شهور طويلة؛ وأنا مش قادر أتعافى من الصدمة، المَشهد كان بَشع. مفيش أسوأ من إنك تشوف حب حياتك، عروستك اللي كلها أيام وتبقى مراتك، بتموت قدام عينك، وأنت مُش قادر تعمل حاجة.
لسه فاكر اللي حصل؛ كأنه من كام ساعة بَس، لما لقيت "كاميليا"؛ اللي كانت ماشية جنبي، وماسكة في إيدي، بتطير من جنبي فجأة، وبتترمى على بُعد أمتار، عشان حد مُستهتر، سايق بسرعة جنونية، دا غير إنه مكَنش في وعيه، يشيلها في طريقه.
حسيت إن الدنيا ضلِّمت حواليا، مكنتش شايف غير "كاميليا"، اللي كانت غرقانة في دمها، وبتطلَّع في الروح، وحاولت أداريها عن الناس اللي اتجمَّعت، خلعت التي شيرت بتاعي؛ وغطّيت رجليها، قرَّبت منها وأنا مُش مستوعب اللي حصل، لحد ما لقيتها بتحاول تنطق، وفي الآخر قالتلي بالعافية:
-سامحني يا "عمرو".
مكنتش عارف وقتها أسامحها على إيه؛ دي هي اللي المفروض تسامحني؛ لأني مقدرتش أحميها من واحد مستهتر، أو إني مقدرتش أمنع عنها القَدر، ورغم إن محدش بيقدر يغير في القَدر، لقيت نفسي بقولها، وأنا بحاول أتمالك نفسي من الانهيار:
-أنتِ اللي سامحيني.
في اللحظة دي؛ لقيت عينيها غمَّضت، والنَّبض اللي كان موجود عندها اختفى، حسِّيت بإيدها بقت باردة، وساعتها عرفت إن "كاميليا" خلاص، مبقتش موجودة في العالم بتاعنا، في اللحظة دي برضو، لقيت اللي بيخبَّط على كتفي وبيقولي:
-ربنا يصبَّرك؛ إحنا مِسكنا السواق.
القضية انتهت بإن السواق اتسجن فترة طويلة، لكن أنا؛ حسيت إن حياتي انتهت للأبد، لدرجة إني مبقتش قادر أقعد في الشقة اللي كنت خلاص شطَّبتها، وجهّزتها، لأن كانت كلها أيام والفَرح يتعمل، بقيت أشوف "كاميليا" في كل مكان فيها، مرة بترقص وكأنها طايرة من الفرح، ومرة ساكتة، ومرة بتبكي، ويمكن ده كان السبب إني مقدرتش أقعد في الشقة على مدار شهور طويلة، عشان كِدَه قفلتها، وروحت أجَّرت شقة في مكان تاني بعيد عن المكان اللي فيه شقتي.
الشقة اللي أجرتها، كانت في بيت واحدة اسمها الحاجة "فتحية"، كانت أوضة وصالة ومطبخ وحمام، يادوب على قدي، أو على قد أسرة صغيّرة، أنا برضو مأخدتش أي حاجة من الشقة بتاعتي، اشتريت سرير صغير، وتلاجة صغيرة، وبوتاجاز مُسطَّح بالكهربا يمشِّي الحال، أي نعم هتنفخ فاتورة كهربا كل شهر، لكن مكنش عندي أي رغبة إني أعيش أي مظاهر رفاهية، الحزن اللي جوايا أكبر من إني أحِس بأي سعادة، حتى لما كتبت عقد الشقة؛ صاحبة البيت كانت مستغربة إن مفيش معايا حاجات كتير، لكن قالتلي بعد ما مصمصت شفايفها كده:
-عيني على العُزَّاب الغلابة!
كبرت دماغي، ما هي متعرفش حاجة.
على آخر النهار، كنت استقرِّيت في الشقة، نصَبت السرير وحطيت شنطتي، وعملت كوباية شاي؛ عشان كان عندي صداع هيكسر دماغي.
لما جيت أشرب الشاي؛ قولت أشربه في البلكونة، محاولة فاشلة إني أبعد ولو لدقايق؛ عن أفكار كتير وهواجس مبعرفش أتخلَّص منها، وفعلًا وقفت أشرب الشاي، الدنيا ليل والجو كويس، وأخدت بالي إن الشقة اللي في البيت اللي قدامي، فيها بنت في البلكونة، بتنشر الغسيل، للحظة حسيت بحزن زيادة عن اللي أنا فيه، اتخيلت لو كان للقدر يعني رأي آخر، كان زمان "كاميليا" دلوقت بتنشر غسيل في بلكونة شقتنا، زي البنت دي كده.
يلا الحمد لله؛ مفيش حد بياخد أكتر من نصيبه.
كنت قرَّبت أخلَّص الشاي، في اللحظة اللي البنت رفعت فيها وشها؛ وبصَّت ناحيتي، مُش عارف ليه فضلت تبصّلي فترة طويلة، لدرجة إني استغربت، يمكن عشان الشقة كانت فاضية، وفي يوم وليلة لقت حد ساكن فيها، الناس عمومًا عندها فضول ناحية أي حد جديد، وده كان تفسيري لتصرف البنت.
على ما خلَّصت باقي كوباية الشاي، كانت البنت عينها رايحة جاية ناحيتي، بقيت حاسس إني في موقف بايخ، عشان كده أخدت بعضي ودخلت الشقة، وقفلت ورايا باب البلكونة، وكان كل اللي شاغل بالي سؤال واحد، ياترى هي بتبص عليا ليه؟!
مددت على السرير، كان كل اللي شاغل تفكيري، هو إني أقضّي فترة أجازتي اللي أخدتها، بطريقة تخليني أنسى اللي مرِّيت به، لكن لقيت نفسي بفكر في البنت اللي قدامي كتير، وسألت نفسي سؤال وقولت:
-معقول ممكن أتعلَّق بحد غير "كاميليا"؟!
أنا عارف إن الدنيا مبتقفش على حد، بس دي مش أي حد، دي كانت ولا زالت نُص الحياة اللي عايشها، أي نعم الحياة مكمّلة بعدها، بس أكيد عمرها ما هترجع زي ما كانت و "كاميليا" عايشة، لكن دا شيء مش بإيد حد، طريق ولازم نمشي فيه لحد ما يخلص، وحكاية بقى همشيه لوحدي، أو مع حد تاني غير "كاميليا"، دي حاجة لسه في عِلم الغيب.
نور الأوضة كان مَطفي، لما حبّيت أمدد على السرير قفلتُه، محاولة تانية عشان أحِس بالهدوء، الوقت كان بيفوت، ولقيت نفسي بعدها بعمل تصرَّف غريب، أنا قومت من على السرير؛ ووقفت ورا الشباك، وبدأت أبُص من بين خشب الشيش على بلكونتها!
مكنتش مستوعب أنا ليه عملت كده، لكن مقدرتش أمنع نفسي، لقيت البلكونة مقفولة والنور مطفي، والغسيل على الحبل، قولت زمانها خلَّصت ودخلِت، دا غير إني سألت نفسي سؤال تاني، وكان أغرب من اللي قبله:
-ياترى البنت دي متجوِّزة ولا لأ؟!
ملحِقتش ألوم نفسي بعد السؤال ده؛ لأن لقيت نفسي اتجمِّدت قدَّام شباك الأوضة المقفول، حتى مقدرتش التِفت أشوف إيه الصوت اللي ورايا!
الحكاية بدأت بصوت خَبطة، لما كوباية الشاي الفاضية؛ واللي أصلًا كنت حاطتها على الأرض اتخبطت، وبعدها سمعت صوتها وهي بتتكسر، ولما بلعت ريقي ومسكت أعصابي، وقدِرت أبُص ورايا أشوف إيه اللي حصل، لقيت إن الكوباية مكسورة جنب الباب، رغم أني حطيتها جنب رجل السرير، استغربت هي ازّاي راحت هناك كده، زي ما يكون حد شاطها برجله حدفها في الحيطة اللي هناك؛ فانكسرت!
الحدث كان غريب، أول مرة تحصل وأشوف حاجة زي دي، أنا طبيعتي وقناعتي؛ إن مفيش حاجة بتتحرَّك من مكانها، غير لما في قوَّة تأثَّر عليها، إيه ياترى اللي عمل كده في الكوباية؟!
بدأت أقرَّب ناحية الإزاز المكسور، الدنيا شِبه ضلمة، لكن كَسر الإزاز بيلمع في الأرض، وعليه بواقي تِفل الشاي، كان كل اللي في بالي أفتح النور، لكن اللي حصل تاني؛ خلاني معمِلش دَه.
في المطبخ، سمعت حركة، شوفتوا لما يكون حد غضبان، وبيكسَّر في كل حاجة تيجي قدامه؟ أهو اللي بيحصل كان كده.
صوت حاجات بتخبط في بعضها، وبتتكسَّر، حِلل بتترمى وأطباق بتتدشدش مليون حِتة، رِجلي أخدِتني على هناك، ورغم إن الشقة عِلبة كبريت، لكن حسيت المسافة طويلة جدًا، ولما وقفت على باب المطبخ، لقيت إن مفيش حاجة تعمل الصوت ده، المطبخ فاضي، وافتكرت كمان إني مجبتش معايا لا حِلل ولا أطباق، كل الحكاية كان برَّاد الشاي وكوبايتين، وكنت هعتمد في الأكل على أي مطعم قريب!
التفكير بدأ ياخدني، ومفيش أسوأ من إنك تحاول تفسَّر حاجة ملهاش تفسير، هو يعني قفلت شقتي وأجَّرت شقة تانية، عشان أهرب من اللي حصل معايا، فأقوم ألاقي هِنا حاجات غريبة؟!
كل الكلام ده تلاشى من دماغي؛ اللي بالمناسبة عملت error بمجرد ما سمعت صوت "كاميليا"، وهي بتقول:
-أنت فين يا "عمرو"؟!
نفس اللهجة، نفس الصوت، نفس طريقتها في الكلام، كانت دايمًا تقولي كده لما نكون سوا في سوق مثلًا، وأتوه منها أو تتوه منّي، مش عارف أحدد إن كنت مبسوط ولا زعلان ولا خايف، أخيرًا سمعت صوتها من شهور، حتى ولو كان مجرد تهيؤات أو هواجس، وده كان سبب كفاية إني أحِس بسعادة، لكن اللي بيحصل هنا مخلِّي عندي إحساس تاني، خوف من شيء مجهول، والخوف زاد أكتر، لما الصوت اتكرَّر تاني، وسألتني أنا فين، بدأت أتأكِّد إن الحكاية مش تهيؤات، أنا فعلًا سامع الصوت، اللي كان جاي من الأوضة!
تكرار الصوت؛ خلاني أرجع الأوضة وأنا حاسس إني أبطأ من سلحفاة، ولما بقيت عند باب الأوضة، وقبل ما أدخل، شوفت رِجلين واحدة سِت على السرير، زي ما تكون رايحة في النوم، أي نعم الدنيا شِبه ضلمة، بس دي حاجات يعني مش محتاجة نور عشان أتأكد منها، مستحيل أتوه عن رجلين بني آدم، بدأت أقرَّب، وأنا بحاول أشوف مين دي، أو دخلت امتى، ولما دخلت الأوضة، اتفاجأت إن "كاميليا" نايمة على السرير، بقميص بيت كُحلي!
وقفت مِبحلق، بوقي مفتوح من الصدمة، وقلبي واقع في رِجلي، لساني كان بيعاندني وأنا بحاول أنطق وأقول:
-"كاميليا"؟!
كنت فاكر إن كل ده وهم، ما أنا ياما شوفتها في شقتي قبل ما أسيبها، كانت بتظهرلي وبتختفي، قولت أكيد هتختفي دلوقت زي ما كان بيحصل.
لكن الغريبة إن ده محصلش، دي بدأت تتقلِّب، زي ما يكون حد نايم بشكل طبيعي وبيتقلِّب عادي، مجرد بس إن اللي حصل من شهور تحِس إنه كابوس وقومت منه، وإن "كاميليا" عايش وكل اللي فات محصلش، كان إحساس جميل، لدرجة حسيت فعلًا إني كنت في كابوس وصحيت، وإنها عايشة وقدامي، واللي بدأ يأكِّدلي ده، إنها فتَّحت عينيها وهي بتتقلَّب، دي كمان بصَت ناحيتي، وقالتلي:
-أنت بتبُصِّلي كده ليه يا "عمرو"؟!
حسيت إن لساني تقيل، بدأت أتلجلِج في الكلام وأنا بقولها:
-أنتِ عايشة يا "كاميليا"؟!
-أنت شايف إيه يا "عمرو"؟
-أنتِ توفّيتي في حادثة من شهور، وقدام عيني!
-حتى لو دَه حصل، أنا كنت منتظراك من زمان، ما صدقت لقيتك، عشان كِدَه أنا هِنا دلوقت.
-يعني أنتِ عايشة ولا ميِّتة؟
-هتفرق معاك؟!، المهم إنك جيت وبقيت هِنا، معايا!
كلامها كان عجيب، هي عايشة ولا لأ؟ وجيت فين؟ يعني هي اللي جَت مكان سَكني الجديد؟ ولا أنا اللي جيتلها؟!
دماغي كانت عاملة زي راكية النار، بتطقطق من الحيرة اللي كنت فيها، كنت ببُص عليها وهي ممددة على السرير، وجوايا استغراب مالوش أول من آخر، معرفش هي تقصد إيه بكلامها، الوقت بدأ يفوت وأنا واقف في حالة الاستغراب، وهي ممددة على السرير قدامي بتبصلي، وبتبتسم ابتسامة غريبة، لكن مع الوقت، الحيرة بدأت تتحول لخوف، أو يمكن كلمة خوف كانت أقل من وصف الحالة اللي بدأت أحِس بها، لما لقيت إن ملامحها بتتغير، لملامح واحدة تانية، وبعد ما بقت شخصية تانية غير "كاميليا"، بدأ لون بشرتها يتغير، كان لونه بيتحوِّل للون جِلد الفِراخ المشوية، مُش وشها بس، كل حتة كانت باينة من جسمها كانت بتتحوِّل لنفس اللون.
كنت برجع بضهري لورا، لحد ما لقيت نفسي لزقت في الحيطة، وقفت وعيني عليها، كان كل تفكيري في الوقت ده؛ إنها بتلومني على إني سيبتها تموت ومقدرتش أعمل لها حاجة، بَس ده قدر ربنا وغصب عني، الحكاية حصلت في لحظة، فضلت على الوضع ده؛ لحد ما جِسم "كاميليا" اتحوِّل لجثة محروقة نايمة على السرير، في اللحظة دي اتأكدت إن اللي مرِّيت به مكنش كابوس ولا حاجة، دا واقع أنا عايشه، وإن اللي بتظهرلي دي؛ هي روح "كاميليا"، مقدرش أقول إنها عفريتتها، أنا عمري ما أتخيل إنها يكون لها شَبح أو عفريت، هي بَس بتظهرلي كده عشان تلومني.
دي كانت قناعتي في اللحظة دي، لكن اللي كنت مستغرب منه أكتر، هي لو إن دي روحها فعلًا، ليه ظهرتلي على شكل جثة محروقة؟ هي ماتت في حادثة، ياترى اتحرقت امتى وازاي؟!
تحت أي ظرف، وتحت أي مُسمّى، مكنتش قادر أشوف "كاميليا"، أجمل إنسانة في الدنيا، وهي ميِّتة وظاهرة بالصورة دي قدامي، غمِّضت عيني، وقولت انتظر لحد ما تختفي، زي ما كان بيحصل في شقتي، ماهو أنا هروح فين تاني، شكل الحكاية هتكون أمر واقع، وطالما ظهرتلي هِنا، هتظهرلي في أي مكان تاني هروح أسكن فيه.
لكن مغمَّضتش عيني كتير، مُش عشان هي اختفت ولا حاجة؛ لأ. وأنا قافل عيني؛ حسيت بحد واقف قدامي، وِشّه في وشي، أنفاسه زي النار، كان قريب لدرجة حسيت إن المسافة بيني وبينه تشلاشت، وبقى لازِق فيا!
أخدت نَفس عميق عشان الرعشة اللي حسيت بها تختفي، وفتحت عيني، عشان أتفاجأ بجثة "كاميليا" المحروقة، واقفة قدامي، وشها في وشي، عينها مفتوحة ولونها أبيض!
مقدرتش أتحمل، لقيت نفسي بسقط في الأرض، لكن بمجرد ما وقَعت، ملقتش حاجة قدامي، الأوضة ظهرت فاضية، بس اللي استوعبته وحسّيت به، هو إن رِجلي متجرَّحة في كَسر إزاز الكوباية، اللي اتكسرت من أوِّل ما بدأت الحكاية!
بدأت أستعيذ بالله؛ ماهو اللي حصل ده أوِّل مرة أشوفه، أي نعم كانت بتظهرلي في شقتي، بس الحكاية مكنِتش بالشكل ده، كانت عبارة عن رسالة لوم خفيفة، إنما اللي شوفته من شوية ده، كانت رسالة انتقام، أو تخويف.
زي ما يكون الألم مبيظهرش غير لما تستوعب إنك مجروح، بدأت أحِس بوخز الإزاز في رِجلي، مشيت على طرف صوابعي، لحد ما وصلت لمفاتيح نور الأوضة وفتحتها، بعدها قعدت على السرير، وبدأت أسحب شوية الإزاز اللي دخلوا في رجلي، عشان أعرف أمشي، وأحاول أقف شوية في البلكونة، يمكن أنسى اللي حصل.
وأنا قاعِد على السرير، حسيت إنه مبلول، استغربت، بدأت أحط إيدي على المرتبة، واتأكدت فعلًا إن إحساسي صحيح، دا الغريب إنه مكنش مبلول مايّه عادية، لما دقَّقت؛ لقيتها حاجة زي الشاي كِده، لونها بني غامق، ولما سألت نفسي السائل ده جاي منين، افتكرت "كاميليا" لما كانت نايمة على السرير، وجثتها محروقة!
يعني كل اللي مرَّيت به مش تهيؤات؟
إجابتي على نفسي كانت لأ، كل ده واقع، لأنه سايب أثر ملموس، وفجأة؛ لقيت تفسير مقنع لكل اللي بيحصل ده.
تفسيري هو إن روح "كاميليا" كانت بتظهرلي في رسالة لوم، ولما حسَّت إني فكَّرت في غيرها، مجرد تفكير بس، رسالتها اتحوِّلت لرسالة تخويف، الست هي الست، حتى لو ميِّتة، مش هتقبل إن حد ياخد منها الإنسان اللي بتحبّه، هتعمل أي حاجة عشان تمنع ده، لو مش من باب الحُب، هيكون من باب الكرامة، و "كاميليا" كانت بتحبني، فمُش بعيد إنها بتعمل ده، عشان مفكَّرش في حد تاني غيرها!
معقول؟! إيه اللي أنا بقوله ده؟!
مشيت بالعافية، وتجاهلت الجروح اللي في رجلي، ودخلت البلكونة، وقفت أشِم شوية هوا، ونويت إني خلاص؛ مش هفكَّر في حد تاني، دا لو حياتي هتتقلب بالشكل ده؛ فأهلًا بحياة الرَّهبَنة، ولا إني أعيش اللي عيشته من شوية.
مع الوقت، نور البلكونة اللي قدامي نوَّر، وبعد ثواني بابها اتفتح، ولقيت البنت طالعة، استغربت إنها طالعة في وقت زي ده، يعني لا الغسيل لحق ينشف، ولا هي طالعة تعمل حاجة، دا مجرَّد إنها واقفة عادي في البلكونة، عينها عليا، ولا بتروح لا يمين ولا شمال، تخيلوا، أنا ياللي راجِل بقيت مكسوف، وأنا اللي بقيت أبُص في ناحية تانية؛ عشان عيني متجيش في عينيها، لحد ما لقيت مفيش قدامي غير إني ألِم الليلة، وأدخل وأقفِل البلكونة.
وفعلًا عملت كِدَه، لكن بصراحة، مقدرتِش أقفِل النور، ماهو مش هقدر أقعد في الضلمة بعد اللي شوفته.
لكن الفضول كان غلبني وسألت نفسي، هي البنت دي بتبُصّلي كده ليه؟
يمكن ده اللي خلاني أعمل نفس اللي عملته قبل كِدَه، بصّيت من ورا الشيش تاني، وساعتها شوفت نور البلكونة مطفي، والباب مقفول؛ فقولت أكيد لما لقتني دَخَلت، دَخَلِت هي كمان وقفَلِت.
غيَّرت ملاية السرير عشان المادة الغريبة اللي عليها، حطيت ملاية تانية؛ واللي شيلتها رميتها، مُش هقدر أنام عليها تاني أصلًا، وبعدها مدِّدت وأنا بفكَّر، إيه ممكن يكون شكل الحياة اللي جاية، لو كان يعني تفسيري صح، إن روح "كاميليا" هتفضل ورايا عشان مبصِّش لحد غيرها؟
التفكير أخدني، وسؤال كان بيرميني لسؤال، هو اللي بيموت يقدر يتواصل معانا؟ يقدر يمنعنا من حاجة؟ وفي الآخر استغربت من أسئلتي وتفكيري، لأني أوِّل مرَّة أفكر بالطريقة دي، لكن الواحد بيمُر بلحظات، كفيلة إنها تغير وجهات نظره كلها في ثانية.
لحد ما النوم غلبني، ونِمت، ولقيتني بعدها بصحى على هَمس في وِدني، بيقول:
-هو أنا مُش عروستك؟!
قومت مفزوع وأنا بجاوب وبقول:
-عروستي، عروستي!
لمَّا فوقت، لقيتني بسأل نفسي هو مين اللي سألني، بس أنا سمعت السؤال فعلًا، وحسيت بحد قريّب من وِدني بيسألني، ولما جاوبت، كنت فاكرها "كاميليا"، بس اتضحلس بعدها إن الصوت مش صوتها!
مكنتش أعرف إني ممكن أطلع من نُقره وأقَع في دُحديرة، يعني أسيب شقِّتي عشان كانت بتظهر فيها، أو أنا كان بيتهيّألي، عشان آجي هِنا وألاقي الموضوع أصعب مما كنت أتصوَّر!
فكَّرت أسيب الشقة، وحلال على صاحبة البيت شَهر التأمين اللي وخداه، وآخد بعضي وأمشي، لكن قولت هَستفيد إيه؟ ماهو اللي حصل في شقتي وهنا، هيحصل في أي مكان تاني.
مُش يمكن "كاميليا" غضبانة بسبب إني سيبت شقّتي؟ أو الشقة اللي كنا هنتجوّز فيها، وبتعمل كده عشان أرجع هناك؟!
محبِّتش أسيب نفسي لدماغي، قولت أنزل أتمشّى تَحت، وفعلًا لبِست شبشبي، ونزلت بالتريننج، ماهو مكنش في نيّتي أمشي بعيد عن البيت، ولما بصّيت في ساعتي؛ لقيت إن الفَجر خلاص أوشَك، نزلت ومكنتش عارف أروح فين، الدنيا ليل والناس نايمة، لكن لقيتني برفع عيني على بلكونة الشقة اللي قدامي، اللي كان نورها مطفي، وبابها مقفول، والغسيل مكنش موجود.
آخر مرَّة البنت دخلت؛ كان لسه الغسيل زي ما هو، هي لحقت تشيله إمتى؟ ولحق ينشف ولا لأ؟!
محبِّتش أشغل بالي بتصرّفات واحدة مجنونة، كفاية اللي أنا فيه، عشان كِدَه بدأت أتحرَّك، لحد ما وصلت أوِّل الشارع، وهناك لقيت راجل كبير، قاعد على مصطبة قدام بيت، تقريبًا كان بيستعِد إنه يروح يصلّي، من باب الأدب؛ رميت عليه السلام، لكن الراجل بعد ما رد التَّحية، لقيته بيقولي:
-بتدوَّر على حد يابني؟
سؤاله كان غريب، لكن اتعاملت مع السؤال، من باب إن الناس الكبيرة أحيانًا بيكون لها أسئلة كده غريبة، ويمكن لأنه أول مرَّة يشوفني، ولقيت نفسي بقوله:
-لأ يا حاج مش بدوَّر على حاجة، هو أنت بتسأل ليه؟
-أصلك غريب عن المنطقة، وغريبة إنك ماشي بتبُص هِنا وهِنا في وقت زي ده.
لاحظت فعلًا إني كنت بلتفت حواليا، اللي مرِّيت به كان مخلّيني أعمل كِدَه غصب عني، ولقيتني بقوله:
-فعلًا أنا أول يوم ليا هِنا في الشارع، أنا ساكن جديد.
-ساكِن فين يابني، دا مفيش شقة بتتأجر هِنا، غير شقة الحاجة "فتحية".
-أيون ماهو أنا ساكِن فيها، أول يوم ليا النهاردة.
-وياترى إيه اللي منزّلك، دا حتى الفَجر لسه مأذِّنش؟!
-هو تَحقيق يا حاج؟
معرفش ازّاي ردّيت عليه رد عنيف بالشكل ده، لكن استفزّني، أنا مُش ماشي في بيته يعني، دا شارع ومن حق أي حد يمشي فيه، لكن لقيته بيرُد على كلامي بطريقة لطيفة، زي ما يكون بيحاول يقولي إنه مُش بيتطفَّل عليا، وده فهمته لمّا قالي:
-يعني مُش لاقي من شقق المنطقة غير شقة الحاجة "فتحية"؟
كلامه خلاني أستفسر منّه أكتر وقولتله:
-مالها الشقة يعني؟ على قدّي وإيجارها مناسب.
-بُص يابني، هنصحك نصيحة لوجه الله.
-خير يا حاج!
-سيب الشقة دي وامشي، مفيش حد كان بيعمَّر فيها.
-تقصد إيه بكلامك ده؟!
-هو مُش قطع أرزاق ولا حاجة، ولكن من باب الأمانة، والعيب مُش في الشقة، العيب في الشقة اللي قدامها.
الكلام نزل على وداني زي الصاعقة، وده اللي خلاني أقوله:
-مُش فاهم، إيه علاقتها بالشقة اللي قدامها؟!
-الحكاية من حوالي 10 سنين، بنت جميلة اسمها "سَمر"، كانت ساكنة في الشقة دي، وفي الشقة اللي أنت ساكن فيها، سكن فيها ناس على قد حالهم، كان عندهم ولد، شاب كويس، البنت اتعلَّقت به، وكانت بتقف قدامه في البلكونة، وكان في كلام خلاص إنهم هيتخطبوا، حتى الولد لما كان بيتكلّم معايا في مرَّة، كان بيقول على "سَمر" عروستي، ولسبب ما، ربنا بس اللي يعلمه، إن أنبوبة البوتاجاز تنفجر في البنت، وتموت محروقة، وهي متعلَّقة بالولد، ومع الوقت أبوها وأمها سابوا الشقة، لأن البنت كانوا بيقولوا، والله أعلم يعني إنها بتظهر بعد ما ماتت، بشكل مُخيف، روحها متعلَّقة في المكان، ماهو اللي بيموت في حادثة أو محروق بيبقى كِدَه يابني، وبعدها الناس اللي كانوا ساكنين مكانك، سابوا الشقة، لأن الولد بدأ يشوفها برضو، وبتظهر قدامه بشكل يخوِّف، ومن بعدها، محدش راضي يسكن في الشقة اللي اتحرقت فيها البنت، لأن الناس بتعتبرها شؤم، دا غير إن أي حد بيسكن في الشقة اللي أنت فيها، كان بيسيبها، لأن روح البنت متعلَّقة في المكان اللي كان فيه الإنسان اللي اتعلَّقت به، ناس كتر سكنت مكانك، وشاب ورا التاني، قالوا إن في واحدة محروقة بتظهرلهم، وبيسمعوا صوت بيسألهم وبيقول:
-هو أنا مُش عروستك؟!
الدنيا بدأت تلِف بيا، مكنتش مستوعب اللي بسمعه، أكيد الراجل ده كبير وبيخرَّف، حاولت أنهي معاه الكلام، بس من غير ما أقوله حاجة تزعّله، أو يحس إني بستهزأ بكلامه، وسيبته ومشيت.
لما الفجر أذِّن، روحت صلِّيت ورجعت على الشقة، ولما دخلت الأوضة، فضولي جابني أبُص من ورا الشيش، ولقيتني ببلع ريقي، اللي نِشف فجأة وكأني مشربتش من سنين، لما لقيت إن بلكونة الشقة اللي قدامي، مقفولة، وفيها آثار حريق، مكنتش شايفه ولا واخِد بالي منه، ولا عارف إيه اللي كان عامي عيني عنه!
يعني اللي ظهرتلي دي مُش "كاميليا"؟
ازّاي مقدرتش ألاحظ إن قميص البيت الكحلي، اللي شوفت "كاميليا" لابساه على السرير، كان نفس اللي البنت لابساه، لما شوفتها كام مرة في البلكونة؟ وازّاي مقدرتش أربط بين الشبه لما ملامح "كاميليا" اتغيَّرت؛ لملامح واحدة تانية، إنها كانت نفس البنت اللي شوفتها برضو في البلكونة؟! ازّاي كل ده كان تايه عن بالي؟!
بقى واضح جدًا إن كلام الراجل صحيح، أنا كل اللي شوفته ده كان مجرَّد إن روح البنت، اللي هي "سَمر"، كانت بتخلّيني أشوفه، ومش عارف يمكن عشان اتعلَّقت بالولد اللي كان ساكن هنا قبل ما تموت محروقة، بتظهر لكل واحد بيسكن هنا، يعني لو كانت شايفة إنه ممكن يكون مناسب لها؟! دا حتى نفس الكلام اللي الراجل قاله؛ حصل معايا، أنا اتسألت نفس السؤال، وجاوبت وقولت "عروستي"!
مفكَّرتش كتير، بمجرَّد ما النهار طلع، وسمعت باب شقة الحاجة "فتحية" بيتفتح، نزلت بلَّغتها إني هسيب الشقة، كلامها كان بيأكد برضو على صحة اللي الراجل قاله، لما قالتلي:
-والله يابني مش عارفة الشقة دي منحوسة كده ليه؟ كل اللي يسكن فيها يوم والتاني يسيبها، بيقولوا فيها حاجة مش مظبوطة، وإن فيها عفاريت، يابني ما عفريت إلا بني آدم!
محبتش أعلَّق قدامها كتير، ولا حتى طلبت منها شهر التأمين اللي أخدته، لكن الحق يتقال يعني، لقيتها مطلَّعة فلوس التأمين، بنفس التطبيقة بتاعتهم، وبتقولي:
-خد فلوسك يابني، ربنا يعوَّض بساكن تاني، وينفخ في صورته، ويعمَّر شوية.
زي ما سكنت في الشقة خلال يوم، سيبتها برضو خلال يوم، كان كل تفكيري هو يعني إيه أرواح معلَّقة؟ يعني زي ما البنت اللي اسمها "سَمر" ظهرت، كانت "كاميليا" برضو بتظهر؟ ماهي ماتت في حادثة، وكلام الراجل قال إن اللي بيموت بطريقة مش طبيعية، روحه بتفضل متعلَّقة، الله أعلم بقى علطول ولا لفترة محددة، دي مُش قصِّتي.
محبّتش أدوَّر على شقة تانية أسكُن فيها، أنا شوفت في الشقة دي اللي مش هشوف أصعب منّه، في حين إن في شقتي، كانت "كاميليا" بتظهرلي على مدار شهور، لكن عمرها ما اتعرَّضتلي، وطبعًا أنا بقول كده، لما اتأكّدت إني كنت بشوف "كاميليا" فعلًا، مش مجرَّد تهيؤات، لأن روحها حسب اللي شوفته، لسّه متعلَّقة بيا، أو بشقّتنا، فقولت في نفسي: أنا ليه أهرب من روح إنسانة كانت في يوم من الأيام، بتحبّني وأحبّها؟! عشان كِدَه، رِجعت شقّتي، أو بمعنى أدق، شقّتي أنا و "كاميليا" الله يرحمها!
..
بالحق، نسيت أقول حاجة بسيطة قبل ما أنهي الحكاية..
لمَّا رجعت شقتي، والتعب غلبني ونمت، صحيت على صوت، بَس المرَّة دي كان صوت "كاميليا"، وكانت بتسألني سؤال مُش غريب عليا، وبتقولي:
-هو أنا مُش عروستك؟!
وزي ما حصل قبل كِدَه، صحيت مفزوع من السؤال اللي كان بيتردد من غير ما تظهرلي، وكنت بجاوب وأقولها:
-عروستي، عروستي!
***
تمت