مُش سَهل إنك تعيش وحيد بعد ما تفقد أعز إنسان عندك، زي ما أنا فقدت "برديس" مراتي كده، والحكاية دي حصلت لمَّا وصلني خَبر إنها ماتت في حادثة عربية، أنا فاكر اليوم دَه كويس، ساعتها عم "البسيوني" جارنا جالي المدرسة، ولمَّا نزلت أقابله لقيت وشُّه مخطوف، وبيقولّي:
-البقيَّة في حياتك يا "فهمي" يابني.
في اللحظة دي جِسمي اتخشِّب في بعضه، معرفتش أتحكِّم في أعصابي؛ فَشدّيته من هدومه وقولتله:
-أبويا جراله حاجة؟
لكن لقيتني بَسيب هدومه لمَّا صَدمني ردُّه وهو بيقولّي:
-أبوك كويس، المدام تعيش أنت في حادثة عربية من شوية وهي راجعة البلد.
حرفيًا زي ما يكون عم "البسيوني" اختفى من قدامي، أو عشان أكون دقيق في كلامي، الدنيا هي اللي ضلِّمت ومبقتش شايف حاجة، زي ما أكون فقدت القدرة على كل شيء، إلا إني أسمع آخر حاجة قالتهالي "أنا هاروح وهارجع على طول".
حسِّيت إني ندمان جدًا، أنا اللي وافِقت على طلبها، لكن مكُنتش قادر أرفض لأنها كانت عايزة تزور اختها اللي عايشة في بلد جنبنا، مُش عارف ليه مكنِتش عايزة تصبر لآخر الأسبوع ونروح سوا، بعد ما أخلَّص المدرسة والدروس اللي ورايا، محبِّتش أزعلها ووافقت، كسرت خوفي عليها وسيبتها تروح، واتضح لي دلوقت إنها كانت بتجري ناحية قدَرها.
***
لمَّا فتَّحت عيني؛ قولت أكيد كُنت بحلم، لكن اتفاجئت إني في مكان بشوفه لأول مرة، أوضة الإضاءة فيها خفيفة، الرؤية مكنتش واضحة كويس، كل شيء كان ظاهر قدامي مشوَّش، لكن مع الوقت بدأت كل حاجة توضَح، وساعتها بدأت أشوف قدَّامي شخصين، برضو كُنت بشوفهم لأول مرة، ولمّا لاحظوا إني فايق ومستوعب اللي حواليّا، واحد فيهم قام وقرَّب منّي، وقالّي:
-حمدالله على سلامتك يا "فهمي" يابني.
كُنت ببُصّله من غير ما أرُد، ولمّا انتظر يسمع منّي أي كلمة وملقاش اللي كان منتظره قالّي:
-أنت سامعني؟ أنا عمك "البسيوني".
الاسم كان غريب عليّا، كُنت بفكر هو مين وإيه اللي جابه عندي، ثم إنه بيقول إني اسمي "فهمي"، وأنا اسمي "عادل"، دا غير إن الشخص اللي جنبه بيبُصِّلي أوي، لكن مبيتكلّمش، لكن اللي اسمه عم "البسيوني" ده بيقول إن الشخص اللي جنبه يبقى أبويا، وأنا أبويا مَيّت من فترة طويلة، دا غير إنه مش نفس ملامح أبويا أصلًا.
من التوهان اللي كُنت فيه، حسّيت إن الدنيا بتدور بيّا، محسِّيتش بنفسي غير وأنا بنطق بصعوبة وبَقول:
-"بَرديس".
لكن اللي اسمه عم "البسيوني" لقيته بيبُصّلي وبيقول:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يصبَّره ويرحمها.
وبمجرَّد ما سمعت منه الكلمة دي، الدُّنيا ضلِّمت من تاني.
***
للمرة التانية لمَّا فتَّحت عيني، كنت في نفس الأوضة، لكن مكَنش معايا حد، جِسمي كان تاعبني لدرجة إني مُش قادر أحرَّك إيدي ورجلي، كل ده مكَنش شاغل تفكيري، اللي بفكّر فيه هي "برديس" اللي سابتني ومشيت فجأة بدون أي إنذار، واللي مُش عارف ازّاي هكمّل بعدها.
بعد شوية وقت، بدأت أفتِكر تفاصيل الأوضة اللي أنا فيها، لحد ما افتَكرت إنها أوضة نومي أنا و "برديس"، حاولت على قد ما أقدر أقوم من السرير، وبالعافية قدرت أتحرَّك وأنزل، حالتي كانت عاملة زي الطفل اللي لسّه بيتعلّم المَشي، رِجلي مكَنتش شيلاني، بدأت أسنِد بإيدي على الحيطة لحد ما وصلت لباب الأوضة، ولمّا مسكت الأوكرة وجيت أفتحه، حسّيت إني ضَعيف جدًا، لدرجة إني فَتحت الباب بصعوبة.
وساعتها خرجت من الأوضة، الصالة ضلمة والدُّنيا ساكتة، قولت في نفسي: قد إيه الدُّنيا وحشة من غير "برديس"، بدأت أتحرَّك في البيت، وخطوة ورا التانية بدأت أحِس بنشاط في جسمي، لدرجة إني روحت ناحية باب الشّقة وفَتحته، الدنيا كانت ليل والجو برد، ماهو أنا البيت عندي من دور واحد، يعني الباب بيفتح بشوف السما عَلطول، مخوفتِش من البرد وكمّلت، وقفت قدام الباب من برَّه، وعيني جت على الأوضة اللي بعطي فيها الدروس، بابها كان مقفول، لكن افتكرت إنه بيتقفل عادي بدون أوكرة ومفتاح، قرّبت منّه وزقّيته، ولمّا دخلت الأوضة وفتحت النور، لقيت الترابيزة فاضية والكراسي متشالة من الأرض ومقلوبة فوقها، والسبورة ممسوحة، مكُنتش عارف مين اللي عمل كده، لكن واضح إن مفيش حد دخل الأوضة من فترة طويلة، مقدِرتش أفسَّر اللي شايفه قدّامي، عشان كِدَه حاولت أنسى الحكاية وخرجت من الأوضة، لكن وأنا لسَّه على الباب، سِمعت حاجة بتتحرَّك ورايا، وقفت في مكاني مكمّلتش، في اللحظة دي سمعت صوت طباشير بيكتب على السبورة، أنا عارف الصوت كويس لأن دي مهنتي، وده اللي خلَّاني ألتِفت ورايا، ولمَّا عيني جت على السبورة، لقيت مكتوب عليها:
-وحشتني يا "عادل".
بدأت أقرَّب من السبورة وأنا مذهول، الخط مُش غريب عليّا، دا خط "برديس".
وقفت محتار مُش عارف ولا فاهم اللي بيحصل، السبورة كانت فاضية وفجأة اتكتب عليها بخط "برديس" وحشتني يا "عادل"، وكأن الكلمتين ظهروا من العَدم!
فكَّرت كتير، ولمّا مقدرتش أفسَّر اللي بيحصل، مكنش قدامي غير إني أخرج من الأوضة، لكن وأنا بطفي النور وبقفل الباب بصّيت على السبورة للمرة التانية، وساعتها اتفاجئت إن السبورة ممسوحة زي ما هي!
دخلت الشقة وأنا بفكَّر في حاجة واحدة بَس، هو أنا ازّاي وليه مزورتش "برديس" ولا مرَّة من بعد ما ماتت؟ أنا كمان مُش فاكر إني حضرت دفنتها، ثم إني مُش فاكر أي حاجة غير شقتنا واسمي واسمها، وإنها معادتش موجودة.
لكن بغض النظر عن كل ده، بدأت أفسَّر الكلمتين اللي اتكتبوا على السبورة، أو اللي أنا تخيَّلت إنهم اتكتبوا، أيًا كان المسمى مُش هتفرق، اللي فارق معايا بجد إني حسّيتها رسالة لوم، إنها بتقولّي وحشتني لأني مزورتهاش ولا مرَّة.
قعدت في الصالة وهي ضلمة، مستني النهار يطلع عشان أروح أزورها، كنت بحاول على قد ما أقدر أفتكر مكان المقابر اللي اندفنت فيها، اللي هي أصلًا المقابر بتاعتنا، ساعتها في حاجة نوَّرت قدَّامي، ولمّا ركّزت مع النور افتكرت إن ده تليفوني، مفكّرتش كتير هو ازّاي مجاش في بالي من ساعة ما صحيت، مدّيت إيدي وأخدت التليفون، اللي بيتصل كان رقم مش متسجل عندي، ردّيت عليه ولقيته صوت غريب بيقولّي:
-ازيك يا "فهمي"، البقاء لله، لسَّه عارف الحكاية دلوقت.
إحساس غريب مكنش له تفسير خلَّاني أقفل في وشّه، ده تاني واحد يقولّي يا "فهمي"، ولمّا رن عليا تاني كنسلت عليه وعملتله حظر، وبعدها بدأت أقلِّب في التليفون، فتحت الاستوديو، ولقيت آخر صورة اتصورتها مع "برديس"، كنت قاعد أنا وهي في أوضة الدرس، كُنت بصحَّح كراريس الطلبة وهي جنبي، وتقريبًا هي كانت بتتسلّى وأخدت لنا صورة سيلفي، وكان ورانا السبورة مرسوم عليها قلب، ومكتوب فيه "عادل/ برديس".
الذكريات مؤلمة، خصوصًا لمّا اللي معاك فجأة ميبقاش منه غير صورة، ده اللي كان حاصل بالظبط، كل صورة كنت بشوفها ليها معايا في الاستوديو، بقت محسوبة ذكرى، كان في صور كتير، دا أنا حتى لقيت الصورة اللي لما كتبتلها تمرين رياضيات على السبورة عشان تحلّه ومعرفتش، وأنا انتهزت الفرصة وصوَّرتها في الحيرة اللي كانت فيها.
مقدرتش أقاوم الإحساس اللي جوَّايا، قفلت التليفون وحطّيته مكانه على الترابيزة، وقبل ما أسحب إيدي؛ لقيت إيد بتمسكها، حسّيت بخوف عمري ما حسّيت به، خصوصًا إن حسّيت بإيدي وكأنها دخلت في فُرن، نَفَسي بدأ يِعلى وجسمي بدأ يجيب عَرَق برغم البَرد، دا غير إني حسّيت بمرارة وأنا ببلع ريقي، الدنيا في الصالة ضلمة ومكُنتش شايف كويّس، لكن بدأت ألمح ظِل بيتحرَّك حواليّا، قومت من مكاني لكن متحرَّكتش، لكنها كانت محاولة إني أعرف اللي شايفه ده حقيقة ولا بيتهيَّألي.
مكنتش تهيؤات، الظل لما وقف ثابت لثواني، عيني كانت مركّزة معاه، لكن فجأة قرَّب مني بسرعة البرق، لحد ما بقى قدامي ووشُّه في وشّي، واتفاجئت إنه وِش "برديس" لكنه كان بيصرُخ فيّا وهو مشوَّه!
رجعت لورا فجأة، حاولت أهرب من اللي بيحصل، خبطت في رجل الكرسي اللي كنت قاعد فوقه ووقعت على وشّي في الأرض، حاولت أقوم لكن حسّيت بحاجة بتضغط على راسي، نفس إحساس النار اللي كانت على إيدي، بعدها الصرخات رجعت من تاني، البيت زي ما يكون بيتزلزل والأرض تحتي بتتهز، ولما حسّيت إن الحاجة اللي ضاغطة على راسي سابتني، رفعت وشّي لفوق وأنا بحاول أقوم، وساعتها شوفت "برديس"، ملامحها المشوَّهة كانت ظاهرة في الضلمة، وبنفس السرعة اللي قربت بها مني وهي واقفة، قربت مني تاني وأنا في الأرض، ومدَّت إيدها اللي زي النار على رقبتي، وبدأت تخنق فيا!
حسيت بروحي متعلَّقة في صدري، وزي ما يكون يادوب ثواني وتخرج، قاومت بكل قوّتي عشان أهرب، ولمّا مقدرتش أعمل ده، غمّضت عيني واستسلمت، لحد ما جسمي بقى عامل زي الحَبل الدايب، وساعتها بدأت أفقد شعوري بكل شيء.
فتَّحت عيني، كنت نايم في أرضية الصالة، ومكنش في أي أثر للي كان بيحصل، وللمرة التانية بفسَّر ده على إن "برديس" بتلومني أو بتعاقبني على عدم زيارتي لها، وده اللي خلاني أقوم من الأرض بدون تردد، وأخرج من البيت عشان أروح المقابر.
النهار كان بادئ يشقشق، مشيت في الشوارع والذاكرة عندي يادوب طَشاش، كان كل ما حد يقابلني في الشارع أحاول أتجنَّبه، خطواتي كانت أسرع من إن حد يحاول يكلمني، وبالعافية وصلت المقابر، المكان هناك مفتوح والجو برد أكتر من البلد، بدأت أدوَّر بين القبور لحد ما وصلت للمقابر بتاعتنا، هما 4 قبور بس، آخر حاجة فاكرها إن منهم اتنين مقفولين، واحد على أبويا وواحد على أمي الله يرحمهم، دلوقت القبر التالت مقفول، ومكتوب عليه المغفور لها بإذن الله "برديس".
قدام القبر نزلت على ركبي في الأرض، كنت بلعن الدنيا اللي اتغيرت، حسيت بهدوء غريب وأنا قريب منها، لكن الهدوء اتغير فجأة، لمّا حسيت بحد جنبي وبحاجة بتمشي على رقبتي أنا مش شايفها، نفس إحساس النار اللي حسّيته لما الإيد مسكت إيدي قبل ما آجي هنا، كسرت الخوف اللي جوايا ورفعت وشّي لفوق، بصّيت للي واقف جنبي، مكنتش قادر أصدَّق اللي شايفه، كانت "برديس" اللي للمرَّة التانية بشوف وشّها مشوَّه، بلعت ريقي من الخوف، كُنت عاوز أقولها: "مالوش لازمة اللي بتعمله ده، خلاص أنا جيت أزورك ومعدتش هقصَّر في حقَّك تاني"، لكن الحركة اللي حسيت بها في القبر لفتت نظري، ولمَّا بصيت أشوف إيه اللي بيحصل؛ لقيت باب القبر بتاعها مفتوح، كانت نايمة زي ما هي في الكفن، في نفس الوقت اللي كانت واقفة فيه جنبي بوشِّها المشوَّه.
أول مرة أعرف إن الخوف ممكن يحوِّل جسم الإنسان للوح تلج، ده فعلًا اللي كنت حاسس به، دا غير إني كنت فاقد القدرة إني أهرب أو أتحرك من مكاني، وللمرة التانية مكنش قدامي غير إني أغمض عيني واستسلم.
صوت الخطوات اللي سمعته بيقرب؛ خلاني أفتح عيني، كنت فاكر إنها خطوات "برديس"، لكن اتفاجئت إن القبر مقفول وهي مش موجودة، المقابر فاضية مفيهاش حد، لكن أنا لسه سامع الخطوات، لمَّا ركزت شوية عرفت إنها جاية من ورايا، التفتت أشوف دي خطوات مين والرعب بيقتلني، لكن لقيت واحد بيقرب منّي، مكنتش عارف هو مين ولا بيعمل إيه هنا، ولا إن كان ماشي بالصدفة ولا جاي قاصدني، لكن عينه كانت عليا، مظهره الغريب ودقنه وجلابيته والسلاسل اللي معلَّقها في رقبته خلَّتني أخاف، لكن كالعادة مهربتش، كنت منتظر أعرف إيه الحكاية.
كان بيقرب مني وعينه في عيني، لحد ما وقف قدامي. بعدها بَص لقبر "برديس" شوية والتفت ناحيتي وقالّي:
-هي رجعتلك، أنا عملت اللي أنت طلبته منّي.
لغز جديد خلاني واقف مصدوم، أنا أول مرة أشوف الشخص ده، ومفتكرش إني قابلته ولا طلبت منه حاجة، وبعدين يعني إيه رجعتلي، هو في ميّت بيرجع؟!
على ما فكرت في اللي بيقوله كان فص ملح وداب، ولقيت نفسي لوحدي في المقابر، ساعتها بس حسيت إن القيود اللي حوالين جسمي اتفكَّت، قررت أمشي أرجع البيت، تقريبًا قطعت المسافة في وقت أسرع من اللي جيت فيه، وهناك عند البيت، شوفت شخص واقف، نفس الشخص اللي بيقول إن اسمه "البسيوني"، وساعتها لقيته بيقولي:
-حمدالله على سلامتك، كويس إنك بقيت بتخرج.
المرة دي بس رديت عليه، وقولتله:
-أنت مين وعاوز منّي إيه؟ سيبني في حالي.
-مالك عصبي كده يا "فهمي" يابني!
-أنا مش زفت "فهمي"، أنا "عادل"، "عادل".
لقيت الراجل بيخبط كف على كف وبيقول:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، اهدى طيب، أبوك عاوز يشوفك هو مش قادر ييجي لأن التعب زايد عليه.
حسيت باختناق من الشخص ده، عشان كده رديت عليه بعصبية وقولتله:
-أبويا الله يرحمه من زمان، أنا لسه جاي من المقابر دلوقت كنت عند قبره، أنت هتمشي من هنا ولا مش هيحصلَّك طيب؟
ده كان ردي عليه قبل ما أسيبه واقف وأدخل البيت، منتظرتش إني أسمع منه حاجة تانية، ولما دخلت البيت لقيت نفسي رايح على أوضة الدرس، فتحت الباب والنور، وبعدها عيني جت على السبورة، اللي كان مكتوب عليها بخط "برديس" كلام غريب "حسيت بإيه وأنت واقف قدام القبر بتاعي؟".
هو إيه اللي بيحصل؟ إزاي بشوفها ووشّها مشوَّه وازاي بتكتبلي على السبورة وهي ميّتة؟!
ملحقتش أفكر أو أجاوب على نفسي، فجأة باب الأوضة اتقفل من نفسه والنور انطفى، الدنيا بدأت تكركب من حواليا، الكراسي كانت بتطير من أماكنها وتخبط في السقف والحيطان، الترابيزة كانت بتترفع وتترزع في الأرض، السبورة وقعت من على الحيطة، البرد بقى أصعب من العادي، في الوقت ده حسيت بالإيد بتمسكني تاني من رقبتي، نفس لسعة النار بالظبط حسيت بها، صرخت من الخوف، لكن حسيت إني حاجة ملهاش لازمة مربوطة في حاجة أقوى منها بتسحبها مكان ماهي عاوزة، ده كان نفس اللي حاصل معايا بالظبط، الإيد كانت بتسحبني من رقبتي في الأرض، بتحاول تخنقني وكأن في بيني وبيتها تار، دا غير إن وِش "برديس" المشوَّه كان بيظهر قدامي وبيختفي، بيضحك ضحكات مخيفة ملهاش تفسير، ورغم الخوف والموقف اللي كنت فيه، لكن مش عارف ازاي دققت في تفاصيله، دي كانت أول مرة، ساعتها شوفت مكان عنيها فاضي، ونازل منها حاجة زي الدم لكن لونها أسود، بشرتها لونها أزرق وفيها عروق سودة، أسنانها طويلة ومخيفة، معرفش ازَّاي شكلها اتغير وبقى بالبشاعة دي، بدأت أحس إن دي مش "برديس"، دي حاجة تانية أنا مش فاهمها.
كل محاولاتي إني أهرب من اللي أنا فيه كانت فاشلة، أوضة الدرس بقت زي الجحيم اللي مالوش باب حد يخرج منه، لدرجة إن حالي بقى زي الكراسي والترابيزة اللي بتتشال وتتهِبد في كل مكان، دا أنسب وصف للي الإيد اللي مسكاني من رقبتي كانت بتعمله فيّا، لحد ما بدأت أغيب عن الوعي، ومبقتش حاسس بنفسي.
***
مرة تانية فتحت عيني على أوضة في مستشفى، برغم إن الرؤية مش واضحة لكن كمية البياض اللي حواليا في الستاير والسراير كانت كفيلة بإني أفهم ده، حاولت أسند على دراعي وأقوم، لكن حسّيت بحاجة تقيلة في رجلي ودراعاتي، ولما دققت شوية لقيتني في الجِبس، مكنتش فاهم إيه اللي حصل ولا أنا بعمل إيه هنا ولا متجبّس ليه، لكن لقيت ممرّضة جاية ناحيتي وبتقولي:
-حمدالله على السلامة يا أستاذ "فهمي".
حسيت وكأن دماغي بتعمل إيرور، مش فاهم حاجة، مش مستوعب اللي حواليا، وده اللي خلاني أسألها وأقولها:
-أنا بعمل إيه هنا؟
-تقصد المرة دي ولا اللي قبلها؟
-مُش فاهم!
-دي تاني مرة تيجي فيها المستشفى، وتنام على نفس السرير.
-يعني إيه؟
-أنا عارفة إن عندك مشاكل في الذاكرة من ساعة الحادثة، لكن مع العلاج هتبقى أحسن وهتفتكر.
-حادثة إيه اللي بتتكلمي عنها، أنا مش فاكر غير الحادثة اللي "برديس" مراتي ماتت فيها.
-واللي أنت كمان كنت هتموت فيها، لكن ربنا ستر، عمومًا البقية في حياتك وربنا يصبرك.
-أنا مش فاهم حاجة، كنت هموت فيها ازّاي؟
-ما أنت كنت مع "برديس" الله يرحمها يا أستاذ "فهمي".
-"فهمي"؟ هو أنا مش اسمي "عادل"؟
ساعتها ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالتلي:
-مفيش حد هنا بالاسم ده غير الدكتور اللي متابع حالتك.
الخيوط كانت متشبكة في بعضها، مش قادر أستوعب حاجة ولا أفكر، لكن تقريبًا الممرضة حست إني بفكر كتير عشان كده قالتلي:
-متحاولش تجهد نفسك بالتفكير، مع الوقت هتفتكر كل حاجة، الدكتور قال كده.
في اللحظة دي، دخل دكتور بشوفه لأول مرة، قرَّب مني وبدأ يطَّمِّن عليا وبعدها قالي:
-حمدالله على سلامتك، أنت كنت مسافر يا أستاذ "فهمي" ولا إيه؟
-هو أنا اسمي "فهمي" ولا "عادل"؟
ساعتها الدكتور ضحك وقالي:
-لا اسمك "فهمي"، ممكن وأنت في غيبوبة تكون سمعت اسمي لأني بتابعك باستمرار، المريض في حالة الغيبوبة وفقدان الذاكرة عقلة الباطن بيكون مُهيّأ إنه يستقبل أي حاجة، دا ممكن كمان لو سمع اسم يصنع منه شخصية ويخليه يعيش حياة تانية في عالم موازي، الصدمة في الحالة دي عاملة زي الزلزال، بتهدم كل حاجة وبتخلي الإنسان مستعد يستقبل أي حاجة عقله الباطن يعتقد فيها.
حسيت إني مرتاح بعد اللي سمعته منه، يعني كل اللي شوفته ده كان هلاوس الغيبوبة، عشان كده قولتله:
-يعني "برديس" ماتت ولا عايشة؟
-الحقيقة إنها ماتت، أنت وهي وصلتوا المستشفى في نفس عربية الإسعاف، لكن للأسف إصابتها كانت صعبة وقضاء ربنا نفذ على باب المستشفى، وأنت إصابتك كانت ارتجاج أدى لفقدان ذاكرة، معلومات كتير اتمسحت من دماغك، دي هترجع مع الوقت، يمكن كمان تكون شوفت في الغيبوبة حاجات مش حقيقية ولكن بتعتقد إنك عشتها فعلًا، كل ده مع العلاج هيتحسّن.
-لكن أنا فاكر إني مكنتش مع "برديس"، دي راحت تزور اختها وقالتلي هترجع علطول، وبعدين في واحد جالي المدرسة وبلغني باللي حصل.
-ده محصلش، أنت كنت معاها في نفس العربية، اللي أخدتوها مخصوص عشان تروحوا لاختها، وفي الحادثة وانتوا راجعين السواق مات ومراتك كمان ماتت، وأنت اللي لسه عايش.
-أنا مش فاهم حاجة.
-ده اللي مثبوت في محضر الشرطة اللي اتعمل، دا حتى مراتك اخواتها أخدوها دفنوها في بلدهم.
-ده محصلش، أنا روحت زورتها في المقابر بتاعتنا.
-اللي قالي كده واحد كان بييجي يزورك من وقت للتاني، اسمه "البسيوني".
محبّتش أجادل كتير، واضح إن في حاجات كتيرة أنا مش فاهمها، لكن سألته سؤال واحد قبل ما يمشي وقولتله:
-هو أنا جيت هنا قبل كده؟
-أنت خرجت بعد الحادثة ماشي على رجليك، لكن كنت في حالة فقدان ذاكرة، الحاج "البسيوني" هو اللي استلمك، وبعدها جيت هنا وأنت فاقد الوعي وجسمك فيه كسور، ورقبتك كان فيها حاجة زي الحَرق، لكن مش حادثة ولا حاجة ولا حد عارف إيه السبب، الحاج "البسيوني" لقاك واقع في أوضة الدرس بتاعتك وجابك على هنا.
لما الدكتور سابني وخرج، بقيت بين نارين، هو اللي شوفته كان هلاوس؟ ولو هلاوس يبقى ازّاي أنا جيت هنا للمرة التانية بسبب اللي حصل معايا في أوضة الدرس؟!
***
فات على حواري مع الدكتور يادوب ساعتين، بعدها دخل الأوضة واحد ملامحه مش غريبة، حاسس إني شوفته قبل كده، ولما شافني صاحي قرب مني وقالي:
-حمدالله على السلامة، يا اخي قلقتنا عليك.
-أنت مين؟
-فوق بقى الله يهديك، أنا عمك "البسيوني".
ساعتها لقيتها فرصة وقولتله:
-مش أنت جيت المدرسة بلغتني بالحادثة اللي حصلت لمراتي؟
-محصلش يابني، الخبر لما وصل البلد أنا جريت على الطريق عشان نشوف اللي حصل، مراتك اخواتها أخدوها بلدهم وأنت الحمد لله لسه عايش.
-أخدوها ازاي، أنا فاكر إني زرتها في المقابر بتاعتنا.
-زرتها فين بس؟ أنا كنت حاضر جنازتها هناك بنفسي.
-ده حصل بجد؟
ساعتها حسيت إنه عاوز يقولي حاجة ومتردد، لكنه بعد شوية قالي:
-وحصل حاجة كمان من كام يوم لازم تعرفها.
-هي إيه؟
-أبوك.
-ماله أبويا.
-تعيش أنت.
-أبويا ميت من زمان.
-أبوك كان عايش، لسه ميت مفيش أسبوع زمن، أنا لازم أكلم الدكتور عشان يشوفلك حل.
***
لما سابني ومشي غمضت عيني، حاولت أفصل تفكير في كل اللي بفكر فيه، بعدها عدت عليا أيام وأنا في المستشفى، علاجات مكنتش أعرف بتاعة إيه، لكن فهمت إنها لتحسين الذاكرة، وعلاجات للعظام، حاجات كنت مضطر أخدها عشان ربنا يسهل وأخرج من هنا.
في الأيام دي، عرفت إن اللي بشوفه مكنش هلاوس، ذاكرتي بدأت تتحسّن، بدأت أفتكر حاجات مكنتش أعرف ازاي نسيتها، افتكرت لما "برديس" طلبت مني تزور اختها ضروري، ولما فشلت أقنعها نأجلها ليوم الجمعة، أخدت إذن من المدرسة وطلبت عربية مخصوص تودينا وتجيبنا، روحنا نزور اختها اللي كانت مريضة، لكن واحنا راجعين بالليل لقيت السواق صرخ فجأة، بعدها سمعنا صوت فرامل العربية قبل ما تدخل في بلوك أسمنت كان مرمي في الطريق وتتقلب!
بعدها حضرني مشهد، وافتكرت لما فتحت عيني في أوضتي، وساعتها شوفت عم "البسيوني" وأبويا قاعد جنبه على الكرسي المتحرك، تقريبًا هو جابه وجالي وأنا تعبان عشان يطمن عليا، افتكرت فعلًا إنه كان عايش ومكنش ميّت زي ما شوفت في هلاوس الغيبوبة، واتأكدت إنه مات قريب مش من فترة طويلة زي ما عقلي كان بيوحيلي.
الأغرب من كده، إني افتكرت نفسي وأنا قاعد مع واحد في مكان غريب، أوضة غريبة وكل حاجة فيها مش مفهومة، هو كمان شكله مش مفهوم وبيقول كلام غريب، وافتكرت ريحة البخور المستفزة اللي كانت موجودة، وقدرت أربط ما بينه وبين الشخص اللي شوفته في المقابر، كان هو نفس الشخص بالظبط!
لما ذاكرتي بدأت ترجع، الدنيا بدأت تتقلب، أنا في كامل وعيي ومش بهلوس، لكن "برديس" بدأت تظهر تاني في شكلها المخيف، مش حكاية بيت بقى ولا مقابر، دي بتظهر هنا في المستشفى كمان، كانت بتقرب مني وبتحاول تخنقني، بإيدها اللي زي النار، حتى الدكتور والممرضة كانوا بيتفاجأوا بحروق في رقبتي كل شوية، ولما قولتلهم على اللي بيحصل كذّبوني، وقالولي إني رجعت للهلوسة من تاني، وإن الحادثة لسه مأثرة عليا.
لكن لأن الحكاية كانت غريبة، اقترحوا يحطوا كاميرا في الأوضة، عشان يعملولي حاجة زي العلاج بالصدمة، وهو لما الحرق يظهر في رقبتي يرجعوا للكاميرات ويشوفوا السبب، ويقولولي إني أنا اللي بعمل كده في نفسي.
بس كلامهم مكنش في محله، لما رجعوا للكاميرا بعد ما شافوا حرق في رقبتي، لقوني ممدد على السرير بتشنّج، إيدي جنبي ومقربتش من رقبتي، وبعدها شافوني وكأني بتخنق، وساعتها الحرق ظهر في رقبتي من نفسه، عاوز أقول إن "برديس" اللي كنت شايفها بعيني ساعتها، مكنش لها أي أثر في الكاميرا.
***
فترة المستشفى عدَّت وخرجت بعدها، بدأت أرجع لحياتي الطبيعية، بعد ما اكتشفت إني كنت بشوف حاجات مش موجودة، وفي حاجات حصلت كانت ساقطة من ذاكرتي، اتأكدت إن القبر اللي زرت فيه "برديس" فاضي، وإن قبر أبويا عليه تاريخ وفاة حديث مش من زمان، كنت بروح أزور قبر "برديس" في بلدهم، كنت بقلب في صورنا كتير على التليفون، حتى الصورة اللي في أوضة الدرس، واللي كان فيها السبورة ورانا عليها قلب واسمي واسمها، شوفتها من تاني وكان مكتوب في القلب "فهمي / برديس"، معرفش ازاي آخر مرة شوفت الاسم كان مكتوب "عادل / برديس"!
كل حاجة بدأت تظبط معايا، إلا ظهورها بشكلها المخيف كل ليلة، واللي مكنتش لاقيله تفسير، وأنا مش مقتنع إن ده الشبح بتاعها أو عفريتتها، وحتى لو حصل وده التفسير الصح، ليه بتنتقم مني؟ أنا يوم ما وافقت تروح لأختها وحصل اللي حصل، عملت ده عشان متزعلش وكمان روحت معاها، فمفيش مبرر للي بيحصل أساسًا!
لما حكيت لعم "البسيوني" اللي كان بيزورني من وقت للتاني، قالي إن وارد جدًا تكون عفريتتها، ماهو اللي بيموت في حادثة أو مقتول، وأي حد طريقة موته بتخليه ينزف غالبًا بيطلعله عفريت، وده موروث قديم الكل مقنع فيه، وقالي يمكن عشان ارتباطها بيا مخليها زعلانة إنها سابتني، لكن برضو مش مبرر إنها تنتقم مني، ماهو الموت مش بإيدي!
في الآخر طلب مني أروح لواحد بيشتغل في تحضير وصرف الجن والحاجات دي، وقالي أحكيله عن اللي بشوفه، يمكن يقدر يساعدني، ولما أخدت منه العنوان، روحت علطول من غير ما أضيع وقت، عاوز أقول إن دي كانت أكبر صدمة أخدتها في حياتي، يمكن كمان أكبر من صدمة موت "برديس"، أنا لما روحت ودخلت وقعدت، لقيت نفسي قاعد قدام الشخص اللي ظهرلي في المقابر، وجالي إحساس إني قعدت نفس القعدة دي قبل كده، نفس الأوضة بتفاصيلها ونفس ريحة البخور، لدرجة إن الراجل ابتسم وقالي:
-إيه طلبك المرة دي؟ ناوي تحضر روح حد تاني؟
بلعت ريقي وقولتله:
-مش فاهم أنت تقصد إيه؟
-أنت مش جيت وطلبت قبل كِدَه أحضر روح مراتك اللي ماتت لأنك مش قادر تبعد عنها؟
لقيت نفسي زي اللي واقع في دوامة، قولت بصوت مقطَّع:
-أنا؟ حصل امتى ده؟
-أنت جيتلي من فترة وكان باين أنك في حالة مش طبيعية، قولتلي إن اسمك "عادل"، طلبت مني أحضر روح مراتك عشان ترجع تعيش معاك، وأنا عملتلك ده وأنت دفعت التمن، لكن حذَّرتك إن الموضوع سلاح ذو حدين، يعني تقبله بالوحِش فيه قبل الحلو، وأنت وافِقت.
-تقصد اللي بشوفها دي هي روح "برديس"؟
-مُش بالظبط.
-يعني إيه مش بالظبط؟ أومال دي إيه؟
-الروح بعد الموت بترجع للي خالقها، لكن اللي بيحضر بيكون القرين بتاعها، شيطانها بمعنى أصَح، والنوع ده من الشياطين هو أكترهم غدر ومالوش عهد.
-يعني اللي بشوفه وبيعمل كل ده قرينها؟
-بالظبط.
بعد فترة صمت، بفكر فيها أنا عملت ده ازاي وليه، يمكن الفترة اللي فاتت مكنتش فاهم أنا بعمل إيه، ولا إيه اللي جاب الفكرة في دماغي ولا ازّاي فكرت فيها، لكن هو بلسانه قالي إني كنت في حالة غير طبيعية، عشان كِدَه قرَّرت أطلب منه إنه يصرف القرين، ساعتها طلب مني هدوم فيها ريحة "برديس"، وطلب ياخد مني شوية دَم، وطلب برضو مبلغ كبير، مترددتش في إني أعطيه كل ده في مقابل إنه ينهي حاجة مستحيل كنت أعملها وأنا في وعيي، وبعدها كنت بروحله بشكل يومي لمدة أسبوع، سبع جلسات كان بيعمل فيهم حاجات مش مفهومة وأول مرة أشوفها، لحد ما في الجلسة الأخيرة قالي إن الحكاية خلاص، وإني أقدر أعيش في هدوء.
الأيام فاتت في هدوء فعلًا، بقيت أروح المدرسة ورجَّعت حصص الدروس، الحياة بدأت تاخد مسارها الطبيعي، لكن "برديس" مفيش حاجة قدرت تشيلها من ذاكرتي، لحد اليوم اللي فيه تاريخ ميلادها، عملت حسابي وجبت تورتة وعملتلها عيد ميلاد وكأنها معايا بالظبط، ولعت الشمع وطفيت النور، زي ما كنا بنعمل سوا، ولما طفيت الشمع سمعت صوت جاي من أوضة الدرس، فتحت نور الصالة وخرجت روحت على هناك، ولما فتحت باب الأوضة والنور، لقيت كل حاجة زي ما هي، ومفيش أي صوت، لكن كانت في جملة غريبة مكتوبة على السبورة، كانت بخط "برديس"...
"وحشتني يا "فهمي"، وحشتك ولا لأ"!
***
تمت...