في عالم الإدارة الحديثة، لم تعد كفاءة المؤسسات تُقاس فقط بسرعة تقديم الخدمة أو رضاء المواطن عنها، بل امتدَّ المؤشر ليشمل العامل الأهم: سعادة الموظف. تقرير صادر عن القمة العالمية للحكومات عام 2019، والمنبثقة عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، خلص إلى أن "العاملين الأكثر سعادة هم الأكثر إنتاجًا"، وذلك بعد تحليل بيانات 339 دراسة بحثية مستقلة شملت نحو 1.88 مليون موظف، وأكثر من 82 ألف وحدة أعمال في 230 منظمة عبر 73 دولة.
هذا الرابط العضوي بين راحة الموظف وجودة الخدمة المقدمة للمواطن يستدعي إعادة التفكير في البيئة التي يعمل فيها الموظف العام في مصر، من قوانين وإجراءات وأماكن عمل، وصولًا إلى الصورة الذهنية التي يُقدَّم بها إعلاميًا.
القوانين تكفل.. ولكن لا تكتمل
صحيح أن قانون الخدمة المدنية ومدونة السلوك الوظيفي يكفلان للموظف مجموعة من الحقوق كالإجازات، وتقليل ساعات العمل لفئات معينة، إلا أن هناك جوانب أخرى — أكثر ارتباطًا بالاحتياجات اليومية والظروف النفسية — ما زالت غائبة عن بنية العمل. مثلًا، لا توجد في أغلب المصالح الحكومية آلية قانونية تتيح للموظف أخذ استراحة قصيرة خلال اليوم، على الرغم من أن بعضهم يتعامل مع مئات المواطنين في اليوم الواحد.
تخصيص مساحة صغيرة للاستراحة، وجدول زمني لتبادل الأدوار، يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في الحالة النفسية للعاملين، دون أن يؤثر على سير العمل. فمتى تصبح "استراحة الغداء" حقًا مشروعًا، لا مشهدًا مستهجنًا؟
تدريب أم اختبار صبر؟
العمل في الصفوف الأمامية لا يتطلب المظهر الحسن فقط، بل خبرة ومهارات في التعامل مع جمهور متنوع ومطالب متفاوتة. من الظلم أن نُلقي بشاب في بداية خدمته، بلا تدريب حقيقي، أمام طوابير المواطنين، ثم نلومه على سوء المعاملة أو فقدان أعصابه.
الحل؟ تدريب متخصص، مستمر، يدمج بين الأساليب الحديثة مثل الاجتماعات الإلكترونية وتوفير مواد مرئية تفاعلية، مع تقييم فعلي لمستوى الموظف قبل وبعد التدريب.
من يحفّز المُحفِّز؟
في كثير من المؤسسات، لغياب الموظفون من الوظائف التي تتطلب تواصلًا مباشرًا مع الجمهور، ليس فقط بسبب ضغوط العمل، بل لغياب العدالة في التحفيز. الموظف الذي يقضي يومه في ضغط مستمر يتقاضى أجرًا مساوٍ لزميله الذي يعمل في هدوء خلف المكتب. تحفيز الخطوط الأمامية — ماديًا ومعنويًا — لم يعد ترفًا، بل ضرورة لخلق بيئة عمل عادلة ومحفزة.
الصورة الذهنية... بين "الأفندي" و"فوت علينا بكرة"
للأسف، تسهم بعض وسائل الإعلام في ترسيخ صورة سلبية عن الموظف العام: المتكاسل، المستهتر، المعقّد نفسيًا. بينما تلاشت صورة "الأفندي" الوقور التي امتدت في السينما والتليفزيون في فترة الستينات، وحلت محلها "مدام عفاف" التي تطهو في المكتب وتغرق المراكب السائرة في أمان، أو "الأستاذ" الذي يطلب منك العودة غدًا بلا سبب.
هذه الصورة، وإن كانت ساخرة، تنعكس على تعامل المواطن مع الموظف وتغذّي سوء الفهم وانعدام الثقة. آن الأوان لإعادة تقديم الموظف العام باعتباره عنصرًا فاعلًا في خدمة وطنه، لا عقبة في طريق المواطن.
أين الشمس في مقراتنا؟
رغم موجة التطوير العمراني في عدد من المقار الحكومية، إلا أن كثيرًا منها ما زال يفتقر إلى أبسط معايير البيئة الإنسانية: التهوية، الإضاءة الطبيعية، المساحات الخضراء. الموظف يقضي نحو ثلثي عمره في العمل، محروما من رؤية الشمس في الصباح أو التمشية على شاطيء البحر أو النيل أو حتى أمام حديقة صغيرة تحت ضوء النهار، فهل ننتظر منه الإبداع والإخلاص وعمره كله محبوس في "قوالب أسمنتية" خالية من الروح؟
دعوا الموظف يبتكر واحفظوا حقوقه.
الابتكار ليس حكرًا على رواد الأعمال، بل يمكن أن ينبع من أصغر موظف يرى مشكلة يومية ويقترح حلاً لها. إنشاء وحدات للابتكار داخل الوزارات والهيئات، وتحفيز الموظفين على التقديم بأفكارهم، مع حفظ حقوقهم المعنوية، قد يفتح أبوابًا جديدة لتحسين الأداء دون تكلفة تُذكر.
الموظف ليس زائدًا عن الحاجة.. بل فقط في المكان الخطأ
من المفارقات العجيبة، أن تجد مكاتب تكتظ بالمواطنين في انتظار دورهم، بينما أخرى تغفو في هدوء لا يقطعه أحد. إعادة توزيع الموظفين وفقًا لحجم العمل وعدد المستفيدين بات ضرورة إدارية لا تحتمل التأجيل. يكفي أن نتذكر كيف عانت بعض المصالح الحيوية (كالسجل المدني والمرور والشهر العقاري) من ضغط شديد أجبر الحكومة على تعليق العمل بها خلال الجائحة.
مراعاة الفروق الفسيولوجية حق إنساني
لمَ لا تُمنح الموظفة التي لم تبلغ الخمسين عامًا يومًا واحدًا شهريًا — تختاره حسب حالتها الصحية وظروفها الفسيلوجية؟ فإذا ما نصت بعض الاتفاقيات الدولية مثل "السيداو" على التمييز لصالح المرأة في بعض الأحيان هو السبيل الأمثل لحصولها على حقوقها فكذلك فعل الاسلام فقد خفف عنها بعض الواجبات واسقط عنها بعض الفرائض دون انتقاص من أجرها وثوابها، هذه الخطوة لا تكلف الدولة كثيرًا، لكنها تعني الكثير للمرأة العاملة.
في الختام: الموظف السعيد يصنع مجتمعًا سليمًا
تحسين بيئة العمل لا ينعكس فقط على جودة الخدمة المقدمة، بل يترك أثرًا غير مباشر على المجتمع ككل. الموظف السعيد هو أبٌ أكثر توازنًا، وأمٌ أكثر احتواءً، ومواطنٌ أكثر التزامًا. إنه مشروع استثمار في الإنسان، يستحق أن يُوضع على رأس أولوياتنا الوطنية.