الواحد بيعدِّي بضغوط كتيرة، بينسى نفسه في زحمة الشغل والحياة.. لدرجة إنه أحيانًا بيشتغل يوم الجمعة، لكنه بيوصل في وقت إنه بيقول لكل حاجة في الدنيا استوب؛ كفاية كده.. وهو ده اللي عملته في أجازة راس السنة.. لمَّا اتكلِّمت مع لؤي؛ زميلي وشريكي في المكتب الهندسي؛ وقُلت له:
_الواحد طول السنة بيمحط زي الحمار، وحاسس إني محتاج استراحة محارب.
_يعني أنت جيت في جَمَل؛ راس السنة بعد يومين، شوف أي مكان هادي وروح استَجِم واقفل تليفونك.
_تفتكر أروح فين، تعرف فندق كويس؟
_وهي الفنادق برضه فيها راحة، كلها دوشة ومن وقت للتاني هتلاقي اللي بيخبّط عليك.
_يبقى هجيب منين المكان الهادي اللي مفيهوش إزعاج.
_موجود يا صاحبي؛ وقضيت فيه أهدى ليلة في حياتي.
_إيدي على كفتك، المكان ده فين؟
_استراحة على الصحراوي، تقدر تسميها لوكاندة صغيّرة، فيها كافيه ومطعم بيعمل أكلات شعبية تاكل صوابعك وراها، والدور التاني عبارة أُوَض، بتتأجر بالليلة زي اللوكاندات؛ لو حد يعني مش حابب يسوق بالليل بياخد أوضة يبات فيها لحد الصبح.
في الليلة اللي صابح فيها راس السنة؛ كنت مجهز شنطتي وراكب عربيتي وطالع على الاستراحة، أي نعم لؤي مكانش فاكر اسمها، لكنه وصف مكانها على قد ما هو فاكره، وقبل نُص الليل وصلت عند مكان شبه اللي لؤي وصفه، كان فيه كافيه ومطعم، والدور التاني كان فيه ٧ شبابيك.
وقفت العربية وأخدت شنطتي ونزلت، الاستراحة جوّها جميل وهادي، الإضاءة هادية ومريحة للعين، والناس فيها تتعَد على الصوابع، ده غير شجرة الكريسماس اللي موجودة في المدخل، والإضاءة اللي باللون الأبيض اللي متوزعة عليها كأنها ثمار.. قُلت في بالي: "مكان بسيط لكن أصحابه عندهم سينس وعاملين زينة راس السنة".
أخدت شنطتي ودخلت، لقيت مكان زي الريسيبشن، كان قاعد فيه شاب في العشرينات، قربت منّه وقُلت:
_مساء الخير؛ من فضلك عاوز أوضة أبات فيها.
_مساء النور، سنة سعيدة على حضرتك، ليلة واحدة؟
فكّرت شوية وأنا بفكّر آخد الخميس والجمعة مع ليلة راس السنة وقُلت له:
_خليهم ٣ ليالي.
سألني عن اسمي بدون ما يطلب منّي إثبات شخصية فقُلت له:
_مهندس أحمد.
كتب اسمي في دفتر قدامه ودفعت حساب ال ٣ ليالي، وبعدها أخدت منه مفتاح أوضة مكتوب عليها رقم ٧.
لمّا شاور لي ناحية السلم؛ أخدت شنطتي وطلعت على فوق، كانوا ٧ أوَض بالظبط، بعدد الشبابيك اللي شُفتهم من برَّه..
فتحت الباب ودخلت، وبعدها حطيت شنطتي وقرَّبت من الشباك، النور الصغيّر كان مفتوح، وقفت فيه شوية وأنا مبسوط بهدوء المكان، وبعدها قفلته ورُحت ناحية السرير، قفلت تليفوني وحطيته على الكومود، وبعدها قفلت النور واترميت على السرير بعد ما شدّيت الغطا، وقُلت لنفسي: "أخيرًا هنام بدون ما أظبط المنبّه؛ الواحد كان عامل زي الثور اللي مربوط في ساقية".
غمضت عيني ورُحت في النوم، لكن بعد شوية حسيت بحد بيهزّني في كتفي، قلبي اتخلع من مكانه وأنا بفتح عيني، أنا قافل الأوضة بالمفتاح من جوّه، برغم كده النور الصغيّر كان مفتوح، وفي اللحظات دي كنت بسأل نفسي إزاي في حد قدر يدخل؟!
كل اللي فكّرت فيه إنه حرامي، عرف إن في حد نازل في الأوضة ولقى طريقة يدخل بيها، مهما كان الاستراحة على طريق صحراوي والمكان شبه مقطوع، وكل شيء وارد.
رفعت راسي من على المخدة وأنا متحفِّز لأي رد فعل، ساعتها لقيت قدامي واحد في الخمسينات، كان شايل صينية في إيده وبيبُص ناحيتي وهو بيقول:
_العشا جاهز يا فندم!
استغربت من كلامه، لكن رديت عليه وقُلت:
_أنت دخلت هنا إزاي؟ وبعدين عشا إيه اللي بتتكلم عنه؟ أنا مطلبتش عشا!
مردّش على كلامي، لكنه حط الصينية على الكومود وسابني ومشي ناحية الباب، في الوقت ده كنت بزحف بضهري وبلزق في شباك السرير؛ وبشِد الغطا فوق جسمي أكتر وأنا بتنفض من الخوف، لأن الشخص ده مكانش له رجلين، مكانش فيه غير نُصه الفوقاني بس، واللي كان ماشي في الهوا!
في عز الفزع اللي كنت فيه، كنت متابعه وهو رايح ناحية الباب، انتظرته يفتحه ويخرج، لكن لقيته مكمّل وبيفوت من الباب زي ما يكون بيفوت من حاجة مش موجودة!
نور الأوضة اتقفل فجأة، والضلمة رجعت من تاني.. ساعتها لقيت أضواء خارجة من الصينية اللي جنبي على الكومود.. لمَّا بصيت ناحيتها، لقيت عليها شجرة كريسماس صغيرة، النور كان خارج منها، وجنبها علبة هدايا، مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل، عشان كده قاومت الرعشة اللي في إيدي وفتحت العلبة، واتفاجئت إن فيها كفوف إيدين ورجلين محروقين!
صرخت من الخوف، ولقيت نفسي بمسك تليفوني وبقوم من السرير، مسكت شنطتي عشان أخرج من الأوضة، ولما وصلت عند الباب ملقيتوش، بصيت حوالين نفسي ولقيت المكان متغيَّر، الدهان واقع والحيطان والسقف زي ما يكونوا محروقين..
أخدت بعضي وجريت، الممر مكانش يفرق كتير عن الأوضة، كأن في نار أكلت المكان، معرفش ده حصل إمتى ولا إزاي، لكني كملت لحد ما نزلت الريسيبشن، ولقيت إن النار واكلاه وحاله زي حال الأوضة والممر..
مكانش قدامي غير إني آخد بعضي وأخرج، لأني مش فاهم إيه اللي بيحصل، ولما خرجت لقيت الكافيه مقفول وبابه محروق وعليه أثر دخان أسود، حتى الكراسي مكانتش موجودة!
خرجت عند العربية ووقفت أبُص للاستراحة، كانت خرابة، وده أقل وصف ممكن أوصف بيه المكان اللي شايفه قدامي، الشبابيك مكانتش موجودة، والأوض باينه من جوّه ضلمة والدخان الأسود واكلها.
مخرجتش من دهشتي غير على صوت واحد بيكلمني، الصوت كان جاي من ورايا، بصيت ناحيته ولقيته بيقول لي:
_عربيتك دي يا باشا؟
_أيون.. دي عربيتي.
_هي لا مؤاخذة عطلانة ولا حاجة؟
_لأ مش عطلانة، بس معلش أنت بتسأل ليه؟
_أصلها واقفة هنا من ٣ ليالي، وقُلت طالما صاحبها سايبها كده يبقى عطلت منه.
_٣ ليالي إيه اللي بتتكلم عنهم؟
_يا باشا زي ما بقول لك.
محستش بنفسي غير وأنا بفتح تليفوني، ولما فتح بصيت على التاريخ، فعلًا فات ٣ ليالي، معرفش فاتوا إزاي ولا امتى، وكأني دخلت فجوة زمنية؛ كل اللي فاكره إني دخلت من كام ساعة، وبعدها حصل اللي حصل!
_في حاجة يا باشا؟
رفعت عيني من التليفون، وبصيت للشخص ده وقُلت له:
_لأ مفيش حاجة.
_بس إيه اللي خلاك تركن هنا يا باشا، شكلك غريب، عرفت ده من أرقام العربية.
_أنا فعلًا غريب مش من هنا.
_ما هو أنت لو من هنا مكنتش ركنت في المكان ده، أصل الاستراحة دي اسمها استراحة عبيد، وبعيد عنك مسكونة.
_مسكونة؟!
_زي ما بقول لك كده، من حوالي خمس سنين، وفي راس السنة حصلت هنا جريمة قتل وبعدها حريقة، بعيد عنك الشيطان شاطر، كان في واحد مسافر وركن عربيته ونزل في الاستراحة، وكان في عيّل برشامجي بيشتغل هنا، عرف إن الراجل معاه فلوس، خبَّط عليه بحجة إنه جايب العشا ودخل عليه بالليل قتله وأخد الفلوس، في الأوضة رقم ٧، ده مُش قتله وبس، بعيد عنك قسمه نُصين بمنشار، وحرق الأوضة اللي كان فيها عشان يداري على جريمته، بس النار محدش عرف يسيطر عليها ومسكت في الاستراحة كلها، وراح في الحريقة كذا شخص، بَس الواد اتجاب وأخد جزاؤه.. ومن يومها بقى وهي زي ما أنت شايف كده، بقت مسكونة، بنشوف فيها أشباح وبنسمع فيها أصوات، وأحيانًا بنشوف الكافيه شغال وأشباح الناس اللي راحت في الحريق موجودة فيه، حتى الشخص اللي اتقتل قبل الحريقة، بيظهر كل ليلة راس سنة والشبح بتاعه بيكون ظاهر بنُصه الفوقاني بس.. لو مسافر ومحتاج استراحة، في واحدة بعد ٥ كيلو، فيها برضه كافيه ومطعم ولو حابب تأجر فيها أوضة كويسة هتلاقي.
_لأ مش عاوز استراحات ولا حاجة، شكرًا جدًا.
أخدت شنطتي عشان أركب العربية، لكن افتكرت إن الاستراحة مفيش حواليها حاجة، واستغربت الشخص ده بيعمل إيه في المكان هنا، ولما بصيت ناحيته عشان أسأله عن سبب وجوده، لقيته هو نفس الشخص اللي ظهر لي في الأوضة، أو الشبح؛ لأنه كان بنُصه الفوقاني بس، وبعدها اختفى من قدّامي!
في الوقت ده عرفت إنه معادش ينفع أستنى أكتر من كده، حطيت شنطتي في العربية وركبت، وفي ثواني كنت بتحرَّك من المكان، ولما مسكت الطريق عشان أرجع، حطيت إيدي في جيبي وطلعت الفلوس اللي معايا، ولقيتها مش ناقصة، وده معناه إني مدفعتش أجرة ال ٣ ليالي!..
بعدها لقيت تليفوني بيرِن، كان لؤي، ردّيت عليه ولقيته بيقول لي:
_يا مزاجك يا أبو حميد، تليفونك مقفول ٣ أيام ولا كأنك في الدنيا، حقك يا عم تعبان طول السنة وتستاهل، شكلك جاي في الطريق، سامع صوت العربية.
أخدت نفس عميق ورديت عليه:
_أيون، أنا على الطريق، كلها مسافة السكة.
_توصل بالسلامة، بالحق نسيت أقول لك، في استراحة قبل الاستراحة اللي كنت فيها اسمها استراحة عبيد، كنت بروحها زمان قبل ما تتحرق، لكن بعدها بقيت أروح الاستراحة اللي بعدها، اللي أنت كنت فيها، أكيد أخدت بالك منها وأنت معدّي عليها.
بعد كلامه أخدت نفس عميق تاني، وأنا بفتكر الكام ساعة اللي قضيتهم جوّه وطلعوا ٣ ليالي، والشبّح؛ وعلبة الهدايا اللي فيها كفوف محروقة؛ وحظي اللي جابني في وقت متأخر والأشباح اللي في المكان خلوني أتخيّل إن الإستراحة شغالة، لأ ودخلت الأوضة اللي حصلت فيها جريمة القتل، وكمان شبح الشخص اللي اتقتل هو اللي ظهر لي وشرح لي كل حاجة، وبعد كل ده قُلت له:
_أخدت بالي يا لؤي؛ أخدت بالي!
***
تمت...