دايمًا وإحنا في سِن صغيَّر بيكون عندنا شَغف واحد، وهو إننا نخلَّص السنة الدراسية والامتحانات، وبعدها تبدأ الأجازة الكبيرة؛ اللي فيها بنسهر على راحتنا من غير ما حد يقفل التلفزيون على حاجة بنتفرج عليها، وبعدها بيطلب مننا ندخل ننام عشان نقوم بدري للمدرسة، عشان كِدَه كلنا بننتظر الوقت اللي هنتفَك فيه من التكديرة دي.
أنا بقى كان عندي شَغف مختلف، كنت منتظر أجازة الصيف عشان حاجة تانية بخلاف المصايف ولعب الكورة في النادي والكلام اللي بالكم فيه ده، أنا كنت عاوز أطلع أصطاد مع واحد جارنا، وكُنت منتظر اللحظة اللي هيتشال فيها قيد الدراسة من حوالين إيدي، والصيد اللي بتكلم عنه مُش اللي أي حد بيفكر فيه بمجرد ما يسمع كلمة صيد؛ يعني مُش صيد سَمك؛ لأ. الصيد اللي أقصده هنا هو صيد اليَمام، واللي أماكن تواجدهم دايمًا مُرتبط بوجود أشجار الكافور، أو الأشجار الضخمة عمومًا، ودَه لأن الأشجار دي بتكون مأوى آمن للطيور إنها تبني أعشاشها وتعيش فيها، وده اللي خلاني صحيت في أوِّل يوم أجازة ونزلت الشارع بحجة إني هلعب كورة قدام البيت، بَس في الحقيقة ده كان المُفتاح أو الحِجَّة اللي هتفتح لي باب البيت عشان أخرج، ولمَّا خرجت؛ دخلت البيت الجيران اللي جنبنا، أصل في الوقت دَه كان جنبنا جار اسمه إيهاب، معرفش وقتها كان أكبر منّي بكام سنة؛ لكنه كان أكبر منِّي بكتير، وهوَّ السبب في إني أتعلَّق بالنوع دَه من الصيد، لمجرَّد إني دايمًا بشوفه وهو شايل البُندقيَّة الخُردق؛ وبيطلع من وقت للتاني بعد الفَجر عشان يصطاد يمام، ومن وقت ما وعيت للحكاية دي وأنا عايز أعيش التجربة.
في اليوم دَه رنّيت جرس الشقة اللي هوَّ عايش فيها، ولمَّا الباب اتفتح لقيته في وشِّي، ولمَّا شافني واقف قدامه وشايل الكورة في إيدي قال لي:
-إيه يا كريم، الأجازة بدأت والشارع مُش مكفِّيك جاي تلعب كورة عندي ولا إيه؟
ولأني كنت رايح لُه في حاجة تانية غير اللي بيتكلِّم فيها قُلت له:
-أنا عاوز أطلع أصطاد معاك يا عمو إيهاب.
-عاوز تصطاد معايا إيه يا كريم، أنت فاكرني بصطاد سَمك؟
-أنا عارف إنك بتصطاد يمام وعاوز أطلع معاك.
-طيِّب ما أنت عارف بصطاد إيه، وأكيد عارف إني بصطاد بالبندقية، هتعرف تصطاد بالبندقية يا كريم؟
-عادي أتعلم، أنا بفهم بسرعة.
-خلاص ماشي، بَس قبل أي حاجة لازم تقول لأبوك ولمامتك، مينفعش تطلع معايا بدون ما يعرفوا.
ما صدَّقت إنه وافق، أخدت بعضي ورجعت على بيتنا، دخلت ورميت الكورة، ساعتها لقيت أبويا وأمي قاعدين، وقفت قدامهم وأنا بحاول أفتح معاهم الموضوع، ولأني في السن دَه مكنتش أعرف حاجة عن ثقافة تحوير الكلام؛ فاتكلمت معاهم بشكل مباشر وقُلت:
-أنا قُلت لعمو إيهاب جارنا إني عاوز أطلع أصطاد معاه وهو وافق، بس قال لي آخد إذنكم.
بمجرَّد ما قُلت كده لقيت أمي بتبرَّق لي، أما عن أبويا، فمكنتش عارف أفسَّر رد فعله، لأن ملامحه كانت زي ما هيَّ بدون تغيير، لكنه نطق وقال قبل ما أمي تعلَّق:
-مفيش مشكلة، روح وخلِّي بالك من نفسك.
تبريقة أمي اتحوِّلت لأبويا، وساعتها قالت له:
-هوَّ إيه اللي يروح ويخلِّي باله من نفسه، وبعدين إيهاب جارنا بيطلع يصطاد عند الشَّجر اللي على الترعة الكبيرة، الواد رجله تتزحلق ويغرق، ولا البندقية تعوَّره.
بعد ما أمي خلَّصت كلامها أبويا رَد عليها وقال:
-الواد في أجازة متنكّديش عليه، خليه ينبسط وعضمه ينشف، ولا أنتِ فاكراه بنت هيقعد جنبك في البيت.
بعدها بَص لي وقال:
-روح يا كريم وخلِّي بالك من نفسك.
كلام أبويا بالنسبة لي كان الفرصة اللي مسِكت فيها بإيدي وأسناني، مشيت من قدامهم وخرجت من البيت، لأن وقفتي معناها إن الكلام هيروح وييجي وممكن أبويا يغيَّر رأيه، في الوقت دَه بلَّغت جارنا إن أبويا وافق، وساعتها بلَّغني إنه طالع يصطاد بعد الفَجر.
لمَّا رجعت البيت أمي مجابتش سيرة الموضوع، ولحد هنا عرفت إن مفيش حاجة اتغيَّرت، اليوم فات عادي والليل دَخل، ساعتها نِمت بدري عشان أقوم الفَجر، كُنت فرحان زي ما يكون صابح يوم العيد؛ لمجرَّد إني هفتح عيني على تحقيق حاجة كان نفسي فيها من زمان.
صحيت قبل الفجر بدقايق بسيطة، في الوقت ده أبويا كان هو اللي صاحي، أكِّدت عليه للمرة التانية إني طالع مع جارنا، طلب مني أعمل سندوتش ومخرجش على لحم بطني، وطبعًا أكِّد عليا إني أنتبه لنفسي، وبعد ما أكلت السندوتش ووعدته إني هنتبه لنفسي؛ غيرت هدومي وخرجت، دخلت بيت جارنا ولقيت باب شقته مفتوح، كان بيجهز البندقية عشان الصيد، وكان جنبه البوكس اللي بيحط فيه اليمام اللي بيصطاده، وبعد ما كل حاجة جهزت أنا اللي شيلت البوكس وخرجنا، وبعد ما طلعنا من الشارع لقيته بيطلب منّي أنتظر، وساعتها بلَّغني إنه دايمًا بينتظر اتنين أصحابه، واللي دايمًا بيطعلوا معاه رحلات الصيد.
بعد ما اتجمعنا كلنا وبدأنا نتحرَّك؛ لاحظت إننا ماشيين في طريق الترعة الكبيرة، الفضول أخدني وقُلت لجارنا:
_ده مش طريق الترعة الكبيرة!
_إحنا مش رايحين هناك يا كريم، اليَمام هناك قليل جدًا بقاله فترة.
_يعني إحنا رايحين نصطاد فين؟
_المقابر.
حسيت إن رجليا لزقت من الأرض، وقفت مكاني فجأة لدرجة إنهم سبقوني، بعد كام خطوة جارنا لاحظ إني وقفت، عشان كِدَه وقف وبَص ناحيتي وقال:
_وقفت ليه يا كريم؟
_أنا فاكر إننا رايحين نصطاد عند الترعة الكبيرة.
_أنت خايف تروح المقابر ولا إيه!
محبِّتش أبان جبان قدامهم، وفي نفس الوقت مكنتش عايز أضيَّع الفرصة من إيدي، عشان كِدَه ردّيت وقُلت:
_كل الحكاية إني اتفاجئت.
_طيِّب يلا خِف نفسك عشان الوقت ميسرقناش، النهار قرَّب يطلع.
كملت طريقي ومشيت معاهم، مع كل خطوة كنت بلوم نفسي إن شغفي أخدني لتجربة زي دي، ومع اللوم كان في صوت تاني جوايا بيحاول يقنعني إني أعيش مغامرة، وفضلت على الحال ده لحد ما لقيت نفسي قدام بوابة أول شارع في المقابر.
وقفت للمرة التانية واتردِّدت في الدخول، ولما جارنا لاحظ خوفي للمرة التانية قال لي:
_إحنا هنصطاد عند الشجر اللي هناك ده يا كريم.
كان بيشاور جوّه الشارع، وده معناه إننا هندخل المقابر جوّه، وفي الوقت ده حسيت من كلامهم إن الموضوع عادي بالنسبالهم، وده لأنهم كانوا بيتكلموا عن كمية اليمام اللي وقَّعوها في الكام مرَّة اللي اصطادوا فيها هنا، وده سبب إنهم بقوا متعوّدين يصطادوا هنا في الفترة الأخيرة.
على ما دخلنا المقابر عند الشَّجر كان النهار شَقشَق والنور كَسر عتمة السما، الرؤية بقت واضحة بدرجة تكفي للصيد. وقفنا قدام صَف شَجر كافور ضخم، بَس من ورانا كان في صَف قبور، منها القديم ومنها الجديد، واللي مقفول واللي مفتوح، بَس الخوف من كل دَه تلاشى وسط صوت البنادق وضَرب الخردق، وصوت صرخة اليمام لمَّا بتتصاب، دَه غير إن مهمتي كانت عبارة عن جَمع اليَمام اللي يقع، وبمجرَّد ما يقع بَجري عليه وأشيله وهو سايح في دمُّه وأحطُّه في البوكس اللي حطيته على مصطبة قَبر قديم.
لحد المرَّة اللي وقعت فيها يَمامة، حجمها كان أكبر من كل اللي وقعوا، جريت ناحيتها وشيلتها من الأرض، إصابتها كانت في الرقبة، ودَه اللي خلاها تنزف بشدة، الدَّم غرَّق إيدي، وبعد ما حطيتها في البوكس؛ ملقتش غير بنطلوني أمسح فيه الدَّم اللي على إيدي، البنطلون كان لونه غامق، يعني بصعوبة إن حد يلاحظ أثر الدَّم عليه، ولمَّا أرجع؛ أمي هتاخد وقت طويل لحد ما تكتشف الحكاية دي، دَه لو البنطلون يعني متحطِّش في الغسالة بدون ما تاخد بالها كمان.
وقفت جَنب البوكس وانتظرت أي صيد جديد يقع في الأرض، بَس افتكرت إني مُش جاي هنا عشان ألِم اليَمام بَس، أنا شَغفي الأول هو إني أصطاد، يعني أشيل بندقية الخردق وأتعلم أنشِّن، اتحرَّكت من مكاني وقرَّبت من جارنا وقُلت له:
-عمو إيهاب.
-نعم يا كريم.
-أنا عاوز أتعلم الصيد.
لمَّا سمع كلامي حط كعب البندقية في الأرض وسَنَد بإيده على طرف ماسورتها وقال لي:
-مُش المفروض في أول طلعة ليك تتفرَّج وتتعلَّم، ولا عاوز تشيل البندقية من أولها وتعوَّر نفسك أو تعوَّر حد.
بعد محايلة، لقيته بيقول لي إنه هيخليني أجرَّب في الآخر، ساعتها رجعت أقعد مكاني جَنب البوكس، لكن بمجرَّد ما لفِّيت وشِّي عشان أرجع حسيت إن شَعر راسي بيطقطق، الخوف اللي ظهر فجأة جوَّايا كان السبب في ده، لأنه كان بمثابة القَفلة اللي حصلت وبسببها الكهربا انقطعت فجأة عن آلة واتسببت في إنها تعطل، في الوقت دَه كُنت أنا الآلة دي، وكُل دَه مكانش هيحصل لولا إني شُفت الولد اللي اتفاجئت بإنه قاعد على مصطبة القَبر.
هدومه كانت قديمة، التراب كان مأثر على لونها؛ لدرجة إني مقدرتش أحدِّد لونها بالظبط، دَه غير إني شُفت أكتر من قَطع في الهدوم، كل قَطع كان بيظهر لون جِلده الغريب، اللي كان مايل للون الأزرق، الخوف جوايا زاد أكتر من المنظر، خصوصًا لما رفعت عيني ناحية وشُّه وبدأت أركِّز معاه، التراب كان ماليه وكأنه متمَرمَغ في أرض المقابر، شَعره كان منكوش ومترَّب، ولمَّا دقَّقت فيه أكتر؛ شُفت منظر مقزِّز خلاني أحِس باشمئزاز، ودَه ببساطة لأني لمحت حشرات ماشية في شَعره، مُش قَمل ولا حاجات من اللي بالكم فيها، دي حشرات غريبة لونها أزرق كانت أوِّل مرَّة عيني تشوفها.
كل ما الوقت كان بيفوت وأنا مبحلق في الولد كان الرعب بيسطير عليا، الخوف جوايا كان زي شجرة اللبلاب؛ اللي بدأت تكبر وتلِف حوالين ضلوعي وتكلبشني من جوايا، خصوصًا وإن عين الولد كانت مغمَّضة، والغريب إن في الفترة اللي وقفت أتأمَّله فيها ملاحظتش صدره وهو بيتحرَّك، زي ما يكون مُش بيتنفِّس.
بدأت أقرَّب منُّه وأنا مُش عارف هوَّ مين ولا ظَهر إمتى ولا عاوز إيه، كل اللي فكَّرت فيه إنه حد من أولاد الشوارع اللي بيعيشوا تحت الكباري أو في المقابر والخرابات، وجايز كان جوَّه قبر من القبور المفتوحة وصوت البنادق خلاه يقوم، ولمَّا شافنا بنصطاد عجبته الحكاية، وأخد فرصة إني رُحت أتكلم مع جارنا وقعد جنب بوكس اليَمام يتفرَّج والنوم غلبه.
بعد ما فكَّرت بالطريقة دي الخوف راح من جوَّايا بنسبة كبيرة، برغم إني كُنت لسَّه قلقان من هيئته، لكن القلق مقدرش يمنعني من إني أقرَّب منُّه وأسأله:
-أنت مين؟
كرَّرت سؤالي مرَّة واتنين وتلاتة، والنتيجة هي إني كنت بدَّن في مالطا، لا حياة لمن تُنادي؛ زي ما كنت بسمع من أمي أحيانًا لما تقول لي على حاجة ومسمعش كلامها، وبسبب إني كنت بكلِّم نفسي والولد دَه مكانش حاسس بيَّا ولا سامعني؛ اضطرِّيت إني أمِد إيدي ناحيته وأخبطه خبطة بسيطة على كتفه عشان يفوق.
منكِرش إن إيدي كانت مهزوزة وكنت متوتِّر من جوايا، وعشان أتحكم في أعصابي أخدت نفس عميق ومديت إيدي لحد كتفه، خبَّطت عليه خبطة بسيطة، ومع الخبطة عينه اتفتحت، ودَه كان كفيل إني النَّفس اللي أخدته اتكتم جوَّايا ومكنتش قادر أخرَّجه، دَه غير إن التوتر والخوف رجعوا من تاني وتملِّكوا من جسمي، والسبب ورا كل ده؛ هو إنه لمَّا فتح عينه ملقتهاش موجودة، ومكانها كان عبارة عن تجويف مُعتِم لونه أسود.
من الصدمة اللي أخدتها جسمي اتخشِّب، مقدرتش أبعِد إيدي عن كتفه، وكأن إيدي اتحوِّلت لقطعة حديد لقطها مغناطيس ومش عاوز يسيبها، وفي وسط التوهان والخوف اللي كنت فيهم، إيده اتحرَّكت فجأة ومسكِت إيدي اللي كانت لسَّه على كتفه، ملمس إيده كان خشن بدرجة غريبة، دَه غير إن حرارتها كانت عالية بشكل مبالغ فيه، والأغرب من كل دَه؛ إن باب القَبر القديم اللي كل ده بيحصل على مصطبته بدأ يتشقق، ومع الشقوق اللي بدأت تظهر بالتدريج؛ حسيت إن الأرض بتتزلزل من تحتي، الشقوق فضلِت تزيد لحد ما الباب انهار والطوب بتاعه وقع.
لمَّا القبر ظهر قدامي من جوَّه لقيت فيه كفن قديم مليان بُقع ناشفة ولونها داكن، وبدون ما أحتاج وقت كتير عرفت إن الميِّت اللي في الكفن بقى هيكل عظمي، ودَه لأن الكفن كان مرخي ونايم فوق الهيكل والعضم متحدِّد من تحته، الكفن مكانش طويل، وده معناه إن اللي مدفون فيه طفل، أو على الأقل مُش شخص بالغ، ومع تفاصيل المشهد المُرعب اللي بيحصل قدامي، شُفت الشيء الغريب ده وهوَّ بيبتسم ابتسامة مخيفة، أسنانه لمَّا ظهرت كانت باللون الأصفر، وكان في منها أجزاء مكسورة، ومع تجويف العين المُتعم ومنظر الأسنان ولون الجِلد الأزرق اللي ظاهر من تقطيع هدومه؛ حسيت إني قدام شيء مش مفهوم، كل اللي أعرفه عنه إنه شيء مُخيف، واللي أثبت دَه هو القَبر اللي بابه انهار ومن خلاله شُفت كفن الجثة اللي مدفونة فيه.
حاولت أخلَّص نفسي من اللي بيحصل معايا، خصوصًا وإني سامع صوت البنادق رغم كل اللي بيحصل، عشان كِدَه أخدتها فرصة وبصِّيت ورايا عشان أستنجد بجارنا أو بحد من أصحابه، بَس اللي حصل كان غريب ومكانش يختلف كتير عن الأحداث اللي مش مفهومة اللي بشوفها، لأني لقيت المكان فاضي، جاري مكانش موجود ولا أصحابه، وبرغم كده صوت البنادق كان لسَّه مكمِّل.
مكانش قدامي غير إني ألتِفت تاني ناحية القَبر والولد، ومع التفاتي لقيت بوكس اليَمام اختفى، معادش فاضل غيري أنا والولد والقَبر المفتوح والجثة، وفي اللحظة دي اتفاجئت إن الولد قام من مكانه، كان في نفس طولي، ولأنه كان لسَّه ماسك إيدي ومثبِّتها على كتفه، بدأ يرجع بضهره ناحية باب القبر المفتوح، لحد ما لقيته بيدخل القبر وبيسحبني بكل قوِّته من إيدي عشان أدخل وراه، أدركت ساعتها إن حياتي في خطر، ولأني عارف إن الميِّتين بَس هُما اللي بيدخلوا القبور؛ فُكنت عارف إن دخولي للقبر مالوش غير معنى واحد وهو الموت.
لمَّا حسيت إن نهايتي قرَّبت بدأت أتصرَّف زي أي واحد عاوز ينجو بحياته، بدأت أقاوم عشان مدخلش القبر، حاولت أرجع لورا بكُل قوِّتي عشان أجبره إنه يسيب إيدي، لكن كل محاولاتي فشلت بسبب إنه كان أقوى منّي، ومع محاولاتي للهروب إصراره زاد، كل خطوة كنت بحاول آخدها بعيد عن القبر؛ كان بيسحبني أكتر ناحيته، كل ده وابتسامته المرعبة مفارقتش ملامحه المخيفة، ومع آخر مرَّة سحبني فيها، لقيتني بدخل براسي جوَّه القبر، ساعتها أدركت إن سَحبة كمان وجسمي كله هيبقى جوَّه، ويا عالم بعدها إيه اللي هيحصل، جايز زي ما الباب انهار من نفسه وبدون سبب؛ يتقفل عليَّا لمَّا أدخل بأي طريقة، وساعتها هكون واجهت مصير أزلي ومُش هخرج من القَبر غير يوم البَعث.
كُنت عارف إني مش هقدر أهرب منه، لكن حلاوة الروح زي ما بيقولوا خلتني أعمل محاولة أخيرة، أخدت نفس عميق للمرَّة التانية وسحبت نفسي بكل قوِّتي، وبمجرَّد ما عملت دَه لقيت حد من ورايا بيخبطني على كتفي، الخوف جوايا زاد أكتر، وبقيت حاسس إني واقع في فَخ، شيء مش مفهوم من قدامي بيحاول يدخَّلني جوَّه قبر قديم اتفتح فجأة، وأكيد اللي ورا ضهري شيء لا يقل رُعبًا عن اللي قدامي، الموقف كان مخيف لدرجة صعب إني أوصفها، استسلمت في النُّص وأنا بفكَّر في الخطوة اللي جاية وبسأل نفسي، يا ترى إيه المصير اللي منتظرني؟
ملحقتش أجاوب على سؤالي، لأني سمعت صوت من ورايا بيقول لي:
-مالك يا كريم واقف عندك بتعمل إيه؟
كان صوت جارنا، اللي أوِّل ما سمعته حسيت إن دماغي فصلت واشتغلت من تاني، ومعاها عيني غمَّضت وفتحت من جديد، بَس بعد ما فتَّحت لقيت كل حاجة طبيعية، بوكس اليَمام موجود على مصطبة القبر في مكانه، باب القبر نفسه كان مقفول، والولد المرعب اللي ظهر لي وكان بيحاول يدخَّلني في القبر لمَّا اتفتح مكانش له أثر، بدأت ألتِفت حوالين نفسي وأنا مُش فاهم إيه اللي حصل معايا، اللي لاحظته إن جارنا وأًصحابه كانوا بيبصوا ناحيتي بطريقة غريبة، زي ما يكونوا مذهولين بسبب التوهان اللي كنت فيه، وده اللي خلَّى جاري يسألني من تاني:
-يابني مالك، كنت واقف مبحلق في القبر ليه؟
للمرَّة التانية مقدرتش أجاوب على سؤاله، وعشان ميعطنيش فرصة إني أدخل في دايرة الصمت اللي دخلتها بعد سؤاله اللي فات قال لي:
-شَكلك عيِّل خيخة وخايف، نصيحة منّي معدتش تطلع معانا تاني لمَّا نكون هنصطاد في المقابر، لمَّا نغيَّر المكان هبقى أقول لَك.
كان بيكلمني وعيني رايحة ناحية الشَّجر، الأرض هناك كانت مليانة يَمام واقع، ساعتها بَس نطقت وقُلت:
-أنتوا اصطادتوا كل ده؟
-حمد الله على السلامة يا كريم، أنا من ساعتها بنادي عليك عشان تحط اليَمام في البوكس وأنت واقف مبحلق في القبر ولا بترُد عليا.
حسيت بتوهان أكتر لمَّا سمعت كلامه، أصل معناه إن مفيش حد منهم شاف اللي شُفته، عشان كِدَه مقدرتش أحكي عن حاجة، وده باختصار عشان شكلي قدامهم ميكونش أوحَش مما هوَّ عليه.
بدأت ألِم في اليَمام وأجمعه في البوكس، لأني عرفت إنهم خلَّصوا صيد؛ حتى الخُردق اللي معاهم خلص، وده معناه إني ماليش نصيب أجرَّب أصطاد وأشبع شغفي اللي دخلت التجربة الأليمة دي عشانه، وفي نفس الوقت مالومتش جاري، لأنه وارد يكون نَدَه عليا عشان أجرَّب زي ما وعدني، بَس أنا كنت تايه بسبب اللي شُفته ومسمعتوش.
بعد ما خرجنا من المقابر حسِّيت إني رجعت للحياة من تاني، دَه طبعًا بعد ما طلبت من جارنا إنه ميجيبش سيرة لأبويا إني كُنت واقف مبحلق في القبر، ولا يجيب سيرة إن إننا دخلنا المقابر من الأساس، وساعتها جاري وعدني إنه مش هيجيب سيرة، بَس طلب منّي طول فترة الأجازة مطلبش أطلع معاه لمَّا يقول لي إنه طالع مع أصحابه يصطادوا يَمام في المقابر.
رجعت البيت وحاولت على قد ما أقدر إن الدنيا تكون طبيعية، أمي متكلِّمتش معايا، بَس من نظرتها عرفت إنها اتطَّمنت لمَّا رجعت، كل اللي طلبته منّي إني أغيَّر هدومي وأدخل آخد دُش، وفي الحمام، لاحظت إن كَف إيدي عليه علامة غريبة، زي ما أكون مخبوط فيها لأنها كانت أقرب للكدمة، وبعد شوية تركيز أدركت إن دي الإيد اللي الشيء الغريب اللي ظهر لي مسكني منها وهوَّ بيحاول يسحبني جوَّه القبر، ولحد هنا كانت صدمة تانية، لمَّا لقيت إن اللي حصل معايا حقيقة، بَس حقيقة محدش شافها غيري، لدرجة إنها سابت أثر بعدها عشان أفضل فاكر إني اللي حصل كان بجد، برغم إني معرفش هوَّ حصل ليه وإزاي.
بَس بعدها عرفت اللي فيها، لأني لمَّا خرجت من الحمام كنت بداري إيدي عشان أمي متاخدش بالها، وفي الليلة دي ولمَّا دخلت أنام، حرارة جسمي اترفعت فجأة وحسيت بألم كنت بصرخ من شدِّته، ساعتها أبويا وأمي أخدوني على المستشفى، وهناك عرفت إن عندي دور حُمَّى شديد، بَس للأسف الأيام فاتت ودور الحُمَّى مراحش من عندي، ومن مستشفى لمستشفى وعيادة لعيادة، لحد ما الحكاية أخدت منحنى تاني خالص مكانش على بالي، لمَّا أبويا قال إنه هيجيب حد يرقيني لأني احتمال أكون محسود أو واخد عين، وفعلًا، في الليلة دي أبويا جاب لي شيخ من اللي بيرقوا وبيعالجوا بالقرآن، ولمَّا قرأ عليَّا بدأت أرتاح، لكنه بعد ما قرأ قال لأبويا:
-ابنك محتاج أكتر من جلسة لأن طايله مَس.
ساعتها وِش أمي جاب ألوان وأبويا بَحلق في الشِّيخ ومنطقش، بَس أمي هي اللي سألت بنبرة كلها خوف:
-وإيه بَس اللي هيمِس الواد يا سيدنا الشيخ؟
-العلم عند الله، العالم دَه موجود حوالينا في كُل مكان، جايز داس في مكان مهجور، أو دَخل في حتة مكانش المفروض يدخلها في توقيت معيَّن.
الأيام فاتت وجلسات الرقية كانت بتتكرَّر، ومعاها دور الحُمَّى بدأ يروح وحرارتي بدأت تنزل، وخلال الأيام دي أمي مكانش على لسانها غير حاجة واحدة، وهي إن رحلة الصيد الملعونة اللي طلعتها بعد الفَجر عند الترعة الكبيرة هي السبب، وفي كل مرَّة كنت بسمع منها الكلام ده، كنت بقول في سرِّي، أومال لو عرفت إن الصيد كان في المقابر كانت قالت إيه!
محاولتش من بعدها إني أطلب من جارنا أطلع معاه رحلات صيد، لا في المقابر ولا غيره، خصوصًا إن أمي كانت عاملة مشاكل بسبب اللي حصل، ولولا إن أنا اللي طلبت أطلع مع جارنا وأبويا وافق كانت عملت معاه مشكلة، بَس في الأول والآخر أنا اللي صمِّمت وجارنا مالوش ذنب.
الحكاية مخلصتش لحد كده، لأن على فترات كان دور الحُمَّى بيرجع لي من تاني، والشيخ في الوقت دَه كان بيجي البيت عندنا وبيعيد جلسات الرقية، وفضلت على الحال دَه لحد ما كبرت ودخلت الجامعة، ساعتها بَس اتعرَّفت على زميل معايا في الدفعة، وعرفت منُّه إن أبوه معالج روحاني، ساعتها طلبت منُّه يخليني أقابله، في اليوم دَه طنِّشنا المحاضرات وخرجنا رُحنا عندهم البيت، ولمَّا قابلت أبوه وحكيت له الحكاية قال لي:
-المقابر ليها حُرمة، ومينفعش ندخلها في أي وقت وعمَّال على بطَّال عشان فيها سُكَّانها، لازم ندخلها في أوقات معيَّنة ولأسباب، زي وقت زيارة المقابر أو في جنازة، لكن دخولها من باب العبث والتسلية مش كويِّس وممكن سُكَّانها يأذونا، لأن في نوع من الجِن بيسكنوها وعايشين فيها، ومش بيسمحوا إن حد يهرِس عليهم.
بعد ما سمعت كلام الشيخ أو أبو زميلي سألته:
-يعني اللي ظَهر لي ده يبقى جِن؟
-شوف يا كريم، أي شيء غريب يظهر في المقابر اعرف إنه مش من العالم بتاعنا، يعني التعامل معاه خَطر، سواء بقى كلب أسود أو قُطة سودة، أو أي حيوان أو كائن مش مفهوم، لازم تعرف إن ظهوره بيكون تحذير، يعني بيحاول يقول لَك إحنا هنا والمكان دَه يخصّنا، ومحاولته إنه يسحبك في القبر كان بيحاول يفهِّمك إن وجودك في المكان معناه نهايتك، أو لو كرَّرتها تبقى حفرت قبرك بإيدك.
-بَس ليه اللي معايا مشافوش اللي شُفته؟
-لأن الخوف بوابة بيقدروا يدخلوا منها، وأنت كُنت خايف، عشان كده قدر يدخل لَك من البوابة اللي أنت فتحتها بنفسك لمَّا خُفت، لكن اللي معاك مكانوش خايفين وكانوا مشغولين بالصيد، جايز لو خافوا أو ركزوا معاهم كانوا ظهروا لهم.
-بَس دَه معناه إني أتمَس ويحصل معايا كل ده؟
-هو متجرَّأش إنه يلمِسك غير لمَّا أنت اتجرَّأت ولمسته، أنت اللي عطيته التصريح بإنه يمِسَّك، أصل لمسهم مش بالساهل وبيسيب أثر صعب بنسمِّيه المَس، وبعدين مسمعتش قبل كده إن حد كان ماشي من المقابر ووقع وبعدها اتمَس أو جاله صرع وبدون ما يظهر له حاجة، كل الحكاية إنه بيكون لمَس حد من سُكَّان المقابر وهو ماشي بدون ما يشوفه، الخلاصة يابني إننا لازم نبعد عن العالم ده، أذاهم صعب وإحنا بشر، مخلوقات ضعيفة دور بَرد بيخلينا نرقد في السرير، ما بالك بقى لو حد منهم مَس حد مننا أو اتسلَّط عليه.
-بَس الشيخ اللي كان بيرقيني مقالش التفاصيل دي ده قبل كده!
-مُش كل اللي بيرقي يبقى عارف عن العالم السفلي والجِن ويقدر يتعامل معاه ويعرف سبب وجوده وطريقة صرفة، الرقية والعلاج بالقرآن جزء من أدوات التعامل مع العالم السفلي، وسيلة من ضمن وسائل صرف أذاهم أو تسكينها، وأنت ربنا بيحبَّك عشان بقيت أنت وابني في كلية واحدة والنَّصيب جابك لحد هنا.
مع الأيام بدأت أروح بيت زميلي، عشان الجلسات اللي كنت باخدها على إيد أبوه، ومع آخر جلسة، أبو زميلي قال لي إن المَس انتهى، كل الحكاية إني هشوف شوية توابع، ولمَّا سألته يقصد إيه بالتوابع، قال إني هشوف شوية أحلام، بَس أحلام صعبة شوية، ممكن ترتقي لمرتبة الكوابيس، وفعلًا، من وقت للتاني كنت بقوم مفزوع من النوم بعد ما بشوف قدامي باب نفس القبر قديم بيتشقق، وبعدها الباب بينهار وبيظهر الكفن، بعدها عقدة الكفن بتتحَل والجثة بتظهر، وباختصار؛ الجثة دي تبقى أنا، لكن بكون لسَّه على قيد الحياة، وبعدها بخرج من باب القبر، والحلم أو الكابوس بيخلص على كده.
بمرور الأيام الكابوس دَه انقطع، بَس بعد ما قطع نفسي، وفهمت خلال الفترة دي إن الجثة اللي كانت في القبر يوم ما كنت في المقابر كانت جثِّتي، أو إن ده مصيري اللي كان منتظرني لو دخلت المقابر تاني من باب العبث والتسلية زي ما أبو زميلي قال، وده اللي فهمته من الكابوس لمَّا كان الكفن بيتكشف وبكون أنا اللي جوَّاه، وبعد الحكاية دي ما انتهت بتوابعها، اتعلِّمت درس مُهم هعيش عليه طول حياتي، وهو إن مُش كل الشَّغف لازم نحقَّقه، لازم نبُص على ما بعد الشَّغف، ونفهم نتيجة اللي هنعمله هتكون إيه، جايز الشَّغف دَه في مرَّة يرمي صاحبه في التَّهلكة، جايز يكون زي صديق السوء اللي هيجرجرك لطريق آخره نهايتك، أو على الأقل هتفضل تتأذى طول ما أنت ماشي فيه، لحد ما تلاقي الإيد اللي تتمَد لَك وتنتشلك من الضياع اللي أنت فيه، بَس بعد ما يتم استنزافك وأنت بتحس بين كل وقت والتاني إن روحك بتطلع، زي ما حصل معايا بالظبط كده.
تمت...