أنا فاكر الليلة دي كويس، لما تليفون مكتبي رن، وقتها كنت نبطشية في القِسم، الضابط المناوب يعني. لما رفعت سماعة التليفون؛ سمعت صوت واحد بيتكلم بصوت متوتّر، وبيقول:
-آلو.. قسم الشرطة.. عاوز أبلغ عن حالة قتل.
كلمة حالة قتل دي؛ تقدر تهِز أي حد من جواه، حتى لو كُنت جَبَل ومتعود على الحاجات دي في شغلك، قَتل يعني هَدم لبُنيان مُقدَّس، اللي هو الإنسان، واللي كل الشرائع السماوية حرَّمته، لأن ربنا اللي خالقنا؛ عارف عظمة خَلق الإنسان، عشان كِدَه حرَّم قتله؛ إلا بالحق طبعًا.
بمجرد سماعي للكلمة دي، بتيجي في دماغي أسئلة كتير، مين منزوع القلب والضمير؛ اللي يِحرم جَسد من روحه؟ أو اللي قلبه يطاوعه يقتل أو حتى يحرَّض على القتل؟
يمكن الموضوع عشان جريمة من الكبائر، بيخلي الواحد يتخَض، ويمكن ده السبب في إني كنت ساكت لثواني، بعد ما سمعت صوت اللي بيكلمني، وبعدها قولتله:
-ممكن تعطيني التفاصيل؟
-بقولكم حالة قَتل.. قَتل، هقول إيه أكتر من كده؟!
-أيون يعني أنت مين، مكانك فين، إيه طبيعة القَتل، راجِل ولا سِت؟ اعطيني معلومة عشان أقدر أوصلَّك.
-أنا معرفش القتيل، كل الحكاية إني ماشي لقيت شِوال، بصراحة شكله كان غريب، قربت منه وحسيت إن فيه حاجة غريبة، ولما فَتحته؛ لقيت واحد مخنوق بِحَبل، مشنوق يعني، ومعاه كلب ميِّت في نفس الشوال، مطعون كذا طعنة بالسكينة!
-طيب ممكن تقولي العنوان؟
بعد ما أخدت العنوان، بلَّغت النيابة بالواقعة، وكان لازم أروح مسرح الجريمة عشان أتأكد من صحة البلاغ، وبعدها أنتدب النيابة، وفعلًا؛ أخدت قوة من القِسم واتحركت على العنوان، ولما وصلت؛ لقيت كذا واحد ملمومين حوالين الشوال، المكان عبارة عن حتة أرض فاضية، تقريبًا الناس قلبتها مقلب زبالة، كنا في اليوم ده قبل الفَجر بشوية، ويصادف إن واحد أرزاقجي على باب الله، متعود يخرج لشغله كل يوم في الوقت ده، والشوال ييجي في طريقه ويبلغ عنه، وطبعًا كان موجود من بين الناس اللي واقفين، ومفيش شَك إني استجوبته في الوقت اللي انتظرت فيه وصول وكيل النيابة.
كان لازم طبعًا أعاين الحادثة، وأشوف الجثث، اللي ميِّت تقريبًا عُمره يتجاوز الخمسين، متعلَّق في رقبته حبل ومشنوق، والحبل من طرفه مقطوع بسكينة، دليل إن الشَّخص ده اتعلَّق واتشنق، وبعد ما مات حد قطع الحبل ده، وعبَّى الراجل والحبل في رقبته مع الكلب في شوال، ورماهم.
لكن إيه قصة الكلب المطعون، واللي موجود معاه في نفس الشوال؟
كانت أغرب حاجة مرَّت عليا، من وقت ما بقيت ضابط شرطة، الكلب مطعون كذا طعنة جنب رقبته، ميِّت وعينه مفتوحة، وبوقه مفتوح وأنيابه ظاهرة، زي ما يكون مات وهو في وضع استعداد للهجوم، في وسط زحمة التفكير اللي كنت فيها، وصلت عربية النيابة، ومعاها اتنين من الأدلة الجنائية، واللي بدورهم عاينوا مسرح الجريمة والقتيل، والكلب، واللي كان باين من المعاينة الأولية، إن الراجل ده اتشنق، وجثته اتحطَّت في شوال واترمى هنا، وكان تفسير واحد من الأدلة الجنائية لوجود الكلب في نفس الشوال، هو إن القتيل صاحب الكلب، وتقريبًا كان بيدافع عن صاحبه اللي بيتشنق، والقاتل طعنه وخلَّص عليه، عشان يرتاح منّه.
كان تفسير منطقي إلى حد ما، الأصل، وكيل النيابة بعد ما عاين الجثة، قرَّر نقلها للمشرحة، وبما إنه مينفعش ننقل الكلب للمشرحة، أو يتحط في تلاجتها، اتفقنا مع بعضنا إن الكلب يندفن في مسرح الجريمة، مكنش ينفع نسيبه في مكانه، جريمة القتل ريحتها فاحت، والناس في المنطقة عرفت، ووجود الكلب قدام اللي رايح واللي جاي، كفيل إنه يخلي الناس مرعوبة، أصل القتل مش حاجة سهلة.
خلِّيت اتنين من القوة اللي معايا، يحفروا في الأرض ويدفنوا الكلب، وبعدها نقلنا جثة القتيل للمشرحة، وبعد التشريح، اتضح إن الراجل ده مات بضربة شديدة على راسه، أدت لنزيف داخلي وموت في الحال، وبعدها اتشنق لساعات طويلة، عضلات جسمه اللي متخشّبة بتقول إن الوفاة فات عليها أكتر من 24 ساعة، طبعًا زي ما الطبيب الشرعي كتب في تقريره، لكن الأهم من كل ده، إن القاتل كان محترف جدًا، مسابش وراه ذرَّة تخلينا نعرف هو مين، وبعد تحريات كتير، كانت صعبة جدًا، قدرنا نوصل لأهل القتيل، لأن مكنش معاه أي إثبات شخصية، لكن بطريقتنا عرفنا نوصل حتى ولو بعد وقت، وعرفنا إن القتيل كان سايب أهله من فترة طويلة، لا يعرف عنهم حاجة ولا يعرفوا عنه حاجة، خلافات قديمة وحوارات مالناش فيها، لكن في الآخر أهله استلموه، ودفنوه بعد ما طلَّعوا تصريح الدفن، وبالمناسبة واللي كان متوقع، مكنش عندهم أي معلومة تساعدنا في التحريات، وتخلينا نعرف إيه الظروف اللي توصَّله إنه يتقتل بالشكل ده، وزي العادة، لما يكون في قضية المعطيات المتاحة فيها مش هتوصل لنتايج، خصوصًا معرفة المُجرم، بتتقيِّد ضد مجهول، وبتتقفل.
كانت أول قضية أشتغل فيها، وتتقفل بالطريقة دي، تقييد ضد مجهول، ودي بالنسبالي فَشل، كونك مُش عارف تجيب مُجرم ارتكب جريمة، مهما كان المجرم ده بارع في إخفاء دليل إدانته، فهو فشل.
كُنت لسه مخلَّص النبطشية، الصداع كان فارِم دماغي، وكنت مقتول من التعب، طلعت الاستراحة، اللي كانت فوق سَطح القِسم، غيَّرت هدومي واترميت على السرير، عملت تليفوني صامت عشان أنام ساعتين، ويادوب غمَّضت عيني شوية، ولقيت باب الاستراحة بيخبَّط.
أنا متعوَّد على الحكاية دي، ساعتها عرفت إن في مصيبة حصلت، ولازم نروح، واتأكدت من صحة تخميني، لما سمعت صوت الأمين "عبداللطيف" بيقول وهو بيخبط:
-يا "أحمد" بيه، في واحد مبلَّغ عن جريمة قتل.
استغربت من الحكاية، إيه موضة القتل اللي هتبدأ تنتشر دي؟!
النوم طار من عيني، ما أنا قولتلكم كلمة قتل دي تُخُض، غيَّرت هدومي وأخدت سلاحي وخرجت، وعرفت من الأمين "عبداللطيف"، إن واحد بلَّغ عن واحد مقتول، بيقول إنه في ناس لقوه في شوال، وحوالين رقبته حبل!
مُش عارف ليه المعلومات المبدئية عن الجريمة دي، خلَّتني أفتكر جريمة القتل اللي فاتت، لو اللي في بالي، يبقى أكيد إحنا قدام قاتل مُتسلسل، بيرتكب جرائم القتل بنفس الأسلوب، من باب الانتقام بقى، ولا مريض نفسي، مُش هتفرق، المهم إن الحكاية دي هتكُر وراها جرايم كتير، دا لو اللي في دماغي صح يعني.
مُش عاوز أصدِمكم، كان نفس الشوال، ونفس حتة الأرض، حتى الحبل اللي حوالين رقبته، نفس الحبل المُستخدم في جريمة القتل اللي فاتت، وبنفس الطريقة اللي اتقطع بها، ولما النيابة وصلت والأدلة الجنائية، وتمت معاينة مسرح الجريمة، نقلنا الجثة للمشرحة، وبعد تشريحها اكتشفنا إنها ماتت بنفس الطريقة اللي اتقتل بها القتيل اللي فات، اللي اتغيَّر بس، هو إن جسم الجثة دي متشرَّح، جروح مكان ضوافر حادة، وإن الطبيب الشرعي، لقى مغروز في صدر القتيل، فوق القلب بالظبط، ضافِر حيوان، تقريبًا ديب، واللي الطبيب رجَّح إن في ديب حاول يفترس الجثة، وإن من المعافرة معاها مخلبه اتكسر فيها.
لما وصلنا لأهل القتيل، عرفنا إنه كان عايش لوحده، مش متجوز ولا عنده أولاد، وإنه كان بيشتغل غفير، بيتنقَّل من مكان للتاني حسب أكل عيشه، وإنه اختفى قبل موته بيوم، ومحدش يعرف هو راح فين، ولا حد شاف أي شخص كان عنده قبل ما يختفي.
وبعد بحث طويل، كانت النتيجة نفس اللي قبلها، مفيش أثر للقاتل، كان أذكى من إنه يسيب وراه أي أثر!
لما القضية اتقيِّدت ضد مجهول، إحساسي بالفشل زاد، لكن كانت جوايا قناعة إن القضايا اللي زي دي، مُش بتتكشف بسرعة، ولا اللي بيرتكبها بيتعرف من أول مرَّة، بالعكس، دا بتبقى حالة ورا التانية، لحد ما القاتل يغلط في مرَّة، ويسيب وراه دليل بدون ما ياخد باله، مُش عارف ليه تمنيت يكون اللي ورا الحكاية قاتل متسلسل، خصوصًا في الظروف المتشابهة بين الجريمتين، دي في حد ذاتها أهون من إنها تكون جرائم قتل عادية، معنى كده إني هكون فشلت في قضيتين، مش قضية واحدة، أصل القتل المتسلسل، بتعتبر قضية واحدة مهما تعددت الحالات، طالما الفاعل واحد؛ فالقضية واحدة.
كُنت نايم بعد يوم شغل طويل، الاستراحة ضلمة، وأنا بطبيعة حالي نومي زي الديابة، عين مفتوحة وعين مقفولة، دماغي مع حالتين القتل، لكن اللي حصل، هو إني سمعت صوت حاجة بتخربش في بلاط الاستراحة، ولما فتحت عيني، ومكنتش شايف حاجة من الضلمة، لقيت إن الصوت فعلًا حقيقة؛ مش مجرد وهم أو تخاريف من الأيام اللي فاتت، والأكتر من كده، إني لمحت حاجة في الضلمة متعلَّقة في السقف، وبتتهز هزة خفيفة، ولما دققت فيها، حسيت إن ده خيال حد مشنوق، نفس الجِسم لما يبقى متعلَّق في حبل المشنقة، نفس مَيلان الراس بعد الشَّنق، الدنيا كانت ضلمة تقريبًا؛ لكن الخيال كان واضح جدًا.
قومت من السرير، وأنا على يقين إن كل ده وهم، مشيت ناحية مفاتيح النور، عشان أفتحها، وكل اللي أنا حاسس به حواليا ده يختفي، لكن اتفاجئت وأنا في طريقي، إني بصطدم بخيال الجثة اللي متعلقة بحبل في السقف، واتفاجأ إنها جثة فعلًا، مُش خيال!
أول مرة أحِس بالفزع، ده كان شعور وأنا بمِد إيدي، وبحسس على الجثة اللي خبطت فيها، رِجلين بني آدم، مَلمسها بارد، ريحة الموت طالعة منها، سَحبت إيدي والعَرَق بيصُب من كل حتة في جسمي، وجريت ناحية مفاتيح النور، ولما فتحتها والضلمة انتهت، لقيت الحَبل متعلَّق في السقف فاضي، من غير جثة، ولقيت آثار خربشة في بلاط الاستراحة.
كنت بقلِّب عيني ما بين الحَبل وأثر الخربشة اللي في البلاط، ومن غير ما أشوف ملامحي في المراية، كنت متوقع شكلها، إحساسي بالذهول كان مخليني أحِس إن عيني هتطير من مكانها، وعروق رقبتي هتنفجر، دوامة وأخدتني، زي ما يكون دخلت في غيبوبة فصلتني عن كل حاجة، لحد ما فوَّقني صوت الخبط اللي على الباب.
كان برضو هو الأمين "عبداللطيف"، اللي تقريبًا بقى مُتعهِّد إنه يصحِّيني في فترة راحتي على الكوارث، لأنه ببساطة شديدة، بلَّغني بجريمة جديدة، وللأسف الشديد الجثة بالشوال لقوها في نفس المكان، بس المرة دي؛ مفيش حد من الأهالي هو اللي بلَّغ عنها، دا المُخبر اللي أنا كلِّفتُه يراقب مسرح الجريمة، عشان لو القاتل فكَّر يرمي الجثة في نفس المكان، في حال لو عمل عملته تاني.
لما كلِّفت مُخبر بالمُهمة دي؛ اخترت واحد النملة مش بتعرف تعدِّي بدون علمه، لكن اتفاجئت إنه بيبلَّغ عن الجثة زيُّه زي أي حد اتفاجئ بوجودها، ده اللي عرفته منه لما روحنا مسرح الجريمة، ولقيت الشوال بالجثة في نفس المكان، والتحقيقات بعد ما أخدت مجراها، وصَّلتنا لنفس الطريق المسدود، القاتل مش سايب أثر، لا بصمات ولا أي حاجة تخصه، ولا حتى شوية جِلد تحت ضوافر الضحية وهي بتقاومه، الحكاية بقت معقَّدة أوي، خصوصًا بعد ما الطب الشرعي كتب في تقريره للمرَّة التانية؛ إنه عثر على مخلب حيوان في جسم الضحية، وبرضو كان مغروس في الصدر فوق القلب.
بعد التحريات، ولما وصلنا لأهل القتيل، عرفنا برضو إنه اختفى لمدة يوم قبل ما نلاقي جثته، وعرفنا من أهله إنه بيشتغل غفير، وإنه في الفترة الأخيرة، محدش منهم كان يعرف عن شغله حاجة، ومكنش بيجاوب حد لو سأله عن شغله، وإنه المفروض بيرجع البيت الساعة 12 بالليل، لكن في الليلة دي اتأخر، ودي كانت الليلة اللي المخبر لقى جثته فيها قبل الفَجر.
كل حاجة مع القتيل كانت بتتحرَّز، الشوال والحَبل اللي حوالين رقبته، هدومه، حتى المخلب اللي الطبيب الشرعي كان بيلاقيه في جسمه، كان بيتحرَّز هو كمان.
بس إيه فايدة كل ده؛ طالما مش قادرين من خلاله نوصل للقاتل؟
-دي حالة القتل التالتة، تالت شخص يموت في ظروف غامضة، نفس مُلابسات الجريمة بتتكرر، نفس كل شيء، وللأسف إحنا كده بقينا قدام قاتل متسلسل، وإنه يرتكب الجريمة 3 مرات في فترات قريبة، ويرمي الجثة في نفس المكان، اللي إحنا مراقبينه، ده تحدِّي، واستخفاف بنا في نفس الوقت، كأنه بيقولنا: أنا ماشي في طريقي، وبنفس الخطوات، وبسيبلكم الجثة في المكان اللي عينكم عليه، وأنتوا مش قادرين برضو توصلوا لحاجة، الموضوع بيكبَر وإحنا بنحاول نِلِمُّه، وأنت مفيش قضية فشلت معاك، لازم تكثِّف التحريات، لازم تتصرَّف يا "أحمد يا دمرداش"، شكلنا بقى وِحش، الناس بقت تتكلم بعد كل حالة قتل، والكلام بيكتر، حتى معادوش بيقولوا قتيل، بقوا يقولوا "المشنوق"!
ده كان كلام مأمور القسم ليا، أو عشان أكون صريح، كان توبيخ بس بطريقة غير مباشرة.
مكنش قدامي غير إني أكثِّف المراقبة على مسرح الجريمة، حطيت اتنين مخبرين مع المخبر اللي هناك، وكلِّفت مخبرين يراقبوا بيوت الضحايا، لعل وعسى، يمكن أي كلمة كده ولا كده نعرفها، تخلينا نوصل لأي شيء، ده كان الإجراء اللي قدامي، دا غير إني كنت بقرأ ملف القضية كل يوم، ولا كأني هعمل فيه دكتوراة، لكن كل ده، مكنش له أي فايدة.
كنت مطبَّق 48 ساعة تقريبًا، القضية كانت شُغلي الشاغل، لأول مرة كنت حاسس إني زي الثور اللي مربوط في ساقية، لا بيبطَّل مَشي، ولا الساقية بتُقف، ولا المايَّه بتخلص، ولما دماغي جابت آخرها، أخدت بعضي وطلعت الاستراحة، طفيت النور، والتعب اللي كنت فيه، خلاني أمدد على السرير بالميري، وعيني غفِّلت، بعدها؛ فتحت عيني على صوت حد بيتخنق، رفعت راسي من على المخدة، وبدأت أبص حواليا في الضلمة، عشان اتفاجئ من تاني بخيال حد متعلَّق في السقف، حد مشنوق، وصوت حاجة بتجري في الأوضة مُش قادر أشوفها، بَس مُش رجلين بني آدم، دا صوت رجلين بتخبط في الأرض، وبتخربِش.
قومت من السرير وقرَّبت من الخيال، ولمَسته، لكنه مكنش وهم أبدًا، كنت ماسِك في إيدي رجلين جُثة باردة، وفي وسط الذهول اللي كنت فيه، لقيت حاجة بتجري من جنبي، وخبطت في رجلي فجأة، ورغم إن الدنيا ضلمة، ومكنتش شايف حاجة، لكن مكنش صعب عليا إني أعرف إن اللي خبط في رجلي ده كان كلب.
الباب خبَّط، وبعدها صوت الأمين "عبداللطيف" رن في ودني تاني، وهو بيقول:
-يا "أحمد" بيه، سعادة البيه المأمور عاوزك.
روحت ناحية الباب، فتحت نور الاستراحة وأنا ببُص ورايا، الحَبل متعلَّق في السقف، لكن بدون جثة، ومفيش أي أثر لحاجة تاني، فتحت الباب وأنا بقول للأمين "عبداللطيف: خمس دقايق ونازل، ولما قفلت الباب وبصيت ورايا من تاني، الحبل كان اختفى من السَّقف.
الموضوع بقى مُريب، بدأ يخرج من خط سيره كقضية، لحاجة مُش مفهومة، حاجة كده برَّه علم الجريمة، لكن في اللحظة دي؛ اللي كان شاغل بالي، هو ليه المأمور باعتلي عشان يقطع فترة الراحة بتاعتي، لو في جريمة تانية حصلت، كان الأمين "عبداللطيف" قالي، هو ميتوصَّاش في توصيل الأخبار السَّارة بصراحة، عشان كده ظبَّطت أموري ولبست جزمتي؛ ونزلت.
كنت متوقع الخبر اللي المأمور هيقوله، وهو إنه أخد منّي ملف القضية، وعطاه لضابط زميلي، وطبعًا برَّر موقفه عشان مزعلش، بإن دي أوامر جايه من فوق، وطبعًا الأوامر لازم تتنفذ.
سلِّمت لزميلي الملف، وشرحتله كل ملابسات القضية عشان يكمِّل، وبعدها طلعت الاستراحة من تاني، كنت حاسس إني اتخلصت من عبء كبير على قلبي، تقريبًا اللي كنت بشوفه في الضلمة ده، كان من الضغوط اللي بواجهها لأول مرة، وهي إني أكون عاجز عن الوصول لمُجرم، حياة الناس بالنسباله ملهاش قيمة، وبمجرد ما فتحت الباب، لقيت إني كنت ناسي النور مفتوح، لكن عيني جت على السقف، اللي كان فيه حَبل المشنقة متعلَّق وبيتهز وهو فاضي!
إيه تاني؟ هي الحكاية مُش خلصِت؟
دخلت وأنا مذهول، وقفت تحت الحبل ورفعت راسي لفوق، كان بيني وبينه يادوب شِبر، مُش عارف إيه اللي خلاني ألِف حوالين نفسي وأنا عيني عليه، هو كمان كان بيدور، لكن عكس اتجاهي، ومع الوقت، سمعت صوت الرجلين وهي بتجري على البلاط، وبتخربِش فيه.
لما قرَّبت أفقِد الوعي، وقَفت وبطَّلت ألِف، لكن بدأت أبُص في الأرض، في المكان اللي شوفت فيه خربَشة قبل كِدَه، العلامة كانت عبارة عن 3 ضوافر، أو 3 مخالب، أو آلة حادة لها 3 أطراف هي اللي عملت كده، أصل مستحيل ضوافر بني آدم تقدر تعلِّم العلامة دي.
لكن بما إن القضية خلاص مبقتش معايا، قولت أكيد الضغوط هتخِف من عليا واحدة واحدة، وعقلي الباطن هيرتاح مع الوقت، وكل اللي بشوفه ده هيختفي، لكن يشاء القدر، إن تاني يوم، نتبلَّغ بحالة قتل جديدة، لكن طبعًا مروحتش مسرح الجريمة، لأن معدش ليا علاقة باللي بيحصل، لكن الأمين "عبداللطيف" -أدامَ الله لسانه- قام بالواجب، ولما رجع نَقَل ليا الصورة وكأني هناك، حتى تقرير الطبيب الشرعي، طلبت منه صورة وجبهالي، وعرفت إنها نفس ظروف القتل، حتى المخلب اللي التقارير اللي فاتت أثبتت إنه مغروز في الصدر فوق القلب، كان موجود برضو.
ظروف القضية كانت غامضة، زيها زي اللي فاتوا، فيما عدا حاجة واحدة، إن الضحية المرة دي، كان واحد معروف إنه تاجر مخدرات، لكن للأسف، مكُنّاش قادرين نثبت عليه حاجة، ولا عارفين نمسِكُه مُتلبِّس، وده اللي كان غريب، إيه اللي لَم الشامي على المغربي؟!
كل التحريات أثبتت إن اللي ماتوا قبل كده، مالهومش صِلَة ببعض، حتى ولو كانت مهنتهم واحدة تقريبًا، ولو كان لهم صِلَة بتاجر المخدرات، كان زمان عليهم العين معاه، أي نعم مش قادرين نثبت عليه حاجة لحد دلوقت، ولا وصلنا لكل اللي بيتعامل معاهم، ولكن على الأقل كان ممكن واحد من الـ 3 اللي ماتوا قبله وقع تحت عنينا ولو مرَّة.
كل الظروف المنطقية بتقول إن ملهومش علاقة ببعض، لكن المُلابسات بتقول غير كِدَه، ولما متقدرش تربط بين تشابه ظروف القتل على أرض الواقع، ولا تقدر توصل بينها من الناحية المنطقية، مبيبقاش لها لازمة.
القضية كانت زيها زي غيرها، اتقيِّدت ضد مجهول، والشوال والحبل والمخلب اتحرَّزوا، والحكاية أخدِت منحنى تاني، فرحة موت تاجر المخدرات غطَّت على الحكاية أصلًا، مجرد بس إنك خلصت من مُجرم أنت متأكد من إجرامه، وفي نفس الوقت مُش عارف تثبت عليه حاجة، كان كفيل إنه يخلي الدنيا تبُص على الموضوع من زاوية تانية، حتى المأمور، متكلمش مع زميلي اللي ماسك الملف مكاني، لكن قولت يمكن يكلمه، لما الموضوع يتكرر تاني.
الحقيقة، فات أكتر من 3 شهور، ومفيش حالة قتل ظهرت تاني، وكانت كل التحريات عاجزة عن إنها تربط بين ال 3 اللي ماتوا وتاجر المخدرات، اللي جثثهم اتلَقَت في نفس المكان، وبنفس طريقة القتل، دا غير إن لسه الفاعل أو القاتل، طرف مجهول، سراب مش قادرين نوصلُّه.
وفي ليلة، كنت نايم في الاستراحة كالعادة، بعد يوم شغل طويل خلاني أفقد طاقتي، لكن بدأت أفتح عيني على صوت موجود في الاستراحة، ناس بتتكلم، مكنتش شايف حاجة لكن في صوت فيهم مكنش غريب، ولأن لما يكون في مُجرم عينك عليه، مبتنساش صوته، حتى لو اتكلمت معاه مرة واحدة بس، أو مجرد إنك سمعته من بعيد.
كان صوت تاجر المخدرات، وهو بيقول بصوته اللي عمري ما هنساه:
-أنت فاكر دخول الحمام زي خروجه يا روح أمك؟ لازم تعرف إن خروجك من وسطنا يعني خروجك من على وش الدنيا، إحنا سِرِّنا معاك.
-بَس أنا عاوز أتوب، توبة نصوحة.
-نصوحة دي تبقى خالتك، أنت مُش كلمتني مرة في الموضوع ده وحذَّرتك؟ أنت إيه حكايتك؟
-أنا هتوب وهبطَّل الكار ده، وأوعدك وعد شرف إني مش هفتح بوقي بكلمة.
-شَرف؟ هو اللي بيشتغل في الكار ده يعرف الشرف؟ وبعدين أنت هتقلِب دماغي ليه؟ بقى أنا كل عملية أخطط لها تخطيط من نار، عشان مفيش حد يمسك علينا حاجة، وأنت جاي عايز تخرج من وسطنا عشان تكشفنا؟ فاكرها سايبة؟! وبعدين بتكلمني والكلب معاك، فاكر نفسك هتخوفنا؟
-طيب هسيب البلد خالص، هروح بلد تانية.
-لا تانية ولا تالتة.
وبعدها، سمعت صوت خبطة جامدة، خبطة وراها صرخة ملحقِتش تكمل، ومعاها، افتكرت تقرير الطبيب الشرعي في الجريمة الأولى، إن موت القتيل كان ناتج عن ضربة بآلة حادة، أدت لنزيف في المخ والوفاة في الحال، لأن ودني عمرها ما تغلط في صوت خبطة الآلة الحادة على الراس أبدًا.
الكلام كان كفيل بإني أتخيل المشهد، دا غير إن بعد الصرخة، سمعت صوت كلب بينبح، زي ما يكون بينبح وهو مذعور، وبعدها سمعت صوت تاجر المخدرات وهو بيقول:
-خلصونا من الكلب ده.
ومفيش ثواني، وسمعت صوت الكلب وهو بيعوي بطريقة مرعبة، كان صوته زي ما يكون بيتألم ألم شديد، وبعدها قطع النفس خالص، وده اللي خلاني أربط بين اللي سمعته، وبين الكلب اللي لقيناه مطعون مع الضحية الأولى في الشوال.
دماغي كانت بتلف، خصوصًا لما سمعت صوت تاجر المخدرات للمرة الأخيرة وهو بيقول:
-هيفضل متعلَّق قدامكم أنتوا الاتنين كده شوية، عشان تعرفوا اللي يفكر بس، ممكن يحصل فيه إيه، عبرة لمن لا يعتبر، وبعد شوية تاخدوه هو والكلب بتاعه، تحطوهم في شوال، وترموهم في أي خرابة، بدون العفريت ما ياخد باله منكم.
عارفين لما الواحد دماغه تعمل error ؟ هو ده كان حالي بالظبط، تاجر المخدرات بعد ما الضحية ماتت قالهم: أنتوا الاتنين، يعني كده 3 أشخاص، دا غير تاجر المخدرات، يبقى كده الأربعة اللي اتقتلوا!
في وسط كركبة الدماغ، والضلمة، لمحت جوز عيون منورين في الضلمة، ومكنش صعب إني أعرف إنها عيون كلب، جسمي اتلبِش في مكانه، لكن كان عندي فضول أعرف إيه اللي هيحصل، ومع الوقت، صورة الكلب كانت بتوضح قدامي، كان نفس الكلب اللي مع الضحية الأولى، بنفس الطعنات اللي جنب رقبته، كان بيقرب من السرير، وبيمد راسه تَحته، وبيسحب من تحت السرير اللي أنا نايم فوقه جثة، كان بيزحفها في الأرض وبياخدها ويدخل بها باب الطُرقة بتاعت المطبخ والحمام، وبعدها يرجع من غيرها، وبيسحب جثة تانية وبيعمل فيها نفس اللي عمله، لحد ما سحب 3 جثث، وساعتها لمحت رجليه، وكان في واحدة منهم ناقصها 3 مخالب، ولما دخل باب طُرقة المطبخ والحمام بالجثة الأخيرة، مظهرش تاني!
قومت مفزوع من السرير، عشان أقف مبحلق في الخيال اللي ظهر من تاني في السقف، الجثة اللي متعلقة في حبل المشنقة، وبتتهز ببُطء، اللي بحلقت فيها فترة طويلة، قبل ما تختفي هي والحبل.
جريت ناحية مفاتيح النور، ولما فتحته، بصيت في السقف، ولقيت إن مفيش أثر لأي حاجة شوفتها، دخلت باب طُرقة المطبخ والحمام، دورت فيهم، وملقتش أثر للجثث اللي الكلب سحبها لجوَّه، ولا للكلب.
رجعت ناحية السرير، ونزلت في الأرض، في المكان اللي فيه الخربشة مكان 3 مخالب، زي الـ 3 جرايم قتل اللي حصلوا بعد الجريمة الأول، والكلب ظهرلي وناقص من رجليه 3 مخالب، والأحراز اللي متحرَّزة فيهم 3 مخالب.
ده كان كفيل إنه يفسَّر ليه الضحية الأولى مفيش في صدرها مخلب، ده معناه إن القصاص والعدل اتحقق بطريقة مختلفة، لما إحنا عجزنا عن تحقيقه، المعنى الوحيد لكل المعطيات دي، إن الضحية الأولى انتقمت لنفسها من الـ 3 اللي قتلوها، أو سامحوني لو روحت بتفكيري بعيد شوية، روح الكلب اللي اتقتل وهو بيدافع عن صاحبه، لما شافه بيموت قدامه، انتقمت لصاحبها، وسابت مخلب في قلب كل واحد من اللي قتلوه.
النهار كان بدأ يشقشق، لبست هدومي وخرجت، لكن مش على مكتبي، كان في مشوار لازم أعمله، ركبت عربيتي وروحت عند مسرح الجريمة، ولما وصلت، كنت واخد معايا فأس، طلعته من شنطة العربية، وبدأت أحفُر في المكان اللي الكلب اندفن فيه، ولما جثة الكلب ظهرت، كانت اتحلِّلت والهيكل العظمي بتاعها ظَهَر، لكن أنا مكنتش عايز أشوف الكلب نفسه، أنا كنت عايز أشوف رجليه، وفعلًا، لقيتها ناقصة 3 مخالب، بعدد اللي في الأحراز، وبعدد العلامة اللي في البلاط، وفي نفس الرِّجل اللي شوفتها لما ظهرلي.
***
مين يصدَّق إن ده يحصل؟ لو حكيت عن حاجة زي دي، هخرج من الخدمة بسبب الجنون، وبرغم إن القضية اتقفلت ضد مجهول رسميًا، في انتظار فتحها من جديد لو حصل وظهرت حالة قتل تانية مماثلة، لكن كنت عارف إن ده مش هيحصل، لأن القضية اتقفلت فعلًا، وكل واحد أخد جزاؤه، لكن بطريقة تانية، بطريقة بتحصل بس، لما إحنا كَبَشَر نعجز عن رد الحق لأصحابه.
تقرير...
"كان لازم أكتب التقرير ده، رغم إن القضية اتقفلت بتقرير رسمي واتحفظت، ورغم إنها معادتش تخصّني، بس ممكن يكون كل ده حصل معايا، لأني أول من كان مهتم بِها، لكن تقدروا تعتبروا اللي هكتبه ده مجرد تحليل بسيط. إحنا ممكن نتحايل على القانون، نهرب من العدالة، ومهما كانت قوانين الأرض والبشر، أو عدالة الأرض، فهي عدالة غير مُطلقة، والقوانين لا تخلو من الثغرات، عشان كده في ناس بتهرب، وفي ناس بتعمل اللي هي عاوزاه وعارفة هتخرج من عملتها ازاي، بالظبط زي تاجر المخدرات، اللي إحنا متأكدين مليون في المية إنه بيتاجر ومجرم، ومش قادرين نعمل معاه حاجة، لمجرد بس إننا مش عارفين نمسكه مُتلبِّس، لكن في عدالة تانية، وقوانين تانية، أي نعم موجودة في الدنيا، لكن مش إحنا اللي عاملينها، دي عدالة ربنا أودعها في الطبيعة، اللي هي كما تدين تُدان، وصدقني، جريمة القتل اللي اتعملت بإتقان رهيب، بيقفل كل طرق الوصول للقاتل، عمرها ما تقدر تتجاوز القانون الإلهي، والقصاص حصل بطريقة بعيد عن المنطق والعقل والإجراءات، عن طريق روح الكلب، اللي انتقمت لنفسها ولصاحبها اللي اتنفذ فيه الموت مرتين، مرة بالضرب على راسه، والتانية لما اتعلَّق في حبل من رقبته بعد ما مات، عشان يتعرف بلقب "المشنوق".
طبعًا لو كنت لسه ماسك القضية، كنت هكتب تقرير عادي، وتتقيد ضد مجهول، لأني مقدرش أكتب الكلام ده في تقرير رسمي، عشان هينطلب مني إني أكتب استقالتي بعده علطول، لكن اكتفيت إني أكتبه في ورقة وأحتفظ بها، عشان كل ما قضية قتل تتقيِّد ضد مجهول، يبقى عندي يقين، إن هيتم القصاص بطريقة تانية ومختلفة، إحنا أصغر من إننا نستوعبها.. ضابط شرطة / أحمد الدمرداش".
تمَّت...
***