لا تدخر الحياة جهدها في الزج بنا في أحلك الصراعات، فما بين القلب والعقل صراع لا ينتهي وألم لا ينضب.
في غرفة بسيطة في حي متوسط ترقد "دلال "على سريرها المتهالك، تلتمس من الحياة راحة، تغوص في سبات عميق علها تجد فيه السلوى وتنتزع من بين براثن أحلامها السعادة والهناء اللذان طالما تمني نفسها بهما.
لتفتح ذللك الباب الخشبي المتشقق "نوال" والدتها سيدة خمسينية، ما زالت قسماتها تحمل لمحة من الجمال تدل على ما كانت عليه في شبابها.
اقتربت من السرير بهدوء، وانحنت جالسة بجوار صغيرتها وهي تهزها برفق:
- اصحي يا دودو بلاش كسل، عشان تلحقي تغيري ريقك يا بنتي قبل ما تنزلي. فتحت عينيها الناعستين بروية ليلمع لونهما الأخضر المائل للزرقة ذاك اللون الذي ورثته عن والدها، وأجابتها بتكاسل:
- حاضر يا ست الكل أنا خلاص فقت أهو هاحصلك.
غادرت والدتها الغرفة، بينما سحبت هي نفسًا طويلًا لتزفره في قوة وألم ذلك الألم الذي يرافقها كظلها يوميًا بتلك المعاناة التي تعيشها لتكسب قوت يومها، لقد ملت من تلك الأماني التي تحيا عليها بأنه يومًا ما سينصفها القدر، وتنال ما يليق بها، إنها ابنة العزايزه، أشراف الصعيد وأكابرها، تعيش ذليلة تعاني وأخويها شظف العيش، يدفعون ثمن جريرة والدها "دياب" الذي وقع عاشقا لوالدتها، بدون أن يأخذ تصريحًا لذلك العشق من الحاج "فارس" كبير العزايزه والحاكم على قلوبها، والذي فور علمه بتلك الزيجة و ذاك الارتباط الخاطئ أمر بإنهائه، وحكم بأن يرمي والدها يمين الطلاق على والدتها ويقطع كل صلة له بها، تلك القاهرية الفالتة على حد قول جدها، لكن القلب لم يخلق للتقييد، ورفض الانصياع لسلسلة التقاليد، ليعيد والدها والدتها لعصمته في السر، ولذلك لا يستطيع والدها رؤيتهم أو التواصل معهم إلا في أضيق الحدود.
زفرت مرة أخرى بقوة، لكم تمنت أن تمحي ذاك الماضي الذي يدنس حاضرها ومستقبلها، لكم كرهت حتى سماع اسم والدها، وما زالت تتعجب من والدتها التي تذوب عشقًا من مجرد ذكر اسم دياب أمامها، كرهت ذاك الحب الذي في رأيها لا يستحق إلا الوأد، فذاك المسمى لها أبًا لا يرسل لهم إلا الفتات، وحتى ذلك الفتات لا يرسله بانتظام، يعيش هو في ورف القصور، بينما تعمل هي في محل بوسط البلد في الحسابات، وتعمل والدتها في مصنع للملابس، حتى أخويها فهما يعملان في ورشة للسيارات بيوم عطلتهما من المدرسة والإجازة الصيفية.
اعتدلت في سريرها، تدعو الله أن يلهمها الصبر على يوم سيكون تكرارًا لأيام قد مضت وأيام ستمضي، متشابهة تلك الأيام.
ارتدت ملابسها البسيطة، بنطلون من الجينز الأزرق الداكن، وفوقه بلوزة زهرية اللون ورفعت ذلك الشعر البني الناعم الطويل على هيئة ذيل حصان ثم قامت بتضفيره.
نظرت لنفسها مطولًا في تلك المرآه الضبابية وابتسمت :
- يا عيني على الحلو لما تبهدله الأيام، يالا الحمد لله، اتشجعي يا دودو.
بينما تصارع دلال مع نفسها وتندب حظها كانت نوال تفتح باب غرفة صغيريها وسندها في الحياة كما تأمل، التوأم بالصف الثالث الإعدادي "سامي" و"لطفي"
هزت ولدها برفق قائلة: يالا يا سامي، يالا يا لطفي هتتأخروا يا حبايبي.
استيقظ سامي يفرك عينيه: حاضر يا ماما صحينا أهو.
وخرجت تاركة مهمة إيقاظ لطفي لأخيه
أزاح سامي ذلك الغطاء الذي يدثرهما من فوقه وهز أخيه بعنف:
- اصحي يا لطفي بقى، مش عاوزين نتأخر زي امبارح.
فشد لطفي الغطاء مرة أخرى ليغطي وجهه وهو يمتعض قائلًا:
- يوه يا سامي روح أنت أنا هنام.
تناهى وقع تلك الكلمات لمسامع والدته فهزت رأسها وصاحت:
- وبعدين يا لطفي، قوم بلاش دلع، ما هو يا تصحي تروح المدرسه يا هتنزل الورشه وتبطل تعليم خالص (قالتها مهددة)
ليزيح لطفي الغطاء متبرمًا ويعتدل من مرقده: لا وعلى إيه المدرسه أرحم، كفايه شغل الورشه في يوم الأجازه.
اجتمع الجميع لتناول الإفطار...
لينظر لطفي للأطباق قائلًا:
- يوووه كل يوم فول.
فلكزه سامي:
-إحمد ربنا غيرك مش لاقي.
لترفع نوال حاجبيها:
- سيادة القنصل يحب يفطر إيه بدل الفول؟
فرد عليها لطفي سريعًا:
- لانشون، جبنه رومي، حاجه عليها القيمه كده.
فضربت دلال كفاها ببعضهما تعجبًا منه:
- لا حول ولاقوه إلا بالله أنا مش كل يوم جمعه بافطرك يا ناكر المعروف جبنه رومي ولانشون وبيض كمان، وباروقكم على الآخر، اللي أنت عاوز تفطره ده ما يسدش معاك زي الفول يا عم الرجاله.
قاطعت نوال حديثهم:
-هنقضيها كلام بقى، افطروا عشان تشوفوا مصالحكم.
وأفطر الجميع وذهب كل منهم لينجز مهمته اليومية في الحياة.
هكذا كانت حياتهم، في يوم الخميس تقبض دلال راتبها الاسبوعي وتشتري لهم البيض والجبن الرومي واللانشون لإفطار صبيحة الجمعة، وتمضي يوم الجمعة تساعد والدتها بالذهاب للسوق لشراء لوازمهم من الخضار ثم تنشغلان بتحضير وتجهيز أكل الاسبوع، بينما يمضي الصبيان وقتهما في ورشه "حوده" الميكانيكي.
****
بأحد الأيام عادت دلال بعد يوم شاق لتجد والدتها تتحدث بالهاتف
- واحشني قوي يا دياب نفسي أشوفك بقى، والعيال كمان هتموت وتشوفك.
- يا نوال ما أجدرش أجيك، أبوي مشدد جوي وبيبجي معاي وآني مدلي، أنتي ما عاتعرفيش آني مشتاجلك جد إيه ونفسي أشوف العيال.
زفرت بقلة حيلة قائلة:
- اللي يريحك يا حبيبي، هنعمل إيه؟ الصبر حلو.
- عارف إن الجرشينات اللي عاشيعهملك جليلين بس أبوي بيحاسبني بالمليم.
- ولا تشغل بالك يا تاج راسي، الحمد لله رضا، عايشين مستورين وفي نعمه، حسك بالدنيا يا قلبي.
كانت دلال قد تسمرت في مكانها، فأشارت لها نوال لتكلم والدها، ولكنها أشارت لها بالرفض ودخلت غرفتها.
ليقول دياب:
- عاجفل دلجيت وعاكلمك أول ما أجدر.
- سايق عليك النبي ما تطولش عليا، سمعني صوتك بس، وإن نفع يعني حاول تنزل تشوف العيال.
- اللي رايده ربنا يكون.
- لا إله إلا الله.
- محمد رسول الله.
دخلت نوال غرفة دلال غاضبة منها:
- برضه مش عاوزه تكلميه.
ردت بغيظ تصر على أسنانها:
- أكلم مين يا ماما؟ ده أبويا بالاسم وبس.
فقالت نوال تحاول ترقيق قلبها:
- ظروفه يا بنتي معلش نتحمل.
نظرت لها وهي لا تقتنع بما تقول:
- طب أنا بقي هاقولك اللي مخبياه عليك من سنين، وساكته عشان تبطلي تكلميني تاني في حكاية أكلمه دي، وجايز تفوقي بقى من حبك ليه، اللي مش لاقياله سبب ده.
غضبت نوال:
- عيب تتكلمي معايا كده، أنا ربيتك على كده!
فاقتربت منها دلال فهي لا تقوى على إغضابها:
- أنا آسفه بس لازم بقى تعرفي أنا مش قادره أسكت أكتر من كده، بس اقعدي كده الأول واسمعيني.
جلست نوال على طرف السرير، وهي تتضرع إلى الله أن يكون ما تحمله ابنتها في جعبتها قابلًا للاحتمال
لتقول دلال بعد زفرة طويلة:
- البيه أبونا متجوز، وشوفت صوره، الست مراته منوره جمبه في افتتاح الفرع الثالث لشركتهم هنا في مصر، عارفه يعني إيه فرع تالت، يعني أبونا المحترم معاه تلال فلوس وسايبنا هنا نطفح الكوته، مش زي ما فهمك ما معهوش يبعت لنا.
ضربت نوال بيديها على فخذيها:
- يا خساره تربيتك يا نوال، تتكلمي على أبوكي بالطريقه دي، اللي انت بتقوليه ده أنا عارفاه.
جحظت عينا دلال من هول الصدمة.
بينما أكملت نوال:
- وعارفه كمان إنها ما بتخلفش، وأزيدك أنا من الشعر بيت يا بنت بطني، دي مش أول واحده أبوكي يتجوزها، أبوكي متجوز بعدي تلاته، "وجيده" بنت خاله، و"حسيبه" بنت عمه عمران، و"دريه" بنت عمه جمال، وهي دي أكيد اللي كانت في الصوره، يا بنتي أبوكي فهم جدك إنه طلقني، عارفه يعني إيه يرجع يقوله لا ما طلقتهاش وخبيت عليك وعندي منها عيال، انتي ما تعرفيش جدك، ده ممكن يطخ أبوكي عيار على الكدبه دي ولا يرف له جفن، جدك صعب، مش صعب لا ده جبار ما حدش يقدر يقوله انت بتعمل إيه؟
أخذت دلال تحرك يديها في ذهول:
- أنا مش مستوعبه الكلام ده وأعصابي تعبت، يا ماما أنتي مش عارفه البهدله اللي باتبهدلها شكلها إيه؟! أنا ما بارضاش أزعلك ولا أقولك على اللي باشوفه واللي بيحصلي.
فاحتضنتها نوال في حزن مغلف بالوجع:
- أنا عارفه إنك بتشوفي كتير بس أنا بنتي بميت راجل.
قبلت دلال رأس والدتها: ربنا يخليكي لينا يا ست الكل ولا يحرمناش منك أبدًا، وحاضر لما تقوليلي كلمي بابا هاكلمه، أنا مش هازعلك أقولك هاتي يا ستي النمره وأنا هاكلمه دلوقتي.
فأشارت نوال بلا:
- لا هو لما ظروفه تسمح هيكلمنا، بلاش مشاكل.
فارتمت دلال في حضنها:
- يا نهاري يا ماما بتحبيه قوي كده.
فضربتها نوال على ظهرها ممازحة إياها:
- بس يا بت إن م كنتش أحبه هو أحب مين، هو القلب دق إلا لدياب، ده كل حاجه في دنيتي.
فتساءلت دلال:
- بس أنا عاوزه أعرف بابا ما خلفش ليه لغايه دلوقتي من حريم السلطان؟
ردت نوال:
- يا ستي أبوكي بعد ما حملت فيكي كان حصل له حادثه بالعربيه، وأثرت عليه، قعد فتره يتعالج وبعدها ربنا أمر إن أنا أخلف سامي ولطفي، وحريمه ما تخلفش.
انفجرت دلال ضاحكه:
- عليه العوض ومنه العوض في الرجاله.
ضربتها نوال علي كتفها:
- بت اتلمي وقومي سخني الأكل قبل ما أخواتك يوصلوا.
مرت الأيام على نوال وأولادها يتلمسون فيها سبل عيشهم ويواجهون الدنيا
بينما دياب يواصل سعيه في حياته وعمله وشركات والده فارس ممزقًا بين والده و خوفه منه وبين رغبته في رؤية أولاده وتوفير الحياة المناسبة لهم كما يليق بهم خاصة أن ابنته الآن يأتيها الكثير من الخُطاب وأمها تتحجج في رفضهم بشتي الحجج.
بعد كابوس مريع عاشه دياب في ليلة حالكة السواد استيقظ فيها فزعًا يقطر العرق من جبينه، وتلهث أنفاسه ولكأنه قد أنهى سباقًا ماراثوني، كان الخوف والقلق يعتصرانه، ويفتكان به على أولاده ومستقبلهم المجهول بعد أن رآهم في كابوسه وقد ألقوا في حفرة وتحيطهم الحيات والعقارب يتحينّ الفرصة للفتك بهم، بينما هو مقيد اليدين لا يستطيع إنقاذهم.
ولكأنها إشارة من الله لا يدري من أين واتته تلك الشجاعة لما هو مقدم عليه وقد أخره دهرًا طويلًا، إنها حقًا اللحظة الحاسمة لقد قرر ولا مفر من تحمل العواقب.
والده فارس العزايزي كبير أكابر الصعيد
أنجب لنسل العزايزه "دياب" و"جابر" و"وهدان"
"جابر" متزوج من "راجية" ابنة عمه "عمران" لديه من الأولاد "جسار" و "رضوان" و"عمار"
"وهدان" متزوج من "صفية" بنت خاله "حسن" و لديه من الأولاد "زهرة" و "رقية"
جمع الحاج فارس أولاده في قصره تحت رعايته ووالدتهم الحاجة "دلال"
كل منهم له جناحه الخاص به للنوم أما الدور الأرضي فهو ملتقى العائلة ومقر إقامة الحاج وزوجته.
لا يستطيع أحد معارضته ولو بكلمة واحدة فهو حاكم العائلة بكل فروعها، لا ترد له كلمه، هو من يأمر بالزواج ولا طلاق عنده سواء كانت الزيجة ناجحة أم لا.
استجمع دياب شجاعته وبعد تناول العشاء طلب من والده أن يحدثه في أمر هام
توجه دياب مع الحاج فارس لغرفة المكتب
فبادر الحاج فارس وهو يستشعر بالقلق البادِ على محيا ولده:
- خير يا دياب جول اللي عندك.
فتردد دياب قليلًا ثم قال:
- عاجول يا حج بس تعطيني الأمان اللاول.
عقد حاجبيه متعجبًا:
- واه الحديت واعر لدرجه الأمان!
- أيوه يا حج، وما أجدرش اتحدت قبل ما تعطيني الأمان من عجابك، مش عشان نفسي ده عشان اللي في رجبتي.
رد فارس رافعًا حاجبيه كثيفي الشعر:
- واه يا ولدي كبير الموضوع إياك؟
فهز دياب رأسه:
- أيوه يا حج كبير جوي.
فجلس فارس مسندًا ظهره على الكرسي متفرسًا في ملامح ولده التي احتلها الاضطراب:
-عطيتك الأمان، احكي يا ولد.
فابتعد دياب عنه مسافة آمنة قائلًا:
- يا حج تسمعني للآخر، ما تجاطعنيش غير لما أخلص حديت عشان أجدر أجول كل اللي عندي، وما تنساش إنت عاطيني الامان.
زفر بنفاذ صبر:
- جول يا ابن دلال.
فبدأ في الحديث:
- أنت أكيد يا حاج فاكر من اتنين وعشرين سنه، لمن كت باتعلم في البندر و اتجوزت نوال من غير ما أجول، ولا آخد الاذن منيك وأنت لما عرفت ربطتني يومين في شجره المانجه اللي في الجنينه، ومنعت عني الزاد، وأمي الحاجه دلال هي اللي اتوسطت ليا مع جدودي عشان تفكني، وكان شرطك أطلج نوال، وآني جلت لك إني طلقتها (وهنا أخذ نفسًا عميقًا و هو يجاهد كي لا يسقط في تلك الهوة التي حفرتها يداه) بس آني ردتيها يا حج.
وهنا هب فارس واقفًا ضاربًا الأرض بأبانوسيته السوداء.
فرفع دياب يداه أمام وجهه صارخًا:
- الأمان يا حج أنت عطيتني الأمان.
عاد فارس لجلسته غاضبًا يصارع نيران الغضب المعتملة بداخله بسبب ما اخترق مسامعه من ذلك التمرد والعصيان الذي اقترفه ولده الكبير وخليفته في سلسال العائلة، لكن حنكته فرضت سيطرتها، وأغلقت تلك البراكين مؤقتًا ليعود لجلسته قائلًا وهو يوجه لولده نظرات تكاد تحرقه:
- كمل يا ابن دلال.
فاسترسل دياب في الحديث:
- بعد ما عرفت من نوال إنها حامل ما جدرتش اطلجها كمني عاشجها يا حج، وبجيت أزورها كل فين و فين، ولما أنت جوزتني وجيده وآني عملت الحادثه، وجعدت كتير اتعالج ربنا أراد أنه ينعم عليّ بتوم، ومن بعديها انقطع خلفي، جايز حكمة ربنا إني ما يكونش ليا عيال غير منيها هي وبس.
صمت فارس قليلًا وهو يتدبر ما قاله ولده ويفكر فيه ثم قال:
- وأنت إيه اللي يضمنلك إن المصراويه شريفه، وأنت عتقول أنك ما عتشوفهاش إلا كل فين وفين، تضمن منين إنهم عيالك من صلبك، واشمعن هي تخلف وبجية حريمك لا؟
فانتفض دياب:
- لا يا حج ما تجولش إكده، نوال أشرف من الشرف، وأنت لو شفت العيال عتعرف إنهم من صلبي، سبحان الخالج دول حته منينا ما حدش فيهم شبه نوال واصل.
ظل فارس صامتًا فترة ثم تساءل:
- وأنت كنت بتصرف عليهم منين؟ وأنا عارف كل مليم بيروح فين ولمين.
فظهر الحزن على وجه دياب:
-يا حاج كنت باشيع ليهم جرشين إكده اللي أجدر عليهم بعيد عن الحسابات من مصروف يدي مع علي الساعي بتاع الشركه في مصر وفهمته إنها مساعده لأهل زميل ليا من أيام الجامعه بس انت ما عتحبوش عشان ما يجبش سيره ليك، والله يا حج ده اللي جاتلني، آني هنيه عايش كيه الملوك، وهم مجضينها بالتيله، نوال عتشتغل في مصنع للخلجات، وبتي عتشتغل في محل، والولدين عيشتغلوا في ورشه.
دق فارس الأرض بعصاه غاضبًا:
- يا عينك يا جبايرك يا ولد دلال وسايب بتك تشتغل إكده عند الناس، عرضنا بيروح ويجي جدام الخلج (وبصق على الأرض) اتفيه عليك وعلى ربايتك، انت طلعت ما ليكش لازمه، وانت عارف إن مناي أناظر سلسالك، يا ردي تحرمني منيهم وتحرمهم مالعيشه اللي يستاهلوها، وتعيشهم كيه الشحاتين، الله في سماه لولا أنى اديتك الأمان لكنت خليتك عبره للكل، فز قوم ورايا.
خرج الحاج فارس ووراءه دياب
ضرب فارس الأرض بعصاه ثلاث مرات فاجتمع الكل، فبدأ الكلام
- عندي حديت مهم والكل يفتح ودانه ويسمع زين لأني ما عاكررش الكلام ده واصل و(تنهد)
ابني البكري طلع لساته متجوز من المصراويه نوال اللي انتوا خابرين حكايته معاها وما طلجهاش ومخلف منيها بت و ولدين.
سرت الشهقات والهمهمات بين الكل
فطرق فارس الأرض غاضبًا:
- عتتحدتوا وآني واجف، ما فيش خشا ولا حيا، عشان دياب اتجرأ وعصاني رايدين تعملوا زييه،
عشان الكل يعرف لولا إني عطيت دياب الأمان جبل ما يتحددت كنت جتلته وده بس اللي مانعني عنيه.
ووجه الكلام إلى الحاجة دلال:
-تؤمري الخدامين يفتحوا الجناح المجفول في الجصر دلجيت وما حدش يغمض له جفن إلا والجناح بيبرق.
ونظر إلى دياب:
-عتدلي مصر دلجيت وتجيب مرتك وعيالك،
وجدام الكل مرت دياب وعياله زيهم زيكم مش أجل في أيتها حاجه واصل.
ونظر لزوجات ابنه قائلًا:
-وجيده، حسيبه، دريه، مش معني إن مرت دياب مصراويه عتعملوا عليها رباطيه، والكلام مخصوص ليكي يا دريه آني صحيح ما باطلجش حد من حد لكن عندي اللي يوجع اكتر من الطلاج، يالا يا دياب اتوكل على الله، وما تنساش تخلي بتك وأمها يجوا البلد مستورين خلاص ما عدش لينا صالح بلبس المصاروه ده.
وطرق الأرض معلنًا انتهاء الاجتماع قائلًا:
-وانتوا كل واحد وراه مصلحه يشوفها.
وأخذ دياب لحجرة المكتب وحدثه قائلًا:
- مرتك وعيالك قبل ما تجيبهم تاخدهم على أحسن محلات وتشتريلهم خلجات زينه كيه خلجات ولاد أعمامهم، مش عايزهم يبجوا أقل منيهم في أيتها حاجه، وخلجات بتك ومرتك تبجي حشمه، الفيزا معاك كل اللي يشاوروا عليه تجيبهه وتفسحهم، وتجلعهم، وتوريهم كل اللي ما شافهوش في حياتهم.
وأذن له بالانصراف
دخل فارس غرفته ونزع عن وجهه قناع الجدية وانفرجت أساريره وسجد شكرًا لله
- الحمد لك يا رب أخيرًا عاشوف سلسال دياب أحب ولادي لجلبي.
عاصفة من المشاعر كانت تجتاحه تعصف به، كم من المشاعر المتناقضة الآن يتداخل في كل كيانه، إنه غاضب أشد الغضب، لقد تمرد ولده وخليفته عليه، كسر سلاسل العادات والأعراف، تزوج القاهرية التي لا يعرفون أصلها أو فصلها، استسلم ولده لحكم القلب وعشق الغريبة، ولكن أيضًا تغمره السعادة تثلج قلبه وترفرف به، فأخيرًا سيرى أحفاده من دياب قرة عينه، لقد فعلها ولده وأنجب له فرعين من الذكور ليمتدا وينغرسا بالأرض ويكونا امتدادًا لنسل العائلة.
جمعت الحاجه دلال الخدم وأمرتهم بتنظيف الجناح المغلق، كانت حقًا تجاهد ألا تسقط مغشيًا عليها من هول تلك الصدمة التي علمت بها منذ قليل، لكنها كانت تحاول التماسك.
ثم توجهت والخوف يغزو قلبها من رد فعل فارس إلى غرفتهما، دخلت لتجده ساجدًا يحمد الله.
أغلقت الباب قائله:
- والله يا حج ما كت أعرف حاجه عن الحكايه دي.
فرد عليها:
- خلص الكلام يا دلال اللي فات مات، المهم إننا نجيبهم يعيشوا معانا ونملوا عنينا بشوفة سلسال ولدنا.
فاقتربت منه قائلة:
- ألا يا حاج ولاد دياب أساميهم إيه؟ فقال والله ما خابر، على كل كلاتها سبوع بالكتير ويبجوا هنيه، المصراوية دي طلعت أصيله واتحملت كتير، وولادنا كمان اتحرموا كتير، لازمن نعوضوهم عن البهدله اللي شافوها.
أما ساكني قصر العزايزيه كان لكل منهم رد فعل مختف
في الدور الأول كان وهدان يحمد الله:
- الحمد لله فلت منيها دياب بالأمان اللي طلبه وإلا كان أبويا الحج جتله.
فضربت صفية على صدرها:
- واه يجتله وهو حبة جلبه.
فأومأ بنعم:
-أيوه يجتله، أنت ماخابراش عمل إيه لما علم إنه اتجوز المصراويه دي، ربطه يمين ما عليهوش إلا السروال، ولا وكل ولا شرب، لولاش أمي ما بطلتش بكا، ووسطت عنديه الجد سامي والجد لطفي ما كانش همله واصل.
ونادى على بناته محتضنًا إياهم
- يا بنته تعاملوا بت عمكم زين وتصاحبوها وإياكم تودروها بأي كلام.
فردت البنات:
-حاضر يا بوي.
ودخلتا غرفتهما
تساءلت رقية:
- يا تري بت عمك دي شكلها إيه؟ وعتعمل معانا إيه؟
ردت زهرة:
- عنشوفوا شكلها لمن تيجي، وإن بجت زينه معانا هنبقوا زينين معاها، شافت نفسها علينا يبقى نجصروا عنيها وما لناش صالح بيها.
في الدور الثاني...
كان الغل يلعب لعبته ويغذي جابر ليقول:
- ياه يا دياب مخبي كل ده وساكت.
فردت راجية:
- الحمد لله عدت على خير.
فرفع حاجبيه حاقدًا:
- دلجيت جلب أبوي برد عشان دياب بجي عنديه عيال، لا وعنديه توم رجال كمان.
فردت راجية:
- الحمد لله إن ربنا راضى الحاج فارس وطمن جلبه.
فغضب جابر:
- عتفضلي طول عمرك هبله أكده، داني جلت خلاص الدنيا عتضحكلي وعابجي فرخه بكشك عند أبوي ما آني أبو الرجال، ده آني أول واحد اتجوز وجابله حفيد، لا بس ولا يهمني، أكده تمام كل واد من ولادي عيتجوز بت من البنات عشان كل حاجه تبجي تحت طوع ولادي.
ونادى على أولاده:
- اسمعوا يا عيال إكده الحسبة تمام، أنت يا جسار عتتجوز البت المصراويه، وأنت يا رضوان تتجوز رجيه أما أنت يا عمار تتجوز زهره.
فاعترض جسار:
- بس يا أبوي.
فقاطعه:
- ما فيهاش بس، لكن يا ولد ادعي معاي ما يكونش جدك عنديه ترتيب تاني في راسه.