بعدها سمعت صوت حاجة بتصطدم بالأرض، ورغم إن الدنيا ضلمة ومكنتش شايف حاجة، لكن قدرت أعرف إن ده أيمن، خصوصًا لما سمعت منه صرخة ألم مكملِتش.. حسيت إن أعصابي سابت واتوتَّرت وجسمي ارتعش، واترعبت أكتر لما سمعت صوت الخطوات بتبعد من المكان، في الوقت نفسه اللي كان في معاها صوت حاجة بتتجر على الأرض، واللي كان بدون شَك جِسم أيمن.
حسيت إني دخلت في نوبة من الجنون، لما استوعبت للحظة إن الحكاية صفصفت عليا، الكل خرج من الجيم، كلهم بقوا برَّه اللعبة والله أعلم حصل معاهم إيه، ومبقاش في غيري جوَّه الشاليه، أو زي ما اتكتب على الحيطة قبل كده؛ المصيدة، التفكير في الحكاية دي لوحده كفيل يخليك تتمنى الموت على إنك تعيش، خصوصًا لما تكون مش عارف مصيرك، أي نعم كنت مستوعب إني لسه بكامل وعيي، وإن أنا اللي اتبقّيت من الشلة، لكن ده ميمنعش إني متأكد إن الدور جاي عليا، وساعتها بس هفهم إيه اللي بيدور هنا، ولو الحكاية مش مقلب بايخ زي ما كنت فاهم من البداية، يبقى أكيد مش هيكون باقي في عمري وقت أحكي فيه اللي أنا اكتشفته ساعتها.
حالة الجنون اللي دخلت فيها كانت غريبة، يعني بدل ما كنت بتكلم مع أيمن، وبشارك معاه المخاوف اللي جوايا، وبنحاول مع بعض نوصل لتفسير للحكاية الغريبة دي، دلوقت هتكلم مع نفسي، ومش بعيد ده يكون أول طريق الجنون اللي ممكن أعاني منه اللي باقي في عمري، دا لو لسه في باقي أصلًا.
تفكيري أخدني للشرارة الأولى من الحكاية، مكالمة سيف ليا، بقيت حاسس بالذنب، قُلت لنفسي:
-ياريتني كنت رفضت الموضوع من الأول، ومكنتش كلِّمت وليد وأيمن، ياريتني ما سمعت كلام سيف وكنت فركِشت الحكاية كلها، أو اتحجِّجت بأي حجة وخلعت، بس مفتكرش لو كنت عملت كده إن كان في شيء هيتغير، أبسط ما في الموضوع إن هيكون في واحد مكاني، ببساطة سيف كان هيدوَّر على أي حد حتى لو من برَّه الشلة.
طاحونة تفكير كانت بتدور في دماغي، لدرجة إن الدم فار في نافوخي وقُمت أجري في الشاليه، ومن الضلمة اللي حواليا بقيت أصطدم بالأثاث والحيطان وبأي حاجة تيجي في طريقي، أي نعم كانت بتعوق حركتي لكن مكانتش بتعوق صوتي اللي اتنبح وأنا بزعق وبقول:
-كفاية بقى يا سيف، الحكاية زادت عن حدها، رجَّع أيمن ووليد وخلينا نمشي من هنا، ولو على الصحوبية اللي بينا مُش عايزها، أنا أصلًا هقطع علاقتي بِك بعد كل اللي حصل في الكام يوم اللي فاتوا، ده مُش هزار يا سيف، سامعني؟ مُش هزار.
في الوقت ده سمعت صوت حد بيخبط على قضبان الباب، الحكاية كانت أشبه بالمسجون والسَّجان؛ اللي لمَّا بيعمل إزعاج أو بيخرج عن التعليمات السَّجَّان يخبط على القضبان على شان يحذره؛ ويوصَّل له رسالة ويقول له: خلِّي بالك أنت تجاوزت الخطوط الحمرا، لكن مكانش في حاجة أخسرها، ولا حاجة أبكي عليها، كملت كلامي وصرخت بصوت مبحوح أكتر من الأول وقُلت:
-مش هسكت؛ ومن دلوقت محدش هيقدر يكتم صوتي؛ مبقاش في حاجة أخسرها، حتى لو هموت هنا هموت وأنا عارف إيه اللي بيحصل بالظبط.
الخبط على قضبان الباب زاد، زي ما يكون اللي بيخبَّط فاض به من كلامي، بس أنا كان فايض بيا على الآخر، أي حد في الموقف ده كان ممكن انتحر من الضغط النفسي، لكن أنا لأ؛ بعد ما بقيت بطولي في الضلمة حاسس إني أقوى من الأول، إحساس الخوف بدأ يتلاشى من جوايا، بقيت أقول في سرِّي يا روح ما بعدك روح، أنا هعيش مرَّة واحدة وهموت مرة واحدة، يبقى على الأقل لو فيها موتة أبقى فاهم أنا مُت ليه.
-الغضب بيأثر على الدم يا عادل، حاول تهدا.
كان صوت البنت اللي سمعته في الضلمة ولحد دلوقت مش عارف هو جاي منين؛ ولا دي تبقى مين من الأساس، كلامها خلاني ألِف حرفيًا حوالين نفسي، لما كل ده يحصل معاك بين أربع حيطان وأنت مش فاهم حاجة ومُنعزل عن الدنيا يبقى أقل شيء إنك تغضب.
بعد ما البنت قالت الكلمتين دول سمعت صوت بوابة بتتفتح، في البداية افتكرتها قضبان باب الشاليه، ولأني بقيت عارف الاتجاهات في الضلمة؛ بما إن دي الليلة الرابعة ليا هنا، مشيت ناحية القضبان وأنا مادد دراعاتي قدامي، ولما وصلت عندها لقيتها لسَّه موجودة، كان عندي أمل إن ده يكون صوتها وهي بتترفع وأخرج من هنا واللعبة السخيفة دي تنتهي، لكن لقيتها زي ما هي، واكتشفت إن الصوت كان جاي من بوابة الشاليه اللي برَّه، خصوصًا لما سمعت صوت عربية شغالة لكن أنوارها كلها مطفية، وبعدها سمعت صوت ترابيزات حديد بتتحرَّك ناحية الشاليه، وخطوات أكتر من حد برَّه، في الوقت ده بس؛ حسيت بإيد بتتمَد من بين القُضبان ناحية وشّي، وبعدها ضغطت على بخاخة وخرج منها كمية مخدِّر، كانت كفيلة إني أنزل بالتدريج على الأرض في المكان اللي كنت واقف فيه، وأنا وعيي بينسحب منّي واحدة واحدة.
لما فتحت عيني لقيت إن الحكاية بتتكرر، الأحداث صورة طبق الأصل من اللي حصلت قبل كده، الشمس اللي ضربت في عيني من بين القضبان، الألم اللي في دراعي، كل حاجة تقريبًا متكررة ماعدا حاجتين، الأولى إني بقيت لوحدي، والتانية إن الكلام اللي على الحيطة اللي جنب البوابة متغيَّر، وكانت كلمة "منورين المصيدة" مش موجودة ومكتوب بدل منها "آخر ليلة لك في المصيدة".
المقصود بالكلام ده هو أنا، ومفيش تفسير تاني غير إني هخرج من هنا بالطريقة اللي خرج بيها أيمن ووليد، وطبعًا رايح لمصير مجهول.
اتفزعت من الأرض وجريت على جوَّه، أول حاجة عملتها هي إني رُحت على الأوضة اللي أيمن اختارها في البداية، معرفش إيه السبب اللي خلاني أروح هناك، ولا هي بقت عادة لأني عملت كده بعد ما اختفى وليد وسيف، فكان من الطبيعي إني أروح هناك، وبمجرد ما دخلت الأوضة لقيتني برضه ببُص تحت السرير، على شان أشوف نفس السكينة اللي عليها دَم، والأرض من تحتها متلطخة بالدم برضه، فهمتوا ليه قُلت لكم إن كل حاجة صورة طبق الأصل والأحداث كلها واحدة؟
خرجت من الأوضة وأنا بجري خطوة وبنكفي على وشّي خطوتين، منظر الدم في حد ذاته لما يكون على سكينة بيكون مُرعب، خصوصًا لما يكون بيشاور على مصير أصحابك ومصيرك اللي منتظرك، وفي الوقت ده لقيتني بفكر في حاجة مكانتش على بالي، ولا أيمن لما كان هنا فكَّر فيها، هو ليه صفوت البواب أبو ربيع سافر فجأة بمجرد ما وصلنا، حكاية مرض مراته والشخص اللي اتصل به من البلد سبب مقنع جدًا، بس مش وارد جدًا يكون متفق مع عصابة تعمل اللي بتعمله لأي سبب، خصوصًا إن الشاليه متعدّل والشبابيك اللي بتبُص ورا الشاليه اتلغت؛ وفي قُضبان اتركّبت على الباب والشبابيك، ولا هو صفوت البواب ممكن يعمل كل ده من نفسه لأنه عارف إن مفيش حد بييجي هنا غير كل فين وفين، وإن سيف وأبوه الدكتور عبد التواب عندهم فِلل وشاليهات كتير، والشاليه ده آخر حاجة بيفكروا فيها، بس لأ، ده سيف في البداية هو اللي قال إن صفوت عمل كل ده بتعليمات من والده.
أسئلة كتيرة مكانش لها إجابة؛ سألتها لنفسي بعد ما لفّيت في الشاليه وملقتش خُرم إبره أخرج منه، وكنت واقف مبحلق في الكلمة اللي على الحيطة جنب قضبان الباب، "آخر ليلة لك في المصيدة". وبسأل نفسي سؤال تاني مكانش له إجابة، يا ترى إيه اللي بَعد الليلة دي؟
الدنيا هادية، كل حاجة كانت باينة طبيعية، على عكس الضلمة واللي بيحصل حوالينا فيها بدون ما نكون فاهمين إيه الحكاية، ومفيش الأصوات اللي بنسمعها وقتها ومش قادرين نستنتج منها حاجة، وأكتر حاجة كنت مستغرب منها، هي إني شُفت ربيع واقف بيروي النجيلة اللي في الجنينة والكام شجرة اللي مزروعين برَّه، كان بيتصرف بشكل طبيعي؛ وحقيقي مكانش باين عليه أي حاجة، ده اللي خلَّى حيرتي تزيد وبدأت أرجع لدايرة التوتر من تاني، خصوصًا لما بفتكر الضلمة، وإن دي الليلة الأخيرة، وده بيخليني أفكر في الخطوة اللي جاية.
لمحت ربيع بيرجع أوضة البواب وبيقفل الباب عليه، ولقيتني بخرَّجه برَّه دايرة تفكيري، خصوصًا لما صوت البنت ظهر من تاني وهي بتقول لي:
-النهاردة لازم تاكل يا عادل، نصيحتي لما ربيع يجيب لَك الأكل مترفضوش، إحنا ممكن نعوَّض نقص الغذاء عندك بالمحاليل، لكن النهاردة بالتحديد أنصحك بإنك تاكل، لأن دي هتكون آخر مرَّة تاكل فيها.
بلعت ريقي بعد ما سمعت الكلام ده وحسيت بإن حد بيعصُر صبَّارة في حلقي، كنت أول مرَّة أحِس بمرارة الخوف بالشكل ده، وبعد ما أخدت نفس عميق وحاولت أجمع أعصابي قُلت بصوت عالي:
-تقصدي إيه بالكلام ده؛ يعني إيه آخر مرَّة هاكل فيها؟
ساعتها جاوبتني بنبرة كلها هدوء وبرود مشوفتوش على حد قبل كده وقالت:
-غريبة إنك بتسأل السؤال ده وأنت واقف قدام اللي مكتوب على الحيطة.
ساعتها بصيت على الكلام وقُلت لها:
-لعبة بايخة جدًا، ولما أخرج من هنا مش هسيب حقي.
وبنفس البرود والهدوء اللي يحرق الأعصاب قالت:
-مش لما تخرج من هنا يا عادل؛ أو لو كان اللي قبلك خرج تبقى تفكر أنت في الخروج.
-لو حد مَس شَعره من أصحابي أنا هاخد روحه.
-مابياخدش الروح إلا اللي خالقها، أنت هتكفر ولا إيه؟
استفزتني بكلامها البارد وحرقت دمي أكتر فقُلت:
-أنتِ مين وإيه علاقتك بالشاليه واللي بيحصل فيه؟
-أنا كل حاجة هنا يا عادل، أنا اللي بحرَّك الليلة كلها، أنا اللي عملت كل ده، أقول لَك حاجة كمان، أنا اللي كتبت الكلام اللي قدامك على الحيطة، ها.. إيه رأيك في خطّي؟ أنا متأكدة إن خطي جميل ومقروء وهيعجبك، وأكيد فاهم كويس معنى الكلام اللي مكتوب قدامك، أنت عروسة ماريونيت يا عادل، كلكم عرايس ماريونيت، ومن ساعة ما دخلتم الشاليه برجليكم وأنا ماسكة خيوطكم بين صوابعي، بتتحركوا لما أنا اللي أقرر، وبتخرجوا من هنا واحد ورا التاني لما كل واحد ييجي وقته اللي أنا حدِّدته.
بعدها ضحكت ضحكة كلها شَر وقالت:
-مسألتش نفسك ليه مكنتش أنت أول واحد خرج من هنا وراح لمصيره؟
السؤال كان فعلًا غريب، ليه مُش أنا؟ ليه سيف ووليد وأيمن وأنا اللي أفضل هنا أواجه الخوف لوحدي، وفي اللحظة دي لما فاض بيا أكتر صرخت وقُلت:
-كفاية بقى، كفاية.
ساعتها ضحكتها ارتفعت أكتر وقالت:
-لأنك كنت الطُّعم يا عادل، وكان لازم تستنى للآخر على شان تشوف الصيدة اللي أنت جبتها لحد هنا، وتشوف أنت طُعم كويس ولا لأ.
وبعد ما كرَّرت الضحكة تاني قالت:
-استنى الضلمة يا عادل، ساعتها هتسمع صوت الباب وهو بيتفتح، وبعد كام خطوة هياخدوك زي ما أخدوا أصحابك، ومش غباء منّي إني قُلت لك التفاصيل دي في الوقت ده، بالعكس؛ ده الوقت المناسب لأن مفيش حد بعدك هنا يمشي ورا المعلومة دي ويقدر يخرج من هنا، شُفت بقى أنت مميَّز عنهم إزاي وعندك معلومة محدش منهم عرف عنها حاجة؟
الحوار بيني وبينها انتهى بضحكتها السخيفة، صوتها اتقطع، قضيت اليوم وأنا بزعق على شان ترُد على كلامي لكنه محصلش، كأن الحوار اللي فات ده هو الحوار الأخير، قضيت اليوم في مكاني، وتجاهلت علبة الأكل اللي ربيع رماها من بين قضبان الباب، لحد ما الليل دخل والضلمة أكلت المكان في بطنها زي ما بيحصل كل ليلة، ساعتها سمعت صوت الباب ومن بعده الخطوات اللي بتقرَّب، كنت فاكر إني هقدر أقاوم أو أعمل أي حاجة أواجه بيها المصير المجهول اللي منتظرني، لكن ده محصلش، واتضح لي إن الضلمة والخوف وانتظار المصير المجهول ممكن وقت الجَد يضعفوا أي شخص، على شان كده استسلمت لما شميت ريحة المخدر اللي خلَّت توازني يختل، وساعتها حطيت راسي على الأرض وأنا عارف إن دي آخر مرَّة هغمض عيني فيها.
بس ده محصلش، أنا فتَّحت عيني من تاني، الرؤية كانت مشوَّشة؛ وواضح إن كل حاجة حواليا كانت أبيض في أبيض!
***