دي كانت المرَّة الأولى والأخيرة اللي أزور فيها سمير، زميلي اللي كان معايا في الجيش. وللأسف وصلت متأخَّر عشان أنا من بلد بعيدة وأخدت وقت طويل في المواصلات. ساعتها كلِّمته بعد ما نزلت من العربية، وطلب منّي آخد تاكسي بعد ما عطاني عنوان البيت بالتفصيل.
بعد ما ركبت التاكسي بنُص ساعة؛ لقيت السواق بيركن على جنب في منطقة هادية جدًا، ساعتها سألته:
_وصلنا يا أسطى؟
_العنوان اللي أنت رايحه بعد الشارع ده.
_طيّب ما تكمّل، وقفت ليه؟
_معلش مش هقدر، الشارع ضيَّق وكلُّه مطبّات ومش هقدر أمشي فيه، التاكسي يتبهدل.
اختصرت على نفسي الكلام ونزلت، حاسبته وأخدت بعضي ومشيت، دخلت الشارع اللي المفروض لمَّا أمشيه أوصل عنوان سمير.
الشارع كان ضيَّق ونوره شاحب، طوله حوالي كيلو، مافيهوش غير مصانع قديمة، شكلها بيقول إنها مقفولة من سنين طويلة، البيبان والشبابيك هَلكانة، وأسلاك الكهربا ملفوفة على الحيطان زي الأفاعي، ومكانش في الشارع غير عمود يَتيم فيه كشّاف أصفر، حسّيت إنه بيعيَّط مش بينوَّر.
بعد كام خطوة في الشارع؛ الذاكرة بدأت تعيد عليّا حكايات قديمة، العفاريت اللي بتظهر في الضلمة، والأموات اللي أرواحهم بتسكن في الأماكن المهجورة، لكن أنا كأحمد، كنت بعتبر كل دي حكايات عجايز.
في نُص الشارع؛ حسيت بسقعة ضربت في ضهري، مع إن الجو كان حر. بصيت حوالين منّي مالقيتش أي مصدر للهوا اللي ضربني، عيني جَت على الكشاف الأصفر، حسّيت أنه عبارة عن عين بتراقبني، لكني قُلت لنفسي: "شد حيلك يا أحمد، خمس دقايق وتعدّي".
ومشيت، مع كل خطوة صوت جزمتي كان بيعمل صدى غريب، كأنه واحد تاني ماشي ورايا وبيقلّدني. بصيت ورايا ملقِتش حد. بصِّيت قدامي من تاني عشان أكمّل طريقي، ساعتها لقيت تلات أشكال بيضا زي الملايات، كانوا طايرين في الهوا، بدون رجلين. ملامحهم مش باينة، مجرد قماش أبيض سادة عايم في نص الشارع.
كانوا بعيد عنّي، وفي نفس الوقت جايين في اتجاهي. اللي على اليمين كان أطول واحد فيهم، حسّيت إنه بيراقبني بنظرة مافيهاش عيون أصلاً. أما الاتنين اللي وراه كانوا أقصر منُّه شوية، وبرغم كِده عايمين في سكون مرعب.
اتجمّدت مكاني، قلبي خبَّط في ضلوعي زي ما يكون عايز يكسرها ويطلع يجري. عقلي قال لي: "دول خيالات، أو جايز عندك إرهاق من الطريق". بس الخوف اللي جوَّايا كان بيقول: "إجري يا أحمد".
أول ما فكّرت ألِف وأجري، سمعت همسة جاية من بعيد، كانت أشبه بالصرخة لكن مش بالبُق، حسّيت إنها جاية من الهوا اللي حواليهم، وبرغم كِدَه قدرت أفهمها، لأنها كانت في هيئة كلام بيقول: "بقالنا كتير مستنيين حد يطُل علينا هنا".
الهمسة دخلت وداني، كأنها جوة راسي مش برة.
وقفت في مكاني وكانوا لسَّه بيقرّبوا. كانوا بيزحفوا في الهوا بسرعة أبطأ من المشي، وفي نفس الوقت كان جوَّايا إحساس إنهم هيوصلوا في ثانية.
ماقدِرتش أستنّى، رميت الشنطة اللي كانت في إيدي، صرخت صرخة مش عارف طلعت إزاي، جريت بكل قوّتي في الاتجاه العكسي ناحية أول الشارع، مابصّيتش ورايا خالص، بس كنت حاسس بالهوا اللي ورايا بيتحرك، كأنهم بيطاردوني في صمت. لغاية ما طلعت على الشارع الرئيسي اللي فيه نور وناس.
وقفت وأنا بحاول ألقُط أنفاسي، بصيت ورايا في الشارع، كان فاضي ومافيهوش غير الكشاف الأصفر وكل حاجة كانت ساكتة.
في الوقت دَه تليفوني رن، لمّا بصِّيت فيه لقيته سمير، أخدت نَفَس عميق وبعدها ردّيت عليه:
_آلو.
_اتأخرت ليه يابني؟
مكانش عندي رغبة أحكي حاجة، عشان كِدَه قلت له:
_أنا وصلت تقريبًا.
_فينك دلوقت؟
_نزلت من التاكسي قدام شارع ضيَّق.
_قصدك الزنقة؟
_على أساس يعني إني من هِنا وعارف الزنقة والواسعة!
_طيّب خلّيك مكانك أنا جاي لَك.
يادوب دقيقتين ولقيت سمير قدامي، لكنه ماجاش من الشارع الضيّق، ده كان جاي من شارع تاني جانبي، بعد ما سلِّم عليّا قال لي:
_كويّس إنك وقفت هنا ومادخلتش من الشارع ده.
كان بيكلّمني وبيشاور ناحية الشارع اللي أنا لسَّه خارج منُّه، عشان كِدَه سألته:
_ماله الشارع ده؟
_ده ياسيدي بنقول عليه زنقة، باعتبار يعني إنه شارع ضيَّق، الزنقة دي زمان كان فيها مصانع، وبسبب ماس كهربائي حصلت فيها حريقة كبيرة، مات فيها تلات أشخاص، من وقتها بقى والمصانع دي اتقفلت واتنقلت في مكان بعيد عن البيوت، بس الناس القديمة بتقول إن عفاريت التلاتة اللي ماتوا بيظهروا لأي حد يعدّي من الزنقة بالليل، ومن يومها بيقولوا عنها: زنقة العفاريت، ومافيش حد بيمشي منها في وقت متأخر.
كان بيحكي وصورتهم قدامي، وفهمت ليه سوّاق التاكسي رفض يدخل الشارع؛ لأنه من المنطقة وأكيد عارف الحكاية دي، وفهمت ليه برضه سمير جالي من شارع جانبي، أكيد بسبب نفس الحكاية، وبرضه فهمت قصدهم لمَّا همسوا بصرخة جوَّه دماغي، وعرفت إني أوّل حد يدخل الزنقة في وقت متأخر من وقت طويل، وده لأني غريب والغريب أعمى، ومن بعد الزيارة دي بقيت أعتذر لسمير لو طلب منّي أروح أزوره، وبقيت أعرض عليه هوَّ اللي ييجي يزورني، على الأقل بيتنا مافيش جنبه زنقة فيها عفاريت!
***
تمت...






































