دايمًا في خيط رفيع بيفصل بين النقيضين؛ شَعرة، حاجز برزخي مش متشاف، والحاجز ده كفيل ينقلك فجأة من طريق وردي؛ لطريق ضبابي عُمرك ما تتوقع إنك تمشي فيه.
صرخة إنجي مراتي كانت البداية، الشرارة اللي قامت منها حريقة أكلت حياتنا، والصرخة دي سمعتها في ليلة وقت ما كنت راجع من برَّه، دخلت البيت وطلعت على السلم، وبمجرد ما وصلت عند باب الشقة سمعت إنجي بتصرخ جوَّه، أعصابي فَلتت مني لدرجة إني مبقتش عارف أتحكم في إيدي وأنا بدوَّر على المفتاح في جيبي، وبعد رعشة إيدي وضربات قلبي اللي زادت وأنا بفكَّر في اللي بيحصل في الشقة؛ قدرت أوصل للمفتاح، ساعتها فتحت الباب ودخلت أجري زي المجنون، وفي الوقت ده شُفتها واقفة قدام باب الأوضة، كانت حاطّة كفوف إيدها قدام وشها وبتبُص في الأوضة بذهول، جسمها اللي كان واخد شكل القوس بيقول إنها أخدت صدمة شديدة، قربت منها ومسكتها من إيدها وأنا بقول لها:
-مالك يا إنجي، إيه اللي حصل فهِّميني؟
بعد ما بلعت ريقها أكتر من مرَّة عشان تقدر تتكلم قالت:
-البيت فيه حاجة مش مظبوطة يا آسر، حاولت أقول لَك الكلام دَه قبل كده بَس أنت لا بتصدَّق ولا عاوز تسمع.
-فهِّميني بَس إيه هي الحاجة اللي مُش مظبوطة!
-ما أنا ياما قُلت لَك إني من فترة بشوف خيالات غريبة بتمشي على الحيطان، وبحِس بأنفاس باردة بتخبط في وشّي، لكن النهاردة الحكاية اختلفت، قُمت من النوم على حد ماسك رجليا وبيسحبني من السرير، ولما فَتحت عيني وبصيت حواليا مَلقِتش حد، بَس كنت متحرَّكة من مكاني، وعشان متقولش إني كنت بحلم، أو بخرَّف زي ما كنت بتقول وقت ما بحكي لَك عن الخيالات، بُص على إزاز التسريحة وأنت تعرف إن كلامي صح.
استجبت لكلامها وبصيت ناحية التسريحة، وبمجرَّد ما عيني وقعت على المراية حسيت بعاصفة جليدية بتخترق جسمي وبتعدّي من بين ضلوعي، لأني قرأت ساعتها "أفعالك فتحت بوابات الجحيم عليك"!
الجملة دي كانت مكتوبة بقلم الرُّوج الأحمر على المراية، الخَط مكانش مُتناسق، الحروف كانت يادوب شابكة في بعضها، وبرغم كده قدرت أقرأ الجملة بوضوح، وللأمانة عشان مكونش بخدع نفسي وبخدعكم، شكِّيت في اللحظة الأولى إن دَه مقلَب إنجي مرتِّباه، وساعتها سألت نفسي سؤال، إيه مصلحتها إنها تألِّف وتمثّل الفيلم دَه كله، إحنا من وقت ما اتجوزنا وإحنا زي السمنة على العسل زي ما بيقولوا، عايشين في البيت كله لوحدنا، سايبها تنام وتقوم بمزاجها وواخدة راحتها أربعة وعشرين قيراط. كل ده كان بيدور في بالي وأنا عيني على المراية، مكانش عندي رَد أو تعليق على اللي شايفه، ولا قادر أتَّهم إنجي وأقول إن لعبتها مكشوفة، وفضلت على الحال ده لحد ما لقيتها بتقول:
-أنا مُش عايزة أقعد في البيت دَه يا آسر.
معلَّقتش على كلامها، سيبتها ورجعت على الصالة، قعدت وأنا بفِك زرار القميص اللي فوق عشان الخنقة اللي كنت فيها تروح، ساعتها كُنت بفتكر فرحتها لما قُلت لها إننا هنعيش في بيت الإسماعيلية، بيت مِلكي من دورين ورثته عن أبويا وأمي الله يرحمهم، أصل إحنا اتعرفنا على بعض في القاهرة، وقتها كنت عايش مع أبويا وأمي الله يرحمهم في شقة إيجار هناك، وكُنت معرَّف إنجي إننا بعد ما نتجوز هنعيش في بيتنا اللي في الإسماعيلية ونسيب شقة القاهرة، وبمجرَّد ما عرفت الخبر ده لقيتها طايرة من الفرحة.
كل حاجة كانت ماشية زي ما كُنّا مخطَّطين، حياة وردية زي ما الناس بتوصف الحياة لما بتكون ماشية على مزاجهم، لحد اللحظة اللي بدأ منها كلام إنجي ياخدنا لطريق تاني، طريق ضبابي متعرفش رجلك هتدوس فين الخطوة اللي جايَّة، عشان كده الحياة الوردية بدأت تتبدِّل بحياة معشِّش في أركانها العنكبوت، كل حاجة اتبدِّلت، وخصوصًا النهاردة؛ لما شُفت بعيني اللي مكتوب على المراية، بدون ما أعرف حقيقته، لو كان مكتوب بخط إيد إنجي، فأكيد هبدأ أخاف منها ومن اللي بتفكَّر فيه، ولو كان كلامها حقيقي، وإنها قامت من النوم بالطريقة اللي حَكت عنها، وبعدها شافت الكلام ده على المراية، فأكيد الخوف هيبقى مُضاعف، لأن ساعتها هكون خايف من حاجة أكبر منِّنا، عشان كِدَه قُلت في البداية إن صرخت إنجي كانت الشرارة اللي انطلقت منها الحريقة اللي أكلت حياتنا، والشَّعرة اللي كانت فاصل ما بين حياة هادية وطريق وردي، وطريق تاني كله ضباب، وما أدراك ما الضباب!
صرخة إنجي خلتني أتفزع من مكاني، جريت ناحية الأوضة عشان أشوف إيه الحكاية، اتفاجئت إنها واقفة في مكانها، جسمها كان لسَّه واخد نفس الشكل المتقوِّس، الرعب كان باين على ملامحها أكتر، بمجرَّد ما شُفتها للمرَّة التانية في المنظر ده؛ حسيت إن خطواتي تقلِت، كنت برفع رجلي من الأرض بالعافية، وكأني بدوس في مادة لاصقة بتشِد رجلي لتَحت كل ما بحاول أرفعها.
قاومت شعور الجمود اللي سيطر عليا وكملت ناحيتها، في المرّة دي ملمستهاش، أنا بصّيت تلقائيًا في نفس الاتجاه اللي كانت بتبُص فيه، واللي هو كان اتجاه مراية التسريحة، بمجرَّد ما عيني جت عليها لقيت نفس الشعور اللي مسيطر عليها بدأ يسيطر عليا، وقفت مذهول وأنا شايف شروخ خفيفة ظاهرة في الإزاز، المراية كانت بتتشقَّق، واللي لاحظته إن الشقوق كانت بتسرح في أماكن بعيدة عن الجملة المكتوبة، كأن في شيء بيمنعها تقرَّب منها، ولما الشقوق احتلَّت كل مساحة المراية، كانت النتيجة المنطقية إن الإزاز ينهار، وفعلًا ده اللي حصل، الإزاز نزل في الأرض قطعة ورا التانية، لكن آخر قطعة نزلت كانت اللي مكتوب عليها الجملة الغريبة دي!
دمي نشِف وأنا واقف بتابع اللي بيحصل، ساعتها لمحت إنجي بتبُص لي بصَّة غريبة، ملامحها كان عليها ابتسامة مش مفهومة، عينيها كانت مبرَّقة، بوقّها كان مفتوح ولسانها طالع منه بيلحس شفايفها، دمي فار في عروقي، كان جوايا هاجس إن هي اللي دبَّرت كل ده، عِرِفِت إن ده وقت رجوعي وكتبت الجملة دي على المراية، بعدها عملت أي شيء اتسبِّب في إن المراية تتشرَّخ بالشكل ده، وأول ما حسَّت بيا قدام الباب صرخت. لكن كل ده ليه؟!
من وقت ما بدأت تتكلم عن خيالات بتشوفها وأصوات بتسمعها، وأنا واخد الحكاية بهدوء وصابر عليها، لكن بعد اللي حصل افتكرت إن كل بال طويل لُه نهاية، كل صبر له حدود، عشان كده قرَّبت منها وقُلت وأنا بَكِز على أسناني:
_ممكن أفهم بالظبط إيه الهبل اللي بيحصل ده يا إنجي؟
ابتسامتها زادت، وبرغم كده بقت غامضة أكتر، بعدها جاوبت على سؤالي وقالت:
_الجحيم لسّه جاي، أصلهم مش هيسيبوني.
وقفت زي اللي تايه، مكنتش قادر أستوعب اللي بشوفه وبسمعه، هي إنجي اتجننت ولا عايزة توصل لإيه بالظبط؟
سؤالي خلاني أفتكر حوار كان دار بيني وبين إنجي من فترة، لما اقترحت عليا أقفل البيت وأأجر شقة من تاني في القاهرة ونعيش هناك، عشان تبقى قريبة من مامتها، لكني قفلت الحوار ومسمحتش إنها تتكلم فيه تاني، خصوصا وإن مامتها مش عايشة وحيدة، دي معاها أخوات إنجي البنات، ولحد هنا مسكت طرف خيط مهم، وهو إن إنجي بتحاول تكرَّهني في البيت عشان تفتح الباب اللي من خلاله تكلمني في الموضوع من تاني وتخليني أقتنع، عشان كِدَه ردّيت على كلامها وقُلت:
_لو عاملة الفيلم ده عشان الموضوع اللي رفضته يا إنجي تبقي مشيتي معايا في طريق مش هيوصَّل لحاجة.
_لسَّه مش مصدَّقني يا آسر؟
معلَّقتش على كلامها، مشيت من قدامها وأنا بنفُخ وبطلَّع غيظي وغضبي في شكل زفير، عايز أقول لكم إني عملت حاجة على غير عادتي، وهي إني أخدت بعضي ونزلت، وأنا مش متعوّد إني أرجع من شغلي وأخرج تاني غير للشديد القوي.
قعدت على قهوة قريبة، اتعمدت أرجع البيت في وقت متأخر، ولما دخلت الشقة لقيت كل شيء طبيعي، إنجي مفيهاش حاجة غريبة، حتى إزاز السراحة المكسور كان ملموم ومفيش حاجة في الأرض، قعدت في الصالون بدون ما أنطق بكلمة، محبِّتش أكون صاحب ضربة البداية في مباراة هتكون عبارة عن خناقة، ساعتها إنجي قرَّبت مني وقعدت جنبي، حسيت من تصرُّفها إنها راجعت نفسها، وقُربها الصامت ما هو إلا اعتذار غير مباشر.
ابتسمت ولايِمت الدنيا، وعشان أخليها تفهم إني مش شايل حاجة في نفسي قُلت لها:
_ما تعملي عشوة من إيدك الحلوة.
ابتسمت ابتسامتها العادية وهي بتقول:
_من عينيا.
لما قامت من جنبي فضلت متابعها وهي رايحة ناحية المطبخ، كانت بتلتفت حوالين نفسها بخوف، زي ما يكون حد ماشي وفي خلية نحل طايرة حوالين راسه، ومتوقع إنه يتلسع في أي لحظة، معرفش ليه الشك بدأ ياخدني لطريق تاني، إنجي تعبانة نفسيًا من حاجة مش مفهومة.
ده اللي خطر في بالي لما تابعت حركاتها الغريبة واللا إرادية، لكني محبِّتش أبادر بأي كلام، انتظرتها تشتكي من أي حاجة، غير التخاريف اللي كانت بتشتكي منها طبعًا.
بعد ما خلَّصت العشا قعدنا واتعشينا، بعدها دخلنا ننام لأن الوقت اتأخر، عن نفسي عينيا غمَّضت بسرعة، بعد شوية حسيت بحد بيسحب الغطا من فوقي، وفي نفس الوقت حسيت بأنفاس باردة على رقبتي، فتحت عيني ولقيت الدنيا من حواليا ضلمة، بصيت ناحية إنجي لقيتها رايحة في سابع نومة، وفي نفس الوقت الأنفاس الباردة مفارقتش رقبتي، ده اللي خلاني مدّيت إيدي وهزيت إنجي في كتفها، هزَّة والتانية لحد ما قامت من النوم، وبعد ما قعدت على السرير؛ انتظرتها تسألني عن السبب اللي خلاني أصحِّيها، لكن لقيت تركيزها رايح في ناحية تانية، لأني لمحتها في الضلمة بتشاور ناحية التسريحة..
عيني راحت في الناحية اللي بتشاور فيها، ساعتها شُفت المراية سليمة، كانت عاكسة الأوضة في الضلمة ومكتوب عليها نفس الجملة "أفعالك فتحت بوابات الجحيم عليك".
لحد هنا عرفت إن إنجي برَّه دايرة الاتهام اللي رسمتها في دماغي، في شيء غريب بيحصل، حتى ولو إني مُش مؤمن بحكايات الجِن والعفاريت ولا بقتنع باللي بسمعه عنهم، لكن ده مش هيخليني أكذِّب اللي بيحصل قدام عيني.
أوِّل مرَّة أجرَّب شعور الخوف من شيء غامض، عذرت إنجي في تصرَّفاتها اللي كنت بنتقضها قبل ما أشوف بعيني اللي بيحصل، ولمَّا حسيت بجسمها بيتنفض جنبي، مديت إيدي وشديتها ناحيتي، أخذتها تحت دراعي وحاولت أخليها تهدا، لكنها منزِّلتش عينها من على المراية وهي بتقول لي:
-أنا شايفة نفسي في المراية، صورتي معكوسة فيها من غير هدوم ولحم وشي بيسقط، كأن في نار أكلت لحم راسي لحد ما اتحوِّلت لجمجمة يا آسر!
برغم إني مكنتش شايف حاجة في المراية، لكن الوصف في حد ذاته كان مُرعب، خصوصًا إني معدتش قادر أنكر كلامها أو أتَّهمها بالتخريف بعد ظهور المراية من تاني، في اللحظة دي ضلمة الأوضة بدأت تنكسر بإضاءة لونها أحمر، مصدر الضوء كان جاي من ناحية باب الأوضة، قُمت من السرير عشان أشوف إيه الحكاية، وفي طريقي لباب الأوضة وقفت قدام التسريحة، مرايتها كانت من غير إزاز، وده معناه إن في شيء خفي خلانا نشوف المراية في شكلها الطبيعي، ومفيش تفسير للي حصل غير إن الهدف من ظهور الإزاز هو ظهور الجملة الغريبة اللي اتكتبت بقلم الروج الأحمر.
قبل ما رجلي تخرج برَّه باب الاوضة وقفت متخشِّب، وده لأني لمحت لهب أحمر خارج من تَحت عقب باب الحمام، الغريبة إن النار كانت من غير دخان، ومن شدة اللهب قُلت إن السَّخان ولَّع في الحمام، بَس اللي كان غريب إن النار مأكلتش خشب الباب، رفعت رجلي من مكانها وبدأت أتحرَّك، خطواتي كانت تقيلة وأنا رايح ناحية الحمام، وفي نُص المَمر وقفت للمرة التانية، لأني لمحت خيالات باللون الأسود بتتحرك من حواليا، كانت مالية الحيطان ومغطِّية السقف، خيالات غريبة وتفاصيلها مش مفهومة، كأنها معكوسة من أجسام مختلطة، جزء منها بشري والجزء التاني حيواني، وده لأني لمحت خيال رؤوس بشرية، لكن في نفس الوقت الأجسام اللي شايلة الرؤوس كان لها أربع رجلين، وفي منها اللي كان له ديل، كانوا بيتحرَّكوا حوالين بعض زي ما يكونوا قبيلة من النمل اللي متجمعة في جُحر.
وفجأة الخيالات تلاشت، وقفت مبحلق في الحيطان والسقف وأنا مش فاهم هي ظهرت منين واختفت فين، وفي نفس الوقت عقلي كان مسافر لناحية تانية، وقت ما كانت إنجي بتحكي عن الخيالات اللي بتشوفها في البيت وأنا كُنت بسمع وبسكُت، وأحيانًا كنت بقول في نفسي إنها بتخرَّف، لحد ما الأيام دارت وشُفت اللي كنت بنكره بنفسي، شُفت كل حاجة عين اليقين، وفي وسط دوامة التفكير اللي كانت بتبلع دماغي؛ رميت عيني ناحية باب الحمام، النار كان حالها من حال الخيالات؛ تلاشت ومكانش لها أي وجود، ولكي يطمئن قلبي؛ قرَّبت من باب الحمام وفتحته بكُل حذر، ساعتها لقيت الدنيا طبيعية، حتى السخان لمبته كانت مقفولة ومفيهوش أي شيء غريب!
حسّيت باطمئنان ولو بسيط، لكن مكنتش عارف إن الاطمئنان ده هيكون الهدوء اللي بيسبق العاصفة، لأن مع صرخة إنجي عرفت إن في شيء غريب حصل في الأوضة، أخدت بعضي ورجعت، رجليا مكانتش بتعلِّم على الأرض من سرعتي، وعلى باب الأوضة؛ حسيت بالخوف بينهش في جسمي، لأني لمحت لهب خارج من مراية التسريحة، اللي بالمناسبة إزازها كان موجود!
أول حاجة فكّرت فيها هي إنجي، جريت ناحيتها وبدأت أشِد فيها عشان تنزل من السرير، لكنها كانت زي الوَتد اللي مدقوق لحد رقبته في الأرض، كانت رافضة تقوم من مكانها، أو زي ما فكَّرت وقتها، كان في شيء غريب هو اللي مانع نزولها من السرير.
النار بدأت تخرج برَّه حدود مراية التسريحة، أول حاجة مسكت فيها هي الستارة القُريِّبة منها، ومن خلال الستارة النار وصلت لحد الدولاب، كل ده وأنا بحاول أنتشل إنجي من مصير محتوم ومعروف، وفي النهاية؛ نجحت في إني أشيلها من السرير.
الدخان كان بدأ يملى الأوضة، لكن قبل ما آخد إنجي وأخرج، شديت ملاية السرير في إيدي، لفّيت إنجي لأنها كانت بهدوم البيت وشعرها ظاهر، وبمجرَّد ما عملت ده أخدتها ونزلت من الشقة وخرجت برَّه البيت.
لمَّا بقينا في الشارع، النار كانت ظاهرة من شباك الأوضة، ومع الوقت بدأت تنتشر وتظهر من باقي الشبابيك والبلكونات، الجيران اتجمعوا وكل واحد كان بيطفّي باللي يقدر عليه، لحد ما المطافي وصلت وبدأت تطفّي في الحريقة، النار كانت غريبة، كل ما مكان ينطفي كان بيولع تاني من نفسه، وعلى طلعة النهار، النار كانت أكلت العفش اللي في الدورين!
الخبر وصل لعمّي، اللي اتفاجئت إنه موجود قدام البيت وسط الزحمة، أول ما شافني قرَّب منّي وقال لي:
-أنت ومراتك بخير يا آسر؟
ردّيت وأنا بحمد ربنا إننا طلعنا منها على خير وقُلت له:
-الحمد لله على كل حال.
-أهم حاجة إنكم بخير، أي حاجة تانية تتعوض.
ولأن ده ظرف طارئ، قبلت طلب عمي لما طلب نعيش في بيته فترة مؤقتة لحد ما أظبَّط البيت، اللي بالمناسبة التحقيقات والمعاينة موصلوش لسبب الحريقة، وفي أول يومين لينا عند عمي، لقيت إنجي بتصحّيني من النوم وبتقول لي:
-آسر؛ أنا شايفة خيالات في الأوضة.
قُمت مفزوع وكأن حد نغزني بسكينة عشان أصحى، كُنت بلتفت حوالين نفسي زي المجنون، لحد ما عيني جَت على تسريحة الأوضة اللي كُنَّا نايمين فيها، والمفاجأة إن كان عليها نفس الجملة "أفعالك فتحت بوابات الجحيم عليك"!
لحد هنا عرفت إن المشكلة مكانتش في البيت، المُشكلة فينا إحنا، أو على الأقل المشكلة عند واحد فينا، يا أنا؛ يا إنجي، لكن أفعال إيه اللي عملناها تخلي بوابات الجحيم تتفتح علينا، ومين دول اللي بيفتحوها؟
بمجرَّد ما شُفت اللي على المراية نزلت من السرير، خرجت من الأوضة وأخدت بعضي وطلعت على الشقة اللي عمي عايش فيها، رنيت جرس الشقة وصحّيته، وأول ما شافني طالع له في نُص الليل قال لي:
-إيه اللي مصحِّيك في وقت زي دَه يا آسر؟
-أنا عاوز أمشي يا عمي.
استغرب طلبي وعينيه بحلقت فيا، لكن أنا طلبت دَه عشان اللي حصل كان هو البداية اللي انتهت بالحريقة اللي أكلت البيت اللي كنت عايش فيه، ولحد ما أعرف اللي فيها، مكنتش عاوز إن عمي يتعرَّض لأي مخاطر بسببي، أو بسببنا عمومًا، وبعد ما عمي بحلق فيا شوية قال لي:
-هو حد يابني زعَّلك ولا داس لَك على طرف؟
عشان أنهي حالة الجدل وسوء الظن، اضطريت إن أحكي لعمي كل حاجة، ومن وقت ما كانت إنجي بتشتكي من الخيالات اللي بتشوفها، لحد اللي حصل معايا وشُفته بعيني وانتهى بالحريقة، واللي لسَّه بيبدأ تاني من أوِّل السطر في بيت عمي، وبمجرَّد ما خلَّصت الحكاية اللي أنا نفسي كنت مستغربها لقيت عمي بيقول:
-الحكاية فيها إنَّا، واللي بيحصل ده أفعال أبالسة.
ولأني مكنتش بفهم في الكلام ده، وفي نفس الوقت معدتش قادر أنكره، رديت عليه وقُلت:
-والحل إيه مع الأبالسة يا عمي؟ أنا خايف تتأذى بسبب حاجة مالكش ذنب فيها.
-كل مشكلة وليها حل يا آسر، أنا أعرف شيخ موثوق يعرف المشكلة ويحلها.
عمّي مضيَّعش وقت، قبل صلاة الفَجر طلب مني أخلي إنجي تطلع عند مرات عمي وبناته، وبعدها أخدني وطلعنا على مسجد بعيد عن البيت، وهناك وبعد ما صلينا الفجر، لقيت عمّي بيقعد جنب شيخ قاعد في ركن المسجد، وبيطلب مني إني أروح وأقعد معاهم، ولما قعدت وسلّمت على الشيخ، وعرفت إن اسمه الشيخ عرفة، عمي طلب مني أحكي كل حاجة للشيخ، كان بيسمعني وهو مغمَّض، وكأنه بيحلل كل كلمة خارجة منّي، وبعد ما خلصت الحكاية لقيته بيطلب طلب واحد:
-أنا عايز أدخل البيت.
مَتكلِّمناش كتير بعد طلبه، أخدنا بعضنا وطلعنا على البيت، وهناك؛ لقيته بيطلب منّي أخليه يطلع الشقة اللي كنّا عايشين فيها، طلعنا وكانت كل حاجة متدمَّرة من حوالينا، دخلنا الشقة ولقيت الشيخ عرفة بيبُص في أركانها بتركيز، ومع تركيزه في كل ركن لاحظت إنه بيقرأ حاجات في سرُّه، بَس عشان محدّش يفهمني غلط، طريقته كانت بتقول إنه بيقرأ قرآن، وبعد ما لَف في كل الشقة خطواته وقفت على باب الحمام، وساعتها أنا وعمي اتفاجئنا إنه بيقول بصوت عالي:
-انتقمتم لأنفسكم، أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم نوح، أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم سليمان أن لا تؤذونا، أغلقوا بوابات الجحيم المفتوحة، لا تؤذونا ولا نؤذيكم بعد الآن.
ولأن نظرة الشيخ عرفة كانت بتقول إنه بيكلم حد، رجلي أخدتني لحد ما قرَّبت منه، وساعتها شُفت أكتر من حيَّة سودة في الحمام، جسمي تلِّج من الخوف، وقفت متنَّح وأنا مش فاهم إيه اللي بيحصل، لحد ما الشيخ عرفة لاحظ إني واقف جنبه، ساعتها طلب منّي أبعِد، في اللحظة دي حسيت إن الخوف اللي جوايا هو اللي أخد القرار مكاني، لأني معارضتش كلامه، رجعت وقفت جنب عمي، بعدها الشيخ عرفة دخل الحمام وهو بيعيد نفس الكلام اللي كان بيقوله "انتقمتم لأنفسكم، أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم نوح, أنشدكم العهد الذي أخذه عليكم سليمان أن لا تؤذونا، أغلقوا بوابات الجحيم المفتوحة، لا تؤذونا ولا نؤذيكم بعد الآن".
بعد وقت طويل في الحمام؛ الشيخ عرفة كان بيردد فيه نفس الكلام، وكلام تاني مكنتش فاهم منه حاجة، خرج وهدومه كانت غرقانة عَرَق، ملامحه كان عليها حاجة أشبه بالصَّدى الأسود، تقريبًا نفس أثر الدخان الأسود اللي على الحيطان مكان الحريقة، أول ما عمي شافه بالمنظر ده راح ناحيته وسأله:
-إيه الأخبار يا شيخ عرفة، طمِّنا الله يرضى عليك.
بعد ما الشيخ عرفة أخد أنفاسه جاوب عمي:
-قبيلة من الجِن اتأذوا من المّيَّه السخنة اللي كانت بتترمي في الحمام، ومُش ميَّه وبس، دَه طاسة الزيت كمان كانت بتفضى في الحمام وهي سخنة، أفراد من القبيلة اتأذوا بحروق شديدة، والنتيجة إنهم قرروا ينتقموا من اللي ساكنين في البيت.
في اللحظة دي افتكرت إن إنجي كانت بتتخلص من الميَّه السخنة والزيت المغلي في عين الحمام، عشان كده علَّقت على كلام الشيخ عرفة وقلت:
-يعني الميَّة السخنة والزيت المغلي يعملوا كل ده؟
ساعتها الشيخ عرفة ابتسم وقال:
-مشكلتكم يا شباب اليومين دول إنكم مشوفتوش الحياة زمان، اتولدتوا وكبرتوا في العَمَار، اللي كل ما بيزيد بيعمي عيونكم عن عالم تاني موجود ومخلوقات تانية عايشة معانا، الميَّة السخنة والزيت المغلي اللي مراتك اتعوِّدت تتخلَّص منهم في الحمام حرقوا أفراد منهم، ولأنهم اتأذوا بياخدوا حقهم، وعشان أنا متأكد إنك مش هتصدق كلامي، عطيتك فرصة تقرَّب وتشوف بعينك اللي كان موجود في الحمام، ولمَّا حسيت منهم إنهم ناويين يأذوك طلبت منك تبعد، زي ما كانوا ناويين يأذوك وأنت في بيت عمك، لأن انتقامهم مكانش خِلِص. ولعلمك؛ البيت لو كان اتظبَّط بعد الحريقة اللي أكلته كان هيتحرق تاني وتالت، لكن بعد اللي أنا عملته مش هيحصل حاجة، لأن اللي عملته عهد بينكم وبينهم، إنكم متتعرَّضوش ليهم بأذى، في المقابل هيكفُّوا أذاهم عنكم، وأديك عرفت هُمّا اتأذوا إزاي، وسواء كمّلت في البيت ده أو في مكان تاني، فأنت عرفت الطريق اللي فيه النجاة، لأنهم في كل مكان، مش هنا وبس.
مهما سمعت وشُفت في حياتي؛ مكنتش هصدق إن الكلام ده حقيقي، أي نعم سمعت حكايات من دي كتير، لكن كنت بعتبرها ضرب من ضروب الخيال، لكن في ناس مش بتصدَّق إن شكِّة الدبوس ممكن تِألم غير لما تجرَّبها، زي ما أنا جرَّبت وشُفت بعيني، دَه غير إن قناعتي اتغيَّرت تمامًا، وعرفت يعني إيه معظم النار من مستصغر الشَّرر، وإن تصرُّف يبان من وجهة نظرك إنه ولا حاجة، ممكن يقلب كل حاجة في حياتك، ويدخَّلك في طريق ضبابي مانتش عارف هينتهي بيك لفين.
دي كانت أغرب حاجة حصلت لي في حياتي، واللي بالمناسبة مكانش ليَّا ذنب فيها، لكني كنت هروح في الرجلين لمجرَّد إني واحد من أهل البيت.
لمّا إنجي عرفت بالحكاية كانت مصدومة، واعتذرت لي لأنها عملت التصرف ده عن جهل، هي حالها من حالي، مكانش عندها قناعة إن في عالم تاني، وإن في مخلوقات تانية عايشة حوالينا، وإن بعض تصرفاتنا ممكن تأذيهم للدرجة اللي تخليهم ينتقموا مننا، وكانت بتعتبر حكياتهم مجرد حواديت وأساطير، لكنها اقتنعت من وقت ما بدأت تشوف الخيالات اللي كانت بتحكي عنها.
وعلى عكس ما توقعت، إنجي مطلبتش نسيب البيت ونروح القاهرة، ولا أنا عرضت عليها الفكرة، كل الحكاية إني بدأت أجدِّد في البيت لحد ما خلَّصت ورجعنا عيشنا فيه من تاني، كل اللي اتغيَّر بَس، هو إننا بقينا نتجنب أي تصرُّف يخلينا ندخل في حرب معاهم، لأني اكتشفت إننا مينفعش نهرب منهم، أصل زي ما الشيخ عرفة قال إنهم في كُل مكان.
تمت...