لما تبقى من طفولتك بتحب تسجِّل كل حاجة بتشوفها، يبقى بالتأكيد لازم تسجل وتكتب ملاحظاتك عن كل شيء غريب ومش مفهوم بتشوفه، يعني مثلًا لما تسمع صوت غريب بيكلمك في الضلمة، من غير ما يكون في حد معاك خالص، دا غير إن الصوت نفسه غريب وبتكون بتسمعه لأول مرَّة، أو إنك تشوف خيال بيعدِّي من قدامك بسرعة وداخل في الحيطة، يمكن لو مركِّزتش معاه مُش هتاخد بالك منه، لكن الغريبة إن قبل ما بيظهر قدامك ويدخل في الحيطة؛ بتلاقي نفس الصوت الغريب بيهمس لَك وبيقول: بُص في المكان ده؛ خليك باصص؛ مُش عايز عينك تبعِد عنه، في الوقت ده بَس بتشوف الخيال؛ اللي مع الوقت وتكرار الموضوع؛ بتبدأ تدرك إنه عبارة عن ظل أسود، أو جسم هُلامي مالوش ملامح.
سارة البغدادي؛ اسمي، وهو أول حاجة قرأتها على الأجندة اللي سجّلت فيها كل ملاحظات طفولتي، اللي بالمناسبة حصلت لي في بيت عمتي؛ البيت القديم اللي عيشت معاها فيه، لأن أبويا وأمي جالهم إعارة؛ سافروا على شان يعملوا قرشين يأمنوا بيهم مستقبلي، وعمتي أخدتني أعيش معاها لأنها مكانتش خلِّفت، دا غير إن جوزها اتفقد في العراق وبعد سنتين عرفت إنه مات؛ وسابها عايشة في البيت لوحدها، وكانت فرصة مناسبة إنها تلاقي حد يونّسها في وحدتها، وفي نفس الوقت أبويا وأمي يطَّمنوا عليا.
بس بعد سنتين اتفاجأت إن أبويا وأمي عايزين ياخدوني معاهم، لأن الحال مشي معاهم وبقى في إمكانية أسافر، ساعتها أبويا خلَّص أوراقي ونزل يومين أخدني وسافر تاني، عيشت معاهم خمس سنين غربة، وبعدها حصلت معايا مشكلة في دراستي، وكان لازم أرجع على شان أقدر أكمّل الدراسة ومفيش سنين تفوتني؛ وأبقى أسافر لهم كل أجازة.
وفعلًا رجعت بيت عمتي القديم، اللي كانت مبسوطة إني هعيش معاها، بس أنا كنت خايفة؛ لأني بمجرد ما دخلت البيت اللي بالمناسبة مفيش فيه حاجة اتغيَّرت، افتكرت كل اللي كنت بشوفه وبسمعه، وخوفت أكتر وأنا بمسك الأجندة اللي كتبت فيها ملاحظات كتير، وبعد ما قرأت اسمي اللي كتبته عليها زمان، فتحتها ودخلت على أول صفحة.
-سارة.
سمعت صوت عمتي جاي من الصالة وهي بتنادي عليا، قفلت الأجندة وحطيتها مكانها على شان أشوفها محتاجة إيه، ولما خرجت لقيتها قاعدة على الكرسي اللي في وِش الأوضة، وبمجرد ما شافتني ابتسمت وقالت:
-نوَّرتي البيت يا حبيبتي؛ المكان كان ضلمة من غيرك، كنت عارفة إنك راجعة تعيشي معايا تاني، على شان كده أوضتك زي ما هي مفيش فيها حاجة اتغيَّرت.
كنت بسمعها وأنا مبتسمة؛ وبقول في سرّي: ياترى تقصد إيه بإن أوضتي لسه زي ما هي؟ هي قصدها مكونات الأوضة ولا اللي كنت بشوفه فيها.
حسيت إني اتأخَّرت عليها في الرد، خوفت تزعل وتفكر إني بتجاهل كلامها، وده اللي خلاني أرُد بسرعة وأنا بتتسم وأقول لها:
-البيت منور بيكي يا عمتو.
-قطيعة تقطع الغربة، يعني كان لازم أبوكي وأمك يوافقوا على اللي اسمها إعارة دي، قالوا هيروحوا سنتين ويرجعوا، وسنتين جابت سنتين، ويا عالم هيرجعوا إمتى.
-الدنيا مشاغل يا عمتو وربنا اللي عالم بالظروف.
-على رأيك يا سارة؛ خليهم في حالهم المهم إنك رجعتي.
خلصت قعدتي مع عمتي ودخلت الأوضة من تاني، منسيتش إن آخر حاجة كنت بعملها قبل ما أخرج هي إني كنت بفتح الأجندة، يمكن ده السبب اللي خلاني أفتحها أول ما أدخل، وبدون ما أفكر جبت الصفحة الأولى، زي ما أكون بسترجع ذكريات ما صدقت إني خلصت منها، بس الدنيا لفَّت لفتها وخلتني أرجع لها من تاني.
مع أول كلمة قرأتها الدنيا اتلخبطت، سمعت كركبة في الأوضة، الصوت كان جاي من الحيطة اللي جنب السرير، وبالمناسبة دي الحيطة اللي كنت بشوف الخيال بيختفي جواها زمان، ولاحظت إن لسه لمبة الأوضة نورها ضعيف، عمتي صدقت في كلامها، كل حاجة زي ما هي فعلًا؛ لدرجة إن لمبة الأوضة لسه زي ما هي متغيَّرتش.
-أول كلمة قرأتها كانت كلمة الصوت، عنوان أول صفحة، اللي كتبت فيها ملاحظات عن صوت كنت بسمعه وأنا نايمة، بيهمس في ودني ويقول لي: أنتِ مُش ضيفة هنا يا سارة، دا أنا منتظرك من سنين، وأحيانًا كنت بسمعه وأنا صاحية، لما بكون سهرانة بالليل ومش جايلي نوم، وساعتها كنت بحس بخنقة رهيبة، أنفاسي بتبقى تقيلة وصدري بيكون مكتوم، والغريبة إني بمجرد ما قرأت الكلام اللي مكتوب في الأجندة كل مخاوفي القديمة رجعت تاني، ومعرفش إن كان مجرد إحساس لما افتكرت اللي فات ولا ده إحساس بحاجة جديدة بتحصل.
لفترات طويلة وأنا مسافرة، مكنتش بحس بأي حاجة غريبة، وكنت بقول إن اللي حصل مجرد تخاريف طفلة، أبوها وأمها سابوها واتغربوا وهواجسها استفردت بيها، بس دلوقت الخوف رجع لي تاني؛ قلبي مقبوض، فضلت على الحال ده شوية وقت وأنا بحاول أستجمع أعصابي وأسيطر على خوفي؛ بس كل محاولاتي فشلت، خصوصًا لما سمعت صوت طالع من الحيطة اللي جنب السرير وبيقول:
-خمس سنين يا سارة، كنت عارف إنك هتلفي لفِّتك وترجعي تاني.
كان نفس الصوت اللي سمعته هنا من خمس سنين، لسه ودني حافظاه كويس، وبمجرد ما سمعته إيدي ارتعشت والاجندة اتقفلت غصب عني، وفي اللحظة دي سمعت الصوت من تاني:
-افتحي الأجندة يا سارة؛ كل اللي سجلتيه فيها مش هلاوس، كل كلمة مكتوبة فيها حقيقة؛ لأن أنا حقيقة يا سارة.
اتفزعت من السرير وخرجت أجري من الأوضة، مكنتش حاسة أنا بتصرَّف إزاي، اللي خلَّاني أنتبه إن عمتي اتفزعت من مكانها لما شافتني خارجة بجري وبرزع الباب، في الوقت ده قامت وجت ناحيتي وهي بتقول:
-مالك يا سارة؛ خارجة بتجري ليه كده؟
حاولت آخد نفسي على شان أقدر أتكلم؛ وبعدها بلعت ريقي وقولت:
-الصوت يا عمتي؛ نفس الصوت اللي كنت بسمعه من خمس سنين في الأوضة، سمعته من تاني وقال لي إنه مش هلاوس، وإن كل حاجة سمعتها أو شوفتها في الأوضة حقيقة؛ لأن هو حقيقة.
حسيت إن عمتي بتاخد نفسها، زي ما يكون روحها ردَّت في جسمها، الخضة اللي في ملامحها اختفت، ساعتها رجعت مكانها على الكرسي وقالت:
-تاني يا سارة؟ إحنا مش اتكلمنا في الحكاية دي زمان وقولت لك إن كل دي تهيؤات.
-طول السنتين اللي عيشتهم هنا كنتي بتقولي إني بهلوس، كل ما أحكي لِك تقولي إنه خيال أطفال، طيب وبعد خمس سنين، لسه الحكاية زي ما هي يا عمتو، الأوضة دي فيها حاجة.
-من خمس سنين قولتي نفس الكلام ده، وفي كل مرة بتقولي الكلام ده كنت بنام جنبك في الأوضة، ومكنتش بلاحظ حاجة من اللي بتقوليها، ومعنى كده إن كل ده محدش بيشوفه غيرك، وطالما أنتي بس اللي بتشوفي ده يبقى مش موجود غير في خيالك، وخيالك عامل زي التلفزيون يا سارة، تقدري تتحكمي فيه، تمسكي الريموت وتغيَّري القناة اللي مش على مزاجك، أنتي اللي بإيدك تمنعي الصوت اللي بتسمعيه؛ والخيال اللي كنتي بتشوفيه، أنتي اللي معاكي الريموت يا سارة.
حسيت إني متحاصرة بين هواجسي وبين كلام عمتي، اللي قرَّرت تمارس عادتها القديمة معايا، وهي إنها قالت لي:
-وعلى شان أثبت لِك إنك لسه بتعاني من هواجسك القديمة هنام جنبك النهاردة، أنا مقدَّرة إنك لسه راجعة من غربة خمس سنين، وأكيد لما ترجعي على نفس المكان اللي عيشتي فيه هواجسك القديمة لازم تفتكري اللي فات، مع الوقت يا سارة كل ده هينتهي.
كنت مفتحة عيني وسامعة صوت عمتي وهي نايمة، لكن بالنسبة ليا النوم كان رايح من عيني، أو كأن جسمي وعقلي معادوش قابلين للنوم.
نور الأوضة كان مفتوح، وده ممنعش عمتي إنها تنام، بس أرجع وأقول إن النور زي عدمُه، لأن اللمبة قديمة؛ يمكن لمبة الجاز تنوَّر المكان عنها، بس كل ده مكانش شاغل تفكيري، اللي خلاني أنتبه وأرفع راسي من فوق المخدة؛ هو إني لمحت دِهان الحيطة اللي جنب السرير بيتغيَّر، عارفين فكرة إن الدِّهان في منطقة من الشقة يكون قديم، وكل ما عينك تيجي على المكان ده تحِس إنك شايف ملامح، الحكاية كانت كده بالظبط، بس دهان الحيطة لما اتغيَّر مشوفتش فيه ملامح عادية، مكانتش تخُص إنسان أو حتى حيوان، دي كانت ملامح مرعبة، وِش غريب ومخيف، عينين واسعة عبارة عن دايرتين منوَّرين بنور أزرق، بوق مفتوح والأسنان اللي ظاهرة منه مخيفة، رفعت راسي أكتر وأنا برجع لورا وبسندها على شباك السرير، مكنتش مصدقة اللي أنا شايفاه قدامي، ولما دققت في الوِش اللي ظهر على الحيطة أكتر، شوفت جنبه كفوف إيد، صوابعها طويلة ومُدببة وخارج منها مخالب طويلة.
فتحت بوقي من الصدمة، عيني فضلت مبحلقة في الحيطة؛ الملامح كانت بتوضح مع الوقت وزي ما تكون بتبتسم لي ابتسامة كلها شَر، حسيت إن الحيطة بقت شفافة ومن وراها عالم مخيف والكائن ده بينتمي له.
الوقت فات وأنا متجمدة في مكاني، جسمي كان مشلول وفاقدة القدرة إني أرفع إيد أو أحرَّك رِجل، وفي لحظة حسيت إن الكائن ده بيخرج من الحيطة وبيمِد إيده ناحيتي، زي ما يكون عايز يسحبني جوَّه الحيطة، حسيت إني بنكَمِش في بعضي من الخوف، خصوصًا لما لمحت بوقه بيتحرَّك وبعدها سمعت نفس الصوت خارج من الحيطة وبيقول:
-كبرتي يا سارة، كنتي بتسمعي صوتي من غير ما تشوفيني، بس أنتي لمحتيني زمان كتير، وأنا اللي كنت بخليكي تنتبهي وتبصي على الحيطة على شان تشوفيني، بس مكانش الوقت مناسب تشوفيني على حقيقتي، وده سبب إنك كنتي بتشوفيني مجرد ظِل أو خيال مالوش ملامح، وكان لازم أعمل كده على شان اليوم هييجي ونتقابل، وخلاص آن الأوان يا سارة، أصل أنا اخترتك من أول يوم دخلتي فيه الأوضة دي؛ اللي أنا سكنتها قبل منك بسنين، انتي اللي جيتي في طريقي ووقع عليكي الاختيار، أصل كنت مستني اللحظة اللي حد فيها يدخل الأوضة ويبات فيها ليلة، والحَد ده كان أنتِ، أنا يا سارة اسمي...
مقدرتش أتحمل اللي بسمعه، خصوصًا لما كان عاوز يقول لي اسمه بعد كل اللي سمعته منه، ده اللي خلاني أصرخ قبل ما ينطق اسمه، وبمجرد ما صرخت عمتي اتفزعت من جنبي وقامت من النوم، وفي لحظة صراخي برضه الحيطة رجعت لطبيعتها وهو اختفى من قدامي.
جسمي كان بيتنفض زي الفرخة المدبوحة؛ لدرجة إن إيد عمتي وهي بتحاول تهدّيني خلتني أتنفض أكتر، وفين وفين على ما حسيت إن الرعشة اللي في جسمي بتخِف، وساعتها قدرت أرفع إيدي وأشاور ناحية الحيطة، بس لساني كان تقيل ومكنتش قادرة أنطق، ومع الوقت حسيت إن عُقدة لساني بتتفك وبدأ يتحرَّك، وساعتها قولت وأنا بَتلجلج:
-كائن مخيف ظهر من الحيطة، بيقول لي إنه اختارني وإنه منتظرني من زمان، كان بيكلمني بنفس الصوت اللي دايمًا بسمعه في الأوضة هنا، وكان عاوز يقول لي على اسمه بس مقدرتش أتحمل وصرخت، وبمجرد ما صرخت اختفى من الحيطة.
ساعتها عمتي أخدت نفسها وقالت:
-ياحبيبتي اختفى بمجرد ما صرختي على شان هو في خيالك بَس، والصرخة خلَّت عقلك يفوق وخيالك يُقَف.
مكنتش قادرة أصدَّق كلامها، وده اللي خلى عيني متنزلش من على الحيطة، لأني دلوقت بس أنا مصدقة خوفي أكتر من أي كلام ممكن أسمعه، وده اللي خلى عمتي تحاول تقنعني، لدرجة إنها قامت من السرير وشاورت على الحيطة وقالت:
-كل الحكاية إن دِهان الحيطة قديم، أصل أنا مغيَّرتوش من قبل ما المرحوم يسافر العراق، ومن بعد ما فضل مفقود هناك سنتين وبعدها عرفت إنه مات وأنا ماليش نفس أعمل حاجة في البيت، وسيباه زي ما هو، زمانك بس شوفتي البُقع اللي في الحيطة والنوم مزغلل عينك وخلاكي تتخيلي كل ده.
فضلت صاحية لحد ما النهار طلع، عمتي كمان منامتش تاني ولا حتى حاولت تنام، كل اللي كان على لسانها إني أعصابي تعبانة على شان سيبت أبويا وأمي، وإني لسه راجعة من السفر ونفسيتي مش مُستقرة، بس مع الوقت كل حاجة هتبقى تمام، خصوصًا لما الدراسة تبدأ وأنشغل بدروسي، بس في حاجة جوايا كانت مانعة كلامها من إنه يدخل عقلي، شعور غريب جوايا بيقول لي إن في حاجة غريبة موجودة بين الأربع حيطان اللي النصيب خلاني أرجع لهم بعد خمس سنين.
فضلت طول اليوم وأنا مش مركّزة مع أي حاجة، خايفة أدخل الأوضة، ومكنتش مركِّزة مع عمتي وهي بتكلمني، كنت برُد عليها ردود مالهاش علاقة بالموضوع اللي هي بتكلمني فيه، حتى أبويا وأمي لما اتصلوا يطمنوا عليا حسوا إني غريبة، وعلى شان ميبقوش قلقانين عليا قولت لهم إني لسه مُرهقة من السفر، ولقيت عمتي بتدعمني بالكلام وقالت لهم إني متوترة ونفسيتي تعبانة على شان سيبتهم ورجعت.
اليوم فات ببطء شديد، ملل وخوف وخنقة، مكنتش عايزة الليل ييجي، كنت خايفة عمتي تدخل تسيبني وتنام، وأكون مضطرة إني أدخل الأوضة، دا غير إني مكنتش قادرة أطلب إني أنام في أوضة عمتي، خوفت أكون بايخة وأبقى ضيفة تقيلة، ومكنتش أقدر أطلب منها إنها تنام جنبي، خصوصًا إنها منامتش من وقت ما قامت مفزوعة على صوتي وأنا بصرخ ليلة امبارح، الليل بالنسبة لي بقى كابوس؛ وكانت أقصى أمنية عندي إنه مايجيش؛ بس مين يقدر يبدل قوانين الطبيعة ويخلي النهار مستمر للأبد، ويمنع الليل من إنه ييجي، كل حاجة بتمارس دورها في الكون ده إلا أنا، الليل هييجي ويعدّي بكل المخاوف اللي فيه، والنهار هيطلع، والليل هييجي من تاني، كل شيء مستمر في طريقه حتى الخوف اللي جوايا؛ مستمر ومكمل وبياكل فيا من جوَّه.
اللي بيخاف من عفريت بيطلع له، لأن بمجرد ما الليل دخل، لقيت عمتي بتقول لي:
-أنا داخلة أنام يا سارة، مش هقدر أسهر؛ دماغي تقيلة والصداع مش مخليني أفتح عيني.
كنت فاهمة السبب اللي خلاها تقول لي الكلام ده، باختصار لأنها قامت من النوم بسبب اللي حصل امبارح ومنامتش لحد دلوقت، وده اللي خلاني منطقش بكلمة غير إني قولت لها:
-تصبحي على خير يا عمتو.
في نفس المكان على السرير، وبنفس طريقة القعدة اللي كنت فيها امبارح، كنت قاعدة وعيني مبحلقة في الحيطة، قلبي كان بيدُق وحاسة برعشة خفيفة في جسمي، واللي خوفت منه حصل، الحيطة بدأت تتغير ويظهر منها نفس الكائن، بملامحه المخيفة والنور الأزرق اللي طالع من عينيه، وصوابع إيده اللي خارج منها مخالب طويلة، وبيبتسم بنفس الابتسامة اللي كانت على ملامحه قبل ما يختفي من الحيطة ليلة امبارح، وبدون أي مقدمات قال:
-أنا شيصبان!
جسمي اتلبِّش في بعضه، خصوصًا لما حسيت إن اللي شوفته الليلة دي كان تكملة للي شوفته امبارح، لأنه بدأ كلامه من بعد كلمة أنا، اللي اختفى عندها من غير ما يعرَّف بنفسه، وبمجرد ما ظهر لي عرَّفني بنفسه وبدأ من كلمة أنا اللي اختفى وهو بيقولها، زي ما أكون كنت بتفرج على شريط فيديو وقفلته، ولما فتحته تاني بدأ من اللحظة اللي اتقفل عندها.
أطرافي بردِت والرعشة زادت فيها، دَمي نِشف في جسمي وحسيت ببرودة شبه برودة الموت، خصوصًا لما حسيت ببروز في الحيطة، وبعدها لاحظت إن الكائن ده بدأ يخرج منها بنُصه اللي فوق، في الوقت ده صرخت نفس صرخة امبارح، بس المرة دي صراخي كان هيستيري، وساعتها الكائن بدأ يرجع للحيطة من تاني؛ لحد ما اختفى تمامًا وباب الأوضة بيتفتح، كانت عمتي اللي قامت على صرخاتي للمرة التانية، ولما شافتني بشاور بإيدي اللي بترتعش على الحيطة فهمت الحكاية، وبعد ما بصت على الحيطة اللي رجعت على طبيعتها، مرضتش تتكلم معايا، كل اللي عملته إنها أخدتني أنام جنبها في أوضتها.
الليلة دي فاتت بدون أي خوف ونمت نوم رهيب، عوَّضت فيه كل التعب اللي شوفته من وقت ما رجعت، كأن اللي بيحصل مش موجود غير في الأوضة بتاعتي أنا وبس، وده خلاني أتأكد إن كل حاجة كتبتها زمان في الأجندة مكانتش هلاوس، كل كلمة فيها عبارة عن حقيقة، بس لو أقدر أدخل الأوضة من تاني أفتح الأجندة، وأبدأ أكتب فيها ملاحظات من تاني بعد خمس سنين سافرت فيهم ومكتبتش فيها أي كلمة، أنا كنت هضيف كلمة واحدة بس، اسم الكائن اللي عرَّفني على نفسه وأنا مرعوبة؛ شيصبان! بس أنا مكنش عندي الجُرأة إني أدخل هناك بالليل.
صحيت تاني يوم قُرب الضُّهر، ولما خرجت من أوضة عمتي شوفتها قاعدة في الصالة، كانت بتقلب في كرتونة قدامها، فيها شرايط وجوابات، مكنتش مُهتمة بصراحة هي بتدوَّر على إيه، بس بعد ما صبَّحت عليها وقعدت على الكرسي اللي جنبها، لقيتها بتقول لي:
-من وقت للتاني بفتح الكرتونة دي، الإنسان بيروح ومش بيفضل منه غير شوية حاجات تفكرنا به، تخيلي لما الإنسان يروح واللي يتبقى منه يتحط في كرتونة أو صندوق.
كبرت دماغي من كلامها لأن الصداع اللي حسيت به كان رهيب ومخلي عيني مزغللة، وبرغم كده كنت ملاحظة عمتي وهي بتختار شريط من الشرايط اللي في الكرتونة، وبتحطه في باب الكاسيت اللي جنبها وبتضغط على زرار التشغيل.
الصوت اللي خرج من الكاسيت خلاني أنسى الصداع وأتنفض من مكاني، بصيت لعمتي في صدمة وأنا بقول لها:
-ده الصوت اللي كان بيكلمني زمان يا عمتو، واللي خلاني أًصرُخ بالليل لما كلمني وكان عايز يعرفني بنفسه، وليلة امبارح قال لي إن اسمه شيصبان، وساعتها صرخت وأنت جيتي أخدتيني أنام في أوضتك، ده صوت الكائن يا عمتو؛ صوت شيصبان.
في اللحظة دي عمتي برَّقت لي بعد ما قفلت الكاسيت وطلعت منه الشريط، وبعد ما رجَّعته في الكرتونة وقفلتها قالت لي:
-كائن مين يا سارة وشيصبان إيه؟ دا صوت عمك عبد الباري؛ جوزي الله يرحمه، وبعدين هو مات في العراق من قبل ما تتولدي بكام شهر، يعني لا شوفتيه ولا عرفتي صوته على شان أقول إنك بتتخيلي الصوت، وأول مرة أسمع الشرايط دي قدام حد، لأنه الله يرحمه كان دايمًا يبعت لي شرايط وجوابات، يعني أنتِ فعلًا مسمعتيش صوته قبل كده، بلاش تدخلي المرحوم في اللي بيحصل معاكي، محدش عارف أصلًا إن كان حقيقة ولا حصل لِك إيه لما سافرتي.
اليوم فات وعمتي مكانتش بتتكلم معايا، زي ما تكون قافلة مني وزعلانة. كنت عاملة حسابي إني هنام في أوضتي واللي يحصل يحصل، بس قبل ما عمتي تدخل تنام لقيتها بتفتح باب أوضتي وداخلة، لاحظت إن في إيدها صينية عليها سندوتشات وكوباية مايَّه، فهمت إنها عملت لي أكل لأني رفضت آكل طول اليوم، شكلها قالت جايز أغير رأيي وآكل بالليل، بس بعد ما فتحت الباب ودخلت الأوضة سمعتها بتصرخ، وبعد الصرخة سمعت صوت الصينية بتخبط في الأرض والكوباية بتتكسر.
دخلت أجري على الأوضة؛ وساعتها لقيت عمتي مرمية في الأرض، جسمها بيرتعش وعينها مبحلقة في الحيطة، اللي كان الكائن ده موجود عليها وهو بيبتسم ابتسامته اللي كلها شر.
صرخت كالعادة بمجرد ما شوفته، في اللحظة دي ابتسامته اتغيرت لنظرة شر، لما شوفتها صرخت أكتر، وساعتها بدأ يختفي بالتدريج من الحيطة، لحد ما الحيطة رجعت لطبيعتها.
سحبت عمتي من رجليها برَّه الأوضة، كانت بتتنفض زي ما يكون في حاجة بتكهربها، وبعد ما خرجنا قفلت باب الأوضة الملعونة دي، وأول حاجة عملتها هي إني اتصلت على أبويا وأمي، حكيت لهم اللي حصل، وساعتها أبويا طلب مني أقفل المكالمة على شان هيكلِّم عمّي يجيب شيخ كان يعرفه وييجي البيت عند عمتي.
قفلت المكالمة وقعدت، عيني كانت على عمتي اللي ممددة في الأرض وكنت أَضعف من إني أشيلها، وكل اللي كان على لسانها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، في الوقت ده بس عرفت إنها شافت اللي كنت بقول عليه من سنين طويلة، وظهر لي في آخر يومين؛ شافت شيصبان.
يادوب فاتت ساعة؛ وكان عمي موجود ومعاه الشيخ، ساعدت عمي نشيل عمتي من الأرض، حطيناها على كنبة في الصالة، بس كنت مركزة مع الشيخ اللي عينه كانت على باب أوضتي المقفولة، واستغربت إنه سابنا وراح ناحية الأوضة وخبَّط على بابها تلت مرات وهو بيقول: اخرُج منها فإنك رجيم!
بعد ما الشيخ قرأ قرآن على عمتي وفاقت من الحالة اللي كانت فيها قال لها:
-شيصبان عُمره ما بيحضر من نفسه، في سبب لحضوره، السبب ده أنتِ اللي تعرفيه لأنك أنتِ اللي خلتيه يحضر هنا.
في الوقت ده عمتي غمضت عينيها زي ما تكون بتفتكر، وبعد وقت طويل قالت:
-أنا معملتش حاجة يا سيدنا الشيخ، شيصبان مين ده اللي يدخل بيت المرحوم.
-شيصبان؛ شيطان لعين، مهمته إنه يسكُن أجساد البشر ويمارس أفعاله الشيطانية من خلالهم، مين اللي كتب تعويذة تحضيره على الحيطة اللي في الأوضة؟
ساعتها عمتي برَّقت، وحسيت إن بوقها بيتحرَّك على شان عاوزة تقول حاجة ومش قادرة، بس بعد وقت طويل قالت:
-مكنتش مصدقة إنه سافر ومرجعش ومش هشوفه تاني، خصوصًا إني مخلفتش منه حتة عيل يشيل اسمه، وهو كان نفسه في ابن بس ده قضاء الله وقدره، بس بعد ما عرفت إنه مات بأربعين يوم، باب البيت خبَّط الصبح، ولما فتحت لقيتها واحدة ست لابسة هدوم بدوية، من اللي بيفوتوا على البيوت يقروا الكف ويضربوا الودع ويشوفوا الطالع، كانت مصممة تقرأ لي الكف، ولما قرأته لقيتها بتقول لي هشوف اللي راح ومجاش تاني، وهقدر أكلمه ويكلمني، ضعفت قدام كلامها، ولما سألتها ده هيحصل ازاي طلَّعت إزازة صغيرة من شنطة معاها؛ وقالت لي أرسم بالسائل اللي فيها دايرة على الحيطة، وطلبت مني أرسم مربعات في الدايرة وأكتب فيها حروف، وبعد ما أخلص أقول: أحضِر لي المراد في الميعاد سبع مرات، أخدت الإزازة ودخلت الأوضة دي "قالتها وهي بتشاور على الأوضة بتاعتي"، وبعد ما فتحت الإزازة لقيت فيها مايَّه عادية، حتى ريحتها مكانتش غريبة، مايَّه عادية خالص، بس قولت ميضرّش؛ هخسر إيه يعني، عملت اللي طلبته مني وقولت زي ما طلبت منّي سبع مرات، ومن وقتها ما حصلش أي حاجة، حتى الماية اللي رسمت بيها على الحيطة نشفت بعد ساعة زمن وكأنها مش موجودة، ونسيت الحكاية دي من سنين طويلة، حتى الحروف اللي طلبت مني أكتبها مش فكراها، نسيت الحكاية لأني عملتها وأنا مش مقتنعة، بس كانت لحظة ضعف مريت بيها وأنا متأثرة على المرحوم، لحد ما افتكرت لما أنت سألتني يا سيدنا الشيخ.
ساعتها رد الشيخ عليها كان صدمة تانية ليا:
-المايَّه اللي كانت في الإزازة كانت من بير خبيث في الصحرا، بير بتسكنه الشياطين وأرواح خبيثة، وكان متعزِّم عليها على شان يحضر شيطان يقوم بغرض معين، وهو إنه يكلمك بصوت جوزك أو يظهر لِك في شكله، الناس اللي زي دي مش بتعدّي على البيوت صدفة، بالعكس، دي بتبقى عارفة رايحة لمين بالظبط وظروفهم إيه، والست دي اختارتك على شان لما تسمعي صوت جوزك اللي مات تقتنعي وتقدر تستغلك مرة واتنين وعشرة، بس لحسن حظك، كان لازم تباتي ليلة في المكان اللي فيه التعويذة على شان الشيطان اللي حضر يتواصل معاكي، وللأسف أول حد بات في الأوضة هو سارة وده حصل بعد سنين طويلة، وساعتها الشيطان تواصل معاها وكان بيكلمها بصوت جوزك الله يرحمه، يعني سارة مكذبتش لما قالت إن الصوت اللي سمعته صوت جوزك، ولأن اللي حضر شيصبان، فهو شيطان عنده مطامع، وكان مستني الفرصة إنه يلبس البنت، لكنه مختلف عن الشياطين، مبيدخلش جسم البني آدم غير لما يكون هادي، وده اللي خلاه يختفي كل ما كانت سارة بتصرخ، ولما ظهر لِك في الآخر كان غرضه يبعدك عن الأوضة على شان يستفرد بالبنت.
الدنيا كانت بتدور بيا، حتى بعد ما الشيخ طهَّر البيت وطرد منه شيصبان، بعد سبع جلسات كاملين في البيت، كان بيقرأ فيهم آيات طرد الشياطين، لحد الليلة السابعة لما شمّيت ريحة شياط خارجة من أوضتي، وبعدها الشيخ قال إنه حرق شيصبان.
مكنتش مستغربة إزاي الشيخ عرف بالأجندة بتاعتي، لأنه ببساطة عرف المشكلة فين لما خبط على باب الأوضة في أول مرة دخل فيها هنا، وساعها طلب مني أجيب الأجندة اللي أخدها حرقها، وبعدها قال لي:
-عارف إن فيها ذكرياتك، بس الذكريات اللي تفتح بينك وبينهم باب الخلاص منها أحسن، لأن لو كنا حرقنا شيصبان، عندهم ألف شيصبان، وسواء هو أو غيره، الشياطين كتير وما بيصدقوا أي حاجة تفتح الباب بينهم وبين البني آدم.
بعد ما أبويا وأمي عرفوا اللي حصل، أبويا اتصرف وجاب واسطة خلَّصت لي أوراقي هناك، وبعدها سافرت على شان أكمل تعليمي وأعيش معاهم، دا طبعًا بعد ما عمي أخد عمتي تعيش معاهم في البيت، وقفل البيت اللي كانت عايشة فيه، واللي أنا قررت إني طول ما أنا عايشة، رجلي مش هتدخله تاني لأي سبب.
تمت...