ترقب الجميع وصول العمدة الجديد... رغم معرفتهم به، كونه واحدًا من أهل القرية ومن نفس عائلة العمدة السابق، إلا أن الترقب كان مشوبًا بالحذر. فقد علّقوا عليه كل آمالهم بعد أن فاض بهم الكيل من تصرفات العمدة السابق، الذي جعل قريتهم تغرق أكثر في الفقر.
باعت الأسر أراضيها لتأمين لقمة العيش، تفشى المرض، وساد شبح الموت في الأرجاء، حتى قرر الأهالي الثورة، وأرسلوا مئات الشكاوى إلى المديرية والمحافظة، مطالبين بعزل العمدة القديم. وبعد جهود مضنية، صدر القرار بتعيين الحاج عامر السكري عمدةً جديدًا للقرية.
وفي اليوم الموعود، دوّى صوت شيخ البلد معلنًا:
"العمدة وصل! العمدة وصل!"
ساد الصمت لحظات، قبل أن تنطلق هتافات الترحيب. أطل العمدة الجديد بابتسامته المعهودة، رفع يده مطالبًا الجميع بالهدوء، ثم جلس على مقعده وقال بهدوء:
• "أشكركم على ثقتكم، وأعدكم أن أكون عند حسن ظنكم."
هتف أحد الحاضرين بحماس:
• "أكيد يا حضرة العمدة، ده انت الحاج عامر السكري، صاحب الكرامات كلها، والبلد كلها عارفة أصلك الكريم!"
لكن صوتًا آخر قاطع الهتاف، حيث قال شاب بلهجة متشككة:
• "مع احترامي، بس مش الأصل هو اللي يحدد، العمدة السابق كان من نفس العيلة!"
نظر إليه العمدة بثبات، ثم قال:
• "أنا هنا لأثبت لكم أفعالي، لا أصولي. اطلبوا أي شيء، وسأنفذه حالًا."
فكر الشاب قليلاً، ثم قال متحديًا:
• "شيخ البلد لازم يمشي! ده نفس شيخ البلد بتاع العمدة اللي فات."
رمقه العمدة بنظرة عميقة، ثم استدار إلى شيخ البلد، الذي ارتجف تحت نظراته، قبل أن يقول العمدة بحسم:
• "يمشي! كنت أنوي تغييره على أي حال."
ثم التفت إلى الشاب، قائلاً بصرامة:
• "ومن اليوم... أنت شيخ البلد الجديد!"
وكانت مفاجأة للشاب..
*****
بعد شهرين...
في منزل الحاج محروس، جلس شيخ البلد الجديد محمود مع خطيبته الحسناء ووالدها. بدت علامات القلق على وجه الحاج محروس وهو يقول:
• "لا تزعل مني يا محمود، لكن من ساعة ما بقيت شيخ البلد، وأنت تحت طوع العمدة... مش ده اللي كنت رافضه من الأول؟"
تنهد محمود وقال بثقة:
• "وأنا شفت منه حاجة وحشة؟ الراجل له شهرين في البلد، والمية بقت توصل للفلاحين، والمدرسة اللي كانت خرابة بقت جديدة، والوحدة الصحية شغالة بمولد كهرباء... إحنا عايزين إيه أكتر من كده؟"
ابتسم الحاج محروس بسخرية وقال:
• "حلو قوي... بس قولي، الشباب اللي وعد بتشغيلهم، اشتغلوا؟ والمدرسة اللي حتفتح بعد أسبوع، فين المدرسين؟ والوحدة الصحية... لزمتها إيه من غير دكتور؟"
نهض محمود غاضبًا، واتجه نحو الباب وهو يقول:
• "المهم تكون نيتك صافية علشان البلد!"
وغادر مسرعًا.
بعد أشهر...
في صباح يوم مشمس، خرج العمدة عامر من منزله، حيث استقبله محمود قائلًا:
• "صباح الخير يا عمدة، أبعث لك السواق؟"
أشار العمدة بيده وقال:
• "لا داعي، أنا ذاهب إلى بيت العيلة وسأعود سريعًا."
ركب سيارته وانطلق خارج القرية، متجهًا نحو القاهرة. وبعد وقت قصير، وصل إلى منزل راقٍ في حي فاخر.
دخل إلى مكتب أنيق، حيث استقبله رجل مسن بحفاوة قائلاً:
• "مختفي فين يا حاج عامر؟"
ضحك العمدة الجديد وقال:
• "والله مشاغل البلد كتيرة، والشغل شديد قوي!"
أومأ الرجل برأسه وسأله:
• "والبلد أخبارها إيه؟"
• "الناس بتدور على أكل عيشها، ومرتاحين الحمد لله."
ابتسم الرجل بسخرية وسأله:
• "وهم ماكانوش مرتاحين قبل كده؟"
تلعثم العمدة عامر محاولًا التبرير، لكن الرجل قاطعه بحدة:
• "سمعت إنك قفلت قهوة سعيد، ليه؟"
تنهد العمدة وقال:
• "ريحتها فاحت، وأنت عارف بيعمل فيها إيه!"
صمت الرجل لحظات، ثم قال بابتسامة باردة:
• "خلاص، خليها لعلي ابن عمه، الولد ده سمعته لسه ما اتلطختش... وبعدها، يبقى يعمل فيها اللي هو عايزه."
ضحك الاثنان، وتعالت ضحكاتهما...
لم يكن هذا الرجل سوى الحاج صالح، عمدة القرية القديم.
(تمت)