كانت أوِّل حاجة فكَّرت فيها بعد ما رجعت من السَّفر؛ هي إني أفتح السنترال بتاعي من تاني، رغم إني حاولت كتير أخليه شغَّال وأنا مسافر، سيبته فترة لـ "محمود" صاحبي، وقولت يشتغل فيه بالنُّص بيني وبينه، أحسن ما يتقفل والناس تنساه، لكن بعد فترة بلَّغني إنه مسافر، كنت خلاص أخدت قرار إنه يتقفل، لحد ما في آخر يومين؛ دخلت بنت على "محمود" في السنترال، وقالتله يعني لو محتاج بنت تقف فيه، ولمَّا بلَّغني؛ لقيتها فرصة، قولت أهي تشتغل والسنترال يفضل مفتوح، حتى لو هتجيب راتبها والمصاريف.
علطول وافِقت، ولما "محمود" سافر السنترال فضل شغَّال، وكل يوم بالليل، كانت أختي بتنزل تاخد الإيراد من البنت، اللي بالمناسبة كان اسمها "شروق"، والحال استمر على كده سنة تقريبًا، لحد ما في يوم بعد ما البنت قبضت مرتبها آخر الشهر، اختفت مظهرتش، أي نعم "محمود" كان سأل عنها، وعرف هي ساكنة فين، ولما أختي راحت تشوفها، عرفت إنهم كانوا ساكنين في الشقة بالإيجار، ونقلوا من كان يوم، حاولنا نتصل برقمها، اللي كان مقفول باستمرار، وساعتها عرفت إن البنت مشيت لما أهلها نقلوا، بدون ما تبلغنا، طبعًا حاجة مش لطيفة إن حد يعمل كده، واضطريت ساعتها إني أقفل السنترال، لحد ما ربنا يأمر وأرجع من السفر.
أول ما وصلت قدام البيت ونزلت من العربية، نسيت شُنط السفر وبصّيت على باب السنترال، كان مليان تراب، حتى اليافطة مكنش اللي مكتوب عليها باين من التراب، سلِّمت على أختي؛ وعلى أمي اللي نزلت عشان تستقبلني، وبعد ما طلَّعنا الشنط وقعدت معاهم شوية وأكلنا، طلبوا مني أرتاح؛ لأن كان باين عليا إني مُجهد من الطريق، محبتش أرفض طلبهم، دخلت أوضتي وغيرت هدومي وطفيت النور، ومددت على السرير، بس مكنتش بفكر في النوم، كان كل تركزي إنهم لما يناموا، آخد بعضي وأنزل أفتح السنترال، وفعلًا ده اللي حصل، انتظرت حوالي ساعة، لحد ما الدنيا بقت هادية؛ وعرفت إنهم ناموا، بصيت في تليفوني ولقيت إن الساعة 2 بعد نُص الليل، أخدت بعضي وأنا عامل حسابي إن محدش يحس بيا، أمي لو حست بيا مش هتخليني أنزل، وهتصمم إني أرتاح من السفر، مشيت في الصالة بهدوء، لحد ما وصلت للباب، وعملت بهلوان عشان أفتح الباب من غير ما يعمل صوت يزعجهم، والحمد لله؛ قدرت أفتحه بدون ما أنا نفسي أحس به.
نزلت على السلم، وفتحت البوابة برضو بهدوء، خرجت قدام البيت، ووقفت أبص على باب السنترال، فتحت كشاف التليفون، عشان الشارع كان ضلمة، وبدأت أقرب من الباب، مديت إيدي عشان أشوف كمية التراب اللي موجوده عليه، لكن قبل ما إيدي تلمسه، سمعت حركة جوه، في البداية افتكرتها حركة في الشارع، قطة ولا فار ولا عِرسة، بتحصل يعني، لكن لما ركزت شوية؛ لقيت فعلًا إن الصوت جوَّه في السنترال!
لولا التراب اللي على الباب؛ كنت لزقت ودني فيه، لكن قربت على قد ما أقدر، عشان أسمع صوت خطوات جوَّه، وصوت زي ما يكون حد بيضغط على زراير تليفون، والزراير بتعمل نغمة، الحمد لله إني لا بتعاطى حاجة ولا بشرب أي شيء من اللي بيسبب هلاوس، كنت قولت إني بهلوس، لكن أنا واعي ومستوعب كل حاجة، دا غير إن اللي بيكون جاي من السفر، الناس بتفكره عاوز ينام، لكن في الحقيقة بيكون في حالة يقظة غريبة، ناسي النوم وناسي التعب، وبيفضل كده شوية، أي نعم بيعوَّض ده كله بعدين، بس دي الحقيقة.
المهم؛ الصوت كان بيقول إن في حد جوَّه، وبقى عندي يقين في كده، بس ياترى مين؟!
مديت إيدي وطلعت مفتاح القفل وفتحته، وحاولت أرفع الباب بهدوء برضو، باب صاج زي ده صوته ممكن يصحّي الشارع، وبما إن مفيش غيره؛ هلاقي أمي طالعة من البلكونة وبتقولي "إيه اللي منزِّلك يا تامر".
رفعت الباب نُص فتحة، كانت كفاية إني أعدَّي من تحته، دخلت السنترال على نور كشاف التليفون، ساعتها مكنش في أي صوت من اللي كنت سامعه وأنا برَّه، رجلي أخدتني لحد مفاتيح الكهربا، فتحت النور؛ اللي كان أغلبه محروق ماعدا لمبة واحدة، فضل ونعمة، كانت كفاية إن نورها يخليني أشوف كل حاجة، الأرفف والإكسسوارات عليها تراب، وكباين الاتصال بيبانها مقفولة، والمكتب برضو حاله من حال الباب والأرفف.
كل ده كان طبيعي، بس اللي مش طبيعي هو اللي كنت سامعه قبل ما أدخل، كنت ببُص في كل حتة وضهري لكباين الاتصال، لحد ما سمعت خبط في الكابينة اللي ورايا، اللي كنت كاتب عليها رقم "1"، اتفزعت من مكاني وأنا بلتفت أشوف إيه الخبط ده، قربت منها وعيني على إزاز الباب، عشان أشوف إيه اللي فيها، لكنها كانت فاضية، زيها زي الكابينتين اللي جنبها، فضلت مركز معاها؛ قولت يمكن أسمع فيها حاجة تاني، لكن برضو مفيش حاجة حصلت، ولما قلبي اطمِّن شوية، مديت إيدي وفتحت الباب، دخلت جواها وخرجت، وقفلت الباب تاني، وقفت وأنا كل تركيزي في اللي بيحصل، وكان برضو ضهري للكباين، لحد ما سمعت صوت خبط تاني، في المرة دي بصيت بسرعة، ولقيت إن سماعة عِدة التليفون اللي في الكابينة، واقعة وبتتهز، وعمّالة تتمرجح وهي متعلَّقة في السِّلك بتاعها!
أنا آخر إنسان ممكن يفسَّر حاجة تفسير بعيد عن المنطق، يعني أكيد السماعة مكنتش محطوطة كويس؛ ولما باب الكبينة اتفتح واتقفل أثَّر عليها، ووقعت، أكيد، أومال هيكون إيه السبب يعني؟!
الصباح رباح؛ أكتر كلمة بتخليني أأجل الحاجة اللي شاغلة دماغي، عشان كده قولت أطلع دلوقت، والصُّبح بقى أنزل أفتح السنترال؛ أنضَّفه وأغسله غسله كويسة، عشان أجهِّزه للشغل، وفعلًا طلعت من تحت الباب اللي كان لسه مرفوع للنُّص، ولما بقيت برَّه، نزِّلت الباب بهدوء تاني، وقفلته بالقفل.
ويادوب بدأت أتحرك، والموال رجع من تاني، صوت حد ماشي جوه، نغمة زراير تليفون، لقيت نفسي وقفت في مكاني وأنا مذهول، هو إيه اللي بيحصل ده؟!
ولسه بقرَّب من الباب؛ عشان أشوف إيه حكاية الأصوات دي، وسمعت صوت بيقولّي:
-أنت إيه اللي منزِّلك يا "تامر"؟ مُش كنت ترتاح يابني؟!
أمي؛ كانت واقفة في البلكونة اللي فوق السنترال علطول، الحاجّة اللي يعطيها الصحة؛ راحت زي أي أم تشقَّر على ابنها، ولما ملقتنيش عرفت إني في السنترال، ساعتها بصيت ناحيتها وقولتلها:
-مفيش يا أمي، أنا طالع، طالع.
أجِّلت خطوة إني أدخل السنترال تاني، وبرضو قولت الصباح رباح، لكن ركزت شوية مع أي حاجة ممكن تحصل، وساعتها مسمعتش أي حاجة؛ فأخدت بعضي وطلعت على فوق.
لمّا نمت وصحيت؛ لقيت إني نمت وقت طويل، أنا صحيت تاني يوم بعد الضُّهر، مش بقولكم إن اللي جاي من سفر؛ بيحس إنه فايق، لكن بعدها بيعوَّض!
ما علينا، قومت لقيت أمي محضَّرالي أكل، أكلت وشربت شاي، وأخدت بعضي ونزلت، فتحت السنترال، طبعًا من وقت للتاني؛ كان بييجي حد يسلّم عليا، وعلى آخر اليوم، السنترال رجع زي الأول وأحسن، كان بيلمع، قعدت على المكتب، وبدأت أطلَّع أرقام الناس اللي كانوا بينزلولي بضاعة، عرَّفتهم إني فتحت السنترال تاني، ونويت تاني يوم الصبح؛ إني أروح السنترال العمومي؛ عشان أدفع الفواتير اللي على الخطوط، والتليفونات تشتغل، ويوم ورا التاني، والناس بقت رايحة جاية على السنترال؛ في الحقيقة؛ نسيت اللي حصل فيه أول يوم لما رجعت من السَّفر، لحد اليوم ده.
كان فات أسبوعين تقريبًا، وفي يوم بالليل كالعادة؛ وقبل ما أقفل، كنت قاعد براجع الحساب وأشوف الإيراد، ولقيت نفسي بنتبه على صوت خبطة، كانت جاية من الكابينة إيَّاها؛ رقم "1"، رفعت وشي من الدفتر وبصيت ناحيتها، وساعتها شوفت جواها واحدة، كانت لابسة عباية لونها أسود، لابسة طرحة بنفس اللون، لكن مكنتش مغطية شعرها كله، كانت نُص ضفيرتها ظاهرة من الطرحة، كان ضهرها لإزاز باب الكابينة، وماسكة سماعة التليفون وبتتكلم.
حطيت الدفتر من إيدي ووقفت، وبدأت أقرَّب منها، في الخطوتين دول؛ سألت نفسي مليون سؤال، هي دي مين ودخلت امتى وازّاي من غير لا أشوفها ولا أحِس بها؟!
ولما بقيت قدَّام باب الكابينة، خبَّطت على الإزاز، لكنها لا انتبهت ولا كأنها سامعة خبطتي، بصراحة محبتش أفتح الباب؛ قولت يمكن تكون دخلت وأنا منتبهتش وشافتني مشغول، قامت داخلة الكابينة وقالت لما تخلَّص تحاسبني، وده اللي خلاني آخد بعضي وأرجع على المكتب تاني، وبمجرد ما قعدت على الكرسي؛ لقيت عيني رايحة ناحيتها، وده اللي خلاني وقفت فجأة مفزوع!
كانت واقفة في الكابينة؛ والسماعة واقعة جنبها وبتتمرجح من السلك بتاعها، ولما بصِّيت في وشها، لقيت شَكله بَشع، كان زي ما يكون متحنَّط، عينها مش موجودة، واقفة زي ما تكون اتحوِّلت لموميا فجأة، حسيت إن أعصابي انهارت ومبقتش قادر آخد أي قرار، كنت عامل زي اللي قاعد مذهول قدام فيلم رعب، كل اللي في إيده إنه يتفرَّج ويترعب وبس، الحاجة الوحيدة اللي قِدرت أعملها؛ هي إني أغمض عينيا؛ عشان ما أشوفش الشَّكل البّشع اللي قدامي ده!
بعد شوية؛ لقيت إن استسلامي حاجة مش كويسة، فتحت عيني، وبدأت أبُص للكابينة من تاني، لكن لقيتها مش موجودة، قولت يمكن ده تأثير الإرهاق اللي مرَّيت به الشهر اللي فات، أنا برضو تعبت في تشغيل السنترال، لكن اتضحلي بعدها إن دي مش تهيؤات، لأن سماعة عِدة التليفون في الكابينة، كانت لسه على وضعها، واقعة من مكانها ومتعلَّقة في السلك بتاعها!
اللي حصل ده؛ خلاني أنسى تقفيل الإيراد، وأنسى كل حاجة، أعصابي هربِت مني؛ قعدت على الكرسي وعيني على الكابينة، والسماعة اللي بتتمرجح في السلك بتاعها، سَرَحت، الدنيا زي ما تكون بَهتِت من حواليا؛ ماعدا الكابينة، اللي من وقت للتاني؛ بدأ يظهر ورا إزاز بابها وِش البِنت، أو وِش الموميا، أيًا كان إيه الوصف المناسب له؛ لكن كان زي اللي بيلاعبني، كل ده وأنا دماغي مشلول، لا قادر أصدق اللي شايفه، ولا قادر أكدِّبُه، واللي قدر إنه يشغل انتباهي بس؛ هو الصوت اللي سمعته جاي من درج المكتب اللي في الجنب.
أنا لمَّا رتِّبت السنترال، مشغلتش بالي بإدراج المكتب، كان فيها دفاتر قديمة، مكتوب فيها حسابات من قبل ما أسافر، وطبعًا كانت كلها خلصانة، ومكنتش محتاج للدفاتر، عشان كده كبَّرت دماغي منها، لكن الصوت اللي جاي من الدرج الأخير، حسيت منّه إن في حاجة بتحاول تفتح الدرج، الصوت فضل مستمر؛ ولمّا بصيت تحت ناحية الدرج، لقيت فعلًا إنه بيتهز، زي ما يكون حد بيزُقُّه من جوَّه، استغربت الحكاية، زي ما استغربت كل اللي حصل، مقدرتش أمِد إيدي ناحية الدرج، لكن الحكاية مكنتش مستاهلة مَد إيد؛ لأن الهَزَّة اللي في الدرج، خلَّته يتفتح مع الوقت!
بعد شوية؛ كان الدُّرج اتفتح لحد نُصُّه كِدَه، وفعلًا؛ كان فيه دفاتر قديمة، استغربت ليه ده حصل، ويمكن ده اللي خلَّى فضولي يغلبني، وأمِد إيدي وأطلَّع الدفاتر من الدرج، حطيتها قدامي على المكتب، وبدأت أقلِّب فيها، ملقتش فيها حاجة غير العادي، أسماء ناس، المبالغ اللي عليهم، واللي كلها كان مشطوب فوقها، لأني كنت مصفِّي كل الحسابات قبل ما أسافر، لكن ده مَمَنعش إني أقلِّب في الدفاتر ورقة ورقة.
الدفاتر خلصِت وملقتش فيها أي حاجة، قولت في نفسي غريبة، أمال إيه اللي خلَّى الدرج يتفتح بالطريقة دي؟!
أخدت قرار إني أرجَّع الدفاتر مكانها، لكن وأنا بحُط أوِّل دفتر، لمحت في أرضيِّة الدرج من جوَّه ورقة لونها أصفر، كانت مطَّبقة ومبقَّعة بلون أحمر، بصراحة استغربتها، مديت إيدي وأخدتها، وفتحتها وبصِّيت فيها، مكنتش فاهم منها ولا كلمة، رسومات غريبة، مربعات ومثلثات ودواير، رموز وأشكال، كلام مكتوب بالمقلوب، أرقام وحروف، وزي ما يكون كل ده متوصَّل ببعضه بطريقة مش مفهومة، ويمكن ده اللي خلاني سألت نفسي، هي إيه الورقة دي وبتعمل إيه هنا؟!
مش عارف إيه اللي جاب "محمود" على بالي، صاحبي اللي سيبتله السنترال قبل ما أسافر، وبما إنه صاحبي؛ كان معايا رقمه الجديد، لأني بتواصل معاه من وقت للتاني، غصب عني لقتني بطلب رقمه، أنا عارف إن الوقت اتأخر، حتى هو الوقت عنده سابقنا بساعة، يعني زمانه في عز النوم، لكن الحكاية غريبة ومكنتش قادر أنتظر للصبح، ورنة ورا التانية ورا التالتة، لحد ما رد عليا، صوته كان كله نوم، ولقيته بيقولي:
-خير يابني، هو في حاجة حصلت ولا إيه؟!
ولقتني بسأله وبقوله:
-"محمود"؛ أنت مكنتش بتلاحظ أي حاجة غريبة في السنترال؟!
-غريبة ازّاي يعني؟
-يعني؛ كنت بتشوف حاجة؛ بتسمع حاجة.
-أنت مصحِّيني دلوقت وأنا عندي شغل بدري؛ عشان تقولي الكلام ده يا "تامر"؟!
-جاوبني بس؛ عشان أنا فعلًا محتاج أسمع إجابتك.
-مكنتش بلاحظ أي حاجة، أنت ليه بتسأل؟!
لو كان قالّي إنه كان بيلاحظ حاجة كنت قولتله، لكن خوفت يقول عني اتجننت ولا حاجة، عشان كِدَه لقيتني بقوله:
-خلاص تمام، هكلمك بعدين.
قبل ما أقفل المكالمة، حاول يعرف مني إيه سبب السؤال، لكني حوَّرت في الكلام، وراهِنت على إنه محتاج ينام وهيقفل المكالمة وخلاص، وفعلًا ده اللي حصل، بعدها رجَّعت الدفاتر في الدرج، واحتفظت بالورقة معايا، لكن فضولي خلاني أقرأها تاني، فتحتها وقولت يمكن أفهم منها أي حاجة، لكن بمجرد ما فتحتها المرة دي؛ نور السنترال كله انطفى!
الدنيا من حواليا بقت زي الكُحل، وبما إن الوقت اتأخر، والشارع فاضي وضلمة، كان بيتهيألي إن الباب مقفول عليا من كُتر الضلمة، قومت واتمشّيت لحد مفاتيح النور، حاولت فيها كتير عشان النور يقيد، لكن حسيت إنها حاجة من رابع المستحيلات، مكنش قدامي غير إني أخرج من السنترال، مشيت ناحية الباب، وأنا مش شايف قدامي من الضلمة، لحد ما اتفاجئت إن وشّي خبط في الباب؛ اللي كان مقفول!
كنت عامل زي اللي دخل متاهة، سألت نفسي الباب اتقفل امتى؟ وازاي ومين اللي قفله؟ شيء صعب إنك تسأل نفسك أسئلة ملهاش إجابة، أو تحصل قدامك حاجات ملهاش تفسير، لكن كل ده راح من دماغي؛ لما حسيت بأنفاس سخنة بتخبط في راسي من ورا، حاجة كده ريحتها كريهة، حرارتها زي صَهد الفُرن، خلَّتني أتصرف تصرف غريب، وهو إني بدل ما أمشي لقدام ناحية الباب المقفول، رجعت خطوة لورا، وساعتها؛ لقيت نفسي بخبط في حد ورايا!
مكنتش محتاج نور عشان أعرف أنا خبطت في مين، الِجِسم اللي أنا حاسس به لكن مُش شايفه ده؛ كان تقريبًا نفس جِسم البنت اللي ظهرت في الكابينة رقم "1"، معرفش قلبي طاوعني ازّاي، ولا الخوف اللي خلاني عملت كده، مديت إيدي عشان أتأكِّد، كان تحت إيدي مَلمَس عباية، الجِسم كان عامل زي الخشب، افتكرت إني شوفت وشِّها على شكل موميا من ورا إزاز باب الكابينة، حتى لقيت إيدي بتخبط في الضفيرة، اللي كان نصّها باين من تحت الطرحة؛ فعرفت إن هي البنت، لكن ياترى إيه اللي خلاها تظهر؟ وليه بيحصل كده أصلًا؟!
كنت عامل زي الفار اللي دخل مصيدة؛ ومش عارف يطلع منها، فضلت واقف مستسلم، في الوقت ده، والضلمة دي، حسيت إنها بعدت عني، وبدأت أسمع صوت خطواتها في السنترال، رايحة جاية، حتى سمعتها بتفتح باب الكابينة، وبتشيل سماعة التليفون، وبتطلب رقم، أي نعم أنا مُش شايف حاجة، بس دي نغمة زراير التليفون، حسيت إن اللي كنت بسمعه وأنا برَّه السنترال، بيحصل دلوقت وأنا جوَّاه، أي نعم الدنيا ضلمة ومش شايف حاجة، لكن هي نفس التفاصيل، وساعتها سِمعتها بتتكلم جوَّه الكابينة، وبتقول:
-أنا حطيت الورقة زي ما طلبتي منّي، لكن اللي طلبته منك محصلش، اللي حصل هو إنّي بقيت أسمع هَمس جنبي، وصوت خطوات، وبقيت بحس بأنفاس حد قريّب مني، مبقتش قادرة أقعد في المكان، هو أنتي عملتي إيه بالظبط في الورقة دي؟!
بعدها الصوت اختفى، والضلمة فضلت زي ما هي، وبعد وقت طويل من الصمت، والخوف، لقيت كل زراير التليفونات اللي في السنترال بتعمل صوت، كأن في صوابع بتضغط عليها كلها في نفس الوقت، الصوت بيعلى، الدوشة بتزيد، أما أنا؛ فكانت أعصابي بتنهار، مقدرتش أتحمل؛ فوقعت في الأرض مش حاسس بحاجة!
بعد وقت معرفش قد إيه؛ حسّيت بإيد بتهزّني من كتفي، فتحت عيني، لقيتني واقع في أرضيّة السنترال، النور موجود، الباب مفتوح، ولقيت أمي وأختي واقفين جنبي، كان شكلهم مخضوض عليَّا، ساعدوني عشان أقوم؛ لأني فعلًا مكنتش قادر أتمالك أعصابي، عرفت منهم إن أختي لما لقتني اتأخرت، نزلت تقولي أقفل وأطلع، لكنها لقتني مرمي في الأرض، طلعت جابت أمي ونزلوا، ولما سألوني إيه اللي حصل، محبِّتش أقلقهم، قولتلهم إني قبل ما أقَع في الأرض، كنت حاسس بشوية إرهاق وتعب، ويمكن ده اللي خلَّاني وقعت!
قفلت المحل وطلعت معاهم والورقة معايا، ولما أكلت لقمة سريعة ودخلت أوضتي، كان كل اللي شاغلني أعرف إيه حكاية الورقة، خصوصًا بعد ما سمعت صوت البنت اللي في الكابينة بيتكلِّم عنها، ومع الوقت؛ وبعد تفكير طويل، قدرت أفهم إن اللي في الورقة دي؛ وطريقة كتابته، زي ما سمعت يعني إنها طريقة كتابة الأعمال والطلاسم والحاجات دي، ويمكن ده اللي خلاني قومت فتحت جهاز الكمبيوتر، وبدأت أعمل سيرش عن، طلاسم؛ أعمال؛ حاجات من دي، ولقيت إن الصور اللي بتطلعلي شبيهة فعلًا باللي في الورقة، لكن الحروف مش مفهومة، لأنها كانت مكتوبة بالشكل ده "ش.أ.ر.ح.و.م.ق.د".
بعد ما اتأكِّدت إن الورقة دي عبارة عن سِحر، أو حِجاب، أو طلسم، أهو كلها حاجات هِباب والعياذ بالله، مكنش قدامي غير إني أفكَّر في حد يعرف إيه السر اللي وراها، افتكرت عم "بخيت"، اللي كان بيرقينا وإحنا صغيرين، وكان ماسك إمام الزاوية اللي قريبة مننا، أي نعم هو كِبر في السِّن، لكن من وقت للتاني ناس بتروحله يرقيها ويعالجها.
فضلت صاحي لحد أذان الفجر، ساعتها نزلت على الزاوية، والحمد لله إني لقيته، بس مكنش هو الإمام كالعادة، دا كان بيصلي على كرسي، ولما الصلاة خلصت، قرَّبت منه وكلمته، الحمد لله إنه لسه فاكرني، وبعد ما قالي حمدلله على السلامة، وسألني جيت امتى، والكلام ده، قولتله إني عاوزه في حاجة مهمة.
لما سألني عن الحاجة، قولتله إن مش هينفع أتكلم فيها في بيت ربنا، وتقريبًا هو فهمني، قام من على الكرسي، وكان ماشي بالعافية، وساعتها قالي:
-تعالَ نروح البيت.
مشيت جنبه وهو بيسنِد على العصاية بتاعته، ولما وصلنا البيت وقعدنا في أوضة الضيوف، سألني وقالي:
-خير يا "تامر" يابني؛ إيه اللي مش هينفع تتكلم فيه في بيت ربنا؟!
أفضل جواب على سؤاله، هو إني طلَّعت الورقة من جيبي، فتحتها ومدّيتها ناحيته عشان ياخدها، ولما مِسكها وقرَّبها من عينه عشان نظره ضعيف، لقيت وشُّه بيكرمش وبيقول:
-أعوذ بالله؛ لا حول ولا قوَّة إلا بالله!
رد فِعله خلاني أتأكد من إن تخميني طلع مظبوط، وبدون ما يعلَّق بكلمه بعد اللي قاله، لقيته بينده على ابنه، ولما ابنه دخل علينا الأوضة، طلب منه يجيب مايَّه فاترة فيها ملح خشن، بعدها ابنه دخل علينا بحلِّة ألمونيوم فيها مايَّه بملح، وساعتها عم "بخيت" بدأ يغطَّس فيها الورقة 7 مرات، وهو بيقرأ آية الكرسي، وبعد ما خلَّص الـ 7 مرات، ساب الورقة في المايَّه، اللي لونها اتحوِّل وبقى زي الدَّم، لما الحِبر الأحمر اللي مكتوب به الحاجات الغريبة دي داب فيها!
كل ده كان بيحصل قدامي وأنا ساكت ومذهول، وبعدها بصّلي وقالي:
-خلاص انسَ الورقة!
بصيتله كده وقولتله:
-أنساها ازّاي، واللي حصل معايا في السنترال؟!
-احكيلي اللي حصل بالظبط.
حكيتله كل حاجة بالتفصيل، وساعتها قالي، أنا هقولك السبب، لكن متطلبش منّي إني أقولَّك أسماء حد، لكن أنت لو قدرت تعرف، يبقى شطارة منّك.
وبعدها بدأ يقولي:
-الورقة دي عَمَل، جَلب حبيب، لكن معمول بطريقة صعبة، اللي عملاه دجَّالة قادرة، استحضرت قرين البنت عشان من خلاله تجلِب واحد البنت بتحبه، والعمل ده بيشتغل في النُّص التاني من كل شهر عربي.
استغربت من اللي بيقوله؛ وقولتله:
-ده إيه علاقته بالسنترال عشان ألاقي العمل في الدرج تحت الدفاتر؟
-اللي حط الورقة، كان عارف إن الدرج ده فيه حاجات قديمة ومبيتفتحش، والشخص اللي عليه العين؛ كان بيتردد على السنترال من وقت للتاني، كان بيعمل مكالمات منّه، وكان بعد ما بيمشي، العمل بيتحط في الكابينة اللي بيتكلِّم منها، عشان القرين يعلِّم ريحته ويتبعه، لكن القرين شيطان ملعون، ممكن في أي لحظة يخون الغرض اللي اتحضَّر عشانه، لأنه خبيث، عشان كِدَه بدأ يعصى اللي في الورقة، ويطارد صاحبة العمل، الأصل، الحكاية انتهت خلاص.
بعد ما خرجت من عند عم "بخيت"، واللي صمّم إنه مش هيقدر يفسَّرلي أكتر من كده، كان تفكيري عاوز يوصل للحكاية برضو، أي نعم كلامه كان زي الخطوط العريضة، اللي كان مطلوب منّي أكمّلها، لكن بعد تفكير طويل، قدرت أوصل فعلًا.
مين هيقدر يحط الورقة في الدرج، غير البنت اللي اشتغلت في السنترال؟! دي كانت طرف الخيط، اللي خلَّت الحكاية كلها تكُر في دماغي.
لما فكَّرت شوية، قدرت أفسَّر ليه الحكاية ظهرت معايا بعد أسبوعين، أنا كنت جاي في نهاية شهر عربي، وسمعت اللي سمعته وقتها، وتاني يوم لما فتحت السنترال، كان بداية شهر عربي جديد، عشان كده العَمل مكنش شغَّال، وبعد أسبوعين، مع نص الشهر العربي التاني، مفعول العمل اشتغل، وحصل اللي حصل، وقدرت أفسَّر الحروف اللي كانت في الورقة، "ش.أ.ر.ح.و.م.ق.د"، لما قدرت أجمع الحروف، لقيتها عبارة عن "شروق" و "أحمد"، بس مَدموجين في بعض، حرف من هنا ورا حرف من هنا، ومفكرتش أكوِّن منهم أسماء تانية، لأن فعلًا البنت اللي اشتغلت كان اسمها "شروق"، وتقريبًا كان في حد بييجي السنترال اسمه "أحمد"؛ وهي أعجبت به، وأكيد الدجالة عملت الحروف بالشكل ده، كنوع من الربط بينهم أو حاجة زي كده، وكلام عم "بخيت" لما قال إن الشيطان أو القرين اللي اتسخَّر بدأ يطارد البنت، كان موافق بالظبط للكلام اللي سمعته لما الصوت ظهر في الكابينة، وده كان أقرب تفسير لحكاية البنت اللي مشيت فجأة، بدون سبب، وبدون ما تقول لحد، أومال يعني إيه اللي هيخليها تهرب وتختفي غير كده؟!
مع الوقت؛ الدنيا بقت تمام، كل حاجة اختفت من السنترال؛ بعد ما الورقة الملعونة دي خرجت منه، بعدها استقبلت اتصال من "محمود"، اتكلمنا شوية وكان بيطَّمن الدنيا معايا عاملة إيه، وساعتها قالي:
-بالحق افتكرت، أنت لما كلمتني وصحِّيتني من النوم، كنت تقصد إيه بإني سمعت حاجة أو شوفت حاجة في السنترال؟!
ساعتها حوَّرت عليه تاني، وقولتله:
-كنت برخَّم عليك يا صاحبي، هو أنت لسَّه فاكر؟!
وقلبناها ضِحك، عشان محبِّتش حد يعرف بالحكاية، عشان دي برضو سُمعة السنترال، ومكان أكل عيش.
تمَّت...