نظرت (نسمة) إليه بعينيها الحزينتين قائلة: ذكِّرني، لم تركَ أحدنا الآخر؟
وصمتت، كأنها لم تتذكر أبدًا لِمَ!
فقال (شادي) بأسى ممزوج بحيرة دفينة: لا لَم يترك أحدنا الآخر، بل تركتِني أنت!
فانتبهت كأنها لم تكتشِف ذلك إلا الآن.
كيف تركته؟ كان رجلًا يحمل بين ضلوعه قلب طفلٍ وأهداها إياه، فتركه يغفو بين كفيها بحنانٍ ولما اطمأن أسقطتهُ بلا رحمة.
كيف تركته، وهو الذي حين كان ينظر إلى عينيها تختفي غيمات الحزن وتنبت أشجار من فرح؟!
كيف تركته، وقد كان رجلًا في عينيه أساطير من عشق مصفى لها، حين تبتسم يدور فرحًا كطفل صغير أعطته أمه الحلوى المفضلة، وحين تعبس قليلًا تمتلئ عيناه دموعًا؟!
إنه يحمل متناقضات لذيذة، ما بين الطفولة والرجولة، ما بين الشدة والحنان الطاغي...
ثم تذكرت السبب سريعًا كالبرق حين يصطدم ببضع أشجار محطمة فيشقها إلى نصفين من نار، فابتسمت قليلًا إلى أن قطع (شادي) حبل أفكارها بقوله: أتعرفين، طيلة تلك السنين الماضية، كنت كلما مررتُ على الشركة التي تعملين بها أصعد إلى الطابق الموجود به مكتبك، أنظر إليك دون أن تلاحظي أنكِ منهمكة في العمل بلا نهاية، ثم أرحل. وفي المرة الأخيرة لم أجِدك، ولم أستطع السؤال عنك، إذ خشيت أن أسبب لك أي حرج، أما اليوم فأنا سعيد جدًّا بهذه الصدفة التي جمعتنا. أنا لا أنسى أبدًا، أي شخص قريب إلى قلبي يظل قريبًا إلى الأبد، حتى إن نسيَ هو، ومن الواضح أنكِ قد نسيتِ.
(نسمة) بتعجب، أو استنكار: ما الذي نسيته؟
(شادي) بنبرة أسى: نسيتِ كل شيءٍ كان، لكن الله جمعنا مرة أخرى في آخر مكان نتوقعه ودون أن نتخيل ذلك.
(نسمة): فعلًا صدفة عجيبة لا مبرر لها إلى الآن!
(شادي): مبررها الوحيد أن الله يعلم كم يحتاج أحدنا إلى الآخر في هذه الفترة من حياتنا، تحت أي مسمى وتحت أي بند. أم ماذا تعتقدين؟
(نسمة): أنت أخ عزيز.
(شادي): وأنتِ أختي وابنتي التي أخشى عليها دومًا، وربما الآن أكثر من ذي قبل. أشعر بمسئوليتي تجاهك طوال عمري، فإذا حدث واحتجتِ إلى أي شيءٍ كان، أخبريني دون تردد وسيصبح بين يديك. هل نستطيع الذهاب لتناول مشروبٍ ما أو غداءٍ ما؟
(نسمة): بالطبع لا! فالبشر من حولنا لا يعلمون أنني أعتبرك أخًا وأنكَ صديق قديم.
(شادي): أرجوكِ لا تكرريها مرةً أخرى، فأنا موافق على كوني أخًا رغم أنني طيلة عمري وأنا لست أخًا، لكنني لن أرتضي لك أيَّ أذى.
(نسمة): لم تكن أخًا، لكنك الآن أخٌ وستظل أخًا، وأطفالك أولاد أخي وزوجتك زوجة أخي. تذكرتُ الآن الشيء الذي جعلني أبتعد كما أنت، لم تتغير طيبتك وحنانك ورجولتك، وهو الجزء الجيد، لكنه يختلط بأفكارك وطباعك المختلفة عني تمامًا، والتي لم أجد فيها شيئًا واحدًا مشتركًا بيننا، حتى قناعاتك الشخصية والدينية تعرف أنها بعيدة تمامًا عني كمتشدد. ثم كيف يصور لك عقلك أنني تركتكَ وأنت لي كامل كلك والآن سأرتضي بنصفكَ فقط؟! ثم هل تعلم عني أنني أحب أن أوذي نساء غيري؟
(شادي): بالطبع لا! لكن أي أذى تتحدثين عنه؟! الدين يدعم التعدد، وكل امرأة يجب عليها أن تقتنع بذلك، وإلا فإنها تُصبِح منكرةً لحدود الله، ثم إنني سأحاول إقناع زوجتي بالتعدد.
(نسمة): وها هو الشيء الذي جعلني أفر منك في الماضي، أيضًا تشددك الديني وتفسيرك العقيم للدين. أتريد أن تُعدِّد لأن الدين قال لك عدِّد؟ أتناسيتَ الشروط التي وضعها الله كحدودٍ صعبة التحقيق في العدل؟ إن التعدد يجرح كل النساء بلا مناقشة، حتى وإن لم يُظهِرن ذلك.
(شادي): أنا لن أُغضِب زوجتي، وحينما نتزوج سترضى، ولكن فيما يخص الشروط، فلمعلوماتك البسيطة نحن البشر من وضع الشروط، الدين قال فقط «ولن تعدلوا».
(نسمة): وهو أكبر شرط وضعه الله لكم، وقد يكون شرطًا تعجيزيًّا، لمَ لا تنظر إليها من هذا المنظور؟ الله يضع سدًّا اسمه العدالة بينك وبين التعدد، لمَ لا تأخذ كل الأمر؟ لمَ تأخذ نصفه وتترك نصفًا؟
(شادي): أصبحتِ «الحاجة نسمة» الآن!
(نسمة): يكفي أنك أنت «الحاج» و«الشيخ» فقط بمعتقداتك تلك، أنا لا أدَّعي أنني عالمة، لكن الله وضع بي عقلًا لأفكر به، وما دام لم يذكُر في القران شيئًا، فكل الأشياء اجتهادات لا أكثر. لذا كُفَّ عن الاستهزاء بكلامي.
(شادي): حاشَ لله! أنا لا أستخف بكلامك، ثم لا تطلقي نيرانك على الدين، أنا لا أحب النقاشات الحادة والتعصب والانفعال علي.
(نسمة) ضاحكة: وتلك هي الأسباب الأخرى التي جعلتني أتركك. أتذكر حينما أغضبتني وافترقنا لأيام ثم جئتني بهدية جميلة لتصالحني بها، وأنا برقة فتاة صغيرة ودلال أخبرتك أنني لا أريدها لأنني غاضبة منك وألقيتها من النافذة. أتذكر؟
(شادي): يا الله على القلب الأسود! للأسف عنفي وعصبيتي الزائدة داءٌ لم أتخلص منه، والحمد لله أن زوجتي متعايشة معه، لا أعلم كيف، لكنها متلائمة معه فتحتويني وتتقبلني.
فالتمعت عيناها بفكرة وقالت: أترى منحكَ الله الشخص المناسب لك تمامًا، يتحملك بغضبك وانفعالاتك ويتقبل أفكارك كلها ومعتقداتك كما كنت تتمنى وأفضل، لو كنتُ في موقعها لما تحملتُك أبدًا ولما تحملتَ أنت شخصيتي وأفكاري أبدًا.
(شادي): صحيح بالفعل، كل شخص يمنحه الله المناسب له تمامًا.
(نسمة): لكُنَّا حينها دائمي المشاحنات والحزن والهم، ولربما حينها نصل إلى كره أحدنا الآخر.
(شادي): وقلوبنا؟ وتلك المشاعر التي كانت بها؟ هل كانت ستشفع لنا وتُنسينا المشاحنات كلها؟ أتذكَّر أشياء جميلة جدًّا كانت بيننا.
تحدث بأسى يستعطفها بنظراته، لكن (نسمة) تعلم تمامًا ما لا يريد.
فقالت: بالضبط، كانت... ولو أن ما بيننا كان كافيًا وقتها لربما تغير أحدنا ليناسب الآخر.
(شادي): ربما كنا نحتاج فقط إلى بعض الوقت، وربما إن ارتبطنا الآن...
قاطعته: ارتبطنا؟ وزوجتك؟ أتظن أن من حقها عليك بعد كل تلك السنين والتحمل أن تتزوج عليها دون أي سبب فعلي لمجرد أنكَ تريد أن تعيش مراهقتَك وتحقق أحلامك القديمة وذكريات شبابك؟! أذكُر لي عيبًا واحدًا بها.
(شادي): ولا عيب قط، أنا أحبها، والله أحبها، وهي أيضًا تحبني، لكنك أنت أمنيتي منذ زمن طويل.
(نسمة): تحبها وتحبك وتمنحك ما تريد من طاعة وود وصمود لأخلاقياتك وعقليتك، ومنحك الله منها الذكور والإناث، ماذا تريد إذًا؟! لاحظ أن من لم يُقدِّر الأشياء المهمة بين يديه تسرَّبت من بين أصابعه. لم يمنحكم الله الرخصة للتعدد كي تمنحوا أنفسَكُم الرخص العديدة للأعين الفارغة! صحيح، إن الرجال لا يستطيعون أبدًا أن ينسوا مَن آلمتهم أو مَن لم يَستطيعوا الحصول عليها.
(شادي): أتعلمين عني فراغةَ العين كبقية الرجال؟ أنا لن أنساكِ عمري، ولن أقول أبدًا أنك قد منحتِني الألم، لكنكِ ستظلين نسمتي الرقيقة، واحتي الجميلة وسط صحراء أيامي، كلما أنهكني العدو وراء الدنيا أستريح فيها قليلًا.
(نسمة): نعم، أنتَ تعيش دورًا سينمائيًّا يُدعَى التديُّن الظاهري، متدين بلحيتك، تصوم وتصلي نعم، لكن فراغة العين واحدة، وحينما رأيتَني أردت العودة إلى زمن ولَّى وذكريات ومشاعر فرَّت منذ بعيد... الذاهب لا يعود يا شادي، لا الأيام ولا الأشخاص. لمَ تريد هدم ما بين يديك من أجل أشياء قديمة كانت بيننا؟! يعلم الله أنك إن فعلت فربما فشِلت، وحينها تكون قد خسرت الواحة وخسرت كل الذي وصلت إليه الآن؛ ستتحول واحتك إلى خرائب.
(شادي): لكنني ما زلت أحب...
قاطعته (نسمة) قبل أن يكمل بابتسامة خفيفة قائلة: أرجوك! لا تتفوه بكلمات قد تندم عليها، وقد أفعل أنا. زوجتك الرائعة لن تجد مثلها، أولادك الأبرياء، ابنتك الصغيرة لا تكسرها، لا تجعل منها فتاة مشوشة متشتتة المشاعر بثقة مهزوزة في الرجال، لمجرد أن والدها قد رأى شعرات بيضاء وأراد أن يعيد الشباب والذكريات.
صمت (شادي) قليلًا ثم قال بيأس حيث إنه يعلم أن (نسمة) حين تقرر فلا تراجع: أصدقاء إذًا؟
(نسمة): أيُناسِب ذلك ذقنك يا شيخ؟!
(شادي): اسمها لحيتك.
(نسمة): ذقنك.
(شادي): لحيتك!
(نسمة) مقهقهة: ذقنك!
(شادي): عنيدة!
(نسمة): لستُ أكثر منك عنادًا! أنا وأنت لا نصلح إلا أن نكون معارف فقط من على بُعد، أراكَ فأسلم من بعيد وتشير لي أن إلى اللقاء، ثم يرحل كل منا إلى طريقه، كما سأفعل الآن. سلام يا شادي! أم تفضل أن أقول سلام يا حاج؟!
رد عليها بأسى شديد: سلام يا نسمة، يا نسمة من الماضي...
فردت قائلة: حاول ألا تضيع منحَ الله لك، حافظ عليها لأنه قد يستردها جميعًا.
بالطبع قد لا نحصل على كل الأشياء التي نتمناها، لكننا سنُمنَح الأشياء المناسبة لنا.
فقط فلنتحلَّ بالرضا
آمال محمد صالح احمد
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
أيمن موسي أحمد موسي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
رهام يوسف معلا
هند حمدي عبد الكريم السيد
يوستينا الفي قلادة برسوم
ياسمين أحمد محمد فتحي رحمي
فيرا زولوتاريفا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
ياسر محمود سلمي
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 

































