آخر الموثقات

  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  • إيران من الداخل بعد الحرب.. 
  • معضلة فهم الحرب على إيران
  • نصر سياسي ايراني
  • قصة قصيرة/ وصاية الظل
  • ق ق ج/ سرُّ الشجرة والقوس
  • قليل من الحياة
  • حين كنت تحبني سرآ
  • رفاهية الضياع
  • وفتحوا المكاتب تخصص جديد
  • يمكن الطريق موحش!
  • الخلل
  • لا أعيش مع بشر
  • اسئلة عقدية خليلية 
  • جرح الكلمات
  • الصالونات الثقافية ...... هل هي بدعة جديدة ؟
  • الحب الصحي
  • المولوية
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شحاتة
  5. حوطة الأتوبيسات

النار اتخلقت على شان تاكل، هي الشيء الوحيد اللي ممكن يفترس أي حاجة، وتحولها لكومة تراب، ومتقولش المايَّه أقوى منها وإنها بتقدر تطفيها، في بحار مشتعلة، النار هناك والعة في المايَّه عادي، ده حال النار مع البحر أحيانًا؛ فما بالك بقى بحالها مع غيره.

ده كان الشيء المسيطر عليا وأنا قاعد قدام راكية النار، بسمع طقطقة الفحم اللي بيشعلل من وقت للتاني، ومركّز مع البخار اللي طالع من بوز البراد اللي فوق الفحم، كوباية الشاي التقيل أحسن شيء في البرد ده، كفاية بس إن الواحد يمسكها في إيده المتلّجة، أصل أنا شغلي بالليل، غفير على حوطة أتوبيسات قديمة، صاحبها تاجر خردة كبير ومعروف، وأنتوا عارفين الشغلانة اللي من النوع ده؛ الونيس الوحيد فيها؛ هو براد الشاي اللي دايمًا بيكون فوق الراكية الوالعة.

في العادي؛ بقعد أكلمّ نفسي طول النبطشي؛ وبقول يا واد يا بيومي مش عيب إنك تفضفض مع نفسك وأنت قاعد لوحدك بالليل، وأحيانًا بقوم أتمشى بين الأتوبيسات اللي في الحوطة، ألِف لفة كده وأتطمن إن كل حاجة تمام، والنهارده كان عندي خبر إن في أتوبيسات خردة دخلت الحوطة، على شان كده قررت بعد ما أشرب الشاي أقوم أتمشى، أشوف الضيوف اللي شرفونا جديد.

 

لما حسيت بالدفا بعد كوباية الشاي؛ أخدت بعضي وبدأت أتمشى، مكنش صعب إني أعرف الضيوف الجديدة، أنا حافظ كل مسمار في الحوطة هنا، ده اللي خلى عيني تلقُط الأتوبيسات الجديدة بسرعة، واللي كانوا تقريبًا صلاحيتهم انتهت على الآخر، دا حتى فيهم واحد كان على الصاج، زي ما يكون في حاجة وقعت الدهان بتاعه، وفاضي خالص من جوَّه.

 

لما اطّمِّنت إن كل حاجة تمام، أخدت بعضي ورجعت على مطرحي، لكن وأنا راجع؛ شميت في الهوا البارد ريحة دخان، قولت أكيد دخان الفحم اللي في الراكية واصل لحد هنا، بس بعد شوية تفكير؛ قولت مستحيل ريحة الفحم توصل المسافة دي كلها، الحوطة كبيرة والراكية عند البوابة، والريحة وصلاني وأنا في آخرها، ده اللي خلاني أحِس إن في شيء مش طبيعي، لحد ما بدأت أشوف دخان جاي من ورايا؛ وبيملى المكان واحدة واحدة، قلبي طب من مكانه، بصيت ورايا فجأة، شوفت النار ماسكة في واحد من الأتوبيسات اللي لسه واصلة النهاردة، قولت يا داهية دقّي، الحوطة هتولع، أخدت ديلي في سناني ورفعت الجلابية بإيدي؛ وجريت ناحية بوابة الحوطة، فتحت الحنفية اللي هناك، وشديت الجردل الفاضي اللي جنبها وبدأت أملاه، ولما اتملا لعينه؛ شيلته وجريت به ناحية الحريقة اللي ماسكة في الأتوبيس، لكن وقفت فجأة بعد ما جريت، لدرجة إن من المفاجأة؛ المايَّه اللي في الجردل اندلقِت، لأني اتفاجأت إن مفيش أثر للدخان ولا للنار، الحريقة زي ما اشتغلت فجأة بدون ما أعرف إيه سببها؛ انطفت فجأة برضه بدون ما أعرف مين اللي طفاها؛ ولا انطفت ازاي.

 

دماغي بدأ يلِف من اللي حصل، أنا شوفت النار بعيني؛ والدخان قفل مناخيري وصدري، حتى أثاره لسه موجودة، صدري بيحرقني وبعطس من وقت للتاني، الجردل اللي في إيدي وقع بسبب الصدمة اللي أخدتها، وحسيت إني قرّبت أقع جنبه في الأرض، بس مكنتش قادر أستسلم، كنت محتاج أفهم، الواحد مننا لما بيفهم بيرتاح برضه، يمكن ده السبب اللي خلاني آخد بعضي وأمشي ناحية المكان اللي النار كانت طالعه منه، أو على شان أكون دقيق؛ المكان اللي فيه الأتوبيسات اللي وصلت النهاردة، ولما وصلت هناك، لقيت ريحة قوية، نفس الريحة اللي بتكون موجودة بعد أي حريقة، ده معناه إن اللي شوفته مكانش تخاريف، يمكن نار ولعت وانطفت لأي سبب، بدأت أمسك في حديد الأتوبيسات المصدّي، قولت أكيد لو في نار مسكت في الأتوبيسات وانطفت بسرعة لأي سبب، أكيد هلاقي جسم الأتوبيسات سخن، بس محسّتش بالحديد سخن ولا حاجة، بالعكس، البرد كان غارز أنيابه فيه، زي ما هو مسيطر على كل حاجة حتى أنا، وفي عز ما كنت مستغرب، وبدوَّر على تفسير للي حصل، ولريحة الحاجات المحروقة اللي متركّزة في المكان ده بالذات، سمعت صوت خبط شديد من ورايا، زي ما يكون في أكتر من إيد بتخبط صاج الأتوبيس اللي ورايا، اللي النار كانت ماسكة فيه.

 

بصيت ورايا، واتفاجأت إن الأتوبيس بيتهز، زي ما تكون في قوَّة خفيّة عاوزة تحركه من مكانه، وقفت مستغرب، حاجة جديدة بتحصل قدامي ومش قادر أفسرها، الحكاية بتزيد، الأتوبيس بيتهز بشدة وصوت الخبط بيزيد معاه، وحيرتي بتزيد قصادهم، وزادت أكتر لما لقيت أكتر من إيد بتتمد من شبابيك الأتوبيس المكسورة.

 

قلبي وقع في رجلي؛ سألت نفسي الأيادي دي كلها بتاعة مين، وقفت متنَّح، الأيادي مش طبيعية، وأتمنى عيني متكونش خانتني من الصدمة والبرد اللي كنت حاسس بيهم، لأني شوفت الأيادي جلدها محروق، وزي ما يكون بيسيح وبيقع في الأرض، معرفش فات وقت قد إيه وأنا شايف اللي شايفه، لا قادر أقرَّب ولا أبعد، ولا قادر أصرخ من الخوف اللي جوايا، حسيت إني اتحولت فجأة لكُهنة زي الأتوبيسات الخردة، منظر في الفاضي لكنها مبتتحركش.

 

الأيادي بقت على العضم، شيء خفي خلى الجلد يسيح واللحم يسقط، لكن الغريبة إن كلها كانت في وضع الاستغاثة، زي ما تكون بتشاور وبتستنجد بحد، وفجأة كل ده اختفى؛ الأيادي وريحة الحريق، والدنيا رجعت لطبيعتها من تاني، بدأت ألتفت حواليا، يمكن ألمَح حاجة غريبة كده ولا كده، لكن ملقتش حاجة، الدنيا على طبيعتها، هادية زي ما اتعوِّدت أشوفها.

 

طول عمري وأنا عارف إن الشغل بالليل بيحصل فيه حاجات مش مفهومة، أنا برضه راجل كبير، وسمعت الكلام ده من ناس كتير، ودلوقت جه دوري على شان أسمع وأشوف بنفسي، لكن لقيتني بقول لنفسي: "جرى إيه يا بيومي، هتخرَّف على كِبَر ولا إيه، هتصدق اللي شوفته وسمعته، ولا هتصدق باللي قدامك دلوقت، واللي هو الطبيعي بتاع كل ليلة، لما الدنيا بتبقى هادية، ومفيش غير صوت طقطقة الفحم.

 

أخدت بعضي ورجعت على مكاني، ولما وصلت عند الراكية؛ قعدت ودماغي جابتني لكوباية شاي تانية، جايز أكون لسه خرمان ومحتاج شاي، واللي حصل ده بسبب إن دماغي مش مظبوطة، بدأت أصب كوباية تانية، ولسه برفعها على بوقي، ولمحت ناس بتجري وهي والعة في الحوطة، النار كانت بتاكل في أجسامهم، كان منهم اللي بيجري وهو بيحاول يطفي النار اللي ماسكة في جسمه، ومنهم اللي بيجري شوية وبينكفي على وشه شوية. من الفزع اللي كان جوايا كوباية الشاي وقعت عليا وهي سخنة، لكن للأمانة محسِّتش، وده مش لأني مبحسِّش أو إن الشاي السخن مأثَّرش فيا؛ بالعكس، بس الخوف اللي جوايا وقتها كان أكبر من إني أنشغل بنفسي، ما أنا ياما وقع فوقي شاي سخن، متعود يعني، لكني مش متعود على اللي بشوفه قدامي ده، مين دول وإيه الحكاية.

 

قومت مفزوع من مكاني؛ بعد ما نفضت الشاي اللي غرَّق جلابيتي، رجلي أخدتني لحد المكان اللي الناس كانت بتجري فيه وهي والعة، واكتشفت وأنا في طريقي إنه نفس المكان اللي شوفت الدخان والنار طالعين منه، يمكن الحكاية دي تاهت عن بالي، برغم إنها لسه حاصلة من دقايق بس، لكن المفاجآت اللي ورا بعضها مكانتش مخلياني أركز، أنا لحد دلوقت دماغي مربطتش الخيوط ببعضها، برغم إن كان في عامل مشترك بين كل اللي بيحصل، النار والدخان والأتوبيس والمكان، بس الواحد بتيجي عليه لحظات؛ بيحس إن دماغه تربِست وصدَّت من اللي بيحصل قدامه.

 

كل ده كان بيدور في دماغي؛ وأنا رجلي وخداني لحد هناك، ساعتها بدأت ألاحظ حاجة غريبة، وهو إني كل ما أقرب منهم، أحِس إنهم بيبعدوا، زي ما تكون المسافة بينا بتوسع تاني، أو هُما بيجروا منّي، مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل بالظبط، لكن مع الوقت بدأت أفهم، دول كانوا بيجروا ناحية الأتوبيس اللي كان شوفت النار ماسكة فيه، وبمجرد ما بدأت أفهم هما بيعملوا إيه، سرَّعت في مشيتي على شان أوصل، لكن اتفاجأت إنهم بيدخلوا الأتوبيس واحد ورا التاني والنار ماسكة فيهم، ولأن الأتوبيس أصلًا خردة ومفيهوش إزاز شبابيك، كنت قادر أشوف الأتوبيس من جوَّه، ومكنتش قادر أفهم إزاي ملمحتش ولا واحد فيهم جوه الأتوبيس، بالرغم من إنهم كانوا بيدخلوا قدام عيني، لكن كل ما واحد فيهم يدخل من الباب مكنش بيظهر جوه، زي ما يكون باب الأتوبيس بيوصّل لمكان تاني، أو جايز هما نفسهم بيختفوا بمجرد ما بيدخلوا.

 

للأمانة؛ نسيت إني قلبي ميت، وإني بيومي الغفير؛ اللي عامل زي الديابة وحياته كلها ليل في ليل، الشجاعة لها حدود برضه، أنا أقدر أواجه حرامي، قاطع طريق، أو هجَّان بينط من على سور الحوطة؛ على شان يسرق حاجة من الأتوبيسات، إنما مقدرش أواجه حاجة مش مفهومة.

 

حسيت إن رجليا لزقت في الأرض، وقفت مكاني لحد ما كلهم دخلوا الأتوبيس واختفوا، واستغربت من حاجة مأخدتش بالي منها غير متأخر، إزاي مسمعتش ولا واحد فيهم بيصرخ، يعني إيه النار تكون ماسكة في جتّة ناس ومحدش فيهم حتى يقول: آه، الحكاية دي لوحدها كانت كفيلة بإني أقف مكاني زي التمثال، كل اللي في بالي هو إن الحوطة اتعفرتت، في حاجة غريبة بتحصل، وقلبي بيقول لي إن الحاجة دي لسه جديدة على المكان، وبتحصل لأول مرة، ما أنا طول عمري غفير على الحوطة، ومشوفتش أي حاجة من دي، ومش عارف ليه جوايا إحساس إن أتوبيس من الأتوبيسات الخردة اللي لسه واصلة دي وراها سر.

 

بمجرد ما خمّنت اللي حكيته دلوقت، لقيت إن الأتوبيس اللي الناس دخلت فيه واختفت بيتهز من تاني، ودي مش أول مرة تحصل، ما أنا قولت لكم في بداية الحكاية إني شوفته وهو بيتهز، كأن في قوة بتحاول تنقله من مكانه، وبعدها صوت الخبط رجع من تاني، ومعاه بدأت أشوف الأيادي وهي بتخرج من شبابيكه المفتوحة من تاني، واللي حصل اتكرر، جلد الأيادي كان بيسيح وبينزل في الأرض، وبعدها لحمها بيقع والعضم بيظهر، وبيتفحَّم من تاني، وساعتها شمّيت ريحة الحريق مرة تانية، في اللحظة دي بدأت أفتكر الريحة، دي ريحة لحم مشوي، نفس الريحة اللي بتطلع لما النار تمسك في حيوان، أو في إنسان، ربنا يعافيكم يعني.

 

صوت الخبط بدأ يزيد، كان طالع من جوه الأتوبيس، وللمرة الأولى، بدأت أسمع صوت صرخات مع الخبط، وبرغم إنها صرخات بتعبر عن الألم والمعاناة، وكل شيء الإنسان ميقدرش يتحمله، بس كان في وسط الصرخات ناس بتُرتُل بكلام مش مفهوم، كلام برغم إني مقدرتش أفهمه؛ لكن قدرت أميّزه من بين الصرخات المرعبة اللي كنت سامعها.

 

بدأت أستعيذ بالله، وأخدت بعضي ورجعت على مكاني، كل اللي في بالي هي إن الحوطة اتسكنت باللي ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم، وبدأت أدوَّر على حل، وعلى قد تفكيري يعني، اللي جه في بالي وقتها هو إني أجيب راديو حجارة، وأشغَّله على محطة القرآن جنبي بالليل، ولو الأمور مبقتش تمام، أبقى أشوف الشيخ رضوان صديقي، ييجي يقرأ قرآن وبيصرف العفاريت دي، ده طبعًا هيحصل من غير ما حد يعرف، لأن لو الموضوع وصل لصاحب الشغل، هينسى السنين اللي اشتغلتها هنا، وهيرميني برَّه، دا راجل ميعرفش غير لغة الفلوس، وهيعتبر اللي بعمله شوشرة على سمعة المكان.

 

انتظرت في مكاني؛ لحد ما النهار بدأ يشقشق، قومت وفتحت بوابة الحوطة، على شان العمال كانوا بدأوا يوصلوا واحد ورا التاني، وبعدها وصل رئيس العمال، اللي بمجرد ما شافني قال لي:

-صباح الخير يا عم بيومي، بقولك إيه، عايزك تفضي مكان كده في الحوطة، الأتوبيسات اللي وصلت امبارح هتتقطَّع، على شان في تجار خردة جايين يشتروها.

 

معرفش ليه لما جاب سيرة الأتوبيسات اللي وصلت امبارح، شريط أحداث الليلة اللي فاتت عدى قدام عينيا، ماهو كل حاجة كانت بتحصل عندها، وحصلت بعد ما هي وصلت، ولما لقاني مش مركّز مع كلامي قال لي:

-عم بيومي، ركّز معايا الله يكرمك، أنت عاوز تنام ولا إيه؟ صحصح معايا كده، الحاج صاحب الشغل قال الحكاية دي تخلص النهاردة، أنا معرفش هو مستعجل على المصلحة دي ليه، بس بيقول إنه عاوز يخلص منها.

 

قولت له إني هبدأ أجهّز مكان للأتوبيسات تتحط فيه بعد ما تتقطَّع، وفعلًا؛ بدأت أفضي مكان قريب منها، على شان قطع الغيار والصاج مياخدوش وقت طويل في نقلهم، وساعتين زمن والمكان كان جاهز، في الوقت ده العمال كانوا بدأوا يشتغلوا تفكيك وتقطيع في الأتوبيسات، وعلى الضُّهر كانوا خلصوا من أول أتوبيس ومفيش حاجة حصلت، وبرغم إن قلبي كان مقبوض، لكن بمجرد ما أول أتوبيس خلص حسيت براحة، واتطمنت شوية، وقولت اللي حصل بالليل ده تخاريف، الليل يا ما بيداري برضه؛ ودي حوطة خردة وفي مكان شبه مقطوع.

 

أخدت بعضي وروحت على أوضتي أريَح ساعتين، طالما يعني الدنيا ماشية تمام ومفيش حاجة، لكن بعد ما دخلت الأوضة وحطيت دماغي على المخدة وروحت في النوم، قومت مفزوع على صوت صريخ؛ وناس بتجري في الحوطة برَّه، قولت أكيد كابوس بسبب اللي شوفته ليلة امبارح، لكن لما بدأت أفوق والنوم يروح من عيني، وأركَّز مع الصوت أكتر، لقيته فعلًا جاي من الحوطة برَّه، فتحت شباك أوضتي على شان أشوف إيه اللي بيحصل، وساعتها لقيت رئيس العمال بيجري، والعمال بتجري معاه، كلهم كانوا رايحين ناحية الأتوبيس التاني، اللي شوفت النار والعة فيه، واللي كان عليه الدور إنه يتفكِّك.

 

النوم طار من عيني، وأخدت بعضي وطلعت جري على برَّه، كان لازم أشوف إيه اللي حصل، ولما وصلت عندهم، لقيتهم متجمعين عند الأتوبيس اللي شغالين فيه، قربت منهم على شان أعرف إيه الحكاية، لقيتهم ملمومين ورا واحد من العمال، كان مرمي في الأرض وفاقد الوعي، وكان جنبه واحد من العمال باين على وشه الرعب، وقفت وأنا مش فاهم اللي بيحصل، وسمعت رئيس العمال بيقول له: 

-هو كان بيصرخ ليه وإيه اللي حصل. 

 

لكن الواد زي ما يكون واكل سد الحَنك، مبحلق فينا ومبينطقش، وفين وفين لما اتكلّم ورد على رئيس العمال وقال له:

-كان بيقطع في جسم الأتوبيس، اتفاجأت إنه بيصرخ وبيقول في حاجة ماسكة إيدي، قولت يمكن إيده اتحشرت في الصاج أو حاجة، كلمته بدون ما أبُص ناحيته؛ على شان شغلي ميقفش، قولت له ينتبه لإيده، لكن لقيته بيصرخ وبيقول في إيد غريبة ماسكة إيدي، ولأن دي حاجة أول مرة أسمعها، بصيت ناحيته على شان أشوف إيه اللي بيحصل، ولقيت إيد متفحمه ممدودة من جوه الأتوبيس، وماسكه إيده اللي كان بيطقع بيها الصاج، مكنتش مصدق اللي شايفه قدامي، ومستحيل أنا وهو نكون بنهلوس في نفس الوقت، أنا شوفت الإيد بجد، وبمجرد ما استعذت بالله الإيد اختفت، وهو وقع في الأرض نَفس داخل ونَفس خارج بس، وأنا على الحالة اللي أنت شايفني عليها دي.

 

جسمي كان بيشوّكني من اللي بسمعه، تقريبًا وصف الإيد كان شبيه بالأيادي اللي شوفتها بتخرج من شبابيك الأتوبيس ده بالليل، ده اللي خلاني أشُك إن في حاجة غريبة، لكن اتفاجأت بإن رئيس العمال بيخبط كف بكف وبيزعق في العمال وبيقول بصوت عالي:

-يلا منك له كل واحد على شغله، واقفين تتفرجوا على إيه، الحاج عاوز الشغل ده خلصان قبل المغرب.

 

في لحظة كان كل واحد فيهم رايح على شغله، ومكنش في غيري أنا والعامل اللي واقع في الأرض، والعامل اللي كان معاه وقاعد مذهول من الصدمة، ساعتها رئيس العمال قرَّب مني وقال لي:

-بقولك إيه يا عم بيومي، خد مفتاح عربيتي وهتلاقي على الكرسي اللي جنبي راديو، هاته وتعالَ.

 

نفذت كلامه بدون ما أفكر، ولما جبت الراديو ورجعت، لقيته بياخده من إيدي وبيشغله على محطة القرآن، وبيطلب مني أجيب أي حاجة أحطها جنب الأتوبيس؛ وأحط عليها الراديو وأسيبه شغال على القرآن، الفار لعب في عبّي، وحسيت إنه يعرف حاجة ومخبيها عليا، وإنه لما قال لي إنه بينفذ كلام صاحب الشغل وبس كان بيشتغلني، أو عنده تعليمات إنه ميجيبش سيرة اللي يعرفه، بس كلنا هنا بناخد تعليماتنا منه، عملت اللي قال عليه بدون ما أتكلّم، واتفاجأت إنه بيطلب من العامل اللي كان لسه قاعد في الأرض، إنه يسيب الشغل ده، وطلب منه يعمل شغل تاني، وبعد ما العامل مشي، رفع تليفونه وطلب من واحد يبعت له جوز عمال على الحوطة ضروري، فهمت اللي بيعمله بدون ما أسأله، جوز العمال اللي هييجوا على عماهم دول، هيشتغلوا في تفكيك الأتوبيس ده، والقرآن شغال جنبهم، على شان بعد اللي حصل، مفيش حد من اللي كانوا موجودين هيرضى يشتغل.

 

بصيت للعامل اللي كان لسه فاقد الوعي في الأرض، وبعدها بصيت لرئيس العمال، وساعتها فهمني وقال لي:

-إيدك معايا يا عم بيومي، نوديه الأوضة عندك لحد ما يفوق.

 

ساعة زمن، وكان في جوز عمال جداد بيشتغلوا في الأتوبيس، وقبل المغرب كانوا مفكّكينه ومقطعين الصاج بتاعه، الحقيقة استغربت إن الأتوبيس على الصاج كده، لا فيه كراسي ولا حتى كاوتش، يعني مفيهوش حاجات كتير هتتباع، والمصلحة اللي جاية من وراه أي كلام، بس ده مش شغلي ولا ليا أتدخل فيه.

 

بعد المغرب، وقفت عربية نص نقل، ورئيس العمال بدأ يطلب من كام واحد إنهم يحملوا الأتوبيسات اللي اتقطعت؛ على شان العربية تاخدهم وتمشي، معرفش على فين، بس أكيد على مصنع من المصانع اللي بتعيد تدوير الخردة، واللي عادة الشغل بيطلع من هنا عليها، وبمجرد ما العربية أخدت الشغل ومشيت، حسيت إن رئيس العمال بياخد نفس عميق، زي ما يكون في هم وانزاح من على قلبه.

 

من حظي إنه مأخدش باله إني واقف قريب منه، لأنه كان مشغول في تليفونه، زي ما يكون بيدوَّر فيه على حاجة، وعرفت إنه كان بيدوَّر على رقم حد، لأنه رفع تليفونه على ودنه، وبعدها لقيته بيقول:

-مساء الخير يا حاج.

 

ساعتها عرفت إنه بيكلم الحاج صاحب الشغل، والمكالمة دي فسَّرت لي كل حاجة، خلوني أحكي لكم اللي سمعته من رئيس العمال...

"الأتوبيس إيّاه اتفوَّر يا حاج وطلع من الحوطة خلاص، قول للحاج عماد إني خلَّصت المهمة وأنجزتها، خليه يتوصى بيا في أي حاجة، حضرتك أبو المفهومية، بالحق؛ كان في واحد من العمال هيموت بسبب الأتوبيس ده، وقول له برضه يعمل صيانة لأتوبيسات شركته، بدل ما كل شوية تحصل كوارث بسببها، محدش من الناس هنا يعرف إن ده أتوبيس السياح اللي حصل فيه ماس كهربائي وولع والسياح اتحرقت فيه من كام شهر، كده هيضرب السياحة".

 

كنت واقف مصدوم وأنا بسمع اللي رئيس العمال بيقوله، واللي طلع فعلًا عارف الحكاية، بس عنده تعليمات ميجيبش سيرة، لكني كنت لسه مركّز مع كلامه...

"العفاريت اللي الحاج عماد اشتكى منها، طلعت حقيقة، الواد اللي فقد الوعي بيقول: إن في إيد متفحمه اتمدت من الأتوبيس ومسكت إيده، يعني الكلام طلع صح، لما غفير الكراج عند الحاج عماد قال له إن الأتوبيس اللي والع ده بتحصل فيه حاجات مخيفة بالليل، وده اللي خلاه عاوز يخلص منه".

 

بعدها بدأ ينهي المكالمة وهو بيقول:

"ماشي يا حاج، تحت أمرك، اتفضل يا حاج، اتفضل".

 

قبل ما المكالمة تنتهي، كنت ماشي من المكان اللي كنت فيه، على شان مياخدش باله إني سمعته، بس بعد ما فهمت كل حاجة، الحاج عماد صاحب شركة سياحة، وصديق للحاج صاحب الشغل بتاعنا، من كام شهر حصلت عنده حادثة، أتوبيس كان فيه سياح حصل فيه ماس كهربائي، النار مسكت فيه والبيبان متفتحتش والسياح ولعت، مفيش حد طلع حي من الحادثة، فات شهور على الكلام ده، لدرجة إن الناس نسيت الحكاية، ما هو كل حاجة بتحصل؛ بتخليك تنسى الحاجة اللي قبلها، على شان كده الناس اللي ظهرت لي كانت والعة، والأيادي كانت بتتحرق وبتتفحم، وشوفت النار والدخان وريحة اللحم اللي بيتحرق، وفهمت ليه سمعت وسط الصرخات ناس بتُرتُل بكلام أنا مش فاهمه، على شان بيتكلموا بلغة أنا مُش فاهمها لأنهم سياح، فعلًا كل حاجة اتفسرت ووضحت، وتقريبًا لما الحاج عماد نقل الأتوبيس عنده في الكراج، حصلت بسببه حاجات غريبة وطلب يتخلص منه، وملقاش قدامه غير صديقه، صاحب الشغل بتاعنا، وطلب منه يخلصه من الأتوبيس ويفككه ويبيعه خردة.

 

كل اللي خمِّنته كان صح، لأن الليلة دي الدنيا رجعت لطبيعتها، الحوطة كانت هادية زي ما اتعودت عليها طول السنين اللي فاتت، لا سمعت فيها صوت، ولا شوفت نار، ولا حسيت بأي حاجة، وده دليل إن كل اللي حصل كان بسبب الأتوبيس اللي حصلت فيه الحادثة والناس اتحرقت فيه، واللي كان عندي في الحوطة بدون ما يكون عندي خبر.

 

تاني يوم الصبح، بعد ما العمال وصلوا والدنيا بدأت تشتغل، طلبت من رئيس العمال إذن ساعتين تلاتة، قولت له إني هوصل المستشفى أكشف على صدري وراجع، وبعد ما قال له كلمتين ملهومش لازمة، زي بطل شيشة وأنت هتبقى كويس، والكلام الفارغ ده يعني، وافق إني أروح، بس أنا كنت كويس ومش بشتكي من حاجة، لكن كنت رايح للشيخ رضوان صديقي؛ وصلت لحد بيته وندهت عليه، وطلع قعد معايا على المصطبة وطلب من مراته كوبايتين شاي، زي ما متعودين إننا نقعد دايمًا، ولما الشاي وصل، لقيتني بقول له:

-أنا جاي أسألك عن حاجة.

-خير يا بيومي، اسأل.

-هي الناس اللي بتموت بيطلع لها عفاريت؟

ضحك كده وقال لي:

-طول عمرنا أصحاب، أول مرة تسألني السؤال ده.

 

محبتش أحكي اللي حصل، لكن قولت له:

-عادي يعني، من باب العلم بالشيء مش أكتر.

-طيب بص يا سيدي، الروح عمومًا بتطلع اللي خلقها، لكن في حاجة مهمة، اللي بيموت موتة طبيعية على فرشته، روحه بتطلع لربها وحكايته بتنتهي وخلاص، إنها اللي بيموت موته مش طبيعية، حادثة مثلًا أو مقتول أو محروق، لا قدر الله يعني، روحه بتطلع للي خلقها برضه، لكن قرينه بيفضل فترة في المكان اللي صاحبه مات فيه، والقرين شيطان خبيث، لو مقدرش يأذي اللي في المكان، بيزاولهم ويحاول يضايقهم وخلاص، هي دي كل الحكاية، اللي بيموت مقتول أو موتة مش طبيعية، بيموت ويسيب قرينه في مكان موته، إنما في الحالتين الروح بتطلع لربها، وأهو كله موت.

 

خلصت قعدتي مع الشيخ رضوان، ورجعت على الحوطة، طول الطريق كان جوايا إحساسين عكس بعض، أول واحد فيهم هو إني كنت حاسس بأمان شديد، لأن الليلة اللي فاتت عدت في سلام، وده معناه إن الحكاية انتهت، بمجرد ما الأتوبيس إيَّاه اتفكك وخرج من الحوطة، والإحساس التاني كان رهبة، وهو لما فهمت إني قضيت ليلة في الحوطة، وكان معايا عفاريت أو قرين ناس ماتت محروقة، مفيش أي علاقة تربطني بيهم، غير إنهم نزلوا ضيوف عندي ليلة واحدة بس، لكنها كانت ليلة شوفت فيها رعب العمر كله!

تمت...

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب333719
2الكاتبمدونة نهلة حمودة189537
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181224
4الكاتبمدونة زينب حمدي169705
5الكاتبمدونة اشرف الكرم130941
6الكاتبمدونة مني امين116765
7الكاتبمدونة سمير حماد 107679
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97814
9الكاتبمدونة مني العقدة94932
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين91557

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
2الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
3الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
4الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
5الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
6الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
7الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
8الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
9الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14
10الكاتبمدونة محمد بوعمامه2025-06-12

المتواجدون حالياً

1957 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع