كانت كلية الآداب هي وجهتي وحلمي في الثانوية العامة، ليس لشيء إلا لأنها كانت الكلية التي درس فيها كاتبي المفضل "أنيس منصور". فقد هيأ لي تفكيري في تلك السن الصغيرة أن أنيسًا كان "منصورًا" لأنه درس الفلسفة، وكان عبقريًا لأنه تخرّج في كلية الآداب.
لكن كان للسلطة العليا، والدي، رأيٌ آخر؛ إذ أصر على إلحاقي بكلية الحقوق. وازداد عناده أكثر عندما علم أنني استنفدتُ كل رغباتي الأولى في كتابة كليات الآداب على مستوى الجمهورية. فما كان منه إلا أن سحبني من يدي، وقام بتحويل أوراق قبولي من كلية الآداب إلى كلية الحقوق، وأخذ يغريني بالأماكن التي رشّحها لي لأختار منها موقعًا لمكتبي الذي سيفتتحه لي بعد أربع سنوات.
وقبل أن يتلبّسني العناد وتغير وجهتي رياح الإصرار، رأيت حلمًا أرخى أوتاري المشدودة: رأيت نفسي أترافع مرافعة جليلة في مجلس الشعب أمام رئيسه آنذاك، رجل القانون الشهير الدكتور أحمد فتحي سرور.
أنا أترافع؟! أنا التي يُخجلها ظلها، أترافع في مجلس الشعب؟ إذًا... فلتكن "الحقوق".
كلنا نلاحظ العبارة التي تستريح في ذيل كل الأعمال الفنية والأدبية، وحتى المواقع الإلكترونية، والتي تقول: "جميع الحقوق محفوظة". لكنني اكتشفت، منذ اليوم الأول لعملي بالمحاماة، أنها رسالة كاذبة.
بحكم نشاطي الثقافي في الجامعة، كان لي العديد من الأصدقاء في مختلف الكليات، حتى أنني كنت أتجاوز وأحضر مع بعض صديقاتي من الثانوية العامة محاضراتهن في كليات الآداب، والتربية، والتجارة، والعلوم، وغيرها. لكنني، إحقاقًا للحق، لم أرَ هيبة الأستاذية كما رأيتها في أساتذة كلية الحقوق.
مع حفظ احترامي البالغ لكل أساتذة الجامعة، إلا أن كلية الحقوق كان المحاضر فيها -على الأقل– سفيرًا سابقًا، وطبيعة الدراسة فيها تفتح آفاق الحياة وعلومها: من طب، وزراعة، واجتماع، وتاريخ، وسياسة، واقتصاد، وعلم نفس... وحتى الفلسفة كان لها نصيب كبير.
نعود لسؤالنا: هل "الحقوق" محفوظة فعلاً؟
سأترك الإجابة لكم. هل رأيتم موقف السينما من مهنة المحاماة؟
هل شاهدتم اللقطة التي نقلها نجيب محفوظ من الفكر المتأصل في الحارة المصرية، حول نظرة الناس لرجل القانون، والتي تجسدت في إصرار بطل ثلاثيته الشهيرة (السيد أحمد عبد الجواد) على إلحاق ابنه بمدرسة الحقوق بدلًا من مدرسة المعارف؟
أظن أنكم رأيتموها جميعًا. نجيب محفوظ لم يكن يخترع ثقافة، بل كان يرصدها كما هي، وينقلها من الحارة الضيقة إلى عالم الأدب الواسع، ومنه إلى السينما.
هل رأيتم شخصية المحامي في فيلم "كلمني شكرًا" للمخرج خالد يوسف؟
وأضيفوا إليها شخصية المحامية في مسلسل "نعمة الأفوكاتو"، ذلك العمل العائلي الذي أخرجه وشارك في تأليفه محمد سامي، وأسند البطولة فيه لزوجته.
ما الداعي الدرامي لأن تظهر "المذكورة" وهي تقابل موكليها في "قهوة بلدي"؟!
وما الذي أضافه ظهورها وهي تقشّر الخضروات أثناء عملها؟
أعرف أن المخرج المذكور احترف إثارة الجدل طمعًا في "التريند"، لكن على حساب من؟
لمن لا يعرف، لقد تعلمنا من أساتذة كبار أن نصف نجاح المحامي يكمن في مظهره وسلوكه العام.
فأين تعلّمت "نعمة الأفوكاتو" إذن؟!
ما بين ثلاثية محفوظ، و"كلمني شكرًا"، و"نعمة الأفوكاتو"، ملخص لتطور نظرة المجتمع إلى مهنة المحاماة.
ونقلًا عن أهل الفن وصناعة السينما، فمبررهم لتناول شخصية المحامي بتلك الطريقة المهينة هو أن "قماشة" المحامي الدرامية واسعة، وتتيح التعامل معها بكل الأشكال (كوميدي، تراجيدي).
لكنني هنا أقتبس قول عادل إمام في فيلم "خلي بالك من جيرانك" (1979):
"ماذا أقول، وأي قولٍ يُقال؟"
هل كانت القماشة الفنية الواسعة كلها متسخة؟
لتنحصر أدوار المحامين، منذ السبعينيات تقريبًا، بين الفاسد، أو الجاهل، أو المثير للسخرية والاستهزاء؟
لو سألنا سعد زغلول، ومصطفى كامل، وقاسم أمين، وغاندي، ومانديلا، وحتى صدام حسين — وكلهم من خريجي كليات الحقوق — هل سيرضون بهذا المبرر؟
كلية الحقوق تُخرّج للمجتمع قاضيًا، ونائبًا عامًا، ورجل شرطة، وسياسيًا، ومحاميًا.
فهل من المنطق أن يُعامل "الإخوة الأربعة" بما تستحقه كلية الحقوق من احترام، ويُعامل المحامي كأنه "الابن الضال"؟
ومن الكوميديا السوداء، أن رجال المهنة لم يتخذوا حتى الآن خطوات تشريعية جادة تحدّ من هذه الانتهاكات لصورة المحاماة، وتساعد في تغيير النظرة السائدة.
فمن امتهنوا الدفاع عن حقوق الآخرين، أراهم مكتوفي الأيدي فيما يخص حقوقهم.
وأُنهي مقالي بجملة مقتبسة على لسان الفنان الراحل محمود المليجي، عندما أبدع في تجسيد دور المحامي في فيلم "إسكندرية ليه؟" عام 1975:
"زمن بيكسبوا فيه فرد واحد 5000 جنيه في دقيقة، ويغلو على التاني أجرة الترام، وعايزني أكسبها!"