لم يكن الأمر بيدي؛ لكنها الطريق الوحيدة التي يمكن أن أسلكها الآن، حظي هكذا، فالطريق الأخرى مغلقةٌ للإصلاح، منذ ذلك الوقت والناس قد كفَّت عن العودةِ في وقتٍ متأخر، إلا أنا، فموعد عودتي دائمًا عند منتصف الليل.
كان ذلك حين اصطدمتُ أثناء عودتي ذاتَ ليلةٍ بلافتة صفراء؛ مدونٍ عليها باللون الأحمر "الطريق مغلقة، عليكَ الاتجاه نحو الطريق القديمة"، استجبتُ مُضطرًا للتعليمات، ثمَّ اتجهت نحو الجهةِ التي يشيرُ إليها سهمٌ بنفس اللون، أشعلتُ ضوءَ السيارة الكبير، ليصارعَ العتمةَ التي تقبضُ بمخالبها على المكان، وحاولتُ قدرَ الإمكان أن أصمَّ أذنيَّ عن صوتِ صراصير الحقل، فصوتها مع الظلامِ يجلبُ الرهبة.
طوال السنوات الماضية، لم ألمح سيارةً تذهبُ في ذلكَ الاتجاه، خاصةً في الليل، لذلك قدتُ السيارةَ بحذر. في المرةِ الأولى؛ لمحتُ طيفًا أبيضَ يكادُ تطابق سرعته سرعةَ السيارة، ولما نظرتُ نحوه من النافذة لم أجد إلا ظلامًا، أصغيتُ لصوتِ عقلي وقلتُ: "ربما خيالاتٌ تراءت أمامي في الظلام"، ثمَّ أكملتُ طريقي، وحينَ وصلتُ إلى البيت، سمعتُ أخبارًا عن هبوطٍ أرضيٍّ مفاجئ قد أصابَ الطريق الرئيسية التي اعتدتُ أن أسلكها، وأنها بحاجةٍ إلى أربعةِ أيامٍ للإصلاح.
في الليلةِ الثانية؛ لمحتُ الطيفَ الأبيض مرةً أخرى، طاوعتُ فضولي ونظرتُ من النافذة، فإذا بي أجد أطياف كثيرة تركضُ بجانبي؛ فأيقنتُ في هذه المرةٍ أنه لا يُخيَّلُ إليَّ، وأنَّ ما يحدثُ لا بدَّ له من تفسيرٍ منطقي.
أما في الليلةِ الثالثة، كان الضبابُ كثيفًا، وزادَ من حظي العاثر أثناء عودتي، أني وجدتُ مسَّاحات الزجاجِ الأمامي مُعطَّلة، لذلك لم أستطع إبعاد طبقةِ الماء التي تتراكمُ فوقَ النافذة، ولم يكن منّي إلا أن أضأتُ "النّورَ الكبير"، كي أرى الطريق قدرَ الإمكانِ، ولكن الإضاءة لم تُسفر إلا عن الخيالات أيضًا.
ربما أشباحٌ تسكنٌ الطريق، هكذا دوى هاجسٌ بداخلي، لكني لم أكن لأصدق هاجسًا كهذا، فلا مكانَ للأشباحِ في عالمنا، وبخاصة أني لم أرَ شبحًا يتراءى للناس إلا في أفلام الرعب.
في الليلةِ الرابعة، تكرَّر ما حدثَ وكان الضباب أشدَّ من الليلةِ السابقة، الخيالات تركضُ بجانبي، لكن الأمرَ هذه الليلةِ اتخذَ منحىً آخر، لقد رأيتُ وكأنَّ إصبعًا خفيًّا يكتب على طبقةِ الماءِ المتراكمةِ فوقَ الزجاج "لا تعبر من هنا"، لقد رأيتُ الجملةَ رأي العين، ارتجفَ قلبي؛ فدعستُ البنزينَ قدرَ ما استعطت، ازدادت سرعةُ السيارة وازدادت معها سرعة الخيالات، وكأنها ترافقها حتى تتأكد من مغادرتها للطريق، وحينَ وصلتُ إلى بيتي وغادرتُ السيارة، وقفتُ متأملًا تلكَ الجملة التي لازالت فوق الزجاج؛ لأدركَ أن يدًا خفيةً قد خطَّتها فوقَ زجاج سيارتي.
بقماشةٍ اعتدتُ على تلميعِ السيارةِ بها، أزلتُ الماء من فوقِ زجاج السيارة، فتلاشت الجملة، وفي الصباح، قررتُ أن أسأل عن أمر الطريق، لأني طوال السنوات الماضية، ومذ أن سكنتُ هنا، لم أهتم قط لأمر سوى لعملي وبيتي، حتى الأخبار لم يكن لديَّ وقتٌ لمتابعتها، لذلك حينَ رأيتُ جاري وهو يستعدُ للمغادرةِ، ألقيتُ عليه الصباح وقلت: "أي طريق تسلكُ عندَ عودتك؟".
قال جاري: "الطريق القديمة، ولكني أتعمَّد أن أعودَ مبكرًا هذه الأيام حتى الانتهاء من الإصلاحات؛ وهكذا يفعل الناس، فالطريق القديمة لا ينبغي السير عليها ليلًا".
قلتُ مستفسرًا: "وما السبب في أن الطريق القديمة لا يسير الناس عليها ليلًا؟".
نظرَ إليَّ نظرةً ثاقبةً وقد أدهشه جهلي بالأمر ثمَّ قال: "الطريق القديمة أُنشأت على مقابر قديمة، لذلك هي ملعونة، إن أصحاب القبور التي هُدِمَت يحذرون الناس دائمًا من العبور من هناك، ولما كثرت الشكوى والحوادث عليها، تم إنشاء الطريق التي هي تحت الصيانة الآن، ولكن لا بأس، فآخر يومٍ كان بالأمس، الطريق الآن تعمل بشكل طبيعي".
كان الأمرُ مثيرًا جدًا، وربما مخيفًا أيضًا، والأكثر دهشةً في الأمر، أني تلقيتُ ذلكَ التحذير في الليلةِ الأخيرةِ من انتهاء العمل في الطريق الرئيسية، وكأنهم يراعون جهلي بالأمر، ويخبرونني أن الحُجةَ التي كانت معي للمرور من مكانهم قد انتهت!
تمت...