آخر الموثقات

  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  • إيران من الداخل بعد الحرب.. 
  • معضلة فهم الحرب على إيران
  • نصر سياسي ايراني
  • قصة قصيرة/ وصاية الظل
  • ق ق ج/ سرُّ الشجرة والقوس
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شحاتة
  5. عنبر الولادة

ليلتها وضعت مولودي الأول، ثم أودعوني حجرة المتابعة لسوء حالتي، سأمكث ها هنا ما يقرب من أسبوع، هكذا قال الطبيب.
أمي وهي كبيرة في العمر كانت مرافقتي، ولحسن الحظ أن عنبر الولادة حينها لم يكن مزدحمًا، لذلك كان السرير المقابل لسريري في الغرفة التي أودعوني بها شاغرًا، لتجلس عليه أمي وهي تتابعني لحظة بلحظة.
أثناء نقلي إلى حجرة المتابعة، كنت قد بدأت في استرداد وعيي قليلًا؛ لقد ذهب مفعول المخدّر وبدأت أشعر بوخز جرح الولادة وآلامه، لكن ذلك لم يمنعني من الاحتفاظ بصورة، ولو مشوشة عن العنبر.
فوق نقّالة المرضى، دفعتني ممرضة بدينة عبر ممر طويل، صرير عجلات النّقالة كان مرتفعًا، أثار انتباهي رغم أني لم أفق تمامًا من المخدّر، كانت عيناي المشوشتان تنفتحان بصعوبة، ذلك لأن بجانب تأثير المخدّر كانت الإضاءة البيضاء في السقف، تصفعهما كلما مررنا أسفل لمبة.
أبواب الغُرَف التي نمر أمامها كانت مفتوحة ومظلمة من الداخل، دفعتني الممرضة حتى آخر غرفة في الممر، أدخلتني إليها فوجدت أمي في انتظاري، اتكأت عليهما كي أستطيع النزول من فوق النقّالة والتمدد فوق السرير، لا أعرف لماذا أودعوني الغرفة الأخيرة من الممر، رغم أن كل غرف العنبر كانت شاغرة، هكذا رأيت.
خرجت الممرضة وهي تجرُّ النّقالة، ثم أوصدتِ الباب خلفها، جلست أمي بجانبي تجفف قطرات العرق التي تنبت فوق جبهتي، سألتها عن طفلي فأخبرتني أنه في الحضّانة، أغمضت عيني لمّا شعرت بدوران في رأسي، ثم قامت أمي بإغلاق نافذة الغرفة التي تطلّ على مساحة يغمرها الليل، وأشجار الكافور.
لم أسمع صوت خطوات في الممر، ولا صوت باب يُفتح أو يُغلق، سوى باب غرفتنا الذي دفعته ممرضة غير تلك التي أتت بي إلى هنا، تحمل في يدها زجاجة محلول قامت بتعليقها في الحامل المُثبّت بجواري وإيصالها بالكانيولا التي في يدي، سمعت أمي تسألها:
-هل أنتِ معنا هذه الليلة؟
أجابت، وهي تُكمل ما أتت من أجله:
-أنا نوبتجية هنا الليلة.
جرَّت أقدامها مغادرةً الغرفة ثم أوصدت الباب، وقفت أمي أمام النافذة الزجاجية المغلقة تتأمل الليل في الخارج، ساد صمت رهيب، أشجار الكافور العالية تتمايل بهدوء كلما دفعها الهواء بين الحين والآخر، قالت وهي تنظر إلى الليل يحكم قبضته على الدنيا:
-في السابق كان قسم الولادة في أول المستشفى، لا أعرف لماذا قاموا بنقله إلى هنا، أشعر وكأننا في مكان مقطوع، لا شيء غير حديقة المستشفى والسور الذي يحيط بها، والأراضي الزراعية على امتداد البصر والتي تبدو ككتلة مظلمة في الليل.
لم أعلّق على ما قالته أمي، كل ما استحوذ على تفكيري هو طفلي الذي لم أره، ووخز جرحي الذي اشتدّ منذ أن أرخيت جسدي فوق السرير، أغضمت عيني مرةً أخرى فظنّت أنني نائمة؛ لذلك تركت النافذة وتمددت هي الأخرى فوق السرير المقابل لسريري، وبعد فترة قليلة من الصمت، سمعت أنفاسها وهي تعلو بعد أن غاصت في يمٍّ من النوم.
أيقظنا طرق خفيف على الباب، قامت أمي من نومها، وحاولت أن أرفع رأسي كي أرى من سيفتح الباب ويدخل، ولكن شيئًا لم يحدث، عاد الطرق مرة أخرى، نظرت إلى أمي فقالت:
-ربما هي الممرضة.
قلت بصوت خافت من شدة الإعياء:
-ولماذا تستأذن الممرضة في الدخول؟
قامت أمي واقتربت من الباب، سألت بصوت حذر، وهي تمسك بمقبض الباب عمن بالخارج، لم يأتها رد، عاد الطرق للمرة الثالثة ففتحت الباب قليلًا، نظرت إلى من بالخارج ثم قالت:
-تفضّلي.
دخلت بقميصها الأبيض، وطرحتها البيضاء التي تفصح عن منبت شعرها الأكثر سوادًا من الليل، وبوجهها الأبيض المفعم بالحُمرة، لاحظت أنها ترتدي نفس قميصي وطرحتي، فعرفت أنها إحدى نزيلات عنبر الولادة، سلّمَت على أمي، فبادلتها السلام وزادت عليه قُبلتين، هكذا هم الأمهات دائمًا، ثم اصطحبتها حيث تلك المسافة بين السريرين، ربتت على صدري وقالت:
-حمدًا لله على سلامتك، أنا انتصار.
جاهدتُ في رد تحيتها، فأردفت:
-لا ترهقي نفسك، لم تعد إليكِ عافيتك بعد.
قطعت أمي حديثها بسؤال مفاجئ:
-وأنتِ يابنيّتي، منذ كم يوم وضعتِ مولودكِ؟
قالت مبتسمة:
-منذ ثلاثة أيام فقط، أنا في الغرفة المجاورة لكما.
قالت أمي بفطرتها المعهودة:
-الحمد لله على سلامتك.
جَلَسَت فوق السرير بجوار أمي، أخذهما الحديث عن أشياء كثيرة، عنبر الولادة القديم قبل أن ينقلوه إلى المبنى الأخير من المستشفى، أشجار الكافور التي تتمايل في الخارج، حتى عن لحظاتها الأولى قبل دخولي غرفة العمليات والخوف الذي كان يعتريها، تحدَّثت أمي معها وكأنها تعرفها منذ سنوات طويلة، كنت أستمع ولا أعقّب، فما يسري في جسدي من ألم يعتصرني كان كفيلًا أن يجعلني أصمت.
دخلت الممرضة دون أن تطرق الباب، حينها علمت أنها الثانية صباحًا، ذلك هو موعد أخذ المُسكّنات قبل أن تنفد قدرتي على تحمل الألم، قامت انتصار واقتربت منّي، ربتت على صدري وهي تعدني بالمجيء مرة أخرى للاطمئنان على حالتي، تعجَّبت لمّا رأيتها تسير بكل طاقتها وكأنها لم تحمل جرحًا في بطنها كالذي يفقدني القدرة على الحركة، لقد وضعت طفلها منذ ثلاثة أيام بحسب ما قالت؛ لذلك فإن جرحها لم يلتئم بعد حتى تسير هكذا وكأنها لا تشعر بشيء، ربما هناك أناس أقوياء لهم قدرة عالية على احتمال الألم وتجاهل الإحساس به.
أوقف جريان تفكيري مزاح الممرضة مع أمي، مذ دخلت وهي لم تكف عن الحديث معها، حتّى أنها قالت نكتة فجلست أمي فوق السرير من شدة الضحك، وكتمتُ ضحكتي كي لا تزيد من ألمي فتنقلب إلى صرخات، لكن ما أثار انتباهي، هو تجاهل الممرضة الغير مبرر لانتصار قبل أن تغادر الغرفة!
أنهت الممرضة متابعة حالتي وانصرفت، بعد أن أغلقت الباب سمعت خطواتها في الممر الخارجي وهي تبتعد، ثم طغى السكون مرة أخرى، وقفت أمي تنظر من النافذة الزجاجية إلى الظلام وأشجار الكافور الصامتة، ثم أفزعنا وابل من الصرخات التي جاءت من الممر.
كانت صرخات عالية، ومخيفة، صادرة عن امرأة ما تستغيث، الممر أيضًا قام بدوره، فقد قام بتضخيم الصرخات إلى الدرجة التي جعلتني أستند إلى ذراعيَّ رغم الألم وأنا أحاول الجلوس، وجعلت أمي تسير ناحية الباب وتُنصت بأذنيها للخارج، ثم فتحت الباب وخرجت إلى الممر، ثم عادت دون أن تجد شيئًا.
عادت أمي، كنت لا أزال أستند إلى ذراعيَّ أنتظر ما سوف تخبرني به، لمّا أغلقت الباب قلت:
-من التي تصرخ؟
قالت أمي وهي تجلس فوق السرير:
-لا أحد، حتى أنني حاولت فتح باب غرفة انتصار كي أطمئن عليها فوجدته مغلقًا بالمفتاح، ربما نامت وأغلقت الباب من الداخل.
أرحت ظهري فوق السرير مرة أخرى، وأنا أقول:
-ربما هناك من تستعد للولادة، وتعاني آلام الطلق.
أطفأت أمي النور واستلقت فوق السرير، الآن تتساوى الغرفة في الظلام مع المنطقة الخالية التي تطل عليها النافذة الزجاجية، فيما عدا بصيص ضوء شاحب يتسلل من الفراغ الضئيل الذي يتركه باب الغرفة من الأسفل، سمعت أنفاس أمي تعلو مرة أخرى، جذبها النوم سريعًا كعادتها، أبقيت عينيَّ مفتوحتين بعد أن شعرت بوخزات الجرح تتضاءل، فكّرت في طفلي الذي ينام الآن في قسم آخر، بمجرد أن أقوى على السير سأذهب إلى الحضّانة لأحتضنه.
صوت أقدام تهرول في الممر بالخارج، وأصوات متداخلة ببعضها تحثُّ الناس على الإسراع بالمغادرة، انتظرت أن يطرق أحد باب غرفتنا ويطلب منّا أن نغادر، لكن لم يقترب أحد من غرفتنا، تُرى ماذا يحدث؟
لو أن أمي مستيقظة لخرجت تستطلع ما يدور، حاولت إيقاظها دون جدوى، لقد سلبها التعب قدرتها على الاستجابة السريعة.
لازالت الأقدام تهرول، والأصوات تتداخل، لم يكن هناك جديد سوى أن عادت الصرخات مرة أخرى، فازداد الأمر غموضًا، وازددتُ خوفًا.
سمعتُ صوت مقبض الباب وهو يدور، ثم صريره ويد تدفعه ببطء من الخارج، كانت عيناي شاخصتين تترقبان من سيدخل، في ظلام الغرفة الذي يغمر الأركان لمحت يدًا تتسلل من فتحة الباب الصغيرة، ثم تتجه صوب الحائط المجاور له كي تضغط زرَّ الكهرباء، أضاءت الغرفة ودخلت انتصار، حينها لم أسمع شيئًا بالممر مما كنت أسمعه.
هدأتُ قليلًا لما رأيتها تدخل بوجهها المبتسم، عاودت التقاط أنفاسي بأريحية، ربتت على صدري ثم اقتربت من سرير أمي النائمة لتجلس على حافته، سألتها:
-ما هذه الضوضاء؟
قالت بوجهها المبتسم:
-إنه شيء معتاد كل ليلة.
-وماذا يحدث كل ليلة؟
-لا شيء، كل ما في الأمر أن الأوان قد فات.
سألتها وعلى وجهي دهشة:
-أوان ماذا؟
قالت وهي تهمُّ بالقيام:
-لا تشغلي بالك، اهتمي بصحتك فقط.
أغلقت الباب خلفها بهدوء بعد أن أغلقت زر الكهرباء، فعادت الغرفة إلى ما كانت عليه من ظلام، وما إن غادرت حتى عاد ما كنت أسمعه في الممر، بقيت هكذا أستمع إلى ما يدور في الخارج وأنا أنظر لأمي النائمة على السرير المقابل، استدرت برأسي قليلًا فرأيت السماء من النافذة الزجاجية، لازالت مظلمة، ثم لم أشعر بعد ذلك بشيء.
أزعجني ضوء الشمس، وهو يخترق زجاج النافذة فاستيقظتُ، كانت أمي واقفة بجوارها تنظر إلى حديقة المستشفى والأراضي الزراعية الممتدة على مساحات شاسعة، لمّا انتبهت إليَّ اقتربت، ربتت على صدري، وهي تقول بصوت حنون:
-صباح الخير.
قلتُ:
-صباح النور.
ثم استدارت ناحية سريرها وأزاحت عن طبق صغير غطاءه، كان به ربع دجاجة مسلوقة، حملته وقرَّبته منّي وهي تقول:
-لابدَّ أن تأكلي.
أبعدتُ يدها رافضة، لم أستعد شهيتي بعد، جادلتني وانتزعت قطعة صغيرة من الدجاجة كي تدسها في فمي وهي تحاول إقناعي، أبعدتُ يدها مرة أخرى، ظللنا نتجادل حتى دخل الطبيب برفقته ممرضة لم أرها من قبل، اطمأن على حالتي ودوَّن بعض ملاحظاته في التقرير الذي يحمله، بعدها دخلت الممرضة البدينة التي دفعت النقّالة وأودعتني تلك الغرفة، أوصاها الطبيب ببعض الإجراءات التي تستلزمها حالتي ثم انصرف.
لم أسمع صخبًا في الممر الخارجي طوال اليوم، عكس ما يجب أن يحدث، فقط بعض الزائرين الذين أتوا للاطمئنان على حالتي، قلتُ لأمّي:
-لماذا لا يزور أحد غرفة انتصار؟
لم تهتم أمي لسؤالي، طالبتني ألا أفكر إلا في صحتي، دخلت الممرضة لتنفّذ التعليمات التي أوصاها بها الطبيب، أنهت ما أتت من أجله ثم غادرت، وتمددت أمي فوق سريرها، بعد أن يئست من محاولات إقناعي لتناول الطعام.
مرَّ اليوم هادئًا، وأخذ النهار يتلاشى تاركًا السماء في قبضة الليل، لم يكن هناك سوى مجيء الممرضة بين الحين والآخر، ثم انتبهنا إلى صوتها وهي تتحدث إلى ممرضة الليل أثناء تسليم النوبتجية، ثم تذكرت عدم مجيء انتصار طوال اليوم، نظرت إلى أمي التي تجلس محملقة في ظلام النافذة، وقلت:
-لم تظهر انتصار اليوم.
قالت أمي:
-ربما غادرت المستشفى.
كانت الساعة قد تعدّت الواحدة صباحًا، وكان الظلام يحكم قبضته على الغرفة بعد أن أطفأت أمي النور واستسلمت للنوم ظنًّا منها أني نائمة، حينها عادت الصرخات في الممر خارج الغرفة، وعاد دبيب الأقدام.
سمعتُ صرير باب الغرفة وهو يُفتح ببطء شديد، ظلَّ الباب يُفتح حتى فُتِحَ عن آخره تمامًا دون أن يكون هناك أحد أمامه، تخشَّبتُ في مكاني، وأنا لا أستطيع أن أبعد عينيَّ عن الباب، لا أعرف أين ذهبت قدرتي على الكلام فأصرخ في أمي كي تستيقظ، لم تمر ثوانٍ حتى انطفأ نور الممر وأصبح المكان مساحة شاسعة من الظلام، حينها رأيت بالباب ما يشبه عينيَّ قط مضيئتين.
تجمَّدتُ في مكاني وأنا أنظر لهاتين العينين المضيئتين، أحسست ببرودة تسري في أطرافي، حاولت تحريك أقدامي فلم تنصفني قوّتي، وما زاد من هلعي هو أنني رأيت العينين تقتربان منّي ببطءٍ، أو ربما خوفي هو من هيّأ لي ذلك.
لا، لم تكن تهيؤات، لقد كانتا تقتربان منّي فعلًا، وبعد وقت لم أدر كم هو أصبحتا قريبتين من سريري، أحسست بأنّي قد أمسك بهما إذا مددتُ يدي، لكنني لم أجرؤ على فعل ذلك.
من الباب الذي لازال مفتوحًا على الممر، تسرَّب ضوء أحمر ممزوج بالدخان، ظلَّ يتسرَّب إلى الغرفة حتى امتلأت واستحال ظلامها إلى ضوء أحمر تتخلله خيوط الدخان التي تتلاشى لتحل مكانها خيوط أخرى، عاودت النظر إلى العينين القابعتين بجانب سريري لتصيبني صاعقة صرخت على إثرها، لكنها صرخة لم توقظ أمّي الغائبة في عالم النيام.
لمّا كسرَ الضوء الأحمر عتمة الغرفة، رأيت العينين القابعتين بجانب سريري بوضوح، لقد كانتا عينيَّ انتصار، تنظران نحوي في ثبات مخيف، وتتوسطان رأسًا أشعث الشعر يتحرك فوق الأرض دون جسد، ثم لم يمضِ وقت طويل حتى رجع الرأس إلى الوراء ببطءٍ كما جاء، ظلَّ يتراجع نحو الباب إلى أن خرج منه إلى الممر، باتجاه غرفة انتصار.
أُغلِقَ الباب من تلقاء نفسه، وتلاشى الضوء الأحمر والدخان واستوحشت العتمة، واستوحش الخوف بداخلي، أحسست بقطرات العرق الباردة تبلل وجهي حينما فُتِحَ الباب مرة أخرى، لكن تلك المرة كانت ممرضة الليل هي التي دخلت لمتابعة حالتي حسب المواعيد التي حددها الطبيب، ضغطت زرَّ الكهرباء فأنارت الغرفة، واستيقظت أمي التي جلست بجواري تجفف عرقي الذي لم تكن تعرف سببه.
قالت أمّي للممرضة، وهي تسجّل بعض البيانات في ورقة المتابعة:
-لماذا تتعرّق هكذا؟
قالت الممرضة دون اكتراث:
-ربما هبوط، لابدَّ أن تأكل.
أومأت أمّي برأسها، وهي تعلّق على حديث الممرضة:
-هي لم تأكل فعلًا.
حينها دخلت انتصار وجلست بجواري، لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أرى تجاهل الممرضة لها، رغم أني رأيت عين انتصار تقع عليها كثيرًا، ورغم أن أمي قابلت مجيء انتصار بالترحيب، إلا أنها لم تنظر إليها ولم تردّ تحيتها أو تبادلها كلمة واحدة، قلتُ ربما قد اختلفتا من قبل أو تشاجرتا، لكن ماذا بين مريضة وممرضة؛ ليحدث بينهما ما يمنعهما تبادل التحية؟
كان ذلك هو اليوم الثالث لي، والسادس لانتصار حسبما قالت منذ ثلاثة أيام لأمي، لم تأتِ إلى غرفتنا وهي تحمل طفلها قط، كذلك لم تزُرني في الصباح، كانت زيارتها دائمًا في الليل، وأذكر الآن أنها علَّقت على الصرخات التي أسمعها كل ليلة في الممر بأن ذلك هو المعتاد، لقد حاولت أمي أن تفتح غرفتها أكثر من مرة، لكنها كانت دائما ما تجدها مغلقة، وكنت أفسّرُ ذلك بأن طفلها قد يكون في الحضَانة وتقضي النهار بجانبه، والآن ينتابني خوف شديد، لم تغب صورة الرأس التي تشبه انتصار إلى حد كبير من أمام عيني، ولم تذهب نظراتها المخيفة التي كانت تتربص بي منذ وقت قصير عن بالي.
كانت انتصار تجلس بجوار أمي تتبادلان الضحكات، دار بينهما حديث لم أنتبه إليه، لقد جذبني التفكير في أمر انتصار إلى بُعدٍ آخر، وسألت نفسي سؤالًا، لماذا رأيت الرأس التي أظهرها الضوء الأحمر بجوار سريري شبيهًا بوجه انتصار؟
بل كانت هي انتصار بكامل ملامحها، لقد نزعت غطاء رأسها ذات مرة، وهي جالسة فبدا شعرها نفس الشعر الذي يكسو الرأس، لماذا جاء الشبه بينهما متقاربًا حدَّ التطابق، أم أنّ انشغال ذهني بها هو ما جعل عقلي الباطن يُخيّلُ إليَّ ذلك.
ملمس يدها فوق جبيني نبّهني، فتحت عينيَّ فوجدتها واقفة بجواري، بادلتني حديثًا مختصرًا وهي تهمُّ بمغادرة الغرفة، وما إن اقتربت من الباب حتى التفتت نحوي، وقالت:
-الليلة هي الأخيرة التي سترقدين فيها بالسرير، بعدها سوف تستطيعين الحركة.
ثم انصرفت وأغلقت الباب خلفها، نظرت إلى أمي، وأنا أنتظر منها تعقيبًا على كلمات انتصار لي، لكنها لم تعقّب سوى بكلمتين، حينها نظرت لي، وقالت:
-بنت حلال.
الشمس ساطعة جدًا في الصباح، أشعتها التي اخترقت زجاج النافذة وملأت الغرفة أيقظتني، رأيت أمي جالسة فوق سجادة الصلاة، يبدو أنها ظلت جالسة هكذا بعد ركعتيّ الضحى، لمّا رأتني أقوم من السرير قامت لتساعدني، لكني وجدت لديَّ القدرة على القيام دون مساعدة، لقد اندمل جرح بطني الذي سلبني قوتي لثلاثة أيام متتالية، تابعت سيري حتى باب الغرفة بحذر خوفًا أن يفاجأني الألم، نعم شعرت ببعض الألم، لكنه ليس بالقدر الذي يمنعني من السير، تذكَّرت كلمات انتصار لي قبل أن تغادر الغرفة ليلة أمس، أصابتني بالحيرة، لكنها سبقتني بهذه التجربة من قبل، ربما استطاعت السير بعد ثلاثة أيام، لذلك توقّعت أن ذلك سوف يحدث معي أيضًا.
خرجتُ مِنَ الغرفة وسِرتُ في الممر، أول ما قابلني هو باب غرفة انتصار، كان مغلقًا فوقفتُ أمامه، طرقته وانتظرت كي تجيبني لكني لم أسمع صوتًا بالداخل، أمسكت بمقبض الباب، وأدرته كي ينفتح فوجدته مغلقًا بالمفتاح، قلتُ ربما ذهبت إلى الحضّانة كي تجلس إلى طفلها.
لم تكن مغادرتي الغرفة بمجرد أن استطعت السير لتفقد غرفة انتصار، بل كان السبب اشتياقي لرؤية طفلي، تابعت السير عبر الممر، كانت الغرف على الجانبين خالية كما رأيتها، وأنا فوق النّقالة تحت تأثير المخدّر، إلا من غرفتين كل منهما كان بها حالة ولادة جديدة، حينها تعجبت من ذلك الصخب، والصرخات التي أسمعها بعد منتصف الليل، إذا كان الممر هادئًا في الصباح، فمن الأولى أن يكون أكثر هدوءًا في الليل.
في نهاية الممر وجدت باب الحضّانة، دخلت متلهفة، قرأت الأسماء المكتوبة فوق سرير كل طفل، كان كل طفل مكتوب فوقه اسم أمه، بحثت حتى وجدت اسمي، فوقفت أتأمل ملامح طفلي، كان يشبهني إلى حد كبير.
قضيت معظم النهار بجانب طفلي ولم أجد أثرًا لانتصار، حتى جاءت أمي تناديني، مشيت بجانبها في الممر حتى الغرفة، كانت غرفة انتصار موصدة كعادتها، فظننا للمرة الثانية أنها ربما غادرت المستشفى، ونسيت أن تخبرنا قبل مغادرتها.
أيقظتني الصرخات ودبيب الأقدام في الممر، تلك المرة كانت لدي القدرة على القيام، مشيت في ظلام الغرفة ولم أقم بإنارتها كي لا تستيقظ أمي، فتحت الباب برفق ونظرت في الممر، كانت انتصار تجري مكشوفة الرأس وهي تصرخ، تتخبط بجسدها في جدران الممر، هالني ما رأيت فجريت خلفها، تجاوزت الممر وانحدرت يمينًا نحو السلم فتبعتها، لكن ما إن انحدرْت نحو السلم حتى وجدته خاليًا بعد أن انقطعت الصرخات ودبيب الأقدام عنده، أكملت نزول درجات السلم حتى الباب الخارجي، علّني أجدها بالأسفل، لكن كان المكان خاليًا إلا من حارس أمن وبعض ممرضات نوبتجية الليل.
صعدتُ السلم مرة أخرى، في طريقي إلى غرفتي نظرت إلى باب الحضّانة فوجدته مغلقًا، أكملت سيري في الممر، وقفتُ أمام باب غرفة انتصار، أدرت مقبضه فلم ينفتح، يا إلهي، كيف يكون الباب مغلقًا من الداخل، وقد رأيتها تجري أمام عينيَّ في الممر؟!
دخلت إلى غرفتي التي لازالت مظلمة، لكن ضوء الممر كان قد كسر العتمة قليلًا، اقتربت من السرير لكني تجمدت في مكاني، أصابتني عاصفة ثلجية كان مصدرها قلبي الذي يرتجف، شخصت عيناي على الأرض بجوار السرير، حينما رأيت الرأس الذي يحمل ملامح انتصار، كان ينظر لي بعينيه المضيئتين كعينيّ قط تلمعان في الظلام.
غادرت الغرفة بعد أن نهشني الخوف، لم أكن أعلم لأين أهرب، لكنني بمجرد أن خرجت إلى الممر تجمدت في مكاني مرة أخرى، وأصابتني عاصفة ثلجية أكثر زمهريرًا من التي سبقتها، لقد كان الرأس ينتظرني في الممر، أمام باب غرفة انتصار.
اليد التي أمسكت بكتفي من الخلف أصابتني برعشة كادت تسقطني أرضًا، نظرت خلفي فرأيت أمي، قالت:
-لماذا تقفين هكذا؟
لم تكن لديَّ إجابة، فقلتُ:
-ربما بعض الملل.
قضيت الليلة مستيقظة، كلما حاولت النوم راودني الخوف وافترستني هواجسي، لكن أمي حملها بِساط النوم سريعًا، جلست فوق سريري، وأنا أنظر للنافذة التي تطل على مساحة شاسعة من الظلام وأشجار الكافور، وظللت هكذا أقتسم مع الغرفة ظلامها وسكونها، أختلس النظر بين الحين والآخر إلى الأرض بجوار السرير، أتأهب للفرار إذا فاجأني الرأس مرة أخرى، لكن شيئًا لم يحدث.
استيقظت أمي مع أذان الفجر الأول، أضاءت نور الغرفة فعدّلت من جلستي، سألتني عن سبب استيقاظي، فلم أرد أن أخبرها بشيء أيضًا، لكني اكتفيت بأن قلت لها:
-ربما لأننا سنغادر اليوم.
أشرقت الشمس وجاءتنا ممرضة الصباح مبتسمة، ألقت علينا تحيتها المعتادة، ثم قالت لي:
-لقد صرَّح لكِ الطبيب بالخروج الليلة، وطفلك بحالة جيدة وسوف يخرج معكِ.
شكرتها، ولم تنس أمي أن تبادلها الأحاديث كعادتها كلما جاءت إلى الغرفة، إلى أن قالت لها أمي:
-أين انتصار؟ لم تظهر اليوم، أودُّ أن أودِّعها قبل أن نغادر.
انطفأت ابتسامة الممرضة، وقالت:
-من انتصار؟
قالت أمي بعفوية:
-انتصار، الحالة التي في الغرفة المجاورة.
نظرت الممرضة إلى أمي في دهشة ممتزجة بالخوف، وقالت:
-كيف عرفتِ أنه كانت توجد حالة في الغرفة المجاورة اسمها انتصار؟
تعجبت أمي من حديثها، فقالت:
-إنها تزورنا كل ليلة، وتجلس معنا.
صفعت الممرضة صدرها بيدها، وقالت:
-أعوذ بالله من الشيطان، ماذا تقولين؟
صمتت أمي ولم تعقّب، وأصابني الصمت مثلما أًصابها، فأردفت الممرضة:
-انتصار كانت حالة ولادة هنا في العنبر، حينما نُقِلَ القسم إلى هنا، بعد ثلاثة أيام من ولادتها سمعنا صرخاتها في الغرفة، اقتربنا من الغرفة فرأينا الدخان يتسلل خارجها من أسفل الباب، بعد أن فتحنا الباب رأينا النار تشتعل بالغرفة، ثم دبَّ الرعب في العنبر حينما خرجت انتصار تهرول في الممر والنار مشتعلة بها، ثم انحدرت نحو السلم، وهناك كانت النار قد قضت عليها تمامًا، فسقطت تلفظ أنفاسها الأخيرة فوق درجات السلم.
كنا نستمع في صمت وذهول، نظرت إلينا، وقد شحب لون وجهها وأردفت:
-لقد التهمت النار طفلها أيضًا، تم إيداعهم مشرحة المستشفى لحين إصدار تصريح الدفن، لم تتوصل التحقيقات إلى سبب النار التي اشتعلت في غرفتهم، لكن هناك من قالوا أنها كانت تعاني مرضًا نفسيًّا، لقد حاولت الانتحار كثيرًا بحسب أقوالهم، ربما هي من أشعلت النار في الغرفة تحت تأثير المرض، ومنذ ذلك الحين والغرفة مغلقة، ولم يتم إزالة آثار الحادث منها.
واصلنا الصمت، فأردفت:
-ثم بدأنا نتلقى الشكاوى من حالات العنبر حول سماعهم لصرخات تُسمَعُ في الممر ليلًا، وسماعهم لصوت أقدام تهرول، لقد أرجعنا السبب إلى أن المبنى يقع في نهاية المستشفى، وتم تجديده بعد فترة طويلة ظل مهجورًا فيها، لكنكم أول من يقول أنه رأى انتصار.
قامت أمي، وجمعت أغراضنا في الحقيبة، وقالت بنبرة متوترة:
-سنغادر الآن.
قامت الممرضة، وقالت:
-لابد أن يصرّح طبيب الأطفال بخروج الطفل من الحضّانة، لكنه سيأتي في الليل، حينها تستطيعان المغادرة.
جلست أمي تستعيذ طوال اليوم، بعد أن عرفت ما حدث لانتصار، لقد عرفت الآن لماذا لم تأتِ انتصار إلا في الليل، ولماذا كانت غرفتها موصدة دائمًا، ولماذا كانت تسير وكأنها لم تحمل جرحًا في بطنها، ولماذا كانت تتجاهلها الممرضة دائمًا، لأنها طوال الليالي الماضية لم يكن لها وجود حقيقي، ولماذا كان الرأس الذي رأيته يحمل ملامحها، والأهم من ذلك، عرفت لماذا اختفت حينما انحدرت ناحية السلم بعد أن كانت تجري وهي تتخبط في جدران الممر، قالت الممرضة إن روحها قد فاضت على السلم، لذلك اختفت من أمام عيني هناك، وكأنها كانت تريد أن تخبرني بما حلّ بها.
لم أشعر بالخوف مثل أمي، كنت أشعر بالعطف تجاه هذه المسكينة التي أشعلت النار في نفسها وطفلها تحت تأثير مرضها النفسي، إذا كان تفسيرهم للحادث صحيحًا، لو تأتي الآن فأبوح لها بما أشعر به تجاهها، لقلت لها إني فهمت ما كانت تود أن تخبرني به، إني أشعر بما تشعر به الآن.
لم نخرج إلا في العاشرة مساءً، حينما حملت الممرضة طفلي من الحضّانة إلى غرفتي، احتضنته للمرة الأولى، بعد أن قبّلته أمي، حملته فوق يدي وخرجت من الغرفة، وخرجت أمي خلفي وهي تجر الحقيبة التي بها أغراضنا، أغلقت الممرضة نور الغرفة والباب خلفنا، وسارت بجانبنا حتى نهاية الممر.
أثناء انحدارنا ناحية السلم نظرتُ إلى الممر، كانت انتصار هناك، تقف أمام باب غرفتها، لها نفس الرأس الذي كان يظهر لي في الغرفة بجوار السرير، تحمل طفلها، وتنظر نحونا في صمت.

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب334005
2الكاتبمدونة نهلة حمودة189911
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181515
4الكاتبمدونة زينب حمدي169756
5الكاتبمدونة اشرف الكرم130969
6الكاتبمدونة مني امين116786
7الكاتبمدونة سمير حماد 107840
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97909
9الكاتبمدونة مني العقدة95021
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين91778

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
2الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
3الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
4الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
5الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
6الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
7الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
8الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
9الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
10الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14

المتواجدون حالياً

399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع