ترك جسار قمر ودخل غرفته وأغلق الباب بقوة، أمسك بذلك القميص الأسود الحريري الذي كانت دلال ترتديه وأخذ يلمسه ويستنشق عبير عطرها الفواح منه، جلس على السرير يتلمس مكانها الذي تنام فيه.
وبكى...
نعم بكى، ذلك الجبل الذي يقسم الجميع أنه لا مشاعر له بكى، فهو كالحجر الصوان مع الكل إلا معها يستحيل لطفل وديع يبحث عن حضن أمه، فطوال وجوده معها في جناحهما كان ملتصقُا بها لا يدعها تفعل شيئًا بدونه،
والآن حبيبته تنام مكسوره بسببه، هو من كسرها ولا يستطيع أن يفعل شيئًا، لم يتحمل أن يكون بالغرفة أكثر من ذلك، حمل عباءته وخرج صافقًا الباب خلفه،
لتجلس قمر تبكي حالها وحظها وظلم الأيام لها.
خرج جسار للحديقة يجلس بها مقابل شرفة الغرفة التي بها دلال علها تخرج للشرفة فيناظرها ويهدأ قلبه، وظل هكذا حتى انبلج الصباح عليه.
مرت الأيام وهو في حالة يرثى لها، استطالت لحيته وغزت وجهه الهالات السوداء من قلة نومه، إلى أن رق قلب الجد وسمح له برؤية دلال التي كانت ما تزال على صمتها وترفض الكلام مع أي منهم فصعد مسرعًا لغرفتها
كانت نائمه اقترب قائلًا:
- دلال يا دودو، يا حب العمر كلاته.
وجلس بجوار سريرها ممسكًا بيدها وهي تدعي النوم بعد أن سمعت صوته يحدث والدتها قبل أن يدخل لها الغرفة
- واللي خلج الخلج يا دلال ما في جلبي غيرك، ورب العرش يا دلال آني بلاك كيه العيل اللي اتيتم، من يوم ما رجدتي وآني ما عارفش للوكل طعم وهو مش من يدك، ولا جادر ادخل مجعدنا وانتي مش منوراه، يا دلال سامحيني ورب السماوات السبع كانت نزوه، وحوصلت جبل ما أعرفك ولا اعرف انك موجوده في الدنيا واصل، كت عاخلص شغل في مصر والرجاله الله يحرجهم بجاز عزموني عالكباريه، شوفتها وزغللت في عيني، وآني ما ليش في الحرام، اتجوزتها عرفي، وشويه وفجت من الوجعه المربره دي، وأهو ربك جازاني ويطلع لي ولد منيها،
لو عليّ هارميها في الشارع هي ما تهمنيش واصل، بس ولدي لحمي ما أجدرش أهمله واصل، يا دلال ردي عليّ، ردي على جسار أبو الرجال حبيبك كيه ما كنتي تنادمي عليّ، طب فتحي عينك يا دلال وناظري وجهي وانتي تعرفي بُعدك عامل فيا إيه؟ البت مليحه كانت بتجول للمرضعة لواحظ البيه جسار اللي كيه الجبل انهد لما بعد عن ست الهانم دلال، فتحي يا دلال وناظريني.
ففتحت دلال عينيها ثم زاد اتساع عينيها من منظر جسار الذي استطالت لحيته في غير تهذيب واستوطنت الهالات السوداء تحت عينيه وهزل وجهه، لمحت الدموع تترقرق في عينيه لم تتمالك نفسها فارتمت في حضنه وأخذت تبكي
- يا بوووووي يا دلال، كن روحي ردت لي، ابكي يا دلال طلعي اللي جواكي، عارف إنك شايله ومحمله وآني راضي بكل اللي تعمليه، بس اعمليه جاري يا حبه الجلب، ما تهمليش جسار لحاله، هاموت من غيرك.
فابعدت رأسها من حضنه قائلة:
- بعد الشر عليك يا نور عيني، بس صعبه عليا قوي يا جسار تطلع متجوز وكمان مخلف، لا واللي زود المبله طين إنها هتقعد معايا وشي في وشها، ورقاصه يا جسار رقاصه!
دخلت نوال أثناء كلام دلال فأطلقت الزغاريد
- بركه إن عقده لسانك اتفكت، ربنا يهدي سرك يا بنتي، قومي بقي يا اختي كده مع جوزك يالا من غير مطرود.
ضحكت دلال:
- إنتي ما صدقتي يا ماما عاوزه أخلي لك الجو.
- اختشي يا بت.
حمل جسار دلال فتساءلت:
- إيه على فين؟
قال وهو يلصق جبهته بجبهتها:
- إيه؟ عانزلك على بيتنا اللي كان مظلم، جيه الوجت إنه ينور.
حملها جسار للمنزل فقد رفض إنزالها وفتح الباب وهو يحملها، فوجئت قمر بدخول جسار عليها حاملًا دلال
فاشتعلت النار بقلبها ولكنها قالت:
- الحمد لله على السلامه نورتي البيت.
ردت دلال ببرود:
- ده نورك.
ودخل جسار غرفتهما ليتعالى صوت دلال بعد قليل بضحكات عالية جعلت قمر تغلي وصفقت الباب خلفها خارجة للحديقة.
ومرت الأيام كُلٌ في حياته مع أحداثه اليومية.
بدأت دلال المذاكرة الجدية للامتحانات، وكذلك سامي ولطفي لكن لم تخلو مذاكرتهما من قضاء الوقت برفقة جواديهما زين والصياح فهما الآن أصبحا كالفرسان في مهارة ركوبهما الخيل، وكان النجع بأكمله يتحاكى بمهارتهما وأصبحا محط نظر الفتيات.
حان موعد ظهور النتيجة اتصل الحاج فارس بالمعمل لتؤكد النتيجة ظنه وفراسته بأن الولد ابن جسار.
بعد تناول العشاء أعلنت دقات العصا الآبنوسية اجتماعًا عائليًا
- اليوم جت نتيجه التحليل وكيه ما قلت الواد ولدنا، بكره بالعصريه العجد، وهنعجدوا بتاريخ جوازكم العرفي عشان نطلعوا شهادة ميلاد لعزيز الصغير.
قالت قمر:
- اسم حلو يا حاج.
فدق بعصاه الأرض:
- آني لما اتكلم ما فيش مخلوج يعلج على كلامي يا جمر (ووجه نظره لجسار) عرف مرتك عوايدنا غلطها الجاي محسوب عليك.
ثم دق الأرض ثلاثًا معلنًا نهاية الاجتماع، وسط وجوم ساد على دلال، فهي كانت تأمل ألا يكون الولد ابن جسار.
في اليوم التالي عُقد قران قمر على جسار بتاريخ زواجهما العرفي واستخرج الجد بعدها شهادة ميلاد عزيز.
ومرت الأيام واصطحب جسار دلال لآداء الامتحانات وفي أثناء وجودهم هناك
طلبت قمر الجلوس مع الحاج فارس في مكان مغلق لتتحدث معه بأمر هام، فدخل معها غرفة المكتب
وسألها:
- إيه عاوزانا نتحددتوا في مكان مجفول ليه؟
قالت بخجل:
- عشان اللي هاقوله يا حاج يكسف الصراحه وأخاف حد يسمعني.
قال الجد:
- باه انطجي يا بتي.
فتحت عيناها على اتساعها:
- يا لهوتي بتك هو أنا اطول يا حاج ( ودمعت عيناها) ده لو كان عندي أب زيك كنت بقيت ست الصبايا ولا اتمرمطش في الدنيا كده، المهم يا حج معلش يعني ما تقاطعنيش إلا لما أقول الكلمتين مره واحده كده واخلص.
هز رأسه:
- جولي يا جمر.
فقالت وهي تفرك كفيها:
- أنا مرات جسار ومن يوم ما اتجوزنا عرفي والله العالم ما حد لمسني غيره وأنا هنا بقالي داخله على شهر أهو عايشه مع جسار في بيت واحد، الله الوكيل يا حج ما صدر مني حاجه تزعله وإسأله عشان تتأكد، وهو لا مؤاخذه يعني (واحمر وجهها) كل يوم بايت في حضن دلال وأنا ..... أنا....
فقال رافعًا كفه يمنعها من الإكمال:
- خلاص يا بتي ما تكمليش فهمت اللي عاوزه تجوليه، واللي بيعمله ده ما يرضيش ربنا ولا يرضي خلجه، ولمن يعاود من مصر ليا معه حديت.
فقالت والفرح باد على ملامحها:
- بس يا أبا الحاج اوعي تقوله إني اشتكيت لك.
ابتسم فارس:
- ما تخافيش ما عجلوش.
أنهت دلال امتحاناتها وصحبها جسار في رحلة على متن باخرة نيلية وتنزها سويًا ثم أخذها وعاد للنجع.
طلبه الجد في غرفه المكتب
- تعال يا ولدي، اطمنت على عزيز؟
- أيوه يا جد.
- طب وأم عزيز؟
- مالها يا جد أم عزيز؟
- آني مش ولد امبارح، البنيه ماشيه بما يرضي الله وإنت مهملها، وآني مش هاتكلم تاني ربك اسمه العدل، يوم عنديها ويوم عند دلال وإلا يومين عنديها ويومين عند دلال شوف إنت يناسبك إيه وإعدل بين حريمك، وشيعلي دلال عشان أفهمها وتبجى الحكايه سهله عليك.
دخلت دلال ليسأل الجد:
- كيف احوالك يا بتي؟
- بخير يا جد.
احتضنها قائلًا:
- عارف إنك اتحملتي كتير، بس بتنا بت أصول وتحب الحج صوح يا دلال؟
- صوح يا جد.
ضحك فارس:
- بجيتي تحكي كيه حكونا.
ضحكت دلال:
- اللي يعاشر الجوم يا جد.
- طب يا بتي، جمر تبجى مرت راجلك وليها حجوج عليه.
- خلاص يا جد أنا فهمت اللي فيها، ده شرع ربنا وحلاله وما أقدرش أعترض.
فاحتضنها قائلًا:
- ربي يكملك بعجلك يا بتي ربنا يصبر جلبك ويرزجك بالخلف الصالح.
صعد جسار ودخل مع دلال غرفتهما وهو متردد كيف يكلمها
فوفرت عليه الكلام وحملت عباءته ووضعتها على كتفه قائلة:
- ما فيش داعي للتفكير يا جسار خد بعضك وروحلها، جدي كلمني.
- والله على عيني يا حبه عيني.
قالت والحزن يسكن ملامحها:
- بس معلش ممكن أطلع أبات عند ماما النهارده، هتبقى صعبه عليا قوي أول مره، معلش يا جسار ربنا يخليك حس اللي بيا.
احتضنها:
- حاسس يا حبه الجلب، حاضر اطلعي.
خرجت دلال من الغرفة وخرجت من باب المنزل وأغلقته فخرجت قمر من غرفتها قائلة:
- إيه بابا جابر وماما راجيه نزلوا عزيز؟
رد جسار :
- لا ما نزلهوش.
- أمال مين اللي جه؟
- ماحدش جه، دي دلال طلعت لأمها.
- غريبه دلوقتي! اوعي تكون زعلتها دي طيبه وبتحبك قوي.
فنظر لقمر نظرة استغراب
فقالت:
- اغيه ما تبصليش كده، فاكر إنها عشان ضرتي هاكرهها يعني؟ لا دي زي العسل بس هي اللي لسه واخده جمب مني، وحقها أنا عازراها، بس ده وضع اتفرض علينا كلنا.
فأشار لها أن تأتي بجواره:
- تعالي يا جمر اجعدي، احكيلي عنيك يا جمر وإيه اللي شغلك رجاصه؟
ضحكت قمر ضحكة سخرية:
- آه يا جسارآه، إيه اللي شغلني رقاصه؟ حاضر هاحكيلك، وربنا شاهد إني ما هاقول الا الحق.
وجلست بجواره وقالت
- أنا يا سيدي اتولدت في عيله تحت خط الفقر بشويه، أوضه واحده عايش فيها خمس بنات وأمهم وأبوهم، كلنا بنات زي القمر وآخر حلاوه، أبويا كان راجل عواطلي عايش على قفا أمي، هي تطلع تسرح بمشنه الخضار وتيجي آخر النهار تديله اللي جمعته، فاكره كويس اللي كان بيعمله كان ياخد الفلوس منها ويزقها برجله يوقعها في الأرض ويشتمها
ويقولها (وأنا اعمل إيه بالملاليم دي، أجيب مزاجي منين يا وليه؟)
تقوله (مزاج إيه؟ دول عشان أكل البيت)
يرد عليها (عنكم ما كلتم المهم مزاجي)
ويسيبنا ويخرج، تطلع أمي تشحت من الجيران بططسايه من هنا على بتنجانيه من هنا وكل واحده فينا تاكل لقمه وتنام ربع بطن في حضن أمنا، يجي هو وش الفجر ويآخد أمي غصب، احنا كنا بنغمض ونسد ودانا بس غصب عننا كنا بنسمع،
في يوم جاله راجل معروف في الحته إنه تاجر بنات بيجوزهم لبتوع الخليج اسمه مزاجنجي، جاله واتفق معاه ياخد أختي الكبيره سماره، هيجوزها لواحد عربي وجه الراجل ادي لأبويا خمس تلاف جنيه، كان أبويا طاير من الفرحه وأنا واخواتي وأمي ميتين من القهر، هما يومين بالعدد يا جسار وأختي رجعت، رجعت ميته متكفنه، ماتت في إيد الراجل، بعديها باسبوع جه مزاجنجي تاني، عشان أختي بطه وأبويا باعها برضه، بس بطه جوزها خدها وسافر بلدهم واتصلت بينا عند عم عمران البقال اللي على ناصيه الحاره، وعرفنا انها شغاله خدامه عند جوزها ومراتته الثلاثه وعيالهم وكل فتره كانوا بيخلوها تكلمنا،
وبعد ما جوزها مات أخوه اتجوزها وخدت الجنسيه وطلع أرحم من أخوه وهناها وخلفت منه سبع عيال وماتت وهي بتخلف آخر عيل، جيه جوزها واتجوز أختي حوريه وخدها معاه، حوريه كانت ضعيفه شويه وماتت، أمي ما استحملتش القهر وماتت وهي شايله المشنه في الشارع ما هو أبويا كان بياخد فلوس بيع إخواتي يصرفها على المخدرات، فضلنا أنا وصابره أختي الصغيره، في يوم كنت باسرح بالمشنه في الشارع ما أنا اللي استلمت بيع الخضار بقى بعد أمي أمال هاكل أنا وصابره منين، وخلصت ومروحه سمعت صوت صريخ جامد جريت على الأوضه لقيت الناس ملمومه والبوليس عندنا.
أتاري اللي ما ينفعش أقول عليه أبونا رجع وهو مش دريان ومزود عيار المخدرات واغتصب أختي صابره وقعدت تصوت وهو ولا كأنه هنا، لغايه ما ماتت في إيده والناس اتلمت وشافوه ومسكوه والبوليس أخده، ولما فاق في القسم وعرف اللي هو عمله حدف نفسه من سراي النيابه ومات، فضلت أنا لوحدي يا سيدي، وأنا بقى كنت أحلى إخواتي وأشدهم، جالي مزاجنجي
كان عندي 18 سنه ساعتها، قالي جايب لك جوازه سقع قلت له أنا مش مسافره بره مصر يا مزاجنجي عشان أموت بره، أنا هاموت هنا، قالي وده عز الطلب، الراجل هيتجوزك هنا هتبقي محطته كل ما يجي
واتجوزته كان راجل كويس، وكان بيقول على رقصي حاجه ما حصلتش، لغايه ما مات وسابلي شقتي اللي أنا كنت قاعده فيها كانت باسمي، ولقيت نفسي الفلوس خلصت ومش عارفه أعمل إيه؟ مزاجنجي عرفني على صاحب الكباريه واشتغلت فيه وبقيت زيزيت الرقاصه أشهر رقاصه في شارع الهرم، واتجوزت عرفي مرتين وانت الثالثه (وضحكت) والثالثه تابته.
فاحتضنها جسار:
- خلاص يا جمر خلاص، انتي بجيتي مرت جسار العزايزي علي سنه الله ورسوله، واللي فات انسيه.
فارتمت بين ذراعيه:
- والله بحبك يا جسار.
ودخلا غرفتها وباتت ليلتها في حضن حبيبها، تشكر الله وتحمده وتدعوه أن تحمل لها الأيام القادمة الخير والسعادة، وكان لها ما أرادت توبة نصوح، تعلمت الصلاة، وحفظت الكثير من القرآن.
كان جسار يقسم الأيام بينهما، يبيت يوم عند دلال ويوم عند قمر،
نجحت دلال بتفوق وكذلك سامي أما لطفي فبالكاد نجح،
وضعت زهرة ورقية كل منهما صبيًا، فارس ابن رضوان وشاهين ابن عمار وبعدهما بأسبوع أعلن خبر حمل قمر ودلال، ومرت الأيام لتضع قمر بنتا سماها الجد بدور ووضعت دلال صبيًا اسماه الجد الباسل.
لكن حملت الأيام الحزن للعائلة جانبًا بجانب مع الفرحة بالمواليد الصغار لتموت قمر وهي تلد بدور بسبب حساسية نادرة لنوع البنج المستخدم في التخدير.
مرت سنوات...
وما زال حب جسار ودلال ينبض متقدًا وهي تعتني بأولادها وأولاد المرحومة قمر، عزيز وبدور وتوليهم عنايتها مع ولدها الباسل ولم تفرق بينهم أبدًا كانت أمهم، والكل يقول لها ماما، وكانت دائمًا تجعل عزيز وبدور يريان صور قمر وتعرفهم أنها أمهما أيضًا، لم يخلو الأمر من المشاكسات دائمًا بين الاطفال
فارس وشاهين وعزيز وبدور والباسل
كانوا يكونون أحزاب على بدور الصغيرة التي تعلمت أن تكون عنيفة معهم لتستطيع صدهم وكان كل من يكلمها تقول له:
- آني بدر مش بدور.
بم أن سامي تفوق بالطبع وكان مجموعه يؤهله لدخول كلية الطب فدخلها.
أما لطفي فاكتفى بالتسجيل في معهد زراعي، فهو أبدًا لم يكن يضع في رأسه مسألة الدراسة، فلقد استولت الخيول على لبه وذاب في غرام الأرض الزراعية
كما ذاب في غرام مليحة فذهب لجده فارس بالخلوة طالبًا الكلام معه
- يا جد رايدك في موضوع مهم.
- جول يا ولد.
- من الآخر إكده أنا عاوز اتجوز.
- كلام زين إنك عارف نفسك رايده إيه، حاضر عاجوزك، هاشوف لك مين في بنته العيله تصلح لك.
- بس ..... بس.... أنا .......
- كنك رايد واحده بعينها!
أجاب لطفي بسرعة:
- أيوه.
- وإنت بجى ماشي في البلد تناظر على البنته من غير خشا ولا حيا، تنجي دي آه ودي لاه.
- لا والله يا جد ما حصل، هي واحده بس اللي من يوم ما شفتها وأنا باتمنى تكون ليا، وأقسم بالله من يومها لا قولتلها كلمه زياده ولا لمحت لها بحرف.
صمت الجد قليلًا حتى تجمدت الدماء في عروق لطفي قلقًا ثم قال:
- إنت رايد مليحه صوح؟
- صوح يا جد أحب على يدك ما تحرمني منيها.
- ولو قلت لا، وجوزتها لغيرك عتعمل ايه؟
بحزن واضح قال باستسلام:
- عاجول السمع والطاعه يا جد، بس ما عايدخلش جلبي غيرها.
ابتسم فارس:
- يا زين ما ربيت يا دياب انت ونوال، مليحه ليك يا ولد والعجد بكره عشيه.
تزوج لطفي من مليحة ومرت السنوات وسامي أصبح طبيبًا، ولم يكتب الله للطفي أن ينجب.
أصبحت شئون عائلة العزازيه في يد دياب في حياة الحاج فارس؛ فلقد أحس بدنو أجله بعد أن تمكن منه المرض وأقعده في الفراش فترة، لكن الحاج فارس أبى أن يموت على فراشه وقال للحاجة دلال:
- يا حاجه دلال شيعي خبر في النجع كلاته، ولكل فروع العزازيه إني رايدهم عشيه، وجهزي الوكل والضيافه.
قالت والحزن يملؤها لمرضه:
- عيون دلال اللي تأمر بيه يا جلبي.
تساءل الكل عن سبب جمع الحج فارس لهم.
وفي المساء...
شد فارس قامته بكل قوة رغم معانته مع المرض واستند على الأبنوسيه رفيقته وخرج بخطي بطيئة إلى الحديقة حيث الرجال المجتمعون
تناول الكل الطعام ولكنه لم يتناول شيئًا، تعلل بألم في معدته واعتذر للكل،
بعد الطعام طلب أن تخرج النساء أيضًا إلى الحديقة
وصمت الجميع لا صوت يعلو فوق صوت الحاج فارس، ليقول
- يا عزايزه
ما يخفاش عليكم اللي باجي في العمر جليل وآني جدامكم أهه، عارف إني جسيت على كتير منيكم، بس آني كت رايد مصلحتكم، اللي حاسس إني ظلمته يتكلم ويجول وآني هارضيه.
لم يجد ردًا
فقال:
- يا عزايزه اللي ظلمته ليه الأمان ويتكلم.
فلم يجد ردًا فقال:
- يبجوا نتحددتوا في المفيد، يا دياب أمر عيلة العزايزه بجي في يدك، أنت الكبير من بعدي.
وخلع خاتمه الذي يحوي اسم عائلة العزايزه وألبسه لدياب ثم جلس على مقعده وسلم العصا الأبنوسية له وهو يقول:
- العيله أمانه في رجبتك يا دياب.
ثم صمت قليلًا وقال:
- أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وسلمت روحه لبارئها جالسًا في مقعده كالجبل الراسخ على الأرض.
الكل كان يسمع ويشاهد غير مصدق، انتظروه أن يتكلم، انتظروه أن يتابع الكلام، لم يتكلم، ولم يتابع الكلام، لقد صمت الجبل للأبد، لم تقو النساء حتى على الصراخ لم تطلق صرخة واحدة.
لكن الحاجة دلال هرولت نحوه وانطلقت صرخة واحدة منها باسم حبيبها وجبلها الذي دائمًا ما احتمت به
فارس.
ثم وقعت مغشيًا عليها، حملتها النسوة لغرفتها وكلهن بلا أي استثناء يبكين رجلًا كان من خيرة الرجال.
أما دياب بعد أن احتضن والده شد قامته وقال بأعلى صوته:
- يتنصب العزا من دلجيت والخبر يتشيع في النواحي كلاتها والمراسيل تتشيع البندر، دفنة الحج فارس كبير أكابر العزايزه بكره الظهريه.
حمل الرجال الفقيد الغالي سويًا وأدخلوه القاعة الكبيرة، أمرهم دياب أن يتركوه مع والده ويخرجوا.
ما أن أغلق الباب حتى جثى دياب علي ركبتيه بجوار فارس ممسكًا بيده
- واه يا بوي، عتفوتني يا حاج، عتفوتني بعد ما كتفتني بشيله تهد جبال، مين هيكون جاري يا بووي؟ آه يا بوي آه، الدنيا من غيرك ما عيبجاش ليها طعم، والله يا بوي إني عاحبك وما فيش في جليبي مكانك.
ثم فتح المصحف وأخذ يقرأ القرآن، وبعد فتره شد عوده ومسح دموعه وخرج ممسكًا بالأبنوسية قائلًا:
- جابرعتدخل لأبوك؟
رد بحزن:
- أيوه يا كبير.
دخل جابر وجلس بجوار والده ليقول:
- آني خابر يا بوي إنك كت تحب دياب جوي، أكتر من أي حد منينا، بس آني مسامحك، يا بوي آني عاتوحشك وكلمتك على راسي ودياب كلمته عندي راح تكون كيه كلمتك.
وقرأ أيضًا القرآن ثم خرج
فنادى دياب على وهدان الذي هرع للداخل ودموعه تسبقه فاحتضن جسد والده المسجي وأطلق العنان لدموعه.
ثم دخل الأحفاد تباعًا لوداع جدهم، ثم سمح دياب للنسوة بوداع الجد بشرط ألا تطلق أي منهم صراخا وألا يعلو صوتها بالبكاء أدخلهم تباعا، مر الوقت البيت يملئه القرآن وكل جوامع النجع كانت قد أطلقت العنان للميكروفونات في تشغيل إذاعة القرآن،
لا يوجد بيت بالنجع يخلو من القرآن فالمصاب جلل والفقيد أغلى الكبار.
دخل دياب على والدته ليجدها ما زالت غائبة عن الوعي فجلس بجوارها وربت عليها:
- يا أمايه فوجي.
ففتحت عينيها وهي صامته
فقال لها: عتجدري تطلي على أبوي جبل ما نغسله.
فهزت رأسها موافقة
فساعدها لتقف واستندت على ذراعه
أدخلها الغرفة فاستدارت له وأشارت له بيديها أن يتركها، استندت على الأثاث حتى وصلت للسرير حيث يرقد حبيبها، كانت الدموع تنهمر من عينيها كالشلالات، جلست على السرير تنظر له ثم تمددت بجواره واحتضنته وابتسمت.