(يجلس أحمد بعد صلاة الجمعة فى المسجد بجانب المنبر، باكياً. الشيخ حسن يلاحظ ذلك، ويقترب منه برفق.)
الشيخ حسن: السلام عليك يا أحمد .
أحمد: (بصوت متهدج) مات والدي يا شيخ حسن .
الشيخ حسن: (بصوت هادئ) إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر له وارحمه، وأدخله فسيح جناتك.
(يضع الشيخ حسن يده على كتف أحمد، ويجلس إلى جانبه.)
الشيخ حسن: أعلم أنك حزين الآن، ففقدان الأب مصاب جلل، لكن تذكر يا أحمد أن الموت حق علينا جميعاً، وأن والدك الآن في دار الحق، ينعم بالراحة والسلام.
أحمد: (يمسح دموعه) أعلم يا شيخ، لكنني لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون أبي.
الشيخ حسن: إن مشاعرك طبيعية يا أحمد، فمن الطبيعي أن تحزن على فقدان والدك، لكن تذكر أن والدك ترك لك إرثاً عظيماً من الحب والعطاء، وعليك أن تسعى لكي تكون ابناً باراً به، وأن تُكمل رسالته في هذه الحياة.
أحمد: (بصوت خافت) كيف أفعل ذلك يا شيخ؟
الشيخ حسن: عليك أن تكون رجلاً مسؤولاً، وأن تعتني بأمك وأشقائك، وأن تُحسن معاملتهم، وأن تسعى لكي تُرضي الله تعالى. فبذلك تُسعد روح والدك وتجعله فخوراً بك.
أحمد: (بصوت أقوى) شكراً لك يا شيخ، كلماتك تُسكن روحي وتُخفف من حزني.
الشيخ حسن: لا شكر على واجب يا أحمد، وأنا دائماً هنا لأجلك، لا تتردد في المجيء إليّ في أي وقت تحتاج فيه إلى المساعدة أو النصيحة.
(يبتسم أحمد للشيخ حسن ويُقبّل يده، ثم يقف ويُودّعه.)
(يخرج أحمد من الجامع وهو يشعر براحة أكبر في قلبه، ويزداد إيمانه بقضاء الله وقدره.)
يلتفت الشيخ حسن إلى يمينه وينادي بصوت خافت: ( د. حامد، لو سمحت )
يقبل عليه د.حامد فى حفاوة ويمد يده ليسلم عليه فى حرارة:
- اخبارك يا شيخ حسن .
الشيخ حسن ( فى هدوء) : الحمد لله يا د. حامد ، أحب دائما أن أراك فى صلاة الجمعة .
د.حامد : وأنا أيضا أحب الاستماع إلى خطبتك الجليلة.
يتأمل الشيخ حسن د.حامد الذى يشعر بأن نظراته تتفحصه وتكشف أسراره.
الشيخ حسن : لا أحب أن أطيل عليك الحديث ، ولكن هناك أمر ما حدث ولابد أن أبلغك به.
د. حامد ( فى فضول يشوبه توتر): ماذا هناك ؟
أمسك الشيخ حسن بذراعه واتجه خارج المسجد .
- من الأفضل أن نتحدث خارج المسجد ، فالموضوع لا يليق بمكانة المكان وقدسيته .
بمجرد خروجهما من المسجد ، التفت د. حامد إلى الشيخ حسن وهتف فى انفعال:
- ما الموضوع الذى تريد أن تتحدث فيه معى ولا يليق بالمسجد ..أنت تتحدث مع طبيب له مكانة علمية مرموقة.
الشيخ ( حسن ) : لماذا توترت هكذا ؟
صمت قليلا ، ثم قال :
- هناك رجل أتى لى وسألني عنك .
بهت د. حامد وتمتم فى خفوت :
- ماذا يريد ؟
الشيخ حسن :
- له إبنة قد جاءت مع والدتها إلى عيادتك للكشف ، ولكنها شعرت بأشياء مريبة أثناء الكشف .
تراجع د.حامد ، وهتف فى انفعال:
- مريبة!!! أنا طبيب أمراض نسائية ولست طبيب أسنان. بالتأكيد سأفحص مناطق معينة حتى أستطيع أن أكتب العلاج المناسب .
الشيخ حسن ( فى لهجة متهكمة): ألم المعدة لا يتطلب فحص تلك الأماكن التى لمستها يا دكتور ..والنساء يعرفن القصد الحقيقى من اللمسة ، إن كانت بريئة أم لا .
اتسعت عينا د.حامد وهو يقول فى غضب:
- ماذا تقصد ؟ حتى لو كنت شيخ الجامع ليس من المفروض أن تتحدث معى بتلك الطريقة ..
- أنا لست شيخ الجامع فقط ، أنت تعلم أننى بمثابة كبير المكان كله والكل يستمع لى ولى فى كل بيت مكانة محفوظة ..ولهذا فعندما أبلغت الرجل بأنك طبيب محترم وأن ما فعلته هو لإيجاد علاج مناسب للحالة صدقنى وشكرنى وعاد مطمئنا.
هدأ د.حامد قليلا ثم قال:
- لكنني بالفعل طبيب محترم ، ولا غبار على أخلاقى ولابد أن تعلم ذلك جيدا يا شيخ .
نظر له الشيخ حسن بتفحص ثم ابتسم وقال :
- أعانك الله يا دكتور..بالتأكيد أنت لا تقصد ما حدث ، لك إبنة تخاف عليها وتخشى أن تتعرض لسوء..
شعر د.حامد برعشة باردة ، ثم ابتسم فى شحوب وابتعد عن المكان ..
شعر بأنه أصبح عاريا تماما أمام الشيخ ..
وأن رصيده من الستر قد نفذ..
--‐------------
أقبل الحاج ( هشام ) على( أحمد ) وحضنه فى حفاوة وهو يربت على ظهره
- البقاء لله وحده .
أحمد فى تأثر : الحمد لله على كل شىء.
- اجلس يا أحمد
- أمينة أخبرتني أنك تريد التحدث معى .
- أعلم أنك أنت وأمينة كنتما تستعدان للارتباط ولكن مرض والدك ثم وفاته حالت دون ذلك . وبالتأكيد مرضه قد استنفد منك ما كنت تمتلكه من مال، وبما أنك موظف فى المحافظة فلديك وقت بعد العصر للعمل .
قاطعه أحمد :
- لقد بحثت كثيرا عن عمل إضافى ولكنى لم أجد ..
الحاج هشام : وها هو العمل قد أتى إليك .هنا على مقعد الكاشير .
أحمد ( فى تساؤل) : هنا ! أنا أعلم أنك أنت من يقوم بدور الكاشير ، وأن هناك من يطبخ وهناك ما يقدم الطعام مع أمينة ، وأن المطعم بالكاد يكفى رواتبهم.
ضحك الحاج هشام : الرزق يأتى على عدد الموجودين. رزقك سيأتي إلى هنا وأنا فقط سبب ..مجرد وسيلة ..
ثم قال فى لهجة حاسمة :
- قضي الأمر ..من الغد ستبدأ العمل .
ابتسم أحمد فى خفوت ..
كان يدرك أن الحاج هشام يريد مساعدته بطريقة لائقة وغير محرجة ، وليس لاحتياج العمل إليه ..ولكنه قبل العمل ..
لم يكن لديه أية اختيارات ..
قطع أفكاره وخواطره صوت الحاج هشام وهو يقول :
- استغفر الله العظيم.
نظر أحمد حيث تتجه نظرات الحاج هشام فرأى رجلا ضئيل القامة ، أصلع الراس ، تبدو نظراته كثعلب ماكر ..
كان مفتش الصحة ( علاء الأسيوطى)..
----------------
غرفة المعيشة في منزل الأستاذ عوض..
(تدخل أمينة إلى غرفة المعيشة، تجد والدها جالساً على الأريكة، وجهه يبدو عليه الحزن.)
أمينة: مساء الخير، بابا. ما بك؟ تبدو حزيناً.
الأستاذ عوض: (بصوت هادئ) مساء الخير، يا ابنتي. لديّ خبر مهم أخبرك به.
أمينة: (بتوتر) خبر مهم؟ ما هو؟
الأستاذ عوض: للأسف، يا أمينة، سنضطر إلى ترك منزلنا.
أمينة: (بصدمة) ماذا؟! ترك منزلنا؟ لماذا؟
الأستاذ عوض: (يأخذ نفساً عميقاً) لقد أخبرنى الحاج عيسى بأنه لن يجدد لنا عقد الإيجار هذه المرة .
أمينة: (ببكاء) لكن هذا مستحيل! لقد عشنا هنا فترة طويلة. لا يمكننا الرحيل! ماذا حدث؟ هل يريد زيادة فى الإيجار ؟
الأستاذ عوض: (يحتضنها) أعلم، يا ابنتي، إنه أمر صعب. لكن لا تقلقي، سنجد مكاناً آخر للعيش فيه. مكانًا أرخص، لكنه سيكون دافئاً ومليئاً بالحب، مثل هذا المنزل.
أمينة: (بصوت خافت) لكن ماذا عن أصدقائي؟ عملى فى المطعم؟ كل ذكرياتي هنا.
الأستاذ عوض: (بفهم) أفهم شعورك، يا أمينة. لكن تذكري أن الأصدقاء الحقيقيين سيظلون أصدقاء أينما كنا. وعملك فى المطعم سيبقى كما هو إن حصلنا على شقة قريبة من هنا، أما عن ذكرياتك، فستبقى معك دائماً في قلبك.
أمينة: (تُمسح دموعها) أعلم،أنت على حق.
الأستاذ عوض: (يبتسم) سنواجه هذه التحديات معاً، ونخرج منها أقوى وأكثر تماسكاً.
صمتت قليلا ، ثم قالت :
- هل سيؤجرها لعائلة أخرى ؟
تنهد : لا أدرى ، لكنه قال لى جملة غريبة ، أخبرنى بأن أستشيرك فى الموضوع فقد يكون بإمكانك حل المشكلة !
صمتت أمينة قليلا وهى تفكر فى الجملة ، ثم هزت رأسها وهى تبتسم فى سخرية ..
لقد وصلت فعلا لحل المشكلة..
وياله من حل !
(نهاية الجزء الثالث)