عزيزتي سالي، كم من المرات سألتِ ولم أجب! لكنني الآن سأخبركِ سري، سأحاول تجسيد وهمي الصغير في كلمات بسيطة، بكل بساطة معقدة؛ نعم أحب، تريدين معرفة الرجل؟
لا أستطيع إخبارك عنه؛ حيث إنني لا أعرفه، أو أكاد أكون لا أعرفه. كل ما أستطيع البوح لك به في رسالتي هذه أنني أحببت رجلًا بلا لون.
أحببت رجلًا بلا لون جلده شفاف، وعيناه نافذتان على روحه، لسانه الكاذب يظهر ما هو ليس داخله، يخشى ما بداخله فيغرقه بالكذبات، يتلون تبعًا لتغير درجة حرارة أعصابه، وتبعًا للتاريخ والزمن، يصدر نغمات تائهة دومًا لكنه لا يحاول الوصول، ويحب التيه والتخبط بلا هدف.
في أيامه الأولى على الأرض، لم يكف عن الدوران حول والدته التي تنظر إليه بحنان متوجسة خيفة على الطموح الصغير، لكنها تثق بذكائه، فتتركه لندى الصباح كي يعطره بالحياة، ولشمس الظهيرة كي تمنحه البركات والصحة، وفي آخر الليل يودعه القمر وتمسح هي عن جبينه الجهد والمشقة بقبلة وعناق لتمنحه الأمان والأمل للصباح.
بعدما شبَّ قليلًا عن الطوق، اعتاد القفز من فوق السدود والحوائط واجتياز مدن الضباب منفردًا، كانت رغبته شديدة في الوصول إلى الشمس، أراد أن يقبض عليها في كفه، اقترب كثيرًا وابتعد كثيرًا، لكنه لم يصل بعد إلى مبتغاه الخيالي المثالي.
أحببت رجلًا لم يمنح قلبه مفتاحًا ولا قاربًا، ولا له إشارات مرور، بل سلم للعقل كل الخزائن والسفن، وأدار قلبه عن الحب راغبًا عنه وكان محقًّا، فالقلب متقلب لا ثبات له.
أحببت رجلًا أصبح كلما اجتاح إعصارٌ قلبه تراجع خطوتين، يظن الحب قيدًا يكبل عنقه، والحبيبة سوطًا من نار يلتف حول حريته ليعتصره ببطء.
كل الفراشات الصغيرة المعلقة بأجنحتها الود والقرب والمشاعر الرقيقة، تنجذب إلى النور الصادر من عينيه، يشدها عنوة ضياء روحه الطيبة، لكنه فجأة يغلق عينيه ويخبئ روحه خلف الغياب، لتسقط الفراشات يائسة حزينة ما بين موت وحياة.
يختار طريقًا مظلمًا آخر يخطو خطواته المترددة إليه، يتقدم خطوة ويتراجع اثنتين، وتدور الكرة كما كل مرة! ليظل وحيدًا ينعى وحدته التي يحبها.
أظنني في آخر أيام الأرض سأراه هناك وحيدًا يدور حول ذاته.
أحببت رجلًا متمردًا خائفًا مترددًا واثقًا متلعثمًا طليق اللسان، يملك من الجرأة ما أُحبه، ومن الخجل القدر الذي أعشقه، يتكلم فيُحسِن الكلام، يصمت فيحسن الصمت، ويثور فيحطم كل الأشياء بما فيها قلبه، ولا يتراجع أبدًا عن ثوراته الحمقاء، ولا عن عناده الذي قد يكسر من أجله جبهته.
يمنحني بين كفيه ابتسامات كثيرة، وفرحًا ورقصًا وورودًا وعصافير ملونة.
أحببت رجلًا أرى في وجوده جنَّتي الصغيرة، وفي رحيله يأكلني الصمت وتلتهمني الوحدة، ويحمل بين كفيه أيضًا بكاءً لا ينتهي وحزنًا وخذلانًا.
لطالما تساءلت: كيف لقلب حنون كقلبه أن يسكنه كل تلك القسوة؟
أحببت رجلًا يحمل المتناقضات جميعها، يمنحني "أحبك" في سلوفان مزركش، ويمنحني "لا أحب قيدك" في فستان أسود، فلا أعرف موضع رأسي من قدمي، ولا أرى مشرق الشمس من مغربها.
أحببت رجلًا يصبح الاقتراب منه إلى درجة الذوبان فيه مؤذيًا جدًّا، فكل الأيام التي التقينا فيها نيران تستعر في مدني، وكل السعادة السابقة معه تؤلمني الآن كأنها أقسى من أي كارثة مرت على مدني؛ فليتها لم تحدث، وكل الكلمات الجارحة التي قالها، سواء متعمدًا أم لا، تمنحني نظرة ساذجة على نفسي وترثيني، تؤنبني قائلة لمَ أحببتُ رجلًا يحوي بداخله العالم كأنني داخل كرة أرضية مستقلة، سماؤها عيناه، وأصوات الطبيعة صوته، والهواء الذي أتنفسه هو في الحقيقة كلماته. أحببت رجلًا بلا لون، لكنه عالم بكل الألوان. ولذلك، حينما يغيب يتشح عالمي بالسواد.