من ظلمة ما أعيش.

تجهزت وانتظرت الحاجة فاطمة التي خرجت أمامي متزينة بحجاب أبيض به بعض حبات اللؤلؤ

احببت النظر إلى ملامحك، كما هي جميلة.

هل أستطيع امتلاك وشاحٍ مثل هذا؟

سيكون لكِ.

 ذهبنا سويًا تجاه منزل أبو الصالحين وفي طريقي امتلأ صدري بهواء الحي.

 ‏رأيت الكثير من مختلف الجنسيات يتجولون بالحي مندهشين من معروضات المحال الأثرية والمقتنيات اليدوية، ما بها تلك الأرض تحتضن الكثير والكثير من أبناء جميع البلاد. 

 ‏وصلنا إلى منزل أبو الصالحين، دُق الباب وفتحت لنا جميلته التي رأيتها سابقًا.

 ‏ابتسمت إلينا وتحدثت إلى الحاجة فاطمة بعض الكلمات العربية التي ترجمتها لي:

 ‏كان الشيخ أبو الصالحين في انتظاركم.

 ‏أسرعنا في الدخول، ألقت الحاجة فاطمة التحية وطلب منا الجلوس على مقربة منه، إنها المرة الأولى التي قام من جلسته وتجول في غرفته، أخذ بيده بعض الحبات السوداء من أعلى منضدته، اقترب من النيران، ألقى ما بيده بها وفاحت رائحة عطرة طيبة.

 ‏عاد إلى جلسته، وجه انظاره نحوي:

 ‏أتي ما عندك.

كشفت لي الكثير من الخبايا، رأيت في  الماضي خبايا لم يكن  لي أن أطلع عليها.

ماذا رأيتِ؟

طقوس شيطانية  أقامها أجدادي كانت امي هي قربانهم الوحيد، فلم يكن هناك فتيات في تلك العائلة غيرها، دفعت الثمن بزواجها من آدم ذلك الذي عشت بمنزله سنوات عمري أظنه أبي، الآن علمت أنني لست بابنته وذلك يفسر بخله معي تلك السنين.

رأيت أمي للمرة الأولى في كوابيسي فلم تراها عيني قط، لم أتذوق حليب ثديها يومًا.

تلك التي تنصحني دائماً بالهروب إلى أراضي لمس جبين الساجدين ترابها، وقعت في الفاحشة مع شيطان أراد استخدامها في أعماله الشيطانية وتنفيذ عهوده مع قرينه.

اليوم أريد الخلاص من تلك اللعنات، لا اريد أن يطاردني ماضيهم، لذلك ....

قبل ذلك لابد لكي من معرفة الحقيقة كاملة، تلك الفتاة الصغيرة التي رأيتها بكابوسك هي ذاتها والدتكِ ذات الساق العوجاء أرادت أن تكشف لكي خبايا الماضي لتبحثي عن الخلاص، تلك الفتاة الصغيرة ولدت في عائلة يهودية جميع صغارها صبيان، ظن الجميع إنها ستكون المدللة، ولكنها ولدت لتكون القربان لأحد الشياطين الماردة.

شيطان أتخذ بينه وبينهم عهدًا أن يكشف لهم عن خبايا الأرض من ذهب وآثار، يعتقدون أنها ملكًا لهم ولأجدادهم، وهمهم بحياة أبدية لا موت فيها.

وفي المقابل؟

 ذلك السؤال أنا من وجهه لأبو الصالحين.

 ‏في المقابل قلبًا لفتاة  شابة ولدت من فاحشة جمعت بين رجل وامرأة متزوجة، قلبًا بشريًا ولكنه لفتاة خطيئة سيكون ذلك القلب هو الدواء.

 ‏لمن؟

 ‏لزوجته وقرينته، تلك الملكة التي رأيتها نائمة بفراشها وحولها الكثير من الجواري، تلك التي أتت إليكِ لتسرق حقك بالحياة.

 ‏كان العهد بينهم قويًا لقد صنعوه بدم والدتك منذ كانت صغيرة، ‏دبروا للأمر وساعدتهم شهواتهم في حب الأموال والثراء

و ‏كذلك رغبتهم في امتلاك ما ليس لهم.

 ‏عندما بلغت والدتك سن الزواج اتفق الأهل على زواجها من آدم، ذلك الخسيس الذي عرف عنه حبه للمال وتفضيلها عن نفسه.

 ‏تزوجت آدم رغمًا عنها لتكون خطتهم جمعها بناحوم في الخفاء.

 ‏لأكون أنا ابنة الفاحشة تلك التي اخذوا العهد مقابل روحها.

 ‏نعم .

 ‏ولكن ..

 ‏ماذا؟

 ‏أراد الله أن يقذف بقلب والدتك الحنان منذ أول نبضة لكِ في رحمها.

 ‏تبدلت أحوالها، كرهت أموالهم وافعالهم، أرادت مثلك الخلاص من ذلك العالم والاحتفاظ بكِ، ‏عذبوها مثل ما رأيتِ بكوابيسك جعلوا منها عبدة لرغباتهم.

 ‏رأيتها تلد دون وجود أحدٍ جوارها، مرت أمي بتلك اللحظات الحرجة وحيدة في مقابل الاحتفاظ بي.

 ‏وفعلت ما أرادت، ‏علمت ان لا نفع لكي دونها، ‏هجرت بلادها بحثًا عن الأمان الدائم.

 ‏لماذا تركتني، كان باستطاعتها أن نهرب سويًا.

 ‏خشت والدتك رفقتك؛ فتكون سهلت عليهم الأمر، هربت وحيدة لتستطيع الخلاص ووهب الحياة لكي.

 ‏إذًا لماذا تبدل مصيري فلم تكن حياتي آمنة.

 ‏إنه اشماداي الذي لا يستسلم؛ فحين بلغتي سن والدتك عاد لينتقم، عاد لينفذ عهده ويمتلك ذلك العقل وهذا الجسد فتكوني له طوعًا فهو الموكل بسلب عقول النساء ونهش المتعة من أجسادهن.

 ‏ولكن كانت هناك روحًا ترعاكِ.

 ‏من؟

 ‏حين تركت والدتك بلاد اليهود عادت إلى منشأها حيث ولدت هنا بمصر بذلك الحي، عادت إلى منزلها تبحث عن عهود أخرى فما كان منها غير تغيير دينها والهروب من اليهودية لنقض العهود بينهم.  

 ‏لتضمن مساعدة احفاد (النصيبيين )

 ‏من؟

 ‏إنهم الجان المسلم.

 ‏كانت والدتك تستطيع الاتصال بذلك العالم بسهولة بل والتجول بينهم ومحادثتهم وكأنها من عالمهم،

 ‏استطاعت الوصول إلى أحد أُمراء الجان المسلم إنه ( شاصر )، هنا أسلمت، أخذت عليه عهودًا بمساعدته إياكِ والوقوف جانبك، ‏كذلك تفسير ما حدث قديمًا.

 ‏هل مازالت راشيل حية؟

 ‏لم تعد راشيل لقد بدلت ذلك الاسم وصارت عائشة.

هنا جلست والدتكِ، هنا أعلنت إسلامها وخرجت من عباءتها القديمة، عاشت في منزلها وحيدة تعتمد على مساعدة الجميع لها.

 ‏والآن؟

 ‏الآن ..غادرت تلك الحياة مسلمة مسالمة، دُفنت في مقابر مسلمين، لا يعلم لها أحدٌ من أقارب أو أحباب، لم تطل عشرتها لنا طويلاً، ولكنها أحبت ذلك الحي وتمنت لو تأتي إليه لتتنفسي من رائحته ما يغنيكِ عن تلك الحياة.

 ‏هل كنت تُعلم أمي؟

 ‏نعم علمتها.

ما عشتِ قُدر لك، لقد استخدمك اشماداي في جمع أعوانه من الشياطين الماردة باستخدام ذلك الكتاب، أراد أن يسترد عرشه الذي سلبته منه عشيرته عند نقض والدتك العهد بينهم، فجعل الأموات يحيون أيامك وما كان ذلك إلا شيطان تجسد في هيئتهم؛ لتقعي فريسته.

 ‏

 ‏تحدثت الحاجة فاطمة:

 ‏ماذا عن أبيها ذلك الذي أتت للبحث عنه.

 ‏لقد أتى باحثًا عن رفات راشيل ولكنه لم يستطيع الوصول إليها فلا يعلم بإسلامها ولا تغيير شخصها.

 ‏عليكِ تجاوز ذلك الماضي.

 ‏كيف، كيف لي أن اتجاوز ماضي ما زال يطاردني؟

 ‏أراد ذلك الشيء إرباك امرك وحياتك ولا سبيل له سوى عدم راحتك، لذلك اختار الليل ليكون مصدر إزعاجك.

 ‏الآن يا شيخ ....

 ‏أريد النجاة من تلك الحياة ولن اجد سبيلاً غير ما سلكته أمي.

 ‏أريد أن أكون مسلمة ارتدي الحجاب واركع في بيت الله طالبة أن يعفو عن ما بي.

 ‏ابتسمت الحاجة فاطمة، أرادت لو تهلل فرحًا ولكنها أحكمت السيطرة على روحها.

ابتسم أبو الصالحين وقال:

هذا ما أرادت والدتكِ، لقد أتت طالبة السلام والإسلام؛ فكانت أبواب الرحمة مفتوحة على مصراعيها، الآن كرري:

(أشهد ان لا اله الا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)

كررت تلك الجملة ٣مرات.

وارتفع صوت الحاجة فاطمة: مبارك لك الإسلام اعملي به لتصلي إلى عليين.

ابتسمت دون حديث ونظرت إلى أبو الصالحين متسائلة:

كيف لي أن أتخلص من ذلك الشيء؟

تلك خطوتك الأولي، لقد تبدل قلبك وصار على دين جديد.

ثم؟

ثم نزيل ما صُنع بالماضي لتستطيعي النجاة.

كيف؟

تلك العهود كتبت بدم والدتك، أنتِ الوحيدة القادرة على تبديلها؟

كيف ؟

سنقوم ببعض الطقوس لنبدل عهودهم.

ولكن كيف وجميع تلك العهود صنعت بدم أمي ولا أستطيع الوصول إليها.

وأنتِ وليدتها ما يجري بأوردتك دماءها.

مرت ساعات ونحن في انتظار أوامر شاصر حتى أتى للشيخ أبو الصالحين بالبيان.

أمرني الشيخ بالذهاب إلى منزل عائلتي القديم، كذلك النبش عن عُهدهم قديمًا، تلك العهود التي بينهم.

وماذا بعد ؟

إن وجدتِ تلك العهود سنقوم بحرقها؛ لتنعمين بحياة هادئة.

وماذا عن أبي، أقصد آدم.

نظر نحوي أبو الصالحين مبتسم باستخفاف ولم يُجب سؤالي ..

أخذتني الحاجة فاطمة في أحضانها فرحة كعادتها تظهر لي الحنان: مرحبًا بكِ في أحضان الإسلام، سأعلمك جميع ما علمت.

 ‏اريد أولًا الصلاة، تلك التي تبعد عني الشياطين.

 ‏لم أجد في حياتي السابقة راحة كمثل التي أشعر بها الآن.

 ‏بعد حديثٍ طويل دار بيني وبين الحاجة فاطمة ‏وصلنا إلى مسكننا.

 ‏كان سليم في انتظار عمته قلقًا، وما أن فتحت الباب أسرع نحوها:

 ‏اين كنتِ؟

 ‏أجلس يا سليم سأخبرك، لقد كنت رفقة راحيل لتنطق الشهادتين وتُسلم بالله وتسلم أمرها بيده

 ‏ماذا، هل أسلمتِ؟

 ‏نعم.

 ‏ولكن كيف فلم تغير اسمها؟

 ‏تلك مهمتك ستذهب بها إلى المشيخة لتعلن إسلامها وتغير ذلك الاسم وتأخذ شهادة الإسلام.

 ‏ابتسم سليم: هل هذا ما اردتِ؟

 ‏نعم، هذا ما أردت وشعرت فيه بالطمأنينة.

 ‏بارك لي سليم هذه الخطوة، أوصل عمته إلى غرفتها وعاد ليكمل حديثه معي:

 ‏هل تعلمين الأساسيات من الإسلام؟

 ‏لا، ولكن أريد تعلم الصلاة والركوع والسجود مثلما تفعلون.

 ‏سأعلمك جميع ما أردتِ، كذلك الحاجة فاطمة لن تتركك دون أن تصبحي صحيحة الإسلام، الآن اذهبي للراحة فغدًا نذهب إلى إعلان إسلامك.

 ‏ودعته بوعد اللقاء في الصباح، ذهبت إلى غرفتي، مددت جسدي بالفراش وتحدثت إلى روحي:

 ‏لقد عادت أمي إلى مصر لتضمن سلامتي.

 ‏اسلمت لتضمن النجاة، واجهت الحياة وحيدة خائفة لا تترك جدران غرفتها لتظل بعيدة عن الأنظار، ‏دفنت في مقابر غرباء عنها، ‏كنت أظنها رحلت رفقة أحد الرجال متخلية عني، ولكنها رحلت لتهبني الحياة، الآن لن أكون ضعيفة، لن أترك حياتي تستمر بهذا السوء.

 ‏بقيت مستيقظة انتظر شروق الشمس ‏حتى سمعت نداء الصلاة، كما اخبرتني الحاجة فاطمة ذلك أذان الفجر.

 ‏فتحت نافذتي وبقيت استمع واردد خلف المؤذن، تلك الليلة لم تزورني الكوابيس، كم أدين بالفضل لذلك الصوت الملائكي الذي حببني في نداء الصلاة، أود لو أستطيع شكره.

 ‏رأيت من نافذتي المصلين يسرعون تجاه المسجد وكأنهم في سباق، ‏بقيت هكذا حتى أشرقت الشمس وملأت غرفتي، ‏بدلت ملابسي وحملت حقيبتي، لا أود أن أقلق راحة السكن كذلك الحاجة فاطمة.

 ‏ووضعت بحقيبتي بعض  أعواد الثقاب الأحمر.

 ‏كذلك كتابي الدموي، ‏فعلت ما أمرني به أبو الصالحين وذهبت إلى منزل أجدادي بالحي، وقفت أمامه مبتسمة في سخرية

 ‏لم يكن هناك صدف لأقف أمام ذلك المنزل، بل دبر الأمر جميعه لأعود هنا.

 ‏تحسست المكان إنه قديم مهجور يتخذه السكان مكبًا للنفايات، تخطيت ذلك الأمر وأسرعت في الدخول، وقفت في ساحته 

و ‏رأيت المنزل كاملاً، عدت بالذاكرة إلى جميع كوابيسي التي أتت بي هنا.

 ‏تجولت بالمنزل يبدو لي أن أحدهم كان هنا قريبًا.

 ‏وتأكدت أنه آدم وذلك الشيطان ناحوم حين رأيت أثر لهم، يبدو لي أن ذلك الأثر بقى ليخبرني بأمرهم، لقد تركوا بعض البصمات في المكان؛ فالأثاث يحمل الكثير من الأتربة  تُركت بصماتهم عليه ما يخبرني عنهم.

كذلك هناك بعض الاقمشة العالقة في أحد الأبواب، تلك الاقمشة خاصة بآدم يبدو انها علقت هنا لتترك له اثرًا.

غرف المنزل كثيرة أين سأجد تلك العهود؟

وقفت حائرة قليلاً حتى تذكرت تلك الغرفة التي رأيتهم يجتمعون بها ويقومون فيها بالطقوس الشيطانية، أسرعت في البحث عنها، فتحت جميع الأبواب ناظرة داخل الغرف حتى وجدتها.

بها منضدة طويلة تتسع لأكثر من عشرين فرد، تلك المنضدة التي مددت عليها أمي قديمًا لتقدم قربانًا لشيطانهم.

وهناك مقعد فخم عملاق على رأس تلك المائدة، كان خاص بالأب الأكبر للعائلة، ذلك الذي لا يرفضون له أمر، من اتفق مع الشيطان.

بدأت في التفتيش عن تلك العهود، قلبت الغرفة رأسًا على عقب دون جدوى، أخذتُ أفتش بالأرض ظنًا مني دفنها تحت الأنقاض ولكن الأرض صلبة.

أين كنت سأخفي تلك العهود لو أني مكانهم.

ذهبت إلى مقعدهم، جلست في تكبر مثل ما كانوا يفعلون وصرت أصدر الأوامر لأعيش حياتهم السابقة.

وجدت روحي تلقائيًا تحولت وأخذني الغرور.

كيف لا...

 شخصًا يجلس على رأس عشرين فرد عليهم له السمع والطاعة ولا يستطيع أحدهم رفض أمره، ألن يشعر بالغرور؟

تحركت يدى تلقائيًا إلى خزنة ذلك المقعد، إنها خزنة صنعت في جانبه، عليها قفل صغير يبدو أن كبيرهم كان لا يثق بهم؛ فجعل خزنته قريبة إليه إلى ذلك الحد، ابتسمت في ثقة ووقفت أبحث عن ما استطيع  به كسر ذلك القفل حتى وجدت احدى الأدوات الحديدية، تحركت احمله إلى حيث المقعد مرة أخرى ولكن هناك ما يبطئ حركتي.

أشعر بثقل ساقي ولا أستطيع تحريكها أدركت أن هناك من يعمل على تعطيلي، إنه هنا أشعر بأنفاسه كذلك رائحته ملأت المكان.

لم يفلح أن  يقيدني عزمت على الوصول إلى ما أردت.

بدأت الأشياء تتطاير من حولي جميع ما بالغرفة يتحرك من مكانه، فلم يعد هناك ثابت سوى ذلك المقعد، رياح شديدة تحرك الثوابت من أماكنها كتلك التي أنقذتني من يد الحاخام سابقًا.

لم ينجح أن يشعرني بالخوف، لقد تماسكت بتكرير لفظ الجلالة حتى استطعت الوصول إلى المقعد ثانية وأمسكت الأداة  بيديّ وعزمت على الوصول لما تخفيه تلك الخزنة.

وفي كل دقه كانت تعلو الصرخات، أعلم ليس هناك من يسمعها غيري، تلك الملكة تتألم ترجو مساعدتي ولكني لم أشفق عليها ذلك ما حذرني منه أبو الصالحين.

ستلجأ لاستخدام أكثر من سلاح وكان رجاءها هو السلاح الأول.

لم اهتز لتلك الدموع المزيفة بل زدت اصرارًا على ما أريد.

تزداد الدقات وتزداد معها الصرخات.

حتى كُسر القفل واستطعت الوصول إلى الخزنة.

هناك الكثير والكثير من الأوراق داخله، أوراقًا قديمة مهلكة جميعها دُون بها باللون الأحمر تحمل ذات التعاويذ وذات الرسومات ولكن بعض الأوراق رسم بها فتاة صغيرة مقيدة.

وإلى جوارها غولاً ينهش جسدها.

أخذت أُلملم جميع الأوراق.

قطع عملي صوت احدى الجميلات تنادي:

 راحيل، فتاتي الصغيرة راحيل.

سحرني الصوت وشعرت أني أعلم من تكون، تركت العهود ونظرت نحو الصوت أُحدث روحي:

 من تلك؟ 

لتظهر أمامي أمي مبتسمة ترتدي ملابس بيضاء تجعلها كالأميرات، فاتحة يداها على مصراعيها تنتظر أن أرتمي بأحضانها.

 ‏أمي؟

 ‏نعم يا صغيرتي ..لن أرحل ثانية، لن أتركك في ذلك العالم وحيدة تائهة.

 ‏ولكن هذا ما فعلتِ يا أمي.

 ‏لن أعيد فعلتي ثانية، تقدمي يا راحيل، اتركِ ما يعنيك في ذلك العالم؛ فأنا في انتظارك،

 ‏فرحت كثيرًا، أصبح لي أم، عادت أمي من مرقدها لتشعرني بالحنان والأمومة.

 ‏تركت ما بيدي، تقدمت نحو أمي بعيون فرحة وعقل شارد ‏حتى استفقت على قول أبو الصالحين:

 ‏ستتلون تلك الحية على هيئة من تحبين، ستوهمك بحياة هادئة أكثر راحة ولكن ما هي إلا أخطبوط سيفرد أرجله حولك  ثم يغلق عليكِ بقوة؛ لتكوني في عداد الأموات.

 ‏هنا نظرت بعين الجد لمن تأخذ هيئة أمي صرخت في وجهها:

 ‏من سكن تحت التراب لن يعود، لقد ماتت أمي مسلمة، ‏لن تدوم  تلك العهود  لن يحيا آدم وناحوم إلى الأبد، ‏لن اتخلى عن حقي في تلك الحياة لأجلك.

 ‏ثار ذلك الشيطان وتحولت إلى هيئته المتوحشة صارخًا: لقد انقذتك من النيران صغيرة لأجل ذلك اليوم الذي اقتلع فيه فؤادك ليكون ملكًا لي.

 ‏وهبت أجدادك حياة أبدية لأجل أن يهبوكِ لي.

 ‏لم أكن يومًا ملكًا لأجدادي.

 ‏لقد أردت أن تزيد جهنم فردًا بي ولكني خذلتك.

 ‏فرد ذلك الأسود جناحيه وطار في أرجاء الغرفة، صار يتخبط  بي، يوقعني أرضًا يمنعني الوصول إلى أوراق العهود.

 ‏احاول جاهدة ولكني أصبت بجروح مبالغ فيها من أثر صدماته، عجزت عن الحركة كاد أن يفتك بي.

 ‏إلا أن ظهور (شاصر) منعه من قتلي.

 ‏رأيت طيفًا بملامح مفزعة ولكنها توحى بعظمة الشأن، وتبعث فيك الشعور بالراحة، يمتلك لحية بيضاء ناصعة طويلة إلى حد لا يوصف، يرتدي الأبيض وله جناحان عظيمان.

 ‏ذهلت من هول ما رأيت.

 ‏لقد دارت بينهم معركة دامية استمرت إلى دقائق، لوهلة نسيت أمر العهود وبقيت في مكاني أشاهد ما بينهم، حتى تذكرت حديث أبو الصالحين:

 ‏إذا ما دارت المعركة واشتبك ( شاصر) بذلك الشيطان ‏أسرعي إلى إشعال النيران في عهودهم القديمة لتنهي بيدك ذلك القدر.

 ‏أسرعت إلى أوراق العهود أجمعها من هنا وهناك حتى استطعت تجميعها.

 ‏انزلت حقيبتي وأخرجت منها أعواد الثقاب وقمت بإشعال النيران سريعًا بعهودهم دون تفكير.

 ‏انتشرت النيران سريعًا بين الأوراق وتبخرت جميع العهود كذلك أطيافهم.

 ‏ فلم يعد هناك من طيفهم شيء وقفت على أقدامي أنظر حولي، انتشرت النيران بجميع أرجاء الغرفة وخرجت من النوافذ، أسرعت في الخروج من تلك الغرفة.

 ‏والغريب انتشار النيران بجميع المنزل دون تدخلي لإشعالها، أسرعت في الخروج من ذلك المنزل؛ فوجدت الكثير من سُكان الحي مجتمعون يحاولون إطفاء النيران دون جدوى، لم يلتفت لي أحد سوى سليم الذي وقف على مقربة يشاهد الحريق، وجدت روحي اذهب إليه أقف إلى جانبه دون حديث ‏لبعض الدقائق، ‏ليقطع هو هذا الصمت:

 ‏هل انتهى الأمر؟

 ‏أظن ذلك فلم يعد هناك من عهودهم شيء، كذلك ما سعوا إليه قد تبدل.

 ‏الآن لأبد من إكمال ما بدأتِ.

 ‏وها أنا على استعداد.

 ‏ذهب بي سليم إلى مشيخة الأزهر.

 ‏جلست رفقة بعض المشايخ اللذين تحدثوا عن أسس إسلامي، كذلك قاموا بتعليمي أساسيات ديني وكيفية الصلاة، تقبلت تلك الأمور فرحة بقلب مطمئن، جئت إلى اللحظة الحاسمة ونطق الشهادتين مرة أخرى.

 ‏ولكني شعرت وكأنها مرتي الأولي.

 ‏طلب الشيخ مني ترديد ما يقول وأخبرني أن تلك هي شهادة الإسلام الأولي ‏قولاً، وكان ذلك الأمر الثاني التي ساعدتني الحاجة فاطمة لأجله.

رددت الشهادة وسعدت بقول مبارك عليكِ الإسلام

 ‏وأتت لحظة تبديل اسمي، أتى أحدهم بورقة تحوى بعض الأسماء ولكني لم أنظر إليها، كنت أعلم جيدًا من سأكون، ‏سأكون عائشة.

 ‏ذلك الاسم سكن فؤادي ولا أظن سأجد خيرًا منه.

 ‏بارك لي الجميع على حُسن اختياري وانتهى ذلك الأمر، وامسكت بيدي شهادة إسلامي الورقية.

 ‏كانت هديتي من أبو الصالحين هي كشفه لي مكان دفن أمي، اخترت أن أذهب إليها وحدي لتكون لحظتي الأولى.

 ‏معها، اُظهر لها حنيني إليها وأبكى دون اهتمامي لأمر أحد.

 ‏وقفت أمام مدفن أمي، رأيت اسمها أعلى القبر (عائشة محمد عبد الله )، ذلك الاسم الذي اكتسبته بعد إعلان إسلامها، ألقيت عليها السلام، كذلك قمت بقراءة سورة الفاتحة كما علمتني الحاجة فاطمة، لقد انتظرت تلك اللحظة عمرًا بأكمله، عشت ظالمة لكِ، انعتكِ بالخائنة لتركك لي ولكني الآن أشهد بأن ذلك العمر الذي أعيشه بفضل الله ثم تضحيتك

 ‏رحمك الله يا أمي وجمعني بكِ قريبًا، لأطفئ نار شوقي إليكِ.

 ‏انهيت زيارتي لأمي بوعد بلقاء قريب، التفت للخروج من المكان، وفي التفاتتي رن هاتفي ووجدت المتصل أدفأ، وضعت الهاتف على أذني أستمع إلى ما تقول:

 ‏راحيل لقد عاد أباكِ يا فتاة، هو الآن من يبحث عنكِ بجميع البلاد.

 ‏عودي، لقد انتهي الأمر ولن تجدي مشقة.

 ‏حدثتها بالعربية غير مبالية لما تقول:

 ‏لقد قُتلت راحيل في مواجهة الحياة وولدت بدلاً عنها عائشة.

 ‏أغلقت الهاتف وخرجت من المكان سيرًا بساقٍ عوجاء، متخذة قراري بعيش تلك الحياة رغمًا عنها.

 ‏

 ‏

 ‏انتهت رحلتي هنا فلم يعد في سلسلة تخلي منذ الصغر

‏حديثًا آخر ...

 ‏ ‏تلك الرواية كُتبت في أسوأ فترة حياتية مررت بها، واجهت صدمات لا بأس بها، ولكنيّ ما زلت أقف على قدمي إلى الآن؛ فلم تستطيع تلك الحياة كسري. 

تمت.

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب333997
2الكاتبمدونة نهلة حمودة189901
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181506
4الكاتبمدونة زينب حمدي169753
5الكاتبمدونة اشرف الكرم130967
6الكاتبمدونة مني امين116786
7الكاتبمدونة سمير حماد 107830
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97903
9الكاتبمدونة مني العقدة95016
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين91775

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
2الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
3الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
4الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
5الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
6الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
7الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
8الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
9الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
10الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14

المتواجدون حالياً

1679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع