يادوب دخلت من بوابة الجامعة ورايح عادي ناحية الكلية، وأوّل ما قرَّبت من الكافتيريا اللي قبل الكلية لقيت "كريم"، كان قاعد بيشرب قهوة، هو مَنتبَهش إنّي جيت، لكن تعمَّدت إني أدخل الكافتيريا من غير ما ياخُد باله وأقف وراه، ولمّا عملت كِدَه لقيت حاجة غريبة، كان فاتِح كشكول المحاضرات، وبيكتب ملاحظات عن أشخاص انتحرت، وفي وِسط الكلام كان كاتب (أحلام، كوابيس، هلاوس)..
استغربت الموضوع، اضطريت أخلّيه ينتبه لوجودي فَمسكته من كِتفه، واللي مَيعرفش "كريم" كويّس أحب أقولّه إنّه نجمه خفيف أوي، بيتخَض بسُرعة؛ عشان كِدَه اتفَزَع وهو بيبُص ناحيتي، وبيقول...
-يا عم "عصام"، ارحمني بقى ما انت عارف إنّي بتخَض!
معلَّقتش على كلامه، اكتفيت بإنّي ضِحكت، وأنا بَشِد كُرسي بقرّبه من نفس الترابيزة اللي هو قاعد عليها؛ عَشان أقعُد وحطّيت الكُتب بتاعتي قُدّامي، وسألته...
-مشغول في إيه كِدَه؟!
ولقيته خَد نَفس عميق، وهو بيتنهّد وقال...
-حاسس إنّي هموت مُنتحر!
ضِحِكت بصوت عالي، وقولتله...
-بعد الشَّهر عليك.
وكُنت عارِف رَد فِعله، لقيته اتنَرفِز، وخَبط بإيده على الترابيزة وقال...
-هو إيه اللي بعد شَهر أنت كمان.. هو دَه وقت هزار يا "عصام"؟!
أنا حسّيت إنّه بيتكلّم بجد، بَس فِكرة إن واحِد ينهي حياتُه بانتحار دي فِكرة مُش سَهلة، مُش هندخل بقى في جِدال اللي بينتَحر كافر ولا مُخطئ؛ عشان دَه موضوع كبير، بَس إيه السَّبب اللي ممكن يخلّي حد ينتَحر؟!
كُنت بَبُص في وِش "كريم" اللي كان باين عليه إنه مُش بيهزّر، ودَه اللي خلّاني سألته...
-انت بتمُر بمشاكل في حياتك؟!
ولقيته بكُل بساطة بيجاوبني...
-لأ.
-أومّال إيه اللي يخلّيك تفكّر تفكير زي دَه؟!
-من أسبوع تقريبًا، وأنا بشوف حد بَينتحر.. بيرمي نفسه من مكان عالي.
-وهو دَه اللي مخلّيك تقول إنك هتموت مُنتَحِر؟!
-ماهو النهاردة أنا شوفت نَفسي مكان الشَّخص اللي بقولّك عليه دَه.. رَميت نَفسي، ومكُنتش شايف حاجة، ولا عارف أنا هنزل فين.. كُل حاجة حواليّا كانت ضباب.. مَفيش بَس غير إنّي كنت سامع صوت مَيّة.
-وسيادتك بقى بتسجل أحلامك في كشكول المحاضرات؟!
-بحاول أوصل لسبب يخلّيني أشوف الأحلام، أو الكوابيس دي.
-طيّب يلا؛ عشان فيه محاضرة مهمة.. اقفل كشكولك وتعالى نِحضر، وبعدين نتكلّم.
خرجنا من الكافتيريا، وروحنا نحضر المحاضرة، كُنت ملاحظ "كريم" كويس، كان سَرحان، بس عينه على الدكتور ويبان إنّه مركّز، لكن أنا كُنت عارف إنه في عالم تاني، والتفكير كان مسيطر عليّا برضه، بس كُنت فاهِم اللي فيها، ماهو اللي شافُه "كريم" وحكى لي عنّه مُش هيعدّي كِدَه، أكيد لازم الموقع يحُط بصمته.
لمّا المحاضرة خِلِصت خرجنا ورجعنا الكافتيريا تاني، قعدنا وطلبنا قهوة، كُنت محتاجها عشان أفكّر في حكاية "كريم"، والصراحة يعني أنا مكُنتش محتاج التفكير في موضوعه أوي، أنا مهما فكّرت هيكون تفكيري محدود، لكن اللي هيحِل اللغز بتاع أحلام "كريم" هو الموقع، عشان كِدَه كُنت بستَعِد لِرِحلة، كُنت عارف إن الموقع هيبعَتني ليها النهاردة.
حاولت أخفّف توتّر "كريم"، كُنت مرعوب أحسن يعمل حاجة في نفسه، عشان كَده قولتله وأنا بهزَّر، وبحاول أخليه يخرج من المود...
-ولا.. اوعى تعمل في نفسك حاجة بجد.. دا حِلم عادي.. مُمكن عشان قرّبنا على الامتحانات.
-الإحساس اللي بحس بيه بعد ما أصحى من الحِلم كان رهيب.. خايف تكون حالة مرضية، ومقدرش أسيطر على نفسي في يوم وأعملها.
-اعقَل يالا.. مَتبقاش مجنون.
وفضِلت وراه لحد ما قدِرت أخلّيه يخرج من المود اللي كان مسيطر عليه، أنا بَعرف "كريم" لمّا يكون مزاجه كويّس، ولاحظت دَه لمّا بدأ يستَجيب لِهزاري، وقَفل الكشكول اللي كان بيكتب فيه كوابيسه.
خرجنا من الجامعة، وأنا كُل تفكيري في اللي هيحصل لما الشَّمس تغيب، والموقع يظهر، وقبل ما أسيب "كريم" وأمشي قولتله...
-أحسن حاجة إن بيتك جنب الجامعة.. إنما أنا لسه هركب مواصلة.. فُكَّك من اللي بتفكَّر فيه ده.. هبقى أكلمك.
وسيبته ومشيت، وقَّفت تاكسي معدّي، وعطيته عنوان بيتنا، الوقت يادوب أروَّح آكل لقمة على السريع مع أمي، والمغرب يكون قرَّب، ولمّا وصلت لقيت أمّي مجهّزة الأكل، أكلت معاها واتكلّمت معاها شويّة، ولمّا لمحت الشَّمس بتغيب من الشبّاك قولتلها...
-هقوم أنا بقى؛ عشان عندي بَحث مهم عاوز أشتغل عليه.
ماهو لحد دلوقت محدش يعرف حاجة عن الموقع اللي ظهرلي، حتى "كريم" اللي بيشاركني في بعض الرحلات ميعرفش حاجة عنه، هو لحد دلوقت مقتنع إن اللي بيشوفه في الرحلات دي مجرد أحلام بتجيله.
دخلت أوضتي وقفلت الباب ورايا، وعلى طول روحت على اللاب توب فتحته، ويادوب بفتح متصفّح جوجل، ولقيت صفحة الموقع ظاهرة من غير ما أبحث أو أعمل أي حاجة، ومعاها سِمعت صوت مَيّة، الصوت زي ما يكون شلّال، وافتكرت "كريم" لمّا قالّي إنه مكنش شايف حاجة بس كان سامِع صوت مية، بَس اللي مُختلف هِنا هو إنّي سامِع صوت ناس بتستغيث، زي ما يكونوا بيتعذّبوا!
أنا في مكان تاني غير أوضتي، وطبعًا مُش محتاج أعرف إن دَه المكان اللي الموقع نقلني ليه؛ عشان أعرف سبب الصوت اللي سمعته، سواء صوت المية أو صوت الصرخات، وأكيد أحلام "كريم" هتتفسَّر في الرحلة دي.
المكان لو قولت إنه حاجة فوق الخيال مُش هكون مُبالغ في رأيي، أنا على قمّة جَبل مُش باين منّه حاجة من كُتر الأشجار اللي بتغطّيه، دا غير إن حواليّا جبال كتير بنفس الشَّكل، المكان عبارة عن جنّة خضرا، والهوا رَطب، والتَفَتت ناحية صوت المية اللي سامعه عشان أشوف شلّال غاية في الروعة والإبداع، سبحان الله فعلًا، المية والخُضرة لما بيتجمّعوا بيعملوا إبداع رهيب، دا غير طبعًا السَّحاب اللي كُنت حاسس إنّي قُريّب منّه جدًا، والبخار اللي كان بيطلع حوالين الشَّلال لمّا المية بتنزل، وتصطدم بنهر بيجري تَحت بين الجِبال.
كُنت عارف إنّي مش جاي هنا عشان أتفرّج على جمال الطبيعة، أنا جاي هِنا بسبب الحِلم اللي حكاه "كريم" وأنا فكّرت فيه، يعني بمعنى أصح أنا جاي هِنا؛ عشان أعرف تفسير حقيقي غير كُل التفسيرات اللي منتشرة عن حاجة لسّه لحد دلوقت معرفش إيه هي.
لكن تفكيري اتقَطع لمّا شوفت بِنت مُش كبيرة في السِّن، من النّوعية الشَّقرا، جمالها ياخُد العَقل، بَس كانت في حالة تِصعَب على أي حد يشوفها، شَعرها مَنكوش وهدومها تقريبًا مقطَّعة، بايِن عليها آثار ضرب وتعذيب وبتِبكي، كانت بتقرَّب منّي، هي طبعًا مُش شايفاني، زي ما انتم عارفين أنا غير مرئي لأي حاجة بشوفها في الرحلات اللي بياخدني فيها الموقع.
فضولي كان بيستفزّني عشان أعرف قصّة البنت، أنا عارف إني لازم هعرف القصة، بس حسّيت للمرة الأولى إنّي مُش قادر أصبر، لحد ما البِنت قرَّبت منّي جدًّا، وشوفت ملامحها عن قرب، بَس كان شاغلني أكتر الحالة اللي هي فيها، والحقيقة هي مكَنتش بتقرّب مني أنا، دي كانت بتقرّب من حافّة الجَبل اللي مية الشّلال بتنزل منها، ما هو لمّا الموقع نَقلني لقيت نفسي في المكان دَه، ومُش محتاجة ذكاء ولا مفهوميّة زيادة، أنا ترجِمت الموقِف قدّامي بإن البِنت دي هَتنتَحر.
وفعلًا اللي توقَّعتُه حَصل، بس محصلش بسُرعة، البِنت وقفِت وإيدها على قلبها، وبتاخُد نفَسها بالعافية، كان فيه سيل دَم نازِل من بوقّها، وكانت بتحاول تِلِم هدومها اللي اتقطَّعت لسبب أنا لحد دلوقت مُش عارفه، وفجأة سِمعت صوت خيل بيِصهل، ولقيت نفسي بلتِفت ناحيته، في نفس الوقت اللي البنت كانت بتلتِفِت فيه برضو، ولقيت خيل كان عليه واحد شَكلُه ثَري جدًّا، وحواليه خمس أشخاص باين عليهم الخَدَم بتوعه، وأوّل ما لَمَح البِنت على حافة الجَبل شاوِر ناحيتها وقال للي معاه "la mujer".
لو ذاكرتي مُش هتخونني، فأنا فهمت إنه بيقول "البِنت"، ماهو أنا أعرف كام مصطلح بالإسباني، ودي معنى اللي سِمعته باللغة الإسبانية، ولأوّل مرّة الموقع ميوصّلنيش الكلام مُترجَم بلُغتي، يِمكن عشان أنا عارف مَعنى المُصطَلح؟ معقول الموقع يكون واصِل للمرحلة دي من الدّقة؟!
بَس مُش هستغرب، الموقع دَه عنده إمكانيات رهيبة، ومعلومات تقريبًا مُش عند حد لحد دلوقت، دا حتّى مُش عارف أصلًا مين مبرمَجه، ودخَّل عليه الإمكانيات دي، وجمّع فيه الدَّاتا، وامتى ومنين وازّاي!
مُش عاوز أروح بتفكيري بعيد في موضوع الموقع، هو حاجة معدّية أي تفكير أصلًا، بدأت أركّز في اللي بيحصل، أوّل ما الخَدَم اللي حوالين الراجل اللي راكب الخيل سمعوا الكلمة، واتوجّهوا على طول ناحية البِنت اللي كانت بتبُص ناحيتهم، وهي مرعوبة وبترتِعش، وبتمسِك هدومها، وبتقرّبها أكتر ناحية رقبتها والخوف قاتِلها، لكن أوّل ما الخَدَم قرَّبوا منها صَرَخِت بكِلمة وقالت "بوشيكا"، وبعدها وبدون تردّد، رَمت نَفسها من الشّلال!
المَنظر فَظيع، البِنت صَرَخِت وهي بترمي نفسها، لكن الصوت بدأ يِبعِد كُل ما البِنت كانت بتقرَّب من الأرض، لحد ما الصوت اختفى تمامًا، والأفظَع من كِدَه إن الراجل ده شَد كُرباج كان معلّقه في جنبه ونِزِل ضَرب في الخَدَم، اللي كانوا واقفين محدّش فيهم يجرؤ إنه يتحرّك من مكانه برغم قسوة الضَّرب، وبعد كِدَه سابهُم واقفين، وجِري بالحصان، ورِجع من نفس الطريق اللي طِلِع منّه.
"بوشيكا"! أنا سِمعت المصطلح دَه فين قبل كِدَه؟!
بَس الموقع مسَمحليش إنّي أفكّر، نَقلني لمكان واسِع، ساحة معركة، وتقريبًا أنا رجِعت بالزّمن وقت طويل جدًا، المعركة مابين جنود راكبين خيل، ولابسين ملابس حرب قديمة، خوذة ودروع واقية، شايلين سيوف ورماح، جِيش مُنتَصِر وجيش تاني لا حول له ولا قوّة بياخدوهم أسرى، والوقت بيعدّي، وبشوف الأسرى عَبيد في بيوت أفراد الجيش اللي انتَصَر، الشّباب بيقوموا بأعمال شاقّة بالسُّخرة، والبنات لأعمال البيت والمُتعة، وأي حد بيخالِف أي أمر مكَنش بيلاقي غير الكُرباج، وأحيانًا بتوصّل عقوبته للموت.
مكُنتش محتاج شَرح عشان أفهم إن دي بَلد واقعة تَحت سطوة استعمار، وزي أي مُستعمِر ما بيدخُل بلد، بينهَب ثرواتها وبيسخّر أهلها في خدمته بالحديد والنّار، لحد ما لقيت نَفسي في بيت، وسمِعت اتنين بيتكلّموا مع بعض في السِّر من غير ما حد من البيت ياخُد باله، لكن طبعًا أنا هِنا الموقع عاطيني صلاحية إنّي أسمع وأشوف وأفهم كُل حاجة، وكان الكلام جايلي المرّة دي مُترجم بلُغتي كالآتي...
-هَنِهرب.
-لفين؟!
الإسبان استولوا على كل حاجة.. مفيش مهرب من تَحت إيدهم.
-إحنا شَعب "مويسكا ".. السُّكان الأصليين لكولومبيا.. لو مُش قادرين نِهرب من سطوة الإسبان.. نهرب لـ "بوشيكا ".. هو اللي وضَع النَّهر والشَّلال.. وهو اللي قادِر يحرَّر أرواحنا، ويحوّلها لِنسور.
ومَسمِعتش من الحِوار غير اللي عرفتوه دَه، ومن بَعدها لقيت نفسي في المكان اللي بدأت منّه الرحلة على حافة الجَبل عند الشَّلال، واتكرَّر قُدامي عدد لا نهائي من حالات الانتحار، أو عشان يكون تعبيري في محلّه، عدد لا نهائي من حالات هروب الكولومبيين اللي هما شعب "مويسكا" من بطش الإسبان.
الزَّمن اتغيَّر، لكن أنا على نَفس الجَبل، لكن في مكان قُريّب من اللي فيه الشَّلال، المكان كان موقع عمل، وشوفت معدّات حَفر وبِناء، فعرِفت إنّ الزَّمن اتقدّم بيّا تاني، ويادوب فضولي جابني إنّي أعرف أنا فين، وإيه موقع العَمل اللي لقيته فوق الجَبل دَه، ولقيتني واقِف قُدّام لافتة في الموقع مكتوب عليها "دِيل سالتو"، وبخط صغيّر كان مكتوب تَحتها "مشروع إنشاء فندق".
كِدَه الدُّنيا بقت واضحة، والخطوط وَصَلِت ببعضها، أنا من حوالي أسبوع كُنت بقرأ في موضوعات كان أغلبها عن فنادق اتشهر عنها إنّها مسكونة، وكان من بين الفنادق اللي قرأت عنها "ديل سالتو"، واللي اتشَهر عنّه إنه بيشهد حالات انتحار بعدد كبير لنزلاء الفندق، وطبعًا دي حاجة خلّت سُمعة الفُندق في الأرض، واتشهر بإنّه مسكون، وإن الأرواح اللي ساكناه بتحرَّض النزلاء على الانتحار.
أغلب الآراء اللي فسَّرت الظاهرة دي بتقول إن مكان الفُندق في حد ذاته على الجَبل يخلّيه يِتسِكن بالأرواح، خصوصًا إنه مَبني يُعتبر في مكان لوحده على الجَبل، دا غير إنه على الحافة التانية من الجَبل اللي مقابله للشّلال.
دي كانت معلومة من المعلومات اللي قرأتها عن "ديل سالتو"، لكن كالعادة الموقع كان له رأي تاني خالص، وهتعرفوا دَه دلوقت..
أنا اتنقلت للناحية التانية من الجَبل بالظبط قُدّام الفُندق، ماهو لمّا اتنقلت كان موقع العَمل اختفى، وبقى مكانه الفُندق، وبالمناسبة أنا قرأت إن الفُندق تم إنشاؤه سنة 1923، في ناس بتشكّك في التاريخ دَه، بَس دي مُش الحاجة المهمة بالنسبة لي، ولو مهمة بالنسبة للموقع كان زمانه قالّي على التاريخ المظبوط، بَس أنا هِنا عشان أعرف الحقيقة اللي خلّت الفندق يبقى مكان مهجور، بتسكنه الأشباح والأرواح اللي بتدفع النّاس للانتحار.
ولقيت نفسي واقِف قُدّام باب الفندق، واتفاجئت بـ "كريم" واقِف جنبي، الحقيقة كُنت مستغرب إنه مشاركنيش من بداية الرّحلة، بَس تقريبًا كِدَه الموقع بيبدأ يخلّيه يشترك معايا في الجزء اللي يخصُّه بس، ماهو شاركني في رحلات كاملة قبل كِدَه، وكان بيظهر في بعض الرحلات بدايةً من أحداث معينة، وأحيانًا كان بيختفي من الرحلة عند أحداث معينة برضو، ودوره بينتهي قبل ما الرحلة تنتهي.
-منوّر!
كُنت ببتسم وأنا بقولها لـ "كريم"، اللي كان بيبُصلي وهو مبيرُدّش، أنا حاسس إنه في الرحلة دي غريب، نظراته غريبة، حَرَكته كمان كانت زي مايكون بيتحرّك غصب عنه، أو حاجة لا إرادية بتحرّكه، وهو بيستجيب لِها لا إراديًّا كمان.
ولقيته بيسبقني ناحية باب الفُندق، مشيت وراه لحد ما وصلت لُه، ومِسكته من إيده قبل ما يدخُل من باب الفندق، وقولتله...
-انت سامِعني؟!
وبرضو نفس النَّظرة الصامتة اللي مراحِتش عن ملامحه من ساعة ما ظَهَر!
أكيد "كريم" مُش في الحالة دي من فراغ، محدش فينا هِنا بيُقصُد يعمل حاجة، الموقع هو اللي بيعمل كُل حاجة، وأكيد "كريم" ظَهر في الحالة دي لسبب هعرفه مع الوقت.
ودخلنا من باب الفُندق، وبعيدًا عن الموظفين اللي في الفُندق والنُزلاء، كُنت فاكِر إن المكان برّة وجوّ الجبال والشلال والأشجار هو اللي ينفع يتقال عليه روعة وإبداع، لا دا الفُندق من جوّة عبارة عن طبيعة موازية، أي نعم مفيش حاجة من صُنع الطبيعة موجودة جوّة، لكن الممرات الواسعة والسَّقف اللي عليهم رسومات طبقَ الأصل من الطبيعة اللي برّة كفيلة بإنك تطلق عليها طبيعة موازية، تِحس لمّا تدخل الفٌندق إنك لسّه واقِف في سِحر الطبيعة برّه.
ملاحظتش أي حاجة غريبة أوّل ما دخلت، الدُّنيا طبيعية جدًا والجو هادي، نُزلاء جايين للفُندق كان واضِح عليهم ثراء رهيب، بييجوا يتفرّجوا على الشلالات، ويقضوا كام يوم في الطبيعة، لحد ما لَفَت نَظري نزيلة جميلة جدًا، فكّرتني بالبِنت اللي هرِبت من بَطش الإسباني، وانتَحرِت من فوق الشّلال، وقَفِت على الكاونتر، وخلّصت إجراءات حجز جناح، وبعدها خدت مفتاح الجناح، وهي بتبتسم لموظف الريسيبشن بعد ما طلب من عامل كان قرّيب إنه يشيل شنطتها، ويوصّلها للجناح بتاعها.
والوقت عدّى، الليل دَخَل علينا، ولقيت نفسي في الجِناح اللي فيه النزيلة، وكان "كريم" مختفي، ومكُنتش عارف هو ظَهر ليه في الحالة دي، ولا اختَفى ليه، محبّتش أشغل بالي؛ عشان كُنت متأكّد إني هلاقي إجابة على سؤالي حتى لو اتأخّرت شوية.
أنا كان بالي في حاجة تانية، النزيلة اللي كانت قاعدة على السرير في الجِناح، وبتبُص ناحية الشِّباك اللي مفتوح، والجبال اللي متغطيّة بالأشجار برّة بالليل كانت مخلّية للڨيو شكل تاني، حاجة كِدَه تخلّيك تنجذب فعلًا، وكان في إيدها ورقة، وجنبها على الكومودينو محبرة، وفي إيدها التانية ريشة بتحطّها في المحبرة ما بين وقت والتاني، وبتبدأ تكتب جُمل بلغة أنا مُش فاهمها، والموقع مخلّانيش أتمكن من إنّي أفهمها، قولت يِمكن بتكتب حاجة خاصة بيها، ومُش من الصّح إن حد يطّلع على خصوصيات حد، دا تخميني السَّطحي يعني حسب اللي كان في دماغي ساعتها، لكنّها كانت مندمجة جدًا مع المنظر اللي في الشّباك، وصوت مية الشلال اللي كان مسموع في الوقت ده أكتر من النهار، عشان بالليل الهدوء بيزيد، والطبيعة بتسمح لصوتها إنه يرتفع، ويعلن عن سيطرتها على المكان.
لكن لَمحتها بتقوم من مكانها، تقريبًا كانت في الحالة اللي كان فيها "كريم" لمّا ظَهر معايا، وبدأت تقرَّب من الشِّباك، وقفت وكأنها غايبة عن الوّعي بتبُص على حاجة أنا مُش شايفها، لكن مع الوقت بدأت أسمع صوت خيل بيجري، وصوت الشلال بدأ يختفي من المَشهد، والمكان في الناحية التانية من الجَبل عند الشلال بدأ ينوّر، ولمّا بدأت أدقَّق في النّور لَمحت البِنت اللي شوفتها بتهرب من الإسباني والخَدم، وقرَّرت تَنتَحر من فوق الشّلال.
المَشهد بيتعاد تاني، لكن بطريقة مختلفة المرّة دي، البِنت ظَهرت، وكانت النزيلة بتبُص ناحيتها، وهي مسلوبة الإرادة وبتشاوِر لها، الوقت عدّى والمَشهد على الحالة دي، البِنت بتشاور للنزيلة، والنزيلة واقفة زي ما تكون في غيبوبة.
وفجأة!...
النزيلة سابِت الورقة والريشة من إيدها، وقعوا منها في الأرض، وبدأت تقرّب من الشّباك أكتر، وكُل ما تقرّب كانت البِنت بتشاورلها، كأنّها بتشجّعها على حاجة أنا مُش فاهمها، يِمكِن البِنت ظَهرت عشان تعلن عن المأساة اللي عدَّت بيها قبل ما تنتَحر وتفقد حياتها، يمكِن روحها متعلّقة في المكان، وبتِعمل كِدَه على سبيل الانتصار للبِنت؟!
الأسئلة كُلها وقَفِت لمّا لقيت النزيلة بتمسِك حافّة الشِّباك، وبتحاول تطلع عليه، فهِمت إن البِنت كانت بتشاورلها عشان تدفعها للانتحار، زي ما يكون حد فقد حاجة، فعاوز كُل النّاس تفقد الحاجة دي زيّه!
ويادوب ثواني، والنزيلة كانت واقفة على حافة الشّباك، لو كان بإيدي أمنعها كُنت منعتها، لكن أنا جاي هِنا في مكان غير مكاني، وزمان غير زماني عشان أعرف السّبب الحقيقي اللي خلّى الفُندق بقى مكان مهجور، ومسكون بالأرواح.
وهي يادوب صرخة، كانت طالعة من النزيلة بطريقة مخيفة، في نفس الوقت اللي البِنت عند الشّلال كانت بتصرُخ وبتقول "بوشيكا"، وبعدها النزيلة رَمت نفسها من الشِّباك!
في اللحظة اللي النزيلة سِقطت فيها كانت البِنت اختَفت من عند الشلال، كأنّها مكَنتش موجودة، والدُّنيا رجعت هادية زي ماهي، قرَّبت من الشِّباك، وأنا في قمة حُزني على النزيلة، وعلى البِنت برضو، لكن اللي مَنعني أبُص من الشِّباك هي الورقة اللي سقطت من إيد النزيلة، الكلام اللي كان فيها بينوّر بنفس النور اللي ظهرت بيه البِنت اللي انتحرت من فوق الشَّلال، والمرة دي قدِرت أفهمه، النزيلة كانت بتِكتب خواطر عن حياتها، وكانت جاية الفُندق تقضّي فترة راحة تَستَجِم وتكتب فيها، كُل ده مكَنش غريب ولا حاجة، لكن اللي استغربته فعلًا إنها وقَّفت كتابة في الخاطرة اللي بتكتبها وكتبت جملة غريبة، الموقع خلّاني أقرأها بلُغتي...
"من وقت ما الليل دَخل، وأنا مُش عارفة ليه بيراودني شعور بيدفعني إني أنتَحر!"
وفجأة بدأت أسمع دَوشة جاية من تَحت، فهمت إن الناس متجمّعين حوالين جثّة النزيلة، وشوية سمعت سارينة شُرطة وإسعاف، ومعاهم نور الفلاشرات اللي كانت بتتبدل بين الأزرق والأحمر والأخضر، وفجأة لقيتني اتنقلت من جناح النزيلة اللي رَمَت نفسها، وبقيت في الرسيبشن تَحت، كان الوقت متغّير، وكُنّا بالنهار والدُّنيا هادية، نُزلاء قاعدين في الرسيبشن بياكلوا ويشربوا عادي، وسمِعت اتنين بيتكلّموا مع بعضهم، وكان واحد بيقول للتاني...
-حادثة غريبة حصلت هنا من أسبوعين.. كاتبة إسبانية شابة انتَحرت أوّل ليلة ليها هنا في الفندق.. ولقوا الورقة اللي كانت بتكتب فيها مرمية في الأرض جنب الشّباك.. كان فيها خواطر بتكتبها.. وكانت كاتبة إنها عندها رغبة في الانتحار!
والزمن اتبدّل، ونفس المشهد كان بيتعاد تاني، بَس المرة دي كان شاب بيحجز جناح، وكان بيبتسم لموظف الرسيبشن، وهو بيستلم منه مفتاح الجناح، وواحد من العمال بيشيل شنطته عشان يوصّله.
ولقيتني بتنقل للجناح بتاعه، والحقيقة كان جناح تاني بيبُص على الشّلال برضو، بَس لمّا اتنقلت كانت الدُّنيا ليل، ومكنش فيه أحداث أشوفها، أنا أوّل ما ظَهرت في الجناح لقيت النزيل دَه واقِف على حافّة الشّباك، وكان فيه نور ظاهر عند الشّلال، مُش البِنت المرة دي هي اللي ظاهرة هناك، دا كان شاب، باين عليه آثار تعذيب برضو، وكان بيشاور للنزيل اللي خلاص كان واقف على حافة الشبّاك، ومُستعد يرمي نفسه، وفي الآخر استجاب لرغبة الشّاب اللي بيشاور له من عند الشلال، وفجأة رَمى نفسه من الشّباك.
ونفس اللي حصل بعد ما النزيلة رَمت نفسها اتكرَّر لمّا النزيل رمى نفسه، سارينة إسعاف وشرطة وفلاشرات، ولقيتني بعدها في الرسيبشن، وسمعت واحد بيتكلّم عن النزيل الإسباني اللي انتحر من شبّاك الجناح بتاعه، وإن الموضوع دَه حصل مع نزيلة قبل كده، وبرضو كانت إسبانية!
الوقت كان بيمُر، وحالات الانتحار من الأجنحة اللي بتبُص على الشّلال كانت بتتكرَّر كتير، وكُنت بلاحظ إن مع كُل حالة انتحار نزيلة كانت بتظهر البِنت عند الشلال، ومع كل حالة انتحار نزيل كان بيظهر الشّاب في نفس مكان البِنت، وفي كُل مرَّة كُنت بتنقل بعدها، وأسمع تعليق النزلاء في الرسيبشن، كان بيِلفِت نَظري إن المُنتحر إسباني أو إسبانية.
معقول الأشخاص اللي فقدوا أرواحهم عن طريق الانتحار، وهما بيهربوا من بطش الإسبان بينتقموا من الإسبانيين اللي بينزلوا في الفندق اللي في نفس المكان اللي انتحروا فيه؟!
ليه لأ؟! مفيش حد بيسيب حقّه..
هتستغربوا لو قولتلكم المكان اتغيّر تمامًا؟!
الفُندق بقى مهجور، الشَبابيك مكسورة والبيبان، دا حتّى فيه لبلاب بدأ يتسلّق على جدران الفُندق، ويتفرّع جوّاه من الشّبابيك، تِحس إن الطبيعة بَلَعِتُه جوّاها.
أنا واقِف دلوقت في جناح من اللي بيبصوا على الشلال، بعد ما الفندق اتهجَر طبعًا، وده واضح جدًا؛ لأن الجِناح فاضِي واللبلاب ماليه، وماشي على الحيطان والأرض والسقف، لكن أنا مُش لوحدي، دا فيه واحد واقِف على حافّة الشّباك، كُنت شايفُه من ضهره، واستغربت مين ساكِن الفُندق بعد ما اتهَجر!
لكن لحظة، أنا عارِف الشَّخص دَه، أنا شايفه من ضَهره بَس مُش غريب عليّا، معقول ده "كريم"!
بدأت أقرّب منّه، وكُل ما أقرّب صوت المية اللي نازلة من الشَّلال كان بيعلى، ولمّا قرَّبت ومسكته من هدومه، ولحقته قبل ما يرمي نفسه لقيته فعلًا "كريم"!
وبمجرد ما لحقته اختفى، مُش عارف إيه السَّبب، هو عمّال يظهر ويختفي بدون ما يشاركني أي حاجة، حتى ظاهر في حالة غريبة المرة دي، في نفس الحالة اللي كان بيبقى فيها النزلاء قبل ما ينتحروا!
أنا رجعت أوضتي، وقاعد قُدّام اللاب، وصفحة الموقع قُدّامي، صوت المية معَدش ظاهر، وشويّة لقيت صفحة الموقع بتبهَت، فعرفت إنه هيختفي، والرحلة كِدَه خلِصت، رغم إنّه سابلي لُغز محيّرني، هو "كريم" ظَهر ليه وهو عاوز ينتَحر، وإيه علاقته بالموضوع؟!
يادوب خطَفت ساعتين نوم، صحيت بعدهم، ولبست هدومي ونزلت الجامعة، كُنت عاوز أقابل "كريم" وأتكلّم معاه، وفعلًا لقيته في الكافتيريا، كان قاعد زي ماهو متعوّد قبل ميعاد المحاضرات، ولمّا وصلت للترابيزة اللي هو عليها سحبت كرسي وقعدت، وقولتله...
-إيه ياعم.. جرالك حاجة؟!.. انتحَرت أو حاجة حصلت؟!
لقيته بيبُصّلي، وهو مستغرب من طريقة كلامي اللي حسّيت إنه بيعتبرها سخرية، وبيقول...
-أنا كُنت مخنوق الفترة اللي فاتت.. وفكّرت فعلًا أنتحر وارتاح.
-ياعم وحّد ربنا كِدَه وبطل هَبَل.. مين فينا مش مخنوق.. هو كُل واحد هيتخنق من حاجة هينتَحر؟! إيه اللي خانقك احكيلي؟!
ولقيته موضوع عبيط لمّا قالّي...
-أكتر إنسانة حبّيتها في حياتي، ومعنديش إمكانية أتقدّملها في الوقت الحالي اتخطبت من عشر أيام.
عارفين يعني إيه إنسان يحب إنسانة وتروح منّه؟! فعلًا ممكن ميتردّدش إنه ينهي حياته عشان يتخلّص من الإحساس اللي بيعيشه، خصوصًا لو كان بيحبّها حب صادق، أنا واحد مجرَّب وفاهم دَه كويّس، لكن محبّتش أشجّع "كريم" على تفكيره، فقولتله وأنا بهوّن عليه...
-يابني هو في واحد ينهي حياته عشان واحدة؟! دول على قفا من يشيل يابا.. دول تلتين الكوكب.. دا حتى المفروض كُل واحد فينا يتجوّز اتنين عشان يبقى فيه توازن.
كُنت بضحك وأنا بقول كِدَه؛ عشان عارف إنّي بكذب على نفسي قبل ما أكون بكذب على "كريم"، وهو كمان كان مستغرب من كلامي، وعارف إني بحاول بَس أخفّف عنه الإحساس اللي مسيطر عليه، ماهو عاش معايا تجربة نفس تجربته دي، وفعلًا اللي بيحب بصدق لا بينسى ولا بيرتاح مدى حياته لو فقد حبيبته.
قعدنا نبُص لبعضنا واحنا ساكتين، بَس كانت فكرة واحدة هي اللي مسيطرة عليا، وأنا بربُط الأحداث ببعضها، يعني أنا قرأت عن "ديل سالتو" اللي بسبب حالات الانتحار اللي فيه اتشهر عنه إنه مسكون بالأرواح، في الوقت اللي "كريم" كان بيفكر ينتحر بسبب إنه فقد حبيبته، وبعد ما يقرّر يحكيلي يقوم الموقع واخدنا في الرحلة اللي فاتت دي، عشان يعرَّفني سبب اللي كان بيحصل في "ديل سالتو"، ولا عشان يعطي فرصة لـ "كريم" إنه ينفّذ رغبته في الانتحار في مكان مشهور عنه اللي عرفتوه دَه؟!
***
1- السكان الأصليون لكولومبيا فيما قبل وأثناء الغزو الإسباني.
2- قائد كان يعتقده شعب المويسكا إلهًا، وهو في عقيدتهم من وضع النَّهر وشلالات تيكوينداما.
تمّت...