ساعتها كان في شخص بشوفه لأول مرَّة بيبُص لي وبيقول:
-حمد الله على سلامتك يا عادل.
طبعًا أنتوا فاكرين أنا مين من البداية، أحمد فخر الدين؛ وكيل النيابة اللي ماسك القضية، اللي اتعرفت بالمصيدة، وكان لازم أروح لعادل في المستشفى بعد ما فاق، لأن حالته الصحية مكانتش تسمح إنه ييجي النيابة، لأننا لحقناه على آخر لحظة قبل ما يحصّل أصحابه، وطبعًا كل اللي فات وسمعتوه ده كان الصورة اللي عادل نقلها لي بالظبط عن اللي حصل جوَّه الشاليه، واللي أنا حكيتها لكم زي ما سمعتها بالظبط، لأن زي ما أنتوا عارفين إني حافظ كل كلمة اتقالت زي اسمي من كُتر ما قرأت القضية، وبعد ما عرفتوا اللي حصل بالتفصيل؛ خلوني أحكي لكم اللي دار بيني وبين عادل بعد ما شرح لي كل حاجة.
***
-يعني أنا دلوقت في المستشفى؟
-ده سؤال برضه؟ حكيت لي كل ده وأنت مش عارف أنت فين! أيون في المستشفى.
-طيب وسيف ووليد وأيمن موجودين؟
-للأسف لأ يا عادل؛ مش موجودين.
-هو إيه اللي حصل بالظبط، وإزاي أنا وصلت هنا، ويعني إيه أصحابي مش موجودين؟
طلعت برَّه أدخن سيجارة في المكان المخصص للتدخين، لأن دماغي كانت بتلِف من كتر اللي سمعته، وبالمرة أعطي فرصة للممرضة اللي دخلت على صوت عادل، لأني بمجرد ما قُلت له إن أصحابه مش موجودين؛ دخل في حالة عصبية وصوته كان عالي، وبعد ما الممرضة بلغتني إن كل حاجة تمام وإني أقدر أكمل كلامي معاه؛ دخلت الأوضة وقعدت قدامه تاني وقُلت له:
-نقدر نكمل كلامنا يا عادل؟
بَص لي باستسلام وقال:
-نقدر يا فندم، اتفضل.
-الحقيقة يا عادل مش عايز أصدمك، بس أنت كده أو كده هتعرف، أصحابك تعيش أنت.
كان بيبُص لي وعلى وشه صدمة أنا فاهمها كويس، شُفتها على وشوش ناس كتير لما فاقوا من حوادث ووصلهم خبر إن حد من قرايبهم أو أصحابهم مات، وكنت عارف كويس أتعامل في المواقف اللي زي دي، على شان كده كملت كلامي ومسيبتش فرصة تخلي الصدمة تسيطر عليه وقُلت:
-إحنا لحقناك في اللحظة الأخيرة يا عادل.
بَص لي وعلى ملامحه نفس الصدمة وقال:
-كلهم ماتوا؟
-للأسف لأ؛ اللي مات وليد وأيمن، لكن سيف عايش.
-إزاي يا فندم، أنا بنفسي شُفت السكينة اللي عليها دَم تحت سريره، اللي حصل معاه نفس اللي حصل معاهم، يبقى إزاي لسه عايش؟ ومن اللي عمله ابن البواب معانا فأنا متأكد إن اللي قتلهم هو ربيع.
-أي حد مكانك هيقول كده، بس للأسف ربيع ابن البواب مُش متهم، لأن ببساطة ربيع ابن البواب يبقى هو نفسه سيف.
بعد صمت وشرود وذهول وتفكير طويل، لقيت عادل بيقول لي:
-يعني إيه هو نفسه سيف؟ اللي كان قدامنا رايح جاي هو ربيع.
ساعتها أخدت نفس عميق وقُلت له:
-يبقى خليني أحكي لك يا عادل.. من سنتين بالظبط وإحنا بنستلم بلاغات اختفاء أشخاص أعمارهم مختلفة، بس في الغالب بيكونوا في سن الشباب، وللأسف الأشخاص دول مبيظهروش تاني، ولا بنعرف بيروحوا فين ولا إيه اللي بيحصل معاهم، وبيكون في افتراضات كتير، يعني لو بنت الناس تقول دي هربت مع واحد بتحبه، ولو شاب الناس تقول ده هاجر هجرة غير شرعية ومات في البحر، تفاسير كتير، لكن إحنا كان لينا رأي مختلف، في عصابة كبيرة ورا كل اللي بيحصل، أصل الاختفاء اللي مفيش وراه طرف خيط بيكون مدروس جدًا، مُش حاجة عشوائية وأحداثها متروكة للصدفة، وفي حكايتكم وخصوصًا إنك كنت البداية، كل حاجة حصلت بسرعة، لدرجة إنك مشيت من البيت ونسيت تبلغ أهلك، ونفس اللي حصل معاك حصل مع أصحابك وليد وأيمن، كلكم فكرتوا تطلعوا الشاليه وتبقوا تبلغوا أهاليكم، لكن اللي حصل معاكم خلاكم تنسوا الخطوة دي، وده كان السبب إنهم قدموا بلاغات اختفاء في وقت واحد، خصوصًا إن تليفوناتكم كانت غير متاحة.. التحريات أثبتت إنكم أصحاب، شلة من أربع أشخاص، أي نعم دراستكم مختلفة لكن عمركم ما بتسيبوا بعض، فكان من الغريب إن المربع يكون ناقص ضلغ، وهو بلاغ باختفاء سيف، هو الوحيد فيكم اللي مكانش متقدم بلاغ اختفاء عنه.
كنت بحكي وعادل مركز معايا، على شان كده كملت كلامي...
-ده اللي خلانا نركز مع الدكتور عبد التواب والد سيف، على شان نعرف هو ليه مقدمش بلاغ اختفاء عن ابنه، خصوصًا بعد ما الشرطة راحت الشقة اللي سيف عايش فيها، على شان نستدعيه ونسأله عنكم، واتفاجئنا إنه مش موجود، وعرفنا من بواب العمارة إنه خرج في نفس الوقت اللي أنتوا خرجتوا فيه، ومرجعش زي حالاتكم، وهنا اللغز، ليه الدكتور عبد التواب مبلَّغش باختفاء ابنه، والإجابة كانت بسيطة جدًا، وهو إنه يعرف مكانه ومش قلقان عليه، وده نقلنا لمرحلة تانية، وهي إننا رُحنا مستشفى الدكتور عبد التواب، ولما قابلناه وبدأنا نتكلم معاه حسينا إنه متوتر، والتوتر في الوقت ده بيكون دليل غير ملموس على إن الشخص اللي قدامك طرف خيط، أو مخبّي حاجة وخايف منها، وده فتح باب أكبر قدامنا، لأن الدكتور عبد التواب كانت بتدور حواليه شبهات لكن مفيش عليها دليل، وهو سر غناه الفاحش وأملاكه، حملات التبرع بالدم اللي بيعملها بطريقة مبالغ فيها، وده خلانا نطلع أمر ضبط وإحضار له على شان نسأله بشكل رسمي، وفي الوقت ده الأوراق كلها اتكشفت، لأننا لما فتّشنا مكتبه في المستشفى لقينا أوراق تخص عمليات بيع دم مشبوهة، والشبهة دي خلتنا نتأكد من الشبهات الأكبر اللي كانت بتدور حواليه، وهي التجارة في الأعضاء، لأن اللي يتاجر في الدم بطرُق غير شرعية، يقدر يتاجر في أعضاء الناس عادي.
رجعت لورا وأخدت نفس عميق تاني، وسندت ضهري على ضهر الكرسي وكملت كلامي...
-لما فحصنا كشوفات المتبرعين بالدم، صادفنا بعض الأسماء اللي اتبلغ عنها بالاختفاء قبل كده، وده معناه إن الأشخاص دول؛ دخلوا مستشفى الدكتور عبد التواب قبل قبل ما يختفوا، ومستحيل الحكاية تكون صدفة، لأن أسماءهم في الكشوفات كان عليها تظليل بالأصفر، وهو نفس التظليل اللي كان على اسمك أنت ووليد وأيمن، متنساش إنكم اتبرعتوا بالدم كذا مرة في المستشفى، وفصيلة دمكم واحدة، وهي نفس فصيلة دم الأشخاص اللي أسماءهم كانت متظللة في الكشوفات، ومن هنا الحكاية اتكشفت، الفصيلة دي نادرة، وبتتباع بسعر غالي جدًا، وأعضاء أصحابها بيكون سعرها مميز.
بعد ما حكيت له الجزء الأول من الحكاية، لقيتني بقول له:
-نيجي بقى على الجزء اللي يخصكم، وهو إن دكتور عبد التواب طلب من ابنه يستدرجكم للشاليه، اللي كان في البدروم بتاعه غرفة عمليات جراحية سرية وجاهزة من كل حاجة، واتضح إن الغرفة دي اتعملت من سنتين.
ولحد هنا عادل قاطع كلامي وقال لي:
-دي نفس المدة اللي سيف قال إن سرقة الشاليه حصلت فيها والكاميرات اتشالت واتركب مكانها قضبان.
-بالظبط، بس باعتراف دكتور عبد التواب إن مكانش في سرقة ولا حاجة، ولا حتى قدم بلاغ بيتهم فيه حد، كل الحكاية إن الشاليه اتجهز بالطريقة دي واتحول لمصيدة، بيتم حبس الحالة فيها لحد ما غرفة العمليات تجهز، وساعتها بتتخدَّر وبياخدوا منها اللي هما عايزينه، وبعدها باقي الجثة بتندفن في مقبرة موجودة في بدروم الشاليه برضه.
-تقصد حضرتك إن وليد وأيمن...
مقدرش يكمل كلامه، على شان كده كملت أنا وقُلت له:
-الله يرحمهم، ولما اقتحمنا الشاليه لحقناك وأنت على سرير العمليات قبل ما الدكتور يحط المشرط في جسمك، ونقلناك على المستشفى هنا.
-أنا من وقت للتاني كنت بشم ريحة زي البنج أو المخدر، لكن متوقعتش إن الحكاية تكون كده.
-لأن البدروم تحت الشاليه متجهز بطريقة احترافية، عازل صوت ومقفول كويس على شان الريحة متخرجش منه، وممكن اللحظات اللي شميت فيها الريحة تكون لحظة فتح باب البدروم، اللي هو أصلًا يبان على إنه جزء من الحيطة، وميعرفش مكانه غير سيف والناس اللي معاه، دا غير لوحة الدكتور عبد التواب الكبيرة اللي في الريسيبشن، دي عبارة عن باب سري بيستخدموه في دخول الشاليه والخروج منه بالليل.
-تقصد حضرتك إن اللي كان بيدخل الشالية بالليل؛ كان بيستخدم اللوحة اللي هي في الأصل باب؟
-بالظبط، ممرضة، كانت بتدخل في الضلمة تعطيكم محاليل على شان ميحصلش عندكم فقر دم من قلة الأكل.
-وكانت بتشوفنا إزاي في الضلمة، إحنا مكناش بنشوف صوابعنا.
-للأسف الكهربا فصلت في المنطقة بسبب عطل في الشبكة، وتصليحها اتأخر لأننا في الشتا ومفيش حد في المنطقة، وده خدمهم خدمة عمرهم، لأننا لما فتشنا المكان لقينا أجهزة رؤية ليلية، أكيد الممرضة كانت بتستخدمها وهي داخلة الشالية، دا غير إن سيف لما دخل كام مرة وكتب الكلام اللي على الحيطة كان بيستخدمها برضه.
-سيف؟ وإزاي ربيع هو سيف؟
-أنت نسيت إن صاحبكم محترف عمل ماسكات ورسم شخصيات ونفسه يشتغل في السينما؟ كان من السهل يجهز ماسك طبق الأصل من ربيع ويقوم بدوره، وكان مستغل إنه أخرس، يعني مش هيكون مضطر للكلام وينكشف.. بالمناسبة؛ صفوت البواب مراته مكانتش تعبانة، دي لعبة وراها دكتور عبد التواب على شان يبعده عن المكان، وبعد ما راح البلد كلّمه وطلب منه يكمل الأسبوع مع مراته ومرتبه ماشي، ولما خرجتوا تدوروا على وليد، سيف كان متوقع إنكم هتعملوا ده، على شان كده لما وقف مع ربيع وأبوه ماشي طلب منه إنه يروَّح البلد بعد ما تخرجوا من الشاليه، وإنه ينفذ تعليماته بدون مناقشة، على شان كده لما رجعتوا ليلتها ربيع مكانش موجود، وسيف لما خبَّط على الباب كان بيوهمكم إن ربيع جوَّه، على شان بعد كده يقوم بدوره كويس، إحنا عرفنا كل ده لما استدعينا البواب وابنه، وعرفنا إنه من سنتين دكتور عبد التواب كان بيعطيهم في الشتا أجازات مفاجأة وغير مبررة، وطبعا أنت عرفت السبب.
-إزاي سيف يعمل كده وإحنا أعز أصحابه؟
-سيف عمل كده وهو واقع تحت سيطرة عقار اسمه L.S.D، للأسف العقار ده بيغيِّب العقل ويخلي الشخص تحت سيطرة شخص تاني، واللي جاب العقار ده بطريق غير شرعي هو دكتور عبد التواب، سيطر به على ابنه وبعض الدكاترة والممرضين اللي بيعملوا العمليات المشبوهة ويستأصلوا أعضاء الناس، إحنا اتأكدنا من ده لما عملنا تحاليل للناس اللي اتقبض عليها، وعرفنا إن العقار ده له مضاعفات وآثار جانبية ونفسية، منها إنه يخلي الشخص سادي جدًا، يتلذذ بتعذيب اللي قدامه، وده تفسير سلوك سيف معاكم، إنه حب يعيش جنونه وأحلامه السينمائية؛ وحب يلاعبكم لحد ما كل واحد دوره ييجي، حب يعذبكم نفسيًا، لدرجة إن سيف هو البنت اللي كانت بتكلمكم في الشاليه، وده ببساطة لأنه كان بيتكلم من أوضة البواب من خلال برنامج على تليفونه بيغير صوته لصوت بنت، وطبعًا تليفونه كان مشبوك بالبلوتوث بسماعات وكاميرات تصوير ليلية مخفية كويس لدرجة إن مفيش حد يكتشفها.
بعد ما وضحت كل حاجة لقيت عادل في حالة صمت، أي إنسان مكانه هيبقى مصدوم وساكت، يعني يروح يقضي كام يوم مع أصحابه يحصل معاه كل ده، ويفوق يلاقي نفسه في مستشفى وبيسمع حاجات أغرب من الخيال، يبقى طبيعي إن الصدمة تخليه ساكت.
القضية اتقفلت وكل أطرافها اللي في كفة الاتهام قدام العدالة، حتى مستشفى الدكتور عبد التواب اتوقفِت لحين البَت في أمرها، وتم تحويل المرضى اللي فيها لمستشفيات تانية، خوفًا من إن حد فيهم يتعرض لأي شيء مشبوه، ولما عادل خرج من المستشفى استدعيته على شان نقفل التحقيق، كان باين عليه الحُزن بطريقة غير عادية، أحيانًا الإنسان بينجو من الموت في اللحظة الأخيرة، بس بيتضح له إنه بيكون ميت وهو على قيد الحياة، في صدمات بتخليك في حكم الميت، زي الصدمة اللي أخدها عادل.
كنت حاضر في جلسة الحكم النهائي على المتهمين، وكان عادل موجود، عن نفسي كنت سعيد إن الناس هترتاح من شر الناس اللي بتتاجر بحياتهم، لكن عادل مكانش مبسوط، أو يمكن مبسوط من جواه إن حق وليد وأيمن رِجع، ورغم إنه مش هيخليهم يرجعوا للدنيا ولكن على الأقل المجرم أخد عقابه.
لكن بعد شهر تقريبًا وصلني بلاغ إنهم لقوا جثة شخص مرمية في مكان مقطوع، جسمه مكانش فيه أغلب الأعضاء، ولما اتنقلت لمسرح الجريمة، اكتشفت إن الشخص ده هو عادل، واللي اتبلَّغ عنه من يوم بس إنه مختفي، وده خلاني أعرف إن الحكاية منتهتش، وإن العصابات دي عاملة زي العشب الشيطاني، تقطع واحدة يطلع مكانها واحدة.
للأسف القضية المرة دي اتحفظت ورفضت أقيّدها ضد مجهول، لأننا مقدرناش نوصل للجاني المرة دي، بس القضية لما تتحفظ مبتكونش انتهت، دي هتتفتح تاني عند أول طرف خيط، لأن الحياة لعبة عادلة، داين تُدان، وزي ما اللعبة دارت والسهم وقف عند الدكتور عبد التواب والأوراق اتكشفت، اللعبة هتدور من تاني، والسهم هيقف عند اللي ورا الدكتور عبد التواب، لحد ما نقطع الشجرة الخبيثة دي من جذورها.
***
تمت...