_مساء الخير.
_مساء النور يا فندم؛ تحت أمرك..
_أوضة فردية لو سمحت.
_طيب أستأذن حضرتك في البطاقة؟
_طبعًا.. اتفضل.
_"أستاذ عُمر بهنسي"..
كان بينطق اسمي وهو بيكتبه من البطاقة، وكنت بسمعه في ملل، لأني بكره الروتين والإجراءات، وعُمري ما استمتعت بوظيفة قايمة على البيروقراطية، لكن في ناس بتكون مستمتعة وهي بتمارس الملل؛ أقصد الوظيفة الروتينية، ومش كده وبَس، دول بيبتسموا أثناء شغلهم، زي موظف الريسيبشن اللي بياخد اسمي، فضلت واقف، ملل الانتظار كان بيخرج مع كل زفير بيخرج منّي، لحد ما لقيت الموظف بيناولني البطاقة بدون ما الابتسامة تفارق وشُّه وهو بيقول لي:
_اتفضل البطاقة يا أستاذ عُمر..
أخدت البطاقة وانتظرته يكمل كلامه، ساعتها ناولني نسخة مفتاح وهو بيقول لي:
_أوضة ١١ يا فندم؛ إقامة سعيدة.
وقفت في مكاني وانتظرت حد ياخد مني الشنطة، لكن الريسيبشن كان فاضي، مكانش في حد غيري موجود، حتى الموظف عطاني ضهره وانشغل في أوراق موجودة على مكتب وراه..
بصيت تحت رجلي لقيت شنطتي اللي حطيتها جنبي بمجرد ما وقفت قدام الريسيبشن، حجمها كان صغيَّر لأن مفيش فيها غير طقمين؛ على قد اليومين اللي المفروض هقعدهم هنا، عشان كِدَه مكانش عندي مشاكل إني أشيلها وأطلع بيها..
أخدت الشنطه واتجهت ناحية السلم، طلعت الدور الأول زي ما هو مكتوب على ميدالية المفتاح، الأوضة رقم ١١ كانت أول أوضة على اليمين، فتحت ودخلت وقفلت الباب ورايا. أوضة متواضعة، سرير عادي المرتبة اللي عليه من القُطن، دولاب درفتين، ترابيزة صغيّرة مناسبة لشخص واحد ياكل عليها، وفي ركن الأوضة ترابيزة تانية عليها تلفزيون ملوِّن، ولأن مكانش واصل فيه أي سِلك خارجي، عرفت إني لو فتحته مش هلاقي عليه أكتر من القناة الأولى والتانية، والإرسال هيكون أي كلام بسبب إنه معتمد على إريل داخلي راكب في ضهر التلفزيون..
حطيت شنطتي في الأرض ودخلت فتحت الشباك، الليل كان قرَّب يدخل. الهوا اللي دخل الأوضة غيَّر جوَّها، وقفت في الشباك أبُص على الشارع، بعدها قعدت على السرير، طلَّعت تليفوني وطلبت رقم أخويا، وأول ما رد عليّا قُلت له:
_ازيك يا حمدي.
_الحمد لله؛ وصلت يا عُمر؟
_لسّه واصل، حجزت أوضة في بنسيون متواضع كده، لأني جيت فجأة ولفّيت ملقتش مكان فاضي.
_المهم إنك وصلت بالسلامة، قدِّم أوراقك وارجع، وعلى ما تقبل في الشغل نكون اتصرفنا في سكن كويس قريِّب من المكان اللي هتشتغل فيه.
كنت ساكت مبنطقش، بس كنت منتبه على صوت حمدي اللي بيقول:
_عُمر.. يا عُمر؛ رُحت فين؟
كنت مركّز مع شنطتي، لأني فاكر إني حاططها على بداية السجادة، لكن على ما فتحت الشباك ورجعت أكلم حمدي أخويا؛ لقيت الشنطة متحرَّكة ناحية ترابيزة التلفزيون!
_معاك يا حمدي.
_أومال مبتردّش عليا ليه!
_الصوت كان بيقطَّع، تقريبًا كده الشبكة هنا بعافية شوية.
_طيّب ولا يهمك، ارتاح دلوقت من المشوار ولما تقوم من النوم كلمني قبل ما تخرج.
قفلت المكالمة، بعدها قُمت ومشيت ناحية الشنطة، وقفت قدامها وأنا مبحلق، إزاي مكانها اتغيَّر! ولا أنا اللي حطيتها بإيدي في المكان ده والأمر اختلط عليا..
عشان أنهي الحيرة اللي كنت فيها، أخدت الشنطة وحطيتها جنب السرير، لأن طول ما هي في المكان ده دماغي هتفضل شغّالة، وهفضل أفكّر هل فعلًا أنا حطيتها في المكان ده ونسيت؛ ولا في شيء مش مفهوم حصل، خصوصًا وإني مقرَّبتش من ترابيزة التلفزيون.
لمّا بصيت من الشباك لقيت الليل دخل، ساعتها قفلته ورجعت للسرير من تاني، بس معرفش ليه الشنطة كانت شاغلة تفكيري، فضلت قاعد وعيني مراحتش من عليها، ولمّا الإرهاق زاد عليا فردت ضهري على السرير، بصيت في السقف وأنا حاسس إن عيني بتغمَّض غصب عني، وبصراحة كسِّلت أفتح الشنطة وأطلَّع طقم أنام فيه، عشان كده رُحت في النوم بهدومي.
صوت كركرة الشيشة كان مالي الأوضة، والدخان اللي طالع منها كان ساحب الأوكسجين من المكان، كنت باخد النَّفَس بالعافية، وفي وسط كل ده كنت سامع حد بيتكلم..
مكانش صوت شخص واحد، دول كانوا اتنين بيردوا على بعض...
_إيه يا فتحي.. هتسحب حجر الشيشة في نَفَس واحد!
_حقّي يا جمعة، أنا عريس ودخلتي بُكره، لازم أظبط دماغي.
_ابسِط يا عم، آخر ليلة ليك في حياة العزوبية.
_على قولَك، من بُكره أحلام هتنوَّر البيت، وبدل ما أسهر مع خنشور زيَّك؛ هسهَر مع الحتة الطريَّة اللي في حياتي.
_عقبال ما القشية تبقى معدَن وأحصَّلَك يا فتحي.
_انوِي أنت بَس وأنت تحصَّلني في شهرين زمن.
_لأ يا فتحي، إحنا أصحاب وكل حاجة، نسهر مع بعض، أنا وأنت وتالتنا الشيشة، إنما أشتغل معاك يفتح الله.
_بلاش دماغك تبقى ناشفة، اسمع الكلام.
_الله الغني يا عم، واقفِل السيرة دي بقى؛ متطيَّرش مفعول الحجر اللي شربناه.
صوت الكركرة زاد وريحة الدخان بقت أبشع من الأول، وفي وسط الدوامة دي سمعت صوت خرفشة، زي ما يكون في حد بيحاول يطلَّع كبسولة من شريط علاج، بس فجأة الصوت ده اختفى وحل مكانه صوت واحد من اللي كانوا بيتكلموا:
_يخرب بيتك يا فتحي؛ إيه اللي أنت رايح تبلبعه ده! هي وصلت إنك تبلبع حبوب ممنوعة؟!
_ممنوعة إيه بس يا جمعة؛ دول حبّايتين لزوم الفرح، أصل المعلم عتمان غمزني بيهم وقال لي: حباية اسمها حتى مطلع الفَجر؛ وحباية تانية اسمها راعي البقر، ووصَّاني آخدهم قبل الدخلة بـ ٢٤ ساعة.
_أنا خايف تكون الحبوب دي جدول وتغيِّب عقلك، وبدل ما تبقى دُخله تتقلِب خارجة.
_متبقاش فقري يا جمعة، ومتحبِّكهاش دي بُكره ليلة العُمر.
فتحت عيني ولقيت نور الأوضة مفتوح، استعذت بالله من الشيطان، أنا ليه بحلم الحلم ده! مين الناس اللي بتتكلم دي وليه حلِمت بيهم، والغريبة إنه حلم بطريقة مختلفة، على عكس الأحلام العادية؛ اللي بنكون فيها شايفين وسامعين وحاسِّين بكل حاجة، لكن هنا أنا كنت سامع صوتهم وبس..
لكن تفكيري اتغيَّر فجأة، لما لمحت خيوط دخان سارحة في جَو الأوضة، ريحة الشيشة كانت لسَّه موجودة، جسمي اتنفض من السرير، إزاي الدخان وريحة الشيشة خرجوا من الحِلم!..
رفعت راسي من على المخدة، بصيت في كل ركن من الأوضة، أنا مُش بحلم..
ده اللي خطر في بالي بمجرد ما عيني لمحت طبلية بلدي على الأرض، بالتحديد قدام ترابيزة التلفزيون، كان عليها طبق فيه معسِّل وبواقي فَحم والع وكام حجر شيشة فاضيين!
كل اللي فكّرت فيه هو إن الأوضة دخلها حد وأنا نايم، بس دي أوضة فردية، يعني المفروض مفيش حد معاه مفتاحها غيري..التفسير الوحيد إن موظف الريسيبشن عطاني رقم أوضة بالخطأ، أو عطى غيري نسخة مفتاح أوضتي برضه بالخطأ..
بس لو افترضنا إن التفسير الأخير هو اللي حصل، إزاي دخلوا وسهروا وأنا نايم بدون ما حد يستغرب وجودي! إيه التهريج اللي بيحصل ده!
في عز الحيرة اللي كنت فيها، لمحت تليفون أرضي على الكومودينو اللي جنبي، جنبها كان ملزوق ورقة فيها الأرقام اللي ممكن أحتاجها، طلبت رقم الريسيبشن، ولما المكالمة اتفتحت سمعت صوت الموظف:
_صباح الخير يا فندم.
_صباح إيه؛ النهار لسّه مطلعش!
_لكن الساعة تجاوزت ١٢ يا فندم، أأمرني، في أي مشكلة بتواجه حضرتك؟
_كان في ناس موجودين في الأوضة أثناء ما كنت نايم، ولمَّا صحيت لقيت حاجات غريبة، دخان شيشة وطفي فحم وحجارة معسل فوق طبلية بلدي.
_كلام إيه اللي بتقوله ده يا فندم!
_زي ما سمعت كده بالظبط.
_مفيش حاجة من دي يا فندم، وأي أوضة فردية عمومًا مفاتيحها بتكون مع الزبون ومع الريسيبشن بس.
_يعني أنا متصل بيك في وقت زي ده عشان أهزَّر مثلًا؟ وبعدين لو مش مصدَّقني اطلع شوف بنفسك.
قفلت المكالمة وأنا متعصَّب، بعد ما موظف الريسيبشن بلَّغني إنه طالع. وقفت في الأوضة وأنا مبحلق في الطبلية البلدي والحاجات الغريبة اللي عليها، لحد ما سمعت صوت خبط على الباب، اتحركت وفتحت، لقيت موظف الريسيبشن في وشي، اللي أول ما شافني لقيته بيبُص في الأوضة، وساعتها سألته:
_اتأكدت بنفسك؟ تقدر تفسَّر اللي أنت شايفه ده؟
ابتسم لي ابتسامة مكنتش فاهمها، لكنه قال بعدها:
_هو إيه بالظبط اللي عاوزني أفسَّره يا فندم؟
شاورت ناحية الطبلية عشان يشوفها، يظهر إنه مأخدش باله منها، ومع حركة إيدي رميت عيني ناحية المكان اللي بشاور عليه، عشان أتجمِّد من الصدمة، الطبلية مكانتش موجودة، مكانش ليها أثر، لا هي ولا الحاجة اللي كانت عليها!
مكنتش عارف أخرج من الموقف اللي أنا فيه ده إزاي، ده أنا صحيت من النوم على الصوت وريحة الدخان، وقفت مبلِّم، لحد ما موظف الريسيبشن قال لي:
_يلزم أي خدمة يا فندم؟
لساني منطقش بكلمة، وده اللي خلَّى موظف الريسيبشن يكمل كلامه...
_جايز يا فندم اللي شُفته كان حلم تقيل شوية، أو كابوس، شكلَك مش متعوّد إنك تنام برَّه فرشتك، عشان كده شُفت كل اللي أنت بتحكيه وفاكر إنه حقيقة
.
بعد اللي حصل؛ وجود الموظف مكانش لُه مبرر، عشان كِدَه استأذن ونزل، بعدها قفلت الباب ودخلت الأوضة، مشيت ناحية السرير، لكن لقيت خطواتي بتتجمِّد في مكانها، شنطتي اللي كانت جنب السرير؛ اتنقلت بطريقة غير مفهومة ناحية الترابيزة اللي فوقها التلفزيون!
هي الأوضة بتلاعبني ولا إيه!
سألت نفسي السؤال ده ومكانش عندي إجابة، بدأت أتحدّى خوفي، مشيت ناحية الشنطة وأنا بحاول أفهم إيه الحكاية، الوقت فات وأنا واقف قدامها، لكن بدون ما أي حاجة تتغيّر، السكون كان مسيطر على كل حاجة، ولما لقيت إن وقوفي قدام الشنطة زي عدمه؛ سيبتها في مكانها ورجعت على السرير..
في حاجة مش مظبوطة، والحاجة دي أكيد فيَّا أنا، بدليل إن موظف الريسيبشن لما طلع مشافش حاجة من اللي شُفتها، وأكيد كمان إن الشنطة في مكانها ده من وقت ما دخلت الأوضة، وأنا اللي بيتهيّأ لي إن مكانها بيتغيّر.
رميت عيني على ساعتي ولقيت إنها اتنين صباحًا، افتكرت الميعاد اللي ورايا الصُّبح بدري، قررت أنام ساعتين، جايز تظبُط المرَّة دي، فردت ضهري على السرير، كنت بغمض عين وبفتح التانية زي نوم الديابة، خايف أهلوس بأي حاجة من اللي شُفتها المرة اللي فاتت.
عيني غمَّضت تاني، بس بعد شوية سمعت باب الأوضة وهو بيتفتح، فتحت عيني ولقيت الباب مفتوح فعلًا، مكنتش شايف حد، بس سمعت صوت واحد من اللي كانوا بيتكلموا وهو بيقول:
_نورتي بيتك يا أحلام؛ ادخلي برجلِك اليمين.
كنت متنَّح على السرير وأنا شايف باب الأوضة مفتوح والصوت جاي من ناحيته، بدأت أخبط وشّي بإيدي عشان أثبت لنفسي إني مش بحلم، وفعلًا شعوري بالخبط أكِّد لي إني صاحي..
قُمت من السرير ومشيت ناحية الباب المفتوح، وقفت أبُص في الممر، مكنتش شايف أي حد، ومفيش تفسير للي حصل غير إن الباب اتفتح لوحده، أو إن حد في البنسيون بيزاول الزباين، بس اللي بيعمله ده هيعود عليه بإيه غير إنه يخسر سمعة البنسيون!
اللي حصل بعد كده كان غريب، لأني اتفاجئت بنفسي واقف في الأوضة والباب مقفول، وده معناه حاجة واحدة بَس، وهو إن كل اللي فات ده مكانش حقيقة، في شيء خلاني أتخيَّل كل اللي حصل، وأكيد كل اللي شُفته قبل ما موظف الريسيبشن يطلع حصل بنفس الطريقة، عشان كده مكانش له أثر ومنظري مكانش ولابد قدامه لما طلع..
قبل ما أرجع ناحية السرير عشان أكمل نوم؛ سمعت خبط على الباب، وقفت شوية عشان أتأكّد إن اللي بسمعه حقيقة، لحد ما الخبط اتكرر مرة والتانية، ساعتها فتحت الباب ولقيت واحدة سِت قدامي، كانت واقفة ومفيش على وشها أي تعبير، ملامحها كانت جامدة وبشرتها شاحبة، وعينيها مبحلقة فيا بطريقة غريبة..
فضلت باصص ناحيتها وأنا مستغرب، يا ترى إيه سبب إنها تخبَّط عليا في الوقت ده! وقبل ما أنطق بكلمة أو أسألها هي مين؛ لقيت نفسي برجع لورا من الصدمة، الست كانت واقفة قدامي بضهرها، وبرغم كده وشها هو اللي كان ناحيتي!
مكنتش متخيّل إن إنسان يقدر يلِف رقبته بالزاوية دي، لدرجة إنه يبان واقف قدامك بوشُّه رغم إنه واقف بضهره، وبمجرد إدراكي للحقيقة دي، لقيت رقبتها بتتشق بالعرض، وبمجرد ما الشَّق ظَهَر خرجت منه نافورة د.م غرَّقتني وغرَّقت الأرض قدامي..
رجليا فقدت وظيفتها فنزلت في الأرض، بدأت أزحف بضهري لورا وأنا بحاول أهرب من الدَّ.م، وبرغم كده المسافة بيني وبينها كانت زي ما هي، لأنها كانت بتقرَّب ناحيتي، لحد ما لزقت بضهري في السرير، ولحد هنا المسافة بيني وبينها بدأت تقِل، الد.م بدأ يطولني من تاني، هدومي ووشّي غرقوا د.م، غمِّضت عيني عشان مشوفش المنظر، وفضلت على الحال ده؛ حاسس بحرارة الد.م اللي بيخبط في وشي، لحد ما كل اللي بيحصل تلاشى.
فتحت عيني بعد فترة، الخوف كان مانع جفوني يبعدوا عن بعض، فتَّحت بصعوبة، بصيت في الأوضة بخوف، كل حاجة كانت طبيعية، لكن اللي مكانش طبيعي إني لمحت النهار طالع، معرفش الوقت ده فات ازاي، محسيتش بأي حاجة، حتى أذان الفجر مسمعتوش، زي ما أكون نمت أو دخلت فجوة، وفي وسط تفكيري عيني وقعت على شنطتي، محسيتش بنفسي غير وأنا قايم من مكاني وبروح عندها، شديتها في إيدي ومشيت ناحية الكومودينو أخدت المفتاح، خرجت من الأوضة وقفلت الباب ورايا، مشيت بعد ما اتأكدت إن الد.م اللي كان مغرقني مكانش موجود، جايز تلاشى مع كل اللي حصل.
خطواتي موقفتش غير قدام الريسيبشن، ساعتها لقيت موظف تاني، ولما سألت عن الموظف اللي كان موجود لما وصلت، عرفت إن الشيفت بتاعه انتهى، في اللحظة دي ناولت المفتاح للموظف وطلبت منه يقول لي الحساب، طلب مني البطاقة تاني، طلعتها وحطيتها قدامه، ولما قرأ اسمي وبَص في الدفتر اللي قدامه قال لي:
_أوضة ١١؛ كده ليلة واحدة يا فندم؟
_أيون، ياريت الحساب لو سمحت.
خلصت معاه ومشيت، مكنتش محتاج أكتر من إني أسيب البنسيون، ولا كان فارق معايا أعرف سبب اللي حصل في الأوضة، محبّتش أفتح على نفسي باب مالوش لازمة، خصوصًا وإن معادش فاضل كتير على الميعاد اللي ورايا، وده كان سبب كافي إني أدفع الحساب وآخد شنطتي وأخرج من البنسيون بسلام..
_تلمَّع يا أستاذ؟
سمعتها بمجرد ما خرجت من باب البنسيون، ولما بصّيت ناحية اللي بيتكلِّم؛ لقيته جَزمَجي، كان قاعد بصندوق خشب في مكان قريّب من الباب، افتكرت الميعاد اللي ورايا وقُلت ألمَّع جزمتي، مشيت ناحيته وقعدت على كرسي جنبه بعد ما ناولته الجزمة اللي بدأ يشتغل فيها، لكني اتفاجئت إنه بيقول لي:
_شُفتهم؟
كنت فاكره بيكلم حد غيري، لكن لما عاد السؤال عليا سألته:
_مين دول اللي تقصد إني شُفتهم؟
_اللي في أوضة ١١.
بلعت ريقي وأنا بقول له:
_أنت تعرف حاجة عن اللي بيحصل في الأوضة؟
_باين عليك إنك شُفتهم، خطوتك وأنت خارج بتقول إنك هربان من المكان، خصوصًا إنك مكملتش ٢٤ ساعة جوَّه، أصل أنا قاعد هنا من كام يوم وعارف اللي داخل واللي خارج.
_البنسيون ده مسكون صح؟
_مش البنسيون كله.
_يبقى أوضة ١١.
_ولا أوضة ١١، العفش اللي في الأوضة هو اللي مسكون.
_لأ معلش فهمني الحكاية عشان أنا خلاص؛ عقلي هيطير وبقيت متأكد إني اتجننت.
_الحكاية قديمة، ومحصلتش في البنسيون بالمناسبة، دي حصلت في بيت واحد اسمه فتحي، كان ساكن في حارة، حالته المادية مكانتش تمام، وفجأة اشتغل مع تاجر سموم اسمه عتمان، القشية بقت معدن في إيده وحب يتجوز واحدة اسمها أحلام، كانت صاحبة نصبة شاي، وقبل الفرح كان سهران مع صديقه اسمه فتحي، وبلبع قدامه منشطات لزوم ليلة الدخلة، لكن في الفرح نفسه بقى، المعلم بتاعه عطاه حباية من السم الهاري اللي بيتاجر فيه، كان بيعمل معاه الواجب يعني، وتأثير الحباية مع تأثير المنشطات، عقله غاب ودبح عروسته، لأن الحبوب جابت نتيجة عكسية وحس بالإحراج قدامها، أظن أنت فاهمني..
كان بيحكي وهو شغال في الجزمة، زي ما يكون بيحكي حدوتة قبل النوم، وكنت بسمع له وهو بيكمل كلامه...
_لما اتقبض عليه قال إنه مكانش دريان بنفسه وهو بيعمل عملته، لكن فتحي اعترف عليه إنه أخد منشطات، لكن التحاليل اللي اتعملت له أثبتت إنه واخد سم هاري من اللي المعلم بتاعه بيبيعه، وأخرتها حبل المشنقة اتلف حوالين رقبته، والمعلم أخد تأبيدة، والعيال اللي بيشتغلوا معاه اتحبسوا، ومن بعدها تاجر موبيليا مستعملة اشترى العفش بتاعه من أخوه، وبدأ يبيع فيه، لكن كل اللي بيشتري الأوضة اللي حصلت فيها الجريمة، كان دايمًا يشتكي إنه بيسمع صوت فتحي وجمعة صديقة، وبعدها بيشوف أحلام وهي مدبوحة، عفش الأوضة اتنقل من بيت لبيت، وفي كل مرة كان بيحصل نفس الكلام، وأخرتها اتباع للبنسون ده من كام يوم بس واتفرش في أوضة ١١، ولأني بغيَّر مكاني من وقت للتاني حسب الزباين جيت وراها هنا، ولعلمك، أنت أوِّل زبون يخرج وأعرف من شكله إنه شاف الجريمة اللي حصلت ليلة دخلة فتحي على أحلام، ولسه اللي هيدخل الأوضة غيرك هيشوفها، لحد ما ريحة الأوضة تفوح والبنسيون يخلص منها.
لما خلَّص حكايته طلَّع جرنال قديم، كان مفتوح على صفحة الحوادث، وبالتحديد على عنوان جريمة في ليلة الدخلة. كانت نفس التفاصيل اللي حصلت معايا في الأوضة، ونفس التفاصيل اللي الجزمجي حكاها، ده غير إن كان في صورة مكتوب تحتها اسم فتحي، وصورة تانية لأحلام، أي نعم مشوفتش فتحي في الأحداث وكل اللي عرفته عنه هو صوته وبس، لكني شُفت أحلام، كانت نفس الست اللي ظهرت لي قدام الباب وهي واقفة بضهرها ووشها ليَّا في نفس الوقت.
_جزمتك يا أستاذ!
انتبهت لجزمتي اللي الجزمجي حطها قدامي، لبستها وطلعت جوز جنيهات وحطيتهم قدامه، شكرني وحط الجرنال في مكانه ومنطقش بعدها بكلمه، لكن أنا، أخدت شنطتي ومشيت، وأنا بقول في نفسي: فعلًا اللي يعيش ياما يشوف، واللي يسافر يشوف أكتر، بس مش لدرجة إني أشوف جريمة لمجرد إني دخلت أوضة فيها العفش اللي كان شاهد على الجريمة، لكن هو ده اللي حصل، واللي كان سبب كافي يخليني أغيّر البنسيون ده لحد ما أخلَّص اللي ورايا.
***
تمت...