أوِّل نبطشية ليَّا في شُغلي الجديد، أصل أنا مستني الوظيفة دي من زمان، الطبيعي عندنا إن الواحد يتحوّل لبرطمان مخلل؛ لحد ما يلاقي وظيفة في مجاله، وأنا كنت مستني الوظيفة اللي قدمت عليها في الكهربا، لأن ده تخصصي.
وزي ما الانتظار طعمه ماسخ، المكالمة اللي بتيجي فجأة وبعد وقت طويل، وبتلاقي فيها الخبر اللي أنت منتظره، بتكون كفيلة إنها تنسيك مرارة الانتظار، وأنا ماصدَّقتش نفسي، لما جَت لي مكالمة من رقم غريب، ردّيت وأنا مُش طايق نفسي؛ ولقيت واحد بيتكلِّم بلهجة رسمية وبيقول لي:
-"أيمن حسين" معايا؟
-أيون أنا، مين حضرتك؟
-أنت قبلت في الوظيفة، ياريت تيجي شركة الكهربا عشان تستلم شغلك.
من بعد المكالمة والمقابلة اللي عملتها، جيت هنا؛ وده أول يوم ليا، في محطة كهربا موجودة على طريق صحراوي، مهمة المحطة إنها بتغذّي كام قرية على الطريق، وعشان حظي حلو الحمد لله، نصيبي خلاني أبقى في قسم الطوارئ، يعني كل شوية التليفون هيرن، الكهربا فاصلة في بلوك كذا، لأ دا كُشك الكهربا اللي في المكان الفلاني فرقع، حاجات من اللي بنشوفها على طول في الواقع دي، وطبعًا مع كل تليفون هطلع أجري على مكان العُطل.
لكن لقيت معايا اتنين في الطوارئ، واحد منهم رئيس النبطشية، عم "محمود" راجل كبير في السن وقرب يطلع معاش، استقبلني استقبال كويس، وفهمني الشغل، وكان في واحد تاني؛ شاب، تقريبًا من سنّي، لكن اللي لاحظته إنه قاعد لوحده، وبيبُص من وقت للتاني على عم "محمود" رئيس النبطشية، عارفين البصة بتاعة الواحد لما يكون مُش طايق المسؤول اللي فوقه؟ أيون، هي دي بالظبط.
كبرت دماغي، ماهو مش من أول يوم هدخَّل نفسي في حاجات ماليش فيها، عادي يعني لما يكون في واحد مُش طايق المسؤول بتاعه، بتحصل، الوقت بدأ يفوت وإحنا قاعدين، كل اللي بيحصل إن عم "محمود" بيقلّب في راديو ترانزيستور صغير معاه، أصلًا مكانش لاقط موجة وعامل تشويش وصداع في الفاضي، والتاني اللي معانا، واللي بالمناسبة معرفش اسمه لسه، قاعد في جنب على كرسي، كل اللي بيعمله هو إنه من وقت للتاني بيقوم يتمشّى؛ ويرجع للكرسي تاني.
لحد ما التليفون الأرضي رن، وساعتها عم "محمود" رفع سماعة التليفون ورد على المكالمة، ولأني قريّب منه، كنت سامع صوت اللي بيكلمه في التليفون وبيقول له:
-مساء الخير، محطة الكهربا؟ كشك رقم 5 فرقع تاني، الكهربا مفصولة عن القرية.
في الوقت ده، عم "محمود" كان بياخد منه العنوان، عشان المفروض يطابقه مع سكاكين الكهربا اللي فصلت أتوماتيكلي، ماهو المفروض إحنا بنعرف من عندنا الأماكن اللي الكهربا فصلت فيها، وبعد ما قفل المكالمة بصّ لي وقالي:
-شايفك زهقان من القعدة، لكن اطمن، دايمًا في نُص الليل هتلاقي اتصالات من دي.
بعدها مَد إيده بالورقة اللي كتب فيها العنوان، وبدون ما يروح عند سكاكين الكهربا قال لي:
-بتعرف تركب موتوسيكل؟
-أيون بركب.
-طيّب؛ العنوان في الورقة دي، هتطلع من المحطة على الطريق، أول قرية هتقابلك، هتلاقي كشك على الطريق مكتوب عليه رقم 5، دي مفاتيحه، غالبًا هتلاقي الفيوز ضارب، أو سلك ملمّس مع سلك، حاجة بسيطة يعني، بعد ما تخلَّصها اتصل على رقم المحطة، أنت طبعًا عارفه، وبلَّغني عشان أرفع السكينة، وبعد ما تبلغني والكهربا تفصل، لو هتدخل تاني، بلغني قبلها عشان أفصل الكهربا.
-ومفيش حد جاي معايا ولا إيه؟
-عاوزني آجي معاك وأسيب التليفون؟ يعني لو حد بلَّغ عن مشكلة، ولا حد من الشركة اتصل يشوفنا موجودين ولا لأ، يلاقي محدش بيرد؟ الموتوسيكل برَّه ودي المفاتيح، والمشوار مش هياخد ربع ساعة.
في اللحظة دي، عيني كانت على الشخص اللي موجود وقاعد لوحده، واللي بالمناسبة؛ كان بيستعد عشان يطلع معايا، بدون ما عم "محمود" يطلب منه، حركاته وتصرفاته كانت بتقول كده، وفعلًا؛ أخدت شنطة العدَّة وطلعت من الأوضة، ومشيت ناحية الموتوسيكل، ولقيته جاي ورايا، ولما ركبت الموتوسيكل، لقيته بيركب، في اللحظة دي قولتله:
-السلام لله، يعني قاعد من ساعتها مابتكلّمش حد، ودلوقت هتركب معايا من غير ما أعرف اسمك حتى؟
-لو على اسمي بسيطة، الدنيا كلها هنا تعرفني، هتيجي عليك يعني؟ اسمي "بهاء".
-ومالك بتقولها كده وكأنك بتعطيني مكافأة، "بهاء" اسم عادي يعني.
حسيته مُش قابل هزاري، عشان كده قولت له:
-خلاص متزعلش ياعم، بهزر، يلا نتوكل على الله، طبعًا عارف مكان الكشك؟
-أكيد، ومين ميعرفش كشك رقم 5؟ وبعدين أنا أكتر واحد عارفه.
مرضيتش أعلَّق على كلامه، لكن من الواضح كده، إن الكُشك مشهور زيّه بالظبط، دا على كلامه يعني.
مفيش خمس دقايق وكنا هناك، نزلنا وركنت الموتوسيكل، وكان في كام واحد من أهل القرية واقفين، قربنا من باب الكشك، ولاحظنا إن مفيش حد منهم بيقرَّب، قولت تصرف عادي، مين يعني هيقرَّب من كُشك كهربا مفرقع، وناس من طوارئ الكهربا جايين يصلحوه، الأعمار مش بعزقة يعني.
فتحت الباب و "بهاء" دخل قدامي؛ وأنا دخلت وراه، ولأن الدنيا ضلمة جوَّه، كان لازم أستعين بكشاف النور، ولما فَتحته والكُشك نوَّر من جوَّه، اتفاجأت إني لوحدي في الكُشك!
بصيت حواليا وأنا مُش مستوعب، "بهاء" دخل الكُشك قدامي من ثانية بس، اختفى فين لما نوَّرت الكشاف؟
كنت بلتِفت حواليا زي المجنون، ومفيش على لساني غير:
-"بهاء"، يا "بهاء"!
لكنه فص ملح وداب، ولأن الناس بدأت تقرَّب من الكشك، بدأت أشتغل وأشوف العُطل فين، لكن "بهاء" مراحش من بالي، لحد ما وصلت للعطل، ولقيت إنه فيوز ضارب، ركّبت واحد جديد، وكلمت عم "محمود" وقولتله إن الدنيا تمام، وبعد ثواني؛ الكهربا وصلت والنور رجع، لكني وقفت على باب الكُشك زي التّايه، لحد ما واحد من اللي واقفين قال لي:
-هو أنت هتسيب الكُشك مفتوح ولا إيه؟ اعمل معروف، الكُشك ده مورّينا الويل وسواد الليل، اقفل بابه ربنا يكفينا شرّه.
كل اللي في بالي؛ إنه بيتكلم عن الكشك باعتبار إنه بيعطل كتير، وطبيعي يكون ده رد فعل الناس عليه، ومكانش في قدامي غير إني أقفل الباب، لأني ملقيتش مبرر لوقفتي دي، لكن قبل ما أقفل، ضربت الكشاف في الكشك، وبصيت بصة أخيرة، ومفيش حاجة اتغيَّرت، الكُشك فاضي!
كان تفسيري للي حصل، إن "بهاء" خرج من الكشك بدون ما آخد بالي، وعشان دماغي كانت في العُطل اللي حاصل، مانتبهتش له، وبما إنه قديم هنا، قولت يمكن راح هنا ولا هنا وهيرجع، عشان كده؛ أخدت الموتسيكل ورجعت على المحطة، وهناك، أول ما دخلت، لقيت عم "محمود" بيقولّي:
-كنت متوقع إن أول حاجة هتشتغلها هو كشك رقم 5.
لكني عملت نفسي مسمعتش حاجة، وسألته:
-هو "بهاء" رجع؟
عاوز أقول لكم، إن رد فعله لما سألته السؤال ده، كأني شتمته بالظبط، كان واقف مبحلق في وشي ومذهول، وبعدها قال لي:
-أنت عرفت الاسم ده منين؟ حد قال لك عليه هناك؟
-هناك فين؟
-عند الكشك.
-وحد هيقول لي ليه، ما "بهاء" خارج معايا من هنا.
حسيت إنه لمَس سلك عريان، وبدون ما يرُد عليا؛ دخل يجري على الراديو وبدأ يقلّب في المحطات، استفزّني بصراحة فقولت له:
-ما ترُد عليا، سايبني وبتلعب في الراديو اللي هو أصلًا قديم ومش عارف يلقُط محطة.
-ماهو لازم يلقُط، إذاعة القرآن الكريم مش لازم تفصل، هي وردية الليل كده، و "بهاء" مش هيجيبها لبر.
-أيون قول لي بقى مش هيجيبها لبر ليه، هو فين "بهاء"؟
-"بهاء" في المقابر.
-وراح المقابر يعمل إيه؟
-هو إيه اللي راح المقابر يعمل إيه؟ الميٍّتين اللي هناك مبلّغين عن كشك كهربا مفرقع، هيكون بيعمل إيه يعني؟ "بهاء" ميّت ومدفون من سنتين ونص.
بلعت ريقي من الصدمة، وبعد شوية ذهول كده قولتله:
-إيه اللي أنت بتقوله ده؟
-زي ما سمعت، كان شغال معايا هنا، وخرج يصلح عطل في كشك رقم 5 من سنتين ونص، وبعد ما بلغني إن الدنيا تمام، رفعت سكينة الكهربا، وبعدها دخل الكشك تاني ونسي يبلغني أفصل الكهربا، والنتيجة إن الكهربا مسكته، الله يرحمه بقى، من وقتها والكشك ده متعفرت، كل يوم والتاني يفرقع، الناس بقت بتتشائم منه، حتى أنا، بقيت أحِس من بعدها بإن في حد معايا هنا، معرفش إن كان ده حقيقة، ولا تأنيب ضمير لأني مفصلتش الكهربا، بس أنا هعرف منين، كان لازم هو يبلغني، ما هو أنا مُش هشِم على ضهر إيدي، إحساس إن روحه ملازماني في المكان، مخليني علطول أفتح الراديو على إذاعة القرآن، الله أعلم في إيه بيحصل في المكان وإحنا مش قادرين نشوفه، وإحساسي بوجوده أكيد مش من فراغ.
دلوقت بس فهمت حاجات كتير، وعرفت ليه "بهاء" اختفى بمجرد ما دخل الكشك، وكأنها إشارة إنه انتهى في المكان ده، وعرفت ليه الناس قالت اللي قالته على الكشك، وقدرت أفهم ليه عم "محمود" لما قولت له مفيش حد جاي معايا، مقالش إن في حد معانا، وكان بيتكلم عن نفسه بس، والأكتر من كده، عرفت ليه كان بيشدِّد عليا، إني أكلمه يفصل الكهربا، لو كنت هدخل الكشك تاني، يمكن عشان ميحصلش معايا زي "بهاء"، وإحساسه بالذنب يزيد.
الأيام بدأت تفوت، وبقيت متعود على أعطال كشك رقم 5، ومتعود على معافرة عم "محمود" مع الراديو كل ليلة؛ لأنه دايمًا بيحاول يفتح على محطة القرآن وهو بيلتفِت حواليه، وكأنه حاسس بوجود "بهاء"، لكن اللي معرفوش، ولا حاولت أسأل فيه، هو هل يا ترى؛ بيبقى شايف "بهاء"، لما بيظهر في الليلة اللي بيعطل فيها كشك رقم 5 زي ما بكون شايفه ولا لأ.
***