عزيزي صاحب الذاكرة المريضة
قبل عصور تدوين التواريخ تعارفنا، فبدأت أدون تاريخي بوجودك؛ اليوم الأول بعد اللقاء، اليوم الثاني بعد الاعتراف بالحب، اليوم الأخير قبل لقاء جديد. حينها أخبرتك أني أحسد ذاكرتك المريضة، تلك التي تنسى التفاصيل الدقيقة كلها بشكل عام، وتفاصيلي بشكل خاص، فلا تذكر يوم ميلادي أو متى التقينا وأين، بل قد تنسى لون عيني أيضًا، تلك التفاصيل الصغيرة التي تبقى صامدة خناجر حادة بعد الرحيل. هكذا تستطيع نسيان القصص سريعًا، والبدء من جديد أسرع.
تذهب هذه وتأتي تلك، فمهما تركن داخلك ومهما كن مميزات، فلن تتذكر سوى اسم عابر في تاريخ حياتك، فيبدأ قلبك في فتح أبوابه أسرع للنسيان الجديد، أما عني فأنا صاحبة المصنع لتلك الخناجر، أرتبها وأصنفها وألمس نقوشها في ذاكرتي كل ليلة، داعية من الله أن يهبني نعمة النسيان، لكن الله يمنحني العقاب بذاكرتي، يمرض قلبي وتنكسر روحي وتبقى ذاكرتي متيقظة حية، ما زلت أتذكر لون قميصك في أول لقاء، وثلاث كسرات على الكم الأيمن، وعدد خصلات شعرك التي تحولت للون الأبيض، ما زال بريق ساعة معصمك يؤلم مقلتي بعد سقوط شعاع الشمس عليه، تعابير وجهك حينما قلت لي: "أحبك"، كفك حينما تحايل على لمس كفي، ما زلت أذكر منديلًا تعلقت بقاياه الصغيرة جدًّا على جبهتك فأزلتُها بأطراف أصابعي، مما منحك نور نجمتين في مقلتيك، عطرك، خطواتك، لكنتك في نطق الحروف، ابتسامتك التي لم تفشل أبدًا في منحي ابتسامة كهدية، ما زلت أذكرك وكأننا لم نفترق، أشعر بك دومًا بجواري، أسمع صوت أفكارك تحاورني، فأروي لك كل ما يحيرني وأصل للحلول، وطريقة تفكيرك في الأشياء أعتمدها طريقًا لي، فيا لها من ذاكرة غبية نقشت آخر لقاء لنا داخلي كي يؤرقني للأبد.
يومها حين ألقيت رأسي المجهد على كتفك الداعم، كي أستريح من عناء فراق سابق، كان لعنقك رائحة بتلات زهرة سقطت عليها قطرات من ندى الفجر النقي، رائحة هادئة جدًّا غير معتادة ولا تنسى وكأنها تتآمر ضدي لتجلدني بالحنين، وتمنحني الحسرة لأنني لن أصبح أبدًا بمثل هذا القرب مرة أخرى.
ولذلك أحسد ذاكرتك المريضة بالنسيان، فهي أفضل ما أنعم الله عليك، ليت لي مثلها ذاكرة مريضة.
عزيزي
أتذكر حينما رقبنا انتهاء العالم معًا في حلم سابق لي؟ لم ينتهِ العالم بعد، لم نرقبه معًا، فلمَ رحلت؟! كنا نجمين لامعين، كلما تصادما نتج شعاع ساحق يملأ سماء العتمة ضياءً وبهجة. فلمَ رحلت؟! لم أكن أدري أن انتهاء العالم ربما مقصده انتهاء عالمي أنا معك، وأن النجوم حينما تتصادم وتبرق تكون ضياءها الأخير فتنتهي وتموت تاركة العتمة من جديد تنتصر.
عزيزي
الآن على ما يبدو هو موعد بداية القصة الجديدة التي ستكتبها بلا مبالاة على أنقاض الفراشة الراحلة، تلك الساذجة في حبك حد التسامح في كل شيء، أخطأت وسامحتك، غدرت ووضعت لك الأعذار، ابتعدت وعدت ألف مرة ووجدت أبوابي مفتحة لك تنتظرك بشوق وحب أكبر في كل مرة، لم أكن أتساءل: "لمَ ابتعد؟ لمَ عاد؟"، لم يعنِني سوى أنك هنا، أنظر لعينيك الصغيرتين وهما تيخبئان العالم داخلهما، وأسمع لحن صوتك الذي يصل أذني كأغنية هادئة، وتطربني كلمات تنقشها على الأوراق كأنك ترتب الأوركسترا وتصنع سيمفونية لا مثيل لها، وكأنك كل رجال الأرض.
آخر رحيل تساءل قلبي بيأس: "لكم من الشهور سيغيب؟ وإن عاد متى سيكون موعد الرحيل القادم؟!"، أسكتته دموعي لكنه منحني انتباهة وصدمة، منحني الحقيقة أننا كنا القصة العابرة في طريقك، تلك التي قد ضمنت تواجدها دومًا، فظللت تقتل وتحيي وتميت الروح كما أردت وكلما أردت، وحينما مللت وضعت كل مساوئي –التي لاحت فجأة في انتقاداتك الفجة لي– أمام عينيك، وأضفت لها أخرى ليست بي لتريح ضميرك أنني أنا البشعة التي ظلمت قلبك معي، ثم رأيتك تتمنى السعادة والفرح كمنكسر بكل وقاحة وثبات بعد كسرك للقلوب دون مراعاة لما كان، تدعو المولى بمنحك الحب والسعادة وكأنك تستحق! وكأنك إن حصلت عليه فستعتني به، وكأنك المثالي الذي لم يقابل مَن ترتقي لمثاليته.
عزيزي
حينما سيمنحك المولى مطلبك –وهو بالمناسبة الشيء الذي يفعله دومًا معك، فكم من ملكة عبرت على جسر حياتك أنت الأبله الذي أضاعهن جميعًا!– ستكسرهن كأي طفل لا يملك حتى حكمة ترك الأشياء دون أن يؤذيها، لا يعلم ذاته المفارقة الملولة غير المستقرة على حال، فيظل يقترب ويبتعد مخلفًا خسائر لهن، وهو الوحيد الذي لا يفقد شيئًا، النسيان عالمه، وقلب الصفحات وتمزيق الكتب حرفته.
عزيزي
دومًا ما تقول إنك رجل ناضج، مررت على جسور الحياة كلها وتسلقت حوائط وسدود الواقع بتحدٍّ، سباحتك عبر المحيط منحتك الخبرة، وطيرانك من فوق الجبال منحك الصبر والتأمل، وخطواتك على الرمال المتحركة منحتك المهارات وإجادة وضع الخطط، حينما أرى كلماتك تلك أبتسم بألم. ناضج؟! حكيم تستطيع رسم الخطط؟
ومن أين إذًا تأتي كل تلك الحماقات التي تسيل من عقلك، قلبك، لسانك، حياتك يا أيها الناضج؟!
وأي خطط تلك التي تضعها؟ أم إنك جيد جدًّا فقط في وضع خطط الإيقاع، وجيد جدًّا في نقش خطط الهروب والاختفاء؟ وأين إذًا حكمتك في التعامل مع نصف العالم الآخر؟
تدعي معرفتك بالنساء وأنت جاهل جدًّا بمتاهات الفراشات التي تترك أثرًا خلفها لتتبعها للضياء، فتقتل هي دون مبالاة لمقتلها، وترشدك عن طيب خاطر لشمسك التي تنير لك قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
عزيزي
أنا لم أكرهك؛ فالقلب الذي أحب بصدق يصعب عليه زرع الكره داخله، يصعب عليه النسيان، بل إنني لا أستطيع الدعاء بمنحي النسيان، خبرني كيف فعلتها ربما أتعلمها منك! كيف استطعت نسياني؟ فأنا لا أستطيع ذلك.
ورغم كل شيء، وتلك الغصة التي تقف في منتصف قلبي مسببة الألم لي كلما رأيتك، لكنني أتمنى حقًّا وبكل صدق ومحبة أن تجد مرساة لحياتك، وراحة لشراعك، وبرًّا آمنًا لكل قصصك وحكاياتك. وكأي أم ترى طفلها المشتت حزينًا، أريد أن أرى لك طفلة صغيرة تشبهك، تجري هنا وهناك، وأمنياتك الجميلة تتحقق، على مقدار ما سيحمله لي ذلك من ألم، إلا أنني سأسعد لك ومن يدري؟ ربما تمنحك الفراشة المحلقة من حولك الآن شيئًا يدوم، وربما لا.
أو ربما تمنحها أنت قلبًا محبًّا بدلًا من قلب محمل بالأكاذيب، ذاك الذي أهديته لي.
ربما حينما تحب بصدق ستمنحها روحك، وكل الأشياء التي انتظرتها بشغف حينما كنا معًا ولم أجدها ستهديها لها بطيب خاطر، ربما حينها سيغلب حبك صلابة عقلك ويمحي عنادك المستمر مع قلبك وينتصر حبك على قساوتك فتزهرا معًا فرحًا وموسيقى.
وربما كعادتك ستمنحها ذكريات تقتلها كلما تذكرتها، وحزنًا يسكن القلب يدميه للأبد.
الشيء الوحيد الباقي للأبد هنا هو الحزن.
كن بخير.
كن عاقلًا ناضجًا.
كن حكيمًا، لا مزيد من كسر القلوب يا صغيري.