آخر الموثقات

  • لو جيت وقلت ف يوم ...
  • تجارب النضج
  • ذو الحجة… شهر النفحات والاستعداد للعيد الأكبر
  • حكم دار عصير الكتب
  • أحاسيس الأبرياء..
  • هُدنة مع العدم
  • تغريد الكروان: ثورة
  • مخاض الكلمات
  • لقاء عابر
  • ذلك الخبر ..
  • دعني أُحبُّك في صمت!
  • حبآ بلا منازع..
  • منك لله يا قابيل - سيرك ولاد الحلو - تيجي نلعب استغماية - خلاويص؟ لسسسه
  • اللامنتمى 
  • المرايا..
  • غرام بالصدفة
  • الصداع النصفي .. والاستخدام الآمن لأدوية العلاج والوقاية
  • النصيب .. تعرفوا معناه ؟!
  • القايمة في مصر
  • لا تُراهِنْ
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة نشوة أبوالوفا
  5. قصة قصيرة "قهر"

اليوم بلغت عقدها الخمسين
سنوات طوال مرت ذاقت فيها أنهار الأمرين وتجرعت فيها الويلات
اليوم أخيرًا نالت صك الحرية أمسكت بين يديها وثيقة طلاقها بعد مرارة أكثر من ثلاثين عامًا قضتها في ذل ومهانة، في قهر ومعاناة.
أنهار سيد الشرقاوي ابنة الفلاح سيد وربة المنزل المعاونة له كتفًا بكتف خضراء، لها من الأخوة ستة، ثلاثة رجال وهم حسن، جابر، شاكر وثلاثة نساء وهن إحسان، بهية، وصفية.
أصر الحاج سيد على استكمال أبنائه لتعليمهم جميعًا أو على الأقل نيل قسط من التعليم على قدر استطاعة كل منهم
"أنا لم أتعلم، لكن العلم نور، تسلحوا به كل قدر استطاعته"
أنهى كل الرجال تعليمهم قدر ما أرادوا، عمل شاكر في زراعة الأرض مع والده، أما حسن وجابر فتم تعينهما في وظيفة حكومية، اكتفت الفتيات بنيل الدبلوم، ما عدا أنهار كانت عالية الطموح والهمة، متشبثة بحلم تمنته منذ صغرها، أن تكون طبيبة، كانت متفوقة في دراستها، تحتل المراتب المتقدمة.
دائمًا ما كانت تشارك أمها في حلمها "أتمنى أن أصبح طبيبة يا أمي، لأعالج أوجاع الناس وأشفيهم، فيدعون لي من قلوبهم"
لكن ضيق ذات اليد ورغبة الأب في إنهاء تعليمها الذي تتحجج به دائمًا في رفضها للخُطاب كان دافعًا لأن تستغني عن حلمها وتقبل بواقع فرض عليها
"ستدخلين معهد المعلمات"
"يا أبي، أتوسل إليك، إنه حلمي أن أصبح طبيبة"
"ومن أين أنفق عليك لتصبحي طبيبة؟ العين بصيرة واليد قصيرة يا ابنتي"
"ولكن يا أبي!"
فهدر فيها صارخًا " أنهار إما ان تقدمي أوراقك إلى معهد المعلمات وإما أن تلتحقي بالدبلوم، اختاري"
"تخيرني بين أمرين أحلاهما مر"
"هذا ما لديَّ، قرارك اليوم بعد العشاء"
اختارت الدخول لمعهد المعلمات
وكان هذا الواقع أول حلقة في سلسلة معاناة لا تدري للآن لم كتبت عليها، لكن الحياة ابتلاء وبعضنا اختير للابتلاء اختيارًا.
قُبلت أنهار للدخول لمعهد المعلمات، وسط غيرة دبت في نفوس أخواتها الفتيات منها ومن تفوقها، ووسط امتعاض من إخوتها الذكور
كان شاكر أول المعترضين
"معهد المعلمات! هذا ما كان ينقصني، تذهب للتدريس وتدرس للأولاد وتذهب للمدارس وتعمل مع الرجال"
فيجيب حسن "ما بك يا شاكر؟! أختنا أخت رجال ستصون سيرتنا وتحفظنا"
ويتدخل جابر محتدًا "ليس باختيارها، إن فعلت أية فعلة تسيء لنا لاجتثثت رأسها من على جسدها"
أما الفتيات فدار بينهم التالي
جلست إحسان على الأريكة ساخرة "معهد معلمات، وتعمل مع الرجال، ويقولون الأستاذة أنهار"
لتبتسم صفية "أستاذة وهل أنهار تصلح أستاذة؟ سيقذفها الطلبة بالطباشير"
واستغرقتا في الضحك؛ لتنهرهما بهية
"كفى يا بنات، هل ترتضيان المهانة لخالة أولادكما"
لتغرق صفية في الضحك "أولادي أول من سيلقي الطباشير في وجهها"
سمعت أنهار هذا الحديث وأسرته في نفسها، لكن لم تضمر لهن حقدًا أو غضبًا فقلب أنهار أصفى من الحليب
لكن حزنها كان باديًا على ملامحها ولم يشعر بما يعتمل في قلبها سوى ملاذها والحضن الدافئ الذي طالما استجارت به من أفعال إخوتها وأخواتها أمها.
دخلت لأمها حجرتها فوجدتها جالسة على الأرض تدعو الله
"يا ربي يا كريم، اللهم وفق ابنتي أنهار وافتح لها الدروب واحمها من كل عين وحسود، وادفع عنها البلاء المقدور"
لترتمي أنهار في حضن والدتها ناحبة، ناشجة بالبكاء
لتربت خضراء على ظهرها
"لا يا أنهار، لم أعهدك ضعيفة هكذا، استقوي بالله بنيتي، إنهن يغرن منك، تتقد قلوبهن غيرة، حباك الله بعقل يستوعب ويفهم أكثر من عقولهن، أتبكين عطية الله لكِ، لا يا أنهار، احمدي الله، رغم هذه الغيرة أعلم يقينًا أنهن يحببنك، أنتِ الصغيرة وكل منهن تعتبرك ابنتها الكبرى، لكن غيرتهن لا سيطرة لهن عليها، ومدخل دخل الشيطان إليهن واستوطن وسيخرج بإذن الله، لا تتحمل إحداهن أن تمرضي حتى، وأنتِ تعلمين هذا، أتذكرين يوم أن أصابتك الحمى الشديدة، تركن منازلهن وأقمن معسكرًا هنا لرعايتكِ، اعذريهن يا حبة القلب"
تسلحت أنهار بقربها من الله واستعانت بالله عز وجل واضعة نصب عينيها أن تتفوق لتنال مرادًا جديدًا وضعته أمامها، أن تكون دافعًا ومعينًا لكل الطالبات اللواتِ سيكون من نصيبها أن تعلمهن في المستقبل، أن تكون منارة لهن يهتدين بها في غياهب ظلمات البشر وعتمة القلوب قبل العقول.
مرت الأيام ولأول مرة تعرف أنهار ماذا يعنى خفقان القلب
خفق قلبها لمحسن الشهاوي، شاب يكبرها بعدة سنوات، حكمُ القلب ولا جدال فيه، لم تكن لتسمح لنفسها بالحديث مع محسن أو حتى النظر مباشرة له، ربما حتى لم تنظر في عينيه مباشرة إلا تلك المرة الوحيدة في فرح محسنة ابنة الجيران حيث تعثرت وكادت أن تسقط في الترعة، لولا قبضة محسن القوية التي جذبتها بعيدًا عن حافة الترعة، وساعتها خفق قلبها هادرًا بقوة بين ضلوعها، حين التقت عينيها بعيناه لكنها لملمت اضطرابها وأسكتت قلبها جبرًا واعتدلت شاكرة إياه وانصرفت سريعًا، لكن لم تستطع أن تجبر قلبها على نسيانه، فلقد كانت صورة محسن وما حدث بينهما تقفز في مخيلتها كطفل فرح بالقفز على الترامبولين، وأصبحت تتحين فرصة مرور محسن من أمام دارها أو المعهد لتملي عينيها برؤيته بدون أن يلاحظها، محسن هو الآخر خفق قلبه لها، و لم ينتظر كثيرًا، إنها من مستواه، حدث أمه وأبيه وعقد العزم والنية وذهب فرحًا مسرورًا لمنزلها طالبًا الحب الحلال، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
رفض والدها طلب محسن بالزواج، فما حاجته بتزويجها لمحسن الفقير الذي لا يختلف عنهم في معيشته في حين أن العمدة لمح له بنيته في طلب يد ابنته المتعلمة تعليمًا عاليًا لابنه.
كانت أول كسرة لقلب أنهار، كان قلبها يطير فرحًا كفرحة أم بضم وليدها لصدرها بعد مخاض طويل، حين رأت محسن ووالديه يدلفون لدارهم، لكن قلبها تحطم حين رأتهم خارجين مطأطئ الرأس يكتنفهم الحزن وترتسم على وجوهم خيبة الأمل لكن ما بيدها حيلة، إنه مجتمع عقيم ذكوري متسلط، لو كانت لمحت لهم برغبتها في الزواج من محسن لظنوا بها الظنون ولقتلوها بلا ذنب ولا جريرة سوى أنها أحبت،
تصورت شاكر وهو يفصل رأسها عن جسدها بفأسه، فهو لن يستمع أبدًا لها فلم تجد بدًا سوى الرضوخ.
رضخت لحكمهم وهي تمنى نفسها بأنهم سيختارون لها الأصلح وهم أدرى بمصلحتها.
خدعها ظنها أن ابن العمدة سيكون الأمل القادم لحياتها وسيكون عوضها عن حبها الذي ضحت به.
دبت الغيرة أكثر في نفوس أخواتها منها فهي المتعلمة وكذلك ستتزوج ابن عمدة الكفر كله، وستعيش في دوار العمدة وتنعم بالرخاء
كان هذا تصورهم
سمعت سرًا حديثًا دار بينهن ورأت تعابير وجوههن من فتحة في حائط الدار تطل على غرفة الضيوف حيث كن مجتمعات وكن يعتقدن أنها نائمة
قالت إحسان والسخط باد على ملامحها "يا لحظ أنهار ستدخل قصر الحظ من أوسع أبوابه، ستتزوج نعيم ابن العمدة"
"صدقت يا إحسان، إنها تمسك بمشعل الحظ منذ أن ولدت" قالتها بهية
"دعونا نحن ننعي حظنا الأسود الذي لا ملامح له" قالتها صفية وهي تلوح بيديها تندمًا على حظهن.
أسرت في نفسها خيبة أمل أخرى في سلسلة خيبات الأمل ونسجتها في طوق يطوق رقبتها لتزيد من همومها التي تتوالى وخيباتها التي تتلاحق.
وافقت بالطبع على طلب العمدة بتزويجها لابنه نعيم
ظنت أنها ستعيش النعيم بزواجها من نعيم لم تكن تعلم أنها تخطو بإرادتها أول سلالم الجحيم.
ابن العمدة كان بخيلًا مقترًا ظل أربعة سنوات يجهز شقته بحجة أنه يريد تجهيزها كأفضل ما يكون، كلما حاولت التملص من هذه الخطبة أوجدوا لها الاعذار
"لا يصح يا ابنتي، إنه ابن العمدة جاه ومال وحسب ونسب" هذا رأي أمها
صمتت قليلًا ولكنها عاودت طلب فسخ الخطبة
دخلت يومها على والدها في غرفة الضيوف مجتمعًا بإخوتها الذكور
ما أن رأوها حتى تهللت أساريرهم
ابتسم شاكر "تعالي يا عروستنا، يا وجه السعد والخير، سيعقد قرانك على ابن العمدة الأسبوع القادم، لقد اتفق مع والدك"
انتفضت أنهار "أي عقد قران، لقد جئت أطلب من أبي فسخ الخطبة"
ليقف شاكر من مجلسه صافعًا إياها "تريدين فسخ الخطبة، أقول لك سيعقد قرانك، وأنتِ تريدين فسخها"
خلصها والدها من بين يديه "اهدأ يا شاكر"
بينما أمسك حسن وجابر بشاكر ليمنعوه من ضربها
قال حسن ناظرًا لها بتوعد "أنهار عاقلة، تعلم جيدًا أن فسخها للخطبة قبيل عقد القران سيتسبب بفضيحة لنا ولبناتنا"
كانت تبكي صفعتها، قهرها وتفكيرهم في أنفسهم فقط
"لكنه بخيل، أنا لا أرتاح له وواضح أنه لا كلمة له على الإطلاق"
أسكتتها صيحة والدها بها
"أعطيت كلمتي للعمدة وانتهى النقاش"
حقًا انتهى النقاش انصرفت تجر أذيال خيبتها وصمتت، ماذا ستفعل؟ لا قِبل لها بعصيان والدها، ولا بطش أخوتها، أمطرتها أمها بمدح زائف لنعيم وتحسين من صورته
"نعيم حسب ونسب، وستبحرين في الكرم والعز"
لم يكن هذا ما رأته في نعيم على الإطلاق لم تكن ترى سوى إنسان بخيل يريد أخذًا بلا عطاء، يريد زوجة لا تحمله أدنى مسؤولية، يريد الزواج بلا غرامات أو الزامات.
مع عقد القران قدم نعيم شبكة متواضعة بالنسبة لمركزه متعللًا بأن إيراد الأرض كان ضعيفًا، فاض الكيل بها وطلبت فسخ هذه الزيجة لكن أهلها رفضوا رفضًا قاطعًا.
"تريدين جلب العار علينا، وتصبحين مطلقة وأنتِ لم تدخلي بعد، ماذا سيقول الناس، تريدينهم أن يلوكوا سيرتنا في كل القرية"
رضخت وكأن الرضوخ قدر ومنهاج حياة
تعلل العمدة وأهله بمرض ابن عمهم وتم الزواج بفرحةٍ مكتومه بفرقةٍ موسيقية متواضعة لا تدري من أين أحضروها وطالبها ابن العمدة أن تخبر الكل أن أهلها هم من أحضروا الفرقة لإدخال السرور على ابنتهم، مراعاة لمشاعر أهله كما قال، وتم الزفاف.
أغلق باب واحد على أنهار ونعيم لتكتشف أيضا أنه رجل أناني لا يهمه سوى إرضاء نفسه ونفسه فقط، أفرغ شهوته ونال مأربه، وكفى!
أوهمت نفسها أنه يتركها حتى تتعود عليه، أولاها ظهره وغط في النوم، لم يكلف حتى نفسه بسؤالها عن شعورها أو الاطمئنان عليها.
انبلج الصباح يحمل في طياته بداية المعاناة
لم تكن تخفي عليها تلك النظرات المستعرة بالغيرة والحسد والموجهة إليها من دولت زوجة شريف الأخ الكبير لزوجها والمتحكم في الأرض حسبما علمت، ظنت في البداية أنها نظرات غيرة عادية، لكن بعد الزواج فهمت كل شيء..
دولت كانت واقعة في غرام نعيم ولكن أهله خطبوها لشريف ولم تتغلب على حبها وغيرتها على نعيم بالرغم من زواجها بأخيه وبالرغم من زواج نعيم، كانت تعامل أنهار معاملة الضرة وتكيد لها.
منذ أول يوم في الصباحية بدأت بإلقاء سمومها ولم تكن تخاف أو تخشى من أحد فلا يوجد بالدار من قد يعترض على كلام دولت أو يكسر كلمتها مهما كان، كانوا كلهم تحت طوع يدها وفي انتظار إشارة من بنانها؛ دولت كانت تستخدم السحر والأعمال للكل ولم تخرج أنهار من هذه الدائرة.
كانت دولت توغر صدورهم من ناحية أنهار
"لا تدعوها تتكبر عليكم، إنها ابنه الفلاح وأنتم أسيادها، لتعمل وتخدم بعد مجيئها من مدرستها، هل تظن أنها أحسن منكم أو أرفع مقاما؟!"
كانت حياتها عبارة عن سلاسل من المعاناة والألم ربما وقت راحتها النفسية الوحيد كان وقت وجودها بالمدرسة، فمن بعد ذلك تبدأ رحلة الشقاء والذل والمهانة اليومية
قبل ذهابها للمدرسة كانت مطالبة بإطعام الطيور، وحدها بدون مساعدة من أي منهن، لا يضعون طعام الطيور بالسطح خشية أن يصيبه البلل من مطر أو أن تنبشه القطط مثلًا، سطح المنزل كان متسعًا ومليئًا بالطيور.
أربعة مرات تصعد أربعة أدوار يوميًا وهي تحمل على رأسها ذلك الطشت المحتوي على الكُسب المبلل وعلف الطيور، معاناة تنتهي بألم لا يحتمل في الظهر والبطن ثم تذهب للمدرسة متنفسها الوحيد، المكان الذي جعلته مفرخة لأحلام وئدت في مهدها
كانت ترى في التلميذات أملها الذي اندثر ودفن، تبثهم أملًا ليتمسكوا به، لينطلقوا في الحياة، وهي التي فقدت كل أمل ما بين زوج لا يعرف من الزواج سوى حقه الشرعي والسرير مهما كانت معاناتها وألمها، وما بين أسرتها الرافضة تمامًا للطلاق، وما بين أسرة زوجها المنقلبة عليها والتي تسخرها في كل الاعمال
كانت تعيش ما بين المطرقة والسندان، كثور ربطوا عيناه وقيدوه للدوران في دوائر لا متناهية حول الساقية.
أيام تمر والألم يزداد، ألمٌ قاتل يهاجم بطنها كلما حملت شيئًا مهما كان خفيفًا وللأسف فهي لا تحمل إلا الثقال
إلى أن سقطت على السلم بطشت العلف وحملوها للطبيب الذي أكد وجوب دخولها في الحال للعمليات فلقد أصيبت بفتاق حاد بالسرة
بعد العملية أكد الطبيب على وجوب راحتها.
بعودتها للمنزل لم تصبر دولت سوى يومان فقط وطلبت من شريف بصفته الكبير وكلمته هي العليا أن يستدعيها
"أما كفاكِ راحة، فلتباشري عملك في المنزل"
لم يتحمل جسدها الهزيل ولا قوتها التي أصبحت منعدمه وسقطت مرة أخرى
هذه المرة تركوها لترتاح.
ولكن من أين تأتي الراحة؟! بدأت تنتابها الكوابيس وتقض مضجعها، حتى النوم لم تكن تجد به راحتها، كانت تستيقظ من نومها بآلام تنتابها وكأنها لص انفرد به جمع من الأشداء فلقنوه درس حياته الدافع للتوبة، ترى ثعابين بأعين تشع احمرارًا في منامها، عناكب سوداء كبيره، كلاب سوداء، لم تعد حتى تنعم بالنوم
في خضم معاناتها لم تكن أنهار لتلقي حملها سوى على خالق السماوات والأرضين السبع، كانت شكوتها ومناجاتها لله، فلمن ستشكو؟ لأم أنهكها الزمن، أم لأخوة رجال شغلهم الشاغل حياتهم وأولادهم، أم لأخواتٍ أعمتهم نار الغيرة منها، خاصة بعدما كانت تشتري بعض الحلي الذهبية لنفسها وتخبرهم أن نعيم قد اشتراهم لها، كانت تريد منهم أن يظنوا أنها سعيدة وأنه يهتم بها، في حين أن نعيم لم يكن يلقي بالًا لها، لم يهتم سوى بأخذ حقوقه، مع أنها لم تكن بالرضا، فمن أين يأتي الرضا لامرأة مقهورة على يديه وأيادي أهله؟! من أين يأتي الرضا لمستباحة في المشاعر وكافة الحقوق؟ من أين يأتي الرضا لجسد يعيش بلا روح؟
قاسية تلك الاختبارات والمحن التي وضعت بها، بعد حملها واحتضانها لأول أبنائها قررت أن تفرغ طموحها في أولادها، وقررت أن تتحمل، كل مصاعب الدنيا تهون في سبيل أولادي، لن أدعهم يتندرون عليهم بأمهم المطلقة أبدًا.
إنه هكذا مجتمع عقيم موؤود الرحمة لا مكان فيه سوى للمظاهر الكاذبة الخادعة
وتستمر المعاناة ويستمر الشقاء، تطور الأمر ولم تعد الكوابيس تقتصر على النوم، أصبحت تراها مرأى العين في استيقاظها وصحوها، تحس فجأة بآلام في ظهرها لتتحسسه فتصرخ مما وجدته، عنكبوت سوداء كبيرة تسقط أمامها على الأرض وتقف مواجهة لها، تصرخ "عونك يا إلهي" فتختفي العنكبوت تأتي دولت ملبية لصرختها
"ما بك أفزعتنا؟ لم تصرخين؟"
تجيبها وهي ترتعد خوفًا "عنكبوت! عنكبوت ضخمة كانت على ظهري"
"وأين هي؟"
"لقد اختفت"
لتجيب دولت ساخرة "عنكبوت! هذا ما كان ينقصنا، ستجن المتعلمة"
وتتركها فريسة لما أقنعت نفسها أنه وهم
تتكرر تلك الأوهام هذه المرة بعد استيقاظها من نومها بعد قيلولة فرت لها لتريح جسدًا أنهكه المجهود ونال منه الوجع، لتحس بحركة غير عادية تحت قدميها فتزيح ملاءة السرير لترى ما لم تكن تحسب في عمرها أنها ستراه
ثعبان أسود يكبر حجمه يزحف على قدميها، أخرستها الصدمة وشلتها المفاجأة وهو يزحف ببطء حتى ربض على صدرها واستقام جذعه وفرد رأسه حتى تفلطحت وعيناه تشتعلان بنار حمراء
وهي تجاهد مع أحبالها الصوتية علها تستجيب لها وتصدر استغاثة ما
لكن تلك الأحبال تركتها وهربت وأبت الرضوخ لها، لكن رحمة المولى عز وجل أقوى، لتصعد إلى ذاكرتها آية الكرسي متسللة من براثن عقلها الباطن ويبدأ وعيها في ترديد الآية
وهنا تنصاع الأحبال الصوتية أمام عظمة القرآن ويبدأ صوتها في الظهور
﴿اللَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾
وكلها يقين أن الله سيحميها ولن يخذلها أبدًا، مع كل كلمة كان قلبها قبل لسانها يرددها كان حجم الثعبان يتضاءل تدريجيًا ولكنه نظر لها نظرة ملؤها الشر والتوعد، حتى اختفى، هبت من سريرها تتفقد الغرفة، فلربما اختبئ في أحد الأركان، لكنها لم تجد له أثرًا، ولم تخبر أحدًا ممن في المنزل بما رأت.
وتدور الأيام ما بين كوابيس وأوهام تراها نهارًا جهارًا
لم يكن من أحد يعلم بما تقاسيه سوى والدتها التي أسرت لها في لحظة ضعف بما ترى، ونصحتها والدتها بالتقرب أكثر إلى الله والذود بحماه
وفي أحد زياراتها النادرة لبيت أهلها صادف زيارة شيخ كبير لهم وأسرت له أمها بما يحدث لها ولما علم منها أنها لا ترى تلك الأشياء إلا في شقتها طالبها بضرورة تغيير كل فراش النوم في البيت بفراش جديد
لم تكن ساعتها تدخر مالًا لهذا، عقدت عزمها وتوكلت على الله وبدأت في إدخار المال، لم تكن تخلو المدة من ظهور هلاوس لها، لكن كلما استجارت بحمى الرحمن كلما أحست بالقوة في مواجهتها.
حتى جاء ذلك اليوم الذي كلمت الثعبان الأسود بلا خوف كانت تحدثه بكل قوة وجرأه
"لن تنال مني، الله حليفي وملاذي"
ليرد عليها الثعبان "لست أنا من يريدك"
وينصرف زاحفًا مختفيًا
ليظهر لها ساعتها الشيخ الملتحي، شيخ يشع وجهه نورًا تحيطه هالة بيضاء من النور جال في الشقة وأشار لها إلى غرفة النوم
"هنا ترقد المكيدة"
أكملت ما كانت تريد ادخاره وأخبرت أهل زوجها أن أهلها يريدون إهدائها بمناسبة انجابها فرش جديد لأماكن النوم وساعتها اكتشفت سبب ما يحدث لها بداخل المراتب والوسائد، تختبئ تلك الأعمال، لقد هال العمال ما رأوه وهم يفككون المرتبة، حتى أنهم هبوا من مكانهم ورفضوا أن يبحثوا في باقي المراتب.
استدعت الشيخ قريبها الذي أكمل بحثه واستخرج كل الأعمال وذهب لمتخصص فيها ليقوم بفكها وإحراقها وطالبهم بحرق القطن الخاص بالمراتب والوسائد
وتم التجديد بقطن جديد وآثرت الصمت ولم تخبر أحدًا من أهل زوجها.
علمت أن من قام بتلك الفعلة الشنعاء هي دولت، فلقد كانت في قمة توترها حين علمت بعزمها على تغيير الفرش وأوعزت إليها ألا تعيد التنجيد بل تبيع المراتب كما هي وتشتري مراتب من النوعية الجديدة.
وأخيرًا أصبحت تنعم بنوم هادئ تريح فيه جسدها المنهك.
دارت الأيام ومات العمدة، وأصبح كل شيء في يد الأخ الكبير، غرقت زوجته في النعيم فكل شيء يذهب لها فهي زوجة الكبير وسيدة الدار بعد وفاة الأم
لكنها لم تنجو من عقاب الله على أفعالها
((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) (102) (البقرة)
لتصاب بالسرطان في مرحلة متقدمة لا علاج لها ساعتها أعلنت التوبة وطلبت العفو والسماح.
وسامحتها أنهار، فكل ما كان يشغل بالها أن يبارك الله في أولادها وقد أعطاها الله ما طلبت وتمنت، كان أولادها يشار إليهم بالبنان لأدبهم وأخلاقهم وتفوقهم
بعد أن عرف أهل القرية أعمال نعيم وعلموا بما كان من زوجة أخيه في حق أنهار، فالقرية وكأنها بيت واحد يتسرب الخبر إلى كل مكان بدون أن تعرف من أذاع الخبر، ومن مواقف كثيرة خبروها بأم أعينهم، زاد احترام أنهار بين الخلائق ونزل نعيم وأهله من نظرهم.
مرت السنوات وكبر الأولاد والبنات
وأنهار تعيش في بيت واحد مع نعيم تؤدي واجباتها كزوجة ما عدا الفراش فلم تعد تقربه ولم تعد بالضعيفة التي تغلب على أمرها، بحزم أخبرته بعد خيانته لها التي رأت دلائلها بأم عينها على هاتفه
"أنا هنا من أجل أولادي فقط، كل ما بيننا انتهى"
تسلحت بكل القوة وخاطبت أولادها اللذين صاروا رجالًا
"تحملت كل شيء من أجلكم، وأصبحتم الآن رجالًا ينحني لهم الجميع احترامًا، يكفيني معاناة، أريد أن أنال الراحة فيما تبقى لي من أيام، لقد اتخذت قرارًا لا رجعة فيه سأطلب الطلاق"
وطلبت الطلاق
لم يصدق نعيم! هل هذه أنهار الضعيفة مكسورة الجناح، التي كانت تعمل في البيت بلا كلل ولا ملل، هل هذه أنهار التي كانت تسمع بأذنيها مداعبة دولت لي و ذكرها لأيام حبها لي وتصمت، هل هذه أنهار التي أهملتها يوم ولادتها وتركتها بالمنزل مع علمي أنها تلد حتي وضعت الجنين بالحمام بمفردها، وكادت حمي النفاس تودي بحياتها،
"لماذا الآن أنهار؟ أكملي ما تبقى من حياة لكِ معي، لا تتركيني"
بكل قوة أجابته "يكفيني يا نعيم، إلى هنا وكفى"
رفض نعيم تطليقها، فمن أين سيأتي بمن تتحمل ما تحملته؟! إنها صفقة رابحة له، ثم إنها تتحمل معظم المصاريف إن لم يكن كلها، بينما ينعم هو بما يأتي من الأرض ينفقه على مزاجه الخاص وشهواته النسائية، فلتبق كما هي
"سأخلعك"
"لن تتجرئي"
وبالفعل رفعت قضية خلع، أقام الدنيا ولم يُقعدها، وجه رسائل لها مع كل الأقارب لتتنازل عن القضية، وسيطلقها بالرضا والتفاهم.
انصاعت لهم وتنازلت
ما بين أيام مضت في أعذار ليؤخر الطلاق، وانشغال في الاهتمام بالأولاد مرت الأيام، إلى أن استعادت القوة وخيرته ما بين الطلاق بإرادته وبين رفع قضية خلع وهذه المرة لن تتنازل أبدًا
رضخ مجبرًا
وأخيرًا تحمل بين يديها صك حريتها
كل شيء له طعم مختلف الآن، حتى الهواء الذي تتنشق، يبدو مختلفًا
عاشت في منزل والديها، بعد وفاتهما، أولادها معها، بناتها يزورون والدهم باستمرار ليقوموا بخدمته، فما بقي له من مال بعد أن فرط أخيه في جزء كبير من الأرض لعلاج دولت لم يعد يسمح له بالزواج من أخرى.
انتهت رحلة معاناتها مع رجل ظالم لم يقدرها قدرها لم يمتثل لأمر الله بالمعاشرة بالمعروف في سورة النساء (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))(19)
ولا بقول نبينا الكريم في خطبته الشهيرة "استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عَوَان"
أنهت جزء من معاناة مضت ونال كل من ظلمها جزاءً عادلًا يتناسب بقدر ما اقترفه في حقها
وتستعد لمعاناة قادمة في وجه مجتمع عقيم ينظر للمطلقة نظرة دونيه ويصنفها درجة ثانية ولا يضعون في تصور عقولهم القاصرة ما تعرضت له من ظلم وجور على حقوقها.
لكنها ستصمد وتحارب شامخة الرأس مرفوعة الهامة، فهي أخيرًا أسدت لنفسها معروفًا بتحريرها من قيد أدمى الروح قبل الجسد.
تمت بحمد الله

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↑1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓-2الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة اشرف الكرم
6↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة حسن غريب
9↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
10↓-1الكاتبمدونة حاتم سلامة
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑58الكاتبمدونة خالد دومه56
2↑43الكاتبمدونة كريمان سالم70
3↑29الكاتبمدونة عبير محمد119
4↑23الكاتبمدونة غازي جابر79
5↑18الكاتبمدونة ياره السيد112
6↑15الكاتبمدونة آمال صالح21
7↑14الكاتبمدونة عبير مصطفى73
8↑13الكاتبمدونة عبير بسيوني173
9↑12الكاتبمدونة أسماء نور الدين83
10↑12الكاتبمدونة شيماء الجمل129
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1068
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب687
4الكاتبمدونة ياسر سلمي649
5الكاتبمدونة مريم توركان573
6الكاتبمدونة اشرف الكرم566
7الكاتبمدونة آيه الغمري492
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني422
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين416
10الكاتبمدونة سمير حماد 399

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب328546
2الكاتبمدونة نهلة حمودة184318
3الكاتبمدونة ياسر سلمي176069
4الكاتبمدونة زينب حمدي168338
5الكاتبمدونة اشرف الكرم126465
6الكاتبمدونة مني امين115749
7الكاتبمدونة سمير حماد 105385
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي96564
9الكاتبمدونة مني العقدة93479
10الكاتبمدونة مها العطار86757

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عبير سعد2025-05-23
2الكاتبمدونة هاله اسماعيل2025-05-18
3الكاتبمدونة محمد عرابين2025-05-15
4الكاتبمدونة اريج الشرفا2025-05-13
5الكاتبمدونة هبه الزيني2025-05-12
6الكاتبمدونة مها الخواجه2025-05-10
7الكاتبمدونة نشوة ابوالوفا2025-05-10
8الكاتبمدونة كريمان سالم2025-05-10
9الكاتبمدونة رشا ماهر2025-05-09
10الكاتبمدونة مها اسماعيل 2025-05-09

المتواجدون حالياً

2010 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع