الليلة غريبةٌ نوعًا ما، لا تستطيع أن تحدد هل هي باردة أم حارة مع نسمات رقيقة بين الحين والآخر.
جلست (هويدا) لتستمع إلى بعض الموسيقى والأغنيات المنبعثة من راديو قديم، وبيدها كتاب خفيف، تقرأ ورقة واثنتان ثم تختطفها الذكرى إلى قِفارها الموحشة الممتدة بلا نهايات واضحة.
رأت (حسام) في حلُم يقظةٍ في البدايات، حين بنَتْ أحلامها الوردية عليه، يشطر قلبها إلى نصفين؛ نصف عشق ونصف اشتياق. تبتسم تارة وتبكي أخرى، لا تعلم حقًّا كيف حدث هذا، ولا متى... لكنها تعرف تمام المعرفة أنها مخطئة؛ مخطئة حين تركت لقلبها الانسياقَ بلا عقل وراء مشاعر مزيفة اعتقدت أنه مختلف حين كان يقولها.
أحبك!
ثم بعدُ يا حسام؟
أهذا ردٌّ متعقلٌ يا هويدا؟!
نعم، إنه رد منطقي جدًّا، بعد «أحبكِ» ما الذي عليَّ أن أتوقعه؟!
صمت (حسام) بتعجب كأنما توقع أن تسقط في غرامه منذ «صباح الخير»، فأكملت على الفور دون أن تمنحه فرصةً للكذب، إذ إن لديها قناعاتها الشخصية بأن معظمهم كاذبون.
سأخبركَ كيف يصبح الوضع بعد «أحبك»، بعض الكلمات المنمقة هنا والمزركشة منك هناك، غيرة حمقاء من هذا ومن تلك، مشاحنات عديدة منك ومني، ثم رويدًا رويدًا كل الانبهار الذي يغشى عينيك بشخصيتي المبهرة التي لا مثيل لها يسقط، تاركًا لنا الاختلافات في وجهات النظر والتحكم الذكوري منك والتقلبات الأنثوية مني، ثم يقابلها تجاهل منك لبعض أشيائي المهمة، وتهكُّمًا على بعض اهتماماتي.
لقد جُنِنتِ يا هويدا تمامًا! لمَ لا نتعشم في وجود تفاهم أكثر بيننا وحب أكبر وتنازلات من الطرفين لتسير المركب في هدوء؟
أترى؟! بدأنا فيلمًا عربيًّا جميلًا، مشكلته أنه قديم بالأبيض والأسود غير حياتنا الملونة.
أنتِ في غاية الغرابة!
سأخبرك شيئًا ما، في عالم النساء حينما نعثر على سبب واحد فقط ليجمعنا بشخص ما، هواية واحدة، شيء واحد مشترك، فإننا نتمسك به على أمل أن نبني صرحًا من الأحلام الجميلة وقصرًا من السنين الطويلة السعيدة. أما في عالمكم الذكوري، حينما يعثر الرجل على اختلافٍ واحدٍ بينه وبين المرأة، فإنه يحوله إلى جبل من السدود واللامُمكِنات للتعايش بينهما، ويصل إلى قرارٍ مفاده: «لا، لن أكمل معها». فلمَ تعب القلب منذ البداية عزيزي؟!
إذًا ردِّي الحاسم: آسفة! لا أملك مكانًا بالقلب ولا جزءًا لم يمتلئ حزنًا بالعقل، ولا صبرًا على قصةٍ تبدأ لتنتهي.
أخبريني، من أين حصلتِ على هذا العُقدة الفريدة من الرجال؟!
أنا لستُ معقدة، بل فلنقُل لا أملك أي ثقة في الصنف نفسه، لا تصلحون لشيءٍ مشتركٍ بيننا، ربما صداقة فقط، ومن دون أن تسأل، فلأن كل من في حياتي منكم خذلوني.
كل من بحياتك منا! كم العدد؟ عشرة؟!
ضحكت (هويدا) بشدة قائلة:
عَشرة يا حسام! لماذا؟ أتراني أجلس على قارعة الطريق أعد كيلوات من الطماطم غير الناضجة؟!
ابتسم (حسام) قائلًا:
كم إذًا؟!
أنا لا أتحدث عن أشياء عاطفية فقط.
وإن تحدثنا عن العاطفية فقط، هل تظنين أن تجربةً أو اثنتين كافيتين لتُطلقي حكمًا مطلقًا على جميع البشر؟ لا تُطلقِي على الرجل رجلًا مرةً أخرى إلا حينما تلتقي برجالٍ على حق، فالرجل الحق ليس بخائن ولا بائع، ولن يخذلك أبدًا، أما أشباه الرجال فلا شأنَ لنا نحن الرجال بهم ولا نصنفهم منا، بل نلفِظهُم نحن أيضًا.
تذكَّرَت كيف صمتت حينها متظاهرةً بالتصديق، لكن شيئًا داخلها رفضَ قليلًا ادعاءاته شبه الحقيقية.
ولكن، وعلى النقيض من كل قناعاتها، صدَّقت كذباته بمنتهى السرعة والسعادة والغباء! تقتنع سريعًا بمنطقه اللامنطقي، وتبتسم وحدها مع الظن أنَّه هو الملجأ الأخير بعد طول سنينها العجاف.
لقطات الماضي تحاصرها من جديد، تسمع صوته يحاورها كأنه الآن هنا!
لن يحدُث أن ينكسر قلبكِ بسببي أبدًا، ولن يحدث أن تبكي عيناكِ الجميلتان بسببي أبدًا.
لِمَ لا تَعِد بما تستطيع فعله؟
غضب (حسام) حينها عاقدًا حاجبيه، فسألته متعجبة عن سبب غضبه، فرد عليها بأنَّ ظنها السيئ يُعذبه أكثر من أي شيء، وأن توقعها الأسوأ منه دومًا يقتله.
حاولت توضيح الموقف بأنها تقتنع أنَّ الغدَ مِلكٌ لله ولا يملك إنسانٌ مهما كانت كينونته معرفة ما الذي سيحدث غدًا، وبالتالي فلن يستطيع هو التنبؤ بما إذا كان سيكسِر لها قلبًا أو سيُدمِع لها عينًا أو لا، هل سيظل يحبها إلى الأبد مثلًا؟! هل سيستطيع منحها الحبَّ الذي تتمناه أو تبحث عنه أم لا؟!
ظل يقنعها بأنه لن يخذلها وأن خوفها سبَّب له قهرًا بالغًا لأنه لم يستطِع منحها الاطمئنان اللازم لجعلها مقتنعةً تمامًا أنه الرجل الذي سيمنحها السعادة.
أفاقت من ذكرياتها مصطدمة بنغمات أغنية أرجعتها إلى المزيد من الذكريات:
شوفت شوفت شوفت.. سحر الحب عامل فيا إيه
دوشة حلوة حلوة حلوة.. زي ما تكون سيمفونية
انسابت كلمات حب (سعاد حسني) إلى أذنيها، فبكَت بحرقة أُم ثكلى على وليدها الذي ذاقت منه الأمرين وما زالت تبكي فراقَه.
بكت متسائلة، كيف لأغنية سعيدةٍ إلى هذا الحد أن تبكيها هكذا؟!
كيف لشيء مبهج إلى هذه الدرجة أن يجعلها تكتئب في ثوانٍ؟!
كيف تغيرت مواقع البهجة فأصبحت مؤلمة إلى الحد الذي تمنَّت ألا توجد تلك الأغنية في مدار العالم؟!
إنها أنشودتهما الرقيقة، فكيف تستمع إليها الآن ولا تتذكره بعدما أصبحت وحيدة؟!
أنشودتهما التي اقترنَت ببدايات المشاعر، تلك المشاعر التي ظنتها أصدقَ من قصص الأولياء والسابقين!
كلما كان يستمِع إليها يضحك فتلتمِع عيناها العسليتان ببريق العشق له حين يغنيها.
وضعتها على هاتفها وفي سيارته وفي أركان المنزل، كادت أن تجسدها تحفةً كيما تزين بها الأركان كزمردةٍ فريدة، فارتبطت معها بكل شيء.
تذكرت أنها حتى حين اصطدمت بكذب مشاعره وأنها لم تكُن سوى سطر وسط سطور الحبيبات الأخريات، استمعَت إليها تلقائيًّا...
تذكرت أيضًا أنها لم تصطدم بضياع حبيبٍ فقط، بل إنها فقدت (ماجد)؛ صديق الطفولة والأحلام والشباب، تودعه سرها ويحفظ لديها مكنون قلبه.
تذكرت أن (ماجد) الذي كان حلقة الوصل بينها وبين (حسام)، أصبح أيضًا خنجرها الذي نحَرها!
(ماجد): تعلمين يا هويدا أن حسام هو هكذا دومًا.
(هويدا): لم أفهم مقصدك!
(ماجد): يحب جمع الجميلات حوله، له العديد من القصص، تجذبه الفتاة الواثقة من ذاتها، الجميلة المعتدة بنفسها، التي تضع السدود أمام الجميع فلا يستطيع أحد اقتحام قلبها بسهولة مثلك، يظل يحوم حولها كفريسة وذئب حتى تحبه، ثم يتبخر مُقنِعًا عقلَه أنه ما دام لم يُخطِئ معها فعليًّا فهو لم يُخطِئ أبدًا، كأنَّ كذبَ المشاعر ليس خطأً!
(هويدا): وأنتَ أعز أصدقائي، كنت تعلم ذلك كله وتركتَني أسقط في خطته؟!
(ماجد): أنا آسف! كان من المفترض أن أحذرك، لكنني توقعتُ أنه يحبكِ بصدقٍ بالفعل، فلم أُرِد أن أُعكِّر عليكما صفوكما، وقلتُ في نفسي ربما قوَّمَته.
(هويدا): وهل كنتما تتنَدَّرانِ بأحاسيسي معًا أيضًا، أم صنعتُما مني أضحوكةً ولعبة؟
(ماجد): أتظُنين فيَّ ذلك حقًّا؟!
(هويدا): هذا ممكن... كل شيءٍ من بعده ممكن، لا شيء مُستَبعَد، وإذ إنه قد خرج الآن من حياتي، فأنتَ أيضًا لا مكانَ لك فيها، فحينما اخترتَ لم تختَر صداقتنا بل اخترتَ التحيُّز للصنف.
أفاقت مرةً أخرى، فبكَت! بكت روحها الممزقة بين الغياب واللاحضور، ثم بحركة تلقائية بكفيها كأنها تُشيح لشيءٍ لا وجودَ له أن يبتعد.
انتفضت واقفة، أسرعت إلى مكتبها الصغير الذي يتوسط الغرفة، وكتبت في مذاكراتها:
لا ترتكبوا الآثام في حق أنفسكم وتُقرِنوا الأشياء والموسيقى والألوان بالحكايات الكاذبة؛ لاحقًا ستقتلكُم كلما مرَّت على الروح مرةً أخرى.
اعتبروا منى عبرةً ما، إذ إنني لم أعتبِر من تجربتي أبدًا، لم أتعلم قط، لم أستطع أن أُلوِّن قلبي بالسواد كي أُصبِح مثلهم، كي أستطيع التعايش قليلًا.
الآن أصبحت أخجل من أن أبكي أمام نفسي، فقد أنهكتُها كثيرًا معي.
أنا لا أنتحِب على أحد، بل جفَّت ينابيع البكاء في عيني، أصبحتُ أحترق من عمق الروح بلا هوادة، عينا الباندا تلازماني، أُخفيهما بنظارتي الشمسية الحمقاء، وأتجنب الخروج ليلًا حيث لا نظارات... لم أعُد أضحك من القلب، فقدتُ ابتسامتي في أحد أزِقة الزمن المعتم، ولا أملك من ينير لي فأجدها، ولا أريد!
أتعلمون، غالبًا سنموت يومًا جالسين إلى مقعدٍ ما نسرد آلامنا لمفكرةٍ صماءَ كتلك التي بين يديَّ، وواقع افتراضي أحمق كلُّ مَن فيه يغني على ليلاه دون أن يشعر بنا أحد...
فسلامٌ عليه وعلى عينيه الخائنتين!
أغلقت مفكرتها فيما تشدو (سعاد حسني):
ده الهوى والعشق ملناش فيه إرادة..
آمال محمد صالح احمد
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
أيمن موسي أحمد موسي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
رهام يوسف معلا
هند حمدي عبد الكريم السيد
يوستينا الفي قلادة برسوم
ياسمين أحمد محمد فتحي رحمي
فيرا زولوتاريفا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
ياسر محمود سلمي
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 

































