سليمان المنوفي قَدِمَ من بلدته الصغيرة في المنوفية لقاهرة المعز، حاملًا معه ما كسبه من بيع إرثه من والده حسن المنوفي، قيراطان زراعيان دخلا كردون المباني فباعهما ولم يقترب من ذلك الفدان الذي يعد من أجود الأراضي، ويقع بجوار أرض العمدة جاد ياسين، در القيراطان على سليمان مبلغًا كبيرًا جدًا وقتها.
ترك سليمان المنوفية ونزح للقاهرة بحثًا عن الإنجاب فبعد مرور فترة خمسة سنوات على عدم انجابه من زوجته سكينة كان حلم حياته أن يكون له نسل من حبيبته، فأشار عليهما العمدة جاد الذي كان صديقًا لسليمان بالنزول للقاهرة فمجال الطب هناك أوسع وأرحب.
ما كان سليمان ليترك بابًا إلا وطرقه فهو يتوق للإنجاب من سكينة، ولم يستمع أبدًا لمن قال له اتركها وتزوج غيرها، كان يحبها جدًا وعندما نزل القاهرة ووجد أن طريق العلاج سيطول فضل المكوث في القاهرة؛ اشترى منزلًا بأسفله دكان واتخذ من المنزل سكنًا وافتتح في الدكان بقالة لخدمة المنطقة.
المنزل كان منزلًا قديمًا يتكون من بدروم، ودكان، ودور أول به شقة كبيرة، ودور ثاني والسطوح، سكن في البدروم هريدي الصعيدي الذي كان يعمل بالمعمار وزوجته هنية وأولادهما، وسكن سليمان وسكينة بالدور الأول، والدور الثاني سكن به سالم المنجد ونعمات الدلالة زوجته وولدها صلاح، أما السطوح فكان به غرفة للشيخ مغاوري، والباقي تربى فيه الطيور.
بعد معاناة طويلة كتب الله لسكينة الإنجاب، ورزقه الله بفتاة أسماها سمرا، كانت فرحته شديدة بمقدمها.
وكانت سمرا اسمًا على مسمى، فتاة سمراء البشرة جدًا، ورثت عن والدها سماره وعن والدتها دمها الخفيف.
لم تسلم سمرا من ألسنة الناس منذ كانت في مهدها، مع أن ملامح سمرا كانت جميلة ومريحة ومن يراها تدخل قلبه من أول وهلة إلا أنهم كانوا يعيرونها بلون بشرتها، عاشت سمرا في كنف والديها المحبين لها أيما محبه، لم يدخر سليمان جهدًا أبدًا في تلبية مطالب زوجته وابنته، وكان دائم الزيارة للعمدة جاد صديقه العزيز لكن سكينة وسمرا لم تكونا تذهبان معه، فسكينة تعلقت بصخب القاهرة وبنعمات، تقريبًا لم تكونا لتفترقا أصبحتا صديقتين عزيزتين جدًا ومقربتين من بعضهما.
مرت الأيام عادية...
عندما بلغت سمرا السادسة توفى سالم المنجد وبقيت نعمات وحيدة مع ابنها صلاح الذي كانت سمرا تمقته بشدة، فصلاح كان دائمًا ما يضايقها ويعيرها بسمارها، لم يكن يناديها إلا بالسوداء ودائمًا ما كان يعترض طريقها عند صعودها لإطعام الطيور وكان سليمان يؤنبه على ذلك بينما يدعي صلاح البراءة.
نعمات كانت ملازمة لسكينه دائمًا، تأخذ جولة على المنطقة للدلالة ثم تُرابض في منزل سليمان ولا تغادره إلا على موعد النوم، وفي كثير من الأحيان كانت تتناول الطعام معهم، فهي على حد قولها لا تحب تناول الطعام مع ابنها وحيدين.
لم تكن سمرا ترتاح لها أبدًا وسكينة دائمًا ما كانت تؤنبنها على ذلك
- يا ابنتي إنها سيدة طيبة.
- يا أمي لا أحبها.
- لا يهم، المهم أن تعامليها هي وابنها معاملة طيبة.
بعد مدة بدأت سكينة تمرض، وتخور قواها من أي مجهود فلازمتها نعمات أكثر وأكثر حتى أن سليمان طلب منها أن تتوقف عن الدلالة وسيعطيها هو ما يكفيها لكي تظل مع سكينة لتعتني بها.
أيام تمضي وأوقات تمر...
وسكينة يشتد عليها المرض، لم يقصر سليمان معها أبدًا وكيف يقصر معها وهي حبة العين ورفيقة الدرب وهي التي لم يهوى قلبه سواها، ذهب بها لكل الأطباء لم يعرف أحد علتها، قال بعضهم إجهاد، والبعض قال ربما ميكروب بالمعدة، وتعددت الآراء حتى أقسمت سكينة أنها لن تذهب لطبيب آخر أبدًا، فالشافي هو الله وإن كان أمر الله وقدرها أن تموت فهي لا تريد الموت إلا على فراشها في منزلها بجوار أحبائها، زاد الوهن على سكينة إلى أن توفت.
كان يومًا كئيبًا....
كانت سمرا بالمدرسة، فسكينة كانت تصر على تعليمها، خاصة أن سمرا كانت متفوقة وكان هذا الشيء الوحيد الذي لم تكن سكينة تستمع لنعمات فيه، كان رأي نعمات أن تجلس سمرا بالمنزل فلا تعليم للبنات فمصيرها بيت زوجها، أما سكينة فكانت ترى أن ابنتها سمرا ستكون طبيبة مشهورة.
كانت سمرا بالصف الثالث الاعدادي، كان آخر يوم لها بالمدرسة عادت سعيدة، فلقد أجابت إجابات ممتازة في الإمتحان، طرقت الباب ليأتيها صوت نعمات من الداخل
- صبرًا يا من على الباب، أأجلس أنا وراءه ما بك؟
- لا تؤاخذيني خالة نعمات فأنا سعيدة، الامتحان كان سهلًا وأجبت إجابات كاملة ولم أترك ولا سؤالًا واحدًا.
قالت بحسرة ولكنها تظهر الفرح: وفقك الله يا ابنتي، ابلغي والدتك، عل قلبها يفرح بك.
دخلت سمرا لغرفة والدتها لتبلغها، وجدتها كالعادة ممدة في فراشها، اقتربت سمرا منها: أمي، لقد أنهيت الامتحانات أخيرًا، وكان الامتحان سهلًا.
لم تجد ردًا، حاولت إيقاظها ولا مجيب، وجدت كفة يديها التي تحتضنها باردة جدًا وكذلك جسدها، علمت سمرا أنها قد توفت لكنها أبت أن تصدق ذلك ظلت ممسكة بيد والدتها وتنادي بهدوء: أمي، استيقظي، الامتحان انتهى، أمي لقد أبليت حسنًا.
أخذت تكررها في غير وعي، دخلت نعمات، وما أن نظرت لسكينه وسمرا حتى أخذت تولول وتصرخ وصوتها يعلو إلى أن التم الجيران، وصعد سليمان، وسمرا ما زالت على حالها ممسكة بكف والدتها وصامتة احتضنها والدها وأبعدها عن جسد سكينة المسجى وأخرجها من الغرفة، لتباشر النسوة عملهم لتجهيز سكينة للدفن.
أخذت نعمات سمرا من يد والدها: وهل ستجلس معك في عزاء الرجال؟ مكانها هنا مع النساء.
دُفنت سكينة، وسمرا على حالها شاردة في دنيا غير الدنيا، لم تستوعب شيئًا لم تبكي، لم تصرخ، الكل حولها لكنها تحس أنها وحيدة، تريد حضن أمها، إنه ذلك المكان حيث تنتمي حيث تشعر بالحياة، وقفت من جلستها وسط النسوة
- إلى أين؟ هل أحضر لك شيئًا؟
قالتها نعمات
لكن سمرا لم تكن تسمعها سارت لغرفة أمها منعتها نعمات من الدخول، قاومتها سمرا، صرخت نعمات، جاءت النسوة، أمسكن سمرا، تعبت سمرا من مقاومتهن ثم صرخت، صرخت بكل ما أوتيت من قوة: أُماه، أُماه، انجديني، أين أنتِ؟
وأخذت تصرخ وتصرخ، ضمتها نعمات بقوة إلى صدرها
- ابكي بنيتي، أخرجي ما بقلبك يا صغيرة.
ظلت سمرا تصرخ حتى فقدت وعيها، حملتها النسوة لغرفتها، أفاقت واستمرت بالصراخ، أرسلوا في طلب طبيب، جاء الطبيب أعطاها حقنة مهدئة، فصمتت وراحت في نوم عميق، فتركنها في غرفتها.
أنهى سليمان مراسم تلقي العزاء وصعد مع صلاح لتخبره نعمات بحال سمرا وأنها في غرفتها قائلة:
- قلبي يتمزق على هذه الصغيرة، لقد ظلت تبكِي وتصرخ حتى فقدت وعيها، إنها نائمة الآن يا حاج سليمان، لو احتجتم أي شيء فقط نادوا علينا، نحن أهل، سأنزل في الصباح الباكر.
دخل سليمان شقته، أغلق بابه، يا الله لكم تبدو الشقة موحشة بدون أنفاس سكينة، دخل غرفته وتحسس موضع نومها، آه يا سكينة القلب والروح رحلت وتركتني في الدنيا وحيدًا بدون رفقتك، بدون بسمتك، كان يكفيني أنفاسك التي تتردد في المنزل حتى لو كنتِ لا تقوين على الحركة.
ترك سليمان الغرفة، لم يحتمل أن ينام فيها وسكينة لا تؤنسه على سريره، دخل لغرفة ابنته ليطمئن عليها، وجدها تنام في هدوء، فأغلق باب الغرفة وجلس على الأريكة بالصالة يقرأ القرآن على روح فقيدته الغالية حتى غلبه النعاس.
في الصباح جاءت نعمات وولدها وبدأ المعزون في الوصول، استيقظت سمرا، جلست على سريرها، أخذت تتذكر ما حدث، ودموعها تنهمر انهمارًا، دخلت نعمات احتضنتها قائلة: نحن بجوارك يا سمرا، لا تحملي هما يا صغيرتي.
مرت أيام العزاء ونعمات لا تفارق سمرا إلا على النوم، فجموع المعزين تتوافد على المنزل، ونعمات تعرف كل شيء، فالمنزل في إدارتها منذ فترة طويلة وهي من كانت تعتني به، انشغل سليمان في دكانه وكان يترك سمرا مع نعمات.
جاءه الشيخ مغاوري: كيف حالك يا سليمان؟
- نحمد الله يا شيخنا.
- هل يعجبك حالك يا سليمان؟
- وما به حالي يا شيخ؟
- أنا أراك لا ترتاح منذ موت زوجتك، إنك حتى لا تغلق الدكان لفترة الغداء وتنام قليلًا أمامه على الأريكة.
- أنا لا أريد الصعود للأعلى، فنعمات تجلس مع سمرا، ولا أريد أن أبعدها عنها، الفتاه تفتقد أمها كثيرًا، ونعمات تعوضها، ولا يصح أن أصعد ونعمات بالأعلى، فأنتظر صلاح لينهي عمله بالورشة ونصعد سويًا.
- من أجل هذا أتحدث، نعمات هي من تُدير أمور المنزل منذ أن مرضت المرحومة سكينة، وسمرا تدرس، من سيعتني بكما الآن؟ وكما قلت أنت لا يصح أن تجتمع ونعمات في مكان واحد.
- إلام ترمي يا شيخنا؟ أفصح.
- أنت تعرف إلام أرمي يا سليمان.
- ولكن يا شيخنا.
- يا سليمان أنت لا ترضى أن يلوك الناس سيرة نعمات، وهي لم تفعل لكم سوى كل خير، ولقد تحملت زوجتك في مرضها، واعتنت بها، أيكون جزاؤها أن يلوك سيرتها هذا أو ذاك، هل ترضى بهذا يا سليمان؟
- لا والله يا شيخنا، لا أرضاها لها أبدًا، ولكن.
- ليس فيها من لكن يا سليمان، اعقد على نعمات، فتصون سيرتها، وتجزؤها خيرًا على صنيعها معك ومع ابنتك، وترتاح أنت، ستصعد منزلك كيفما أردت، ولا تحرم ابنتك من حضن نعمات، وصلاح يعمل طوال النهار في الورشة ولا يصعد إلا على النوم يده بيدك ينزل معك ويصعد معك فلا خوف منه على ابنتك.
- وهل ستتقبل سمرا هذا؟
- يا ولدي لم يبق لسمرا من حضن يحتويها سوى نعمات، وسأحدثها أنا في هذا الشأن وهي تستمع لكلامي.
- حسنًا شيخنا، كما تري.
أخذ الشيخ على عاتقه مهمه جمع شمل نعمات وسليمان، حدث سمرا في الأمر وأقنعها به وحدث صلاح ونعمات، وتم العقد في هدوء وأصبحت نعمات هي سيدة المنزل.
نُقل سرير سكينة لغرفة سمرا فلم يكن سليمان ليقبل أن تنام امرأة أخرى على فراش سكينته، وأحضر سريرًا جديدًا لنعمات.
بعد اختلاء سليمان بنعمات في غرفتهما نام سليمان مباشره ولم يقربها، كان يتعامل معها كما كان في حياة سكينة لم يزد شيئًا إلا أنها تنام بجواره ليلًا، وفي معظم الأحيان كان يترك لها السرير وينام على الأريكة أو يفترش الأرض، لم يكن ليقرب أنثى أبدًا بعد سكينة.
مرت أيام سمرائنا
ألمحت نعمات لسليمان أنها تريد تزويج سمرا لصلاح لكنه رفض قائلًا:
- سمرا ستكمل تعليمها لتصير طبيبة بإذن الله كما كانت تريد سكينة.
- ولكن...
- لا لكن يا نعمات، هذا موضوع غير قابل للنقاش.
ظل سليمان على حاله لا يقرب نعمات، مع أن نعمات لم تكن تدخر جهدًا لتقربه منها وتغويه، لكنه كان كالصخر الجلمود، لم تكن مشاعره تتحرك ناحيتها أبدًا.
بدأ المرض يتملك سليمان، أعراض كتلك التي انتابت سكينة قبل موتها، بدأ في الهزال وفقد قوته، كانت سمرا حزينة على والدها وتخشى فقده هو الآخر، ونعمات تعاملها بكل رقة ولين، ولا تدعها تحمل الياسمينة كما يقال
- ذاكري فقط، ادرسي لتصيري طبيبة وتحققي حلم والدتك ووالدك.
- فليبارك الله فيكِ خالتي نعمات، لا أدري كيف كانت حياتنا ستسير بدون وجودك.
ازداد مرض سليمان وفقد مقدرة الوقوف على قدميه ورقد في المنزل، كما رقدت زوجته من قبله.
استيقظت سمرا على صراخ وولولة نعمات لتخرج من غرفتها مسرعة لتجد نعمات وصلاح بجوار والدها ويغطي وجه والدها، تسمرت سمرا في مكانها ووضعت يديها على فمها مانعة نفسها من الصراخ وأخذت تهز رأسها يمنة ويسرة في عدم تصديق لما تراه.
لقد فقدته، مات سليمان، مات سندها، جلست في مكانها تبكي، حملتها النسوة لغرفتها وتركوها هناك وحيدة كما ستكون في أيامها المقبلة.
انتهت أيام العزاء وبدأت معاناة سمرا
- استيقظي، هيا، أستنامين اليوم بطوله؟
فركت سمرا عينيها لتجد نعمات أمامها
- صباح الخير خالتي.
- خير ومن أين سيأتي الخير؟ وأنت نائمة هكذا.
- اليوم الجمعة، لا مدرسة لدي.
لتضحك نعمات ضحكة طويلة: مدرسة، لا مدرسة يا حلوتي، أيام الانفلات انتهت.
لتتسع عيني سمرا من دهشتها من كلام نعمات وطريقتها: ماذا تقولين خالتي؟
- ما سمعته، انسي المدرسة، لن أتركك تروحين وتأتين والحجة المدرسة، لتجلبي لي العار، من اليوم ستعملين في المنزل، وتتعلمين كل شيء، فستكونين زوجة لصلاح.
- زوجة لصلاح، يبدو أنك تهذين خالة نعمات.
- أنا أهذي، يا عديمة الأدب.
وهوت بصفعة قوية على وجه سمرا
- تعال يا صلاح، تعال يا ولدي، أعط عديمة الأدب هذه درسًا عن كيفية معاملة
أمك.
ليدخل صلاح الغرفة كما الطاووس، ناظرًا لسمرا التي تضع يدها على خدها مكان الصفعة ويقترب منها: ماذا حدث يا سمرا؟
- لم أفعل شيئًا، خالة نعمات تريد منعي من المدرسة، وتريد أن تزوجني بك.
- هذا صحيح وهذا ما سيحدث، صحيح أنك سوداء، لكني سأقبل بك وأتزوجك، رأفة بكِ.
- أنا لن أتزوجك أبدًا يا صلاح، سأكمل تعليمي لأصير طبيبة، كما حلمت أمي وكما أراد أبي.
- أنتِ قلتها مجرد حلم يا سمرا، أنا الواقع وستكونين لي، أنا سأصبح زوجك.
ردت بحدة: لن يحدث هذا أبدًا.
فكانت الصفعة الثانية ولكنها هذه المرة من صلاح
- هذه الفتاة تدللت بما يكفي، أريدها أن تتعلم كل شيء أمي، يكفيكِ تعبًا وشقاء في خدمتها.
وتركهما وغادر لتقول نعمات: هيا ورائي إلى المطبخ لتعدي الغداء.
قالت باكيه: أي غداء، أنا لا أعرف أي شيء.
- سأعلمك.
مرت الأيام وسمرا تعمل في المنزل كالخادمة تعلمها نعمات إعداد كل شيء، لا بالأدب واللين، بل بالصفع والركل وطول اللسان وأقذع الألفاظ، حتى الطعام لم تكن تسمح لها نعمات إلا بالقليل منه.
في أحد الأيام أتى العمدة جاد ليزورها ويطمئن عليها، قابل صلاح بالأسفل فأرسل صلاح لنعمات من يخبرها.
كانت فرحة سمرا لا توصف: يا الله كنت أتمنى رؤيته منذ زمن.
فناولتها نعمات كوبًا من العصير: اشربي هذا ليتورد وجهك ولا يقول علينا لا نحسن معاملتك.
شربت سمرا العصير وأحست بدوار فأسندت رأسها على السرير ولم تشعر بنفسها إلا في الصباح ونعمات توقظها وهي تشعر بآلام شديدة في جسدها، ووجع لا تعرف له سببا بمنطقتها الحساسة.
- ما هذا؟ هل نحن في الصباح؟!
- نعم، ومتى سنكون؟
- ولكن عمي العمدة جاد.
- جاء البارحة وتركتك تبدلي ملابسك و عندما تفقدتك وجدتك نائمة، لم أشأ أن أوقظك، كنتِ تعبه.
بكت سمرا كانت تتمنى لقاءه.
- هل سنظل نبكي طوال النهار؟ هيا أمامنا عمل كثير.
- أنا متعبة جدًا، أشعر بألم غريب بجزئي السفلي.
كان الرد صفعة: هيا أمامي يا قليلة الحياء.
تعلمت سمرا كل شيء وأصبحت سيدة منزل لا غبار عليها
حاول الشيخ مغاوري محادثة نعمات لتعيد سمرا للدراسة لكنها رفضت بحجة أن سمرا لم تعد ترغب في الدراسة، ونبهت على سمرا بأن تقول هذا وإلا طردتها للشارع
- والدك كتب لي كل شيء وأنا المتصرفة في الدكان والأرض، إما أن تكوني في طوعي وإما أن أتركك في الطريق للكلاب تنهش لحمك.
عاود صلاح مفاتحة سمرا في أمر الزواج منها لكنها رفضت
- أنا هنا أصبحت كخادمتكما ولم أخالفكما في شيء، لا تجبراني على الزواج.
- كما تريدين سمرا، لكن تذكري أني طلبته بالرضا، وأنكِ رفضتي.
كان إصرار نعمات على شرب كوب اللبن اليومي قبل أن تنام سمرا غريبًا وكانت تقول: بدأ وزنك يقل، لا أريد أن يتندر عليّ الجيران، اللبن يقوي صحتك وأكسب فيكِ أجرًا.
-تكسبين أجرًا إن أرسلتني للطبيب، لأعرف سبب تلك الآلام التي تحتلني وتلك العلامات التي تظهر على جسدي.
لم تتلق ردًا، شربت اللبن ونامت.
استمرت على هذا المنوال شهرًا كاملًا تعمل بلا كلل بالنهار يرافق ذلك الصفع والركل بلا أدنى سبب، وتعطيها نعمات كوب اللبن بالليل وتنام.
وفي يوم استيقظت تشعر بألم في معدتها ولم يستقر الطعام أبدًا فيها تقيأت عدة مرات إلى أن جاء صلاح ليلًا، واستمرت في القيئ
نظرت نعمات لصلاح نظرة لم تفهمها سمرا ثم قالت
- يبدو أنه حدث يا صلاح، سأفرح بذريتك.
- أأنت متأكدة؟!
- نعم، إنها هكذا منذ الصباح.
- إذن يجب أن نعلن الخبر ونعقد، لا نريد أن يقول الناس ابن صلاح ابن حرام.
كانت سمرا تسمع الحديث وهي خارجة من دورة المياه ولا تفهم شيئًا
- هل ستتزوج يا صلاح؟
- نعم.
فرحت سمرا فلقد ظنته سيتركها في حالها: مبارك عليك، من العروس؟ هل نعرفها؟
- بالطبع.
- من؟
- أنتِ.
- أنا! يا صلاح أنا لا أريد الزواج.
فعقد ذراعيه أمام صدره قائلًا: كما تريدين، إن لم نتزوج لن أعترف بالطفل في بطنك، وسأقول إنك خاطئة، وساعتها سيكون من حقي أن أغسل عاري وأقتلك.
ردت وهي لا تفهم: أي طفل؟ في بطن من؟
فضحكت نعمات واقتربت منها مربتة على بطنها: الطفل في بطنك يا حلوتي، أنتِ حامل.
صعقت سمرا: أنا حامل! وكيف ذلك؟ من الهواء.
فابتسم صلاح: لا مني، اللبن الذي تشربينه كل يوم به منوم، منذ شهر.
جلست سمرا على الأرض من صدمتها تحدث نفسها (من شهر... الأوجاع ... العلامات...
فضحك: نعم أنا سبب الأوجاع والعلامات، وسيأتي الشيخ مغاوري ليعقد لنا غدًا.
ظلت تبكي طوال الليل ولم يغمض لها جفن، في الظهيرة جاء الشيخ وعقد عليها.
في المساء دخلت غرفتها لتنام فدخل ورائها صلاح فارتعبت، قال والابتسامة مرتسمة على شفتيه: ما بك؟ أنتِ الآن زوجتي رسميًا، وما كان يحدث في نومك سيحدث الآن برضاكِ.
- أرجوك صلاح، ابتعد عني أنا تعبة جدًا.
- لا يهمني.
واغتالها صلاح هذه المرة و هي بكامل وعيها، لكن سمرا قاومته مقاومة شرسة، فما كان منه إلا أن زاد في وحشيته وأخذ ما يريده ثم انهال عليها ضربًا وركلًا
- أنا، تقولين لي لا، أنا آخذك متى أردت.
لم يتوقف عن ضربها إلا بعد أن رأى الدماء تسيل على قدميها.
نادى على أمه، دخلت نعمات، وسمرا تحاول مدارة نفسها فنزعت نعمات الملاءة من يديها وقالت لصلاح: لم يكن من داع للعنف هكذا يا صلاح، لقد فقدت الجنين، انهضي معي.
جرتها ورائها للحمام وأمرتها بالاغتسال وتبديل ملابسها وصحبتها لطبيب تعرفه أوقف النزيف.
" تمهل عليها يا صلاح، الفتاة ضعيفة" هكذا قال الطبيب
عادت للمنزل ودخلت غرفتها لتجد صلاح ورائها فارتدت خوفًا منه للحائط
- لا تخافي، لن ألمسك الليلة، سأعطيك راحة أسبوع، كما أمر الطبيب.
ومر الأسبوع بسلام وفور انتهائه عاد صلاح يراودها وهي تأبى الخضوع، فما كان منه الا أن ضربها بالحزام حتى أدماها.
مرت الأيام عليها هكذا إلى أن سمعتهما يتحدثان في يوم من الأيام كانا يظنان أنها نائمة، لكن هاتف إلهي أيقظها في تلك اللحظة.
- ألم تمل منها بعد يا صلاح؟
- لا يا أمي.
- إنها لا تسلمك نفسها برضاها أبدًا يا ولدي، يجب أن تضع لها المنوم لتنالها.
- لا يهم، إنها تعجبني.
- لا أدري ما يعجبك في تلك السوداء!
- إن بها مغناطيس، يجعلني لا أود مفارقتها، آه لو توافق على أن أنالها بالرضا.
- عندما تمل منها، أخبرني لنتخلص منها كما فعلنا بأبيها وأمها ونزوجك غيرها تنالها بالرضا.
صعقت سمرا مما سمعته كيف قتلت نعمات والدها ووالدتها؟
فخرجت لها: أنتِ قتلتهما!
ردت نعمات ببرود: نعم، بعد موت زوجي وضعت عيناي على والدك، وسممت والدتك ببطء ليكون والدك لي، لكنه رفضني، حتى بعد زواجنا لم يقربني أبدًا، فكان يجب أن أتخلص منه لأرثه ويكون كل شيء لي، ولن أتورع عن قتلك أنت أيضًا، والآن انصرفي من أمامي، انتظري خذي المنوم.
- لن آخذ شيئا لقد سئمت منكما.
فقال صلاح بهدوء: ستأخذين المنوم برضاكِ أو آخذك أنا غصبًا.
تناولت المنوم بإرادتها ودخلت غرفتها ليستبيحها صلاح بعد نومها، كانت سمرا تدعوا الله أن يخلصها مما هي فيه طوال النهار وهي تدعوه.
يوم أن أكملت عامها الحادي والعشرين مرضت نعمات وكان صلاح في المنزل
طلبت منها نعمات أن تنزل لشراء الطلبات وتحضر لها خلطة مخصوصة لبرد العظام من العطار في الشارع الرئيسي، أخبرتها سمرا أنها أيضا تشعر بتعب في جسدها فلقد أجهضت مرة أخرى منذ أيام قليلة بفعل ضرب صلاح لها
- لا يهمني المهم أنا.
- فلينزل صلاح ليحضر ما تريدين.
ليتدخل صلاح ويصفعها على وجهها: تريدين أن أخدمك أيتها السوداء، هيا اذهبي واشتري ما طلبته أمي.
نزلت سمرا وهي تحسبن وتحوقل وتدعو الله أن يكتب نهاية لآلامها وعذابها، اشترت ما تريد نعمات، وبينما هي على مدخل شارعهم إذ بالبيت يرتج ويقع دكًا على من فيه، سقطت الأكياس منها وركضت خوفًا على الشيخ مغاوري وهريدي وأولاده لكنها وجدتهم جميعًا بالخارج، فلقد استطاعوا الهرب من المنزل ولم يكن بالمنزل سوى صلاح ونعمات.
سجدت سمرا شكرا لله، وأخذت تحمد الله، لقد انتقم الله لها، وأذاقهما العذاب على أعمالهما في الدنيا قبل الآخرة، مكثت سمرا لدى الجيران وأقيم العزاء لنعمات وولدها اللذان أخرجت جثتيهما من تحت الأنقاض.
أخرج رجال الانقاذ صندوقًا عاجيًا، عرفته سمرا فهو صندوق والدها وكان به ذهب والدتها سكينة وأوراق المنزل والفدان، لتكتشف سمرا أن والدها كتب كل شيء باسمها هي.
قررت سمرا أن تذهب لبلدة والدها ستبيع بعضًا من ذهب والدتها وتشتري ما تحتاجه، ثم تسافر وبينما هي تفكر في ذلك وجدت من يسأل عنها.
- هل أنت مالكة أرض المنزل الذي تهدم؟
- نعم.
- أنا مدير أعمال السيد أحمد محسن رجل الأعمال المعروف.
- أهلا وسهلًا، كيف أخدمك؟
- نريد شراء الأرض.
باعت سمرا الأرض بمبلغ خرافي وأعطت جزءًا من النقود لهريدي وللشيخ مغاوري تعويضًا لهما ليستطيعا إيجاد مسكن لهما، ووضعت الباقي في حساب بالبنك وقررت الذهاب لبلدة أبيها.
نزلت البلدة وسألت على منزل العمدة الذي تهللت أساريره وأسارير زوجته ما أن علما من تكون وصمما أن تقيم معهما، حكت لهما سمرا ما حدث معها منذ وفاة والدتها
- وعلام تنوين بنيتي؟
- سأكمل تعليمي، لأصبح طبيبة كما كان يحلم والدي.
- وأين ستمكثين؟
- سأستأجر منزلًا هنا، لقد أحسست براحة كبيرة هنا.
- أتسبينني يا سمرا!
- لم يا عمي جاد؟
- تستأجرين وبيتي مفتوح.
- لا أريد أن أثقل عليك، أو أقل راحتكم.
- أقسم بالله لا إقامة لك إلا في منزلي، أرعاكِ وأهتم بك، أنا لا أولاد لي إلا معتز، وهو يدرس بالخارج، ستكونين على راحتك.
وقد كان...
أقامت سمرا لدى العمدة واعتبرها كابنته ودخلت كلية الطب وظلت على تواصل مع جيرانها في القاهرة ودائمًا ما تسأل عن أحوالهم وتودهم.
ذهبت في زيارة لهم لتحضر فرح ابنة هريدي وظلت هناك أسبوعًا في هذا الاسبوع عاد معتز من الخارج، علمت بذلك كانت في توق لأن ترى معتز، فمعتز كان يكره التصوير بشدة ولم تجد له إلا صورًا وهو صغير وكان منشغلًا في دراسته جدًا، فتخصصه بالطب النووي، حتى أنه لم يكن يحدثهم بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، فقط بالهاتف، كانت في شوق لتراه من كثرة ما سمعت عنه وعن أخلاقه وصفاته الحسنة، وقررت أنها ستترك منزل العمدة ما دام معتز قد قدم من سفره،
عادت للبلدة وأخذت تبحث بعينيها عنه فعلمت أنه في جولة بالبلدة فاستأذنت من العمدة لتطل على أرضها فأذن لها، وبينما هي تتمشى بجوار الأرض تجاوزت أرضها وأصبحت في أرض العمدة وهي شاردة، في كيف ستفاتح العمدة لتترك منزله؟ إذ بحصان لا تدري من أين ظهر؟ كاد يصدمها واختل توازنها وسقطت فأوقف من كان يمتطي الحصان حصانه ونزل مسرعًا
- هل أنتِ بخير؟ لقد ناديت ونبهت عدة مرات لكنك لم تسمعيني.
وانحنى عليها ليساعدها على الوقوف، أمسك يدها وتسمر أمامها، وقف الزمن بهما لا يدريان ما حدث، مد يده لها فتمالكت نفسها وأبعدت يده
- شكرًا.
- لا شكر على واجب، كنت أريد المساعدة.
-تريد المساعدة، لا تسرع بحصانك في أرض ليست أرضك.
فضحك: وأرض من إذن؟
فردت: أرض أبي.
فنظر بتعجب: أبيكِ، وهل أنتِ ابنة العمدة؟
- في مقام ابنته والبلدة كلها تعرفني.
نظر لها بإعجاب شديد: إذن أنت سمرا.
قالت: لا شأن لك.
فقال باسمًا: بل هو شأني، إذا كنت ابنة العمدة هذا معناه أنكِ أختي.
فنظرت له: يا الله هل أنت معتز؟
فضحك مقلدًا إياها: لا شأن لك.
رافق ذلك مجيء العمدة مارًا على الأرض: أنتما هنا، هل تعرفتما، هيا للمنزل.
فور دخول معتز الدوار طلب الانفراد بوالده
- أبي الغالي أنا موافق وبالثلث.
- على ماذا؟
- على زواجي من سمرا.
ضحك جاد: ألم أقل لك أنك ستوافق ما أن تراها.
واستدعي جاد سمرا: لقد جاءك خاطب يخطبك مني.
- يا عمي تعرف رأيي، لا أريد الزواج.
- ألا صبرتِ لتعرفي من هو العريس؟
- من سيكون؟ لا يهم.
- حتى لو كان ولدي معتز.
- معتز المتعلم بالخارج، يريد الزواج مني أنا، وأنا قد سبق لي الزواج.
- وهل تحسب زيجتك الأولى هذه يا بنية، ثم إن معتز لا يريد الزواج إلا من بنات بلدته، وهل هناك من تصونه وتراعيه مثلك يا صغيرتي.
وافقت سمرا وتم الزواج، لم يُهنها معتز أبدًا، لم يرفع يده عليها، وقف بجوارها إلى أن أنهت دراستها وتخصصها، تخصصت أمراض نساء وافتتحت عيادة في البلدة و عمل هو بالجامعة في قسم الأبحاث النووية، وعاشت سمرا حياة هانئة عوضها الله فيها عن كل ما قاسته من عذاب وشقاء، لكن لم يكتب الله لها الانجاب وعوضت ذلك بالمساعدة في العناية بالأيتام وكفلت طفلتين صغيرتين في دوار العمدة لمده خمسة سنوات صبرت فيها واحتسبت، مع أن أمنيتها كانت أن ترى طفلًا يجمعها بمعتز عرضت عليه أن يتزوج لينجب، لكنه رفض، فإما أن تكون هي أم أولاده وإلا فلا ثم أنه راضخ لإرادة الله، فلا عيب لديه أو لديها يمنعهما من الانجاب فلماذا العجلة؟
ولقد جازاهما الله على صبرهما خير جزاء وحملت سمرا وأنجبت فتاة.
تمت بحمد الله