لا أعرفُ أينَ تعطَّلت سيارتي؛ فحينَ توقَّفَ المحرِّكُ فجأةً، وانطفأت إضاءةُ الكشَّافات، كانت الدنيا مُعتمةً من حولي. لجأتُ إلى هاتفي؛ كي أستعينَ بالموقع الجغرافيِّ؛ لأتعرَّفَ على موقعي، لكنّي لم أعثر إلا على علامةٍ واحدةٍ في الشبكةِ، لم تكن تكفي لفعلِ شيء.
ذاتَ يومٍ في خدمتي العسكريةِ، كان القائدُ يقول دائمًا: عليكَ أن تتصرَّف؛ ولذلكَ تصرَّفتُ، غادرتُ السيارةَ والظلامُ يُهَيمِنُ على كل شيء. لم ألمح إلا ضوءًا أحمرَ بعيدًا، لم يكن بوسعي إلا السيرُ باتجاهه، ولمَّا اقتربتُ منه وجدته ضوءَ نافذةٍ قابعةٍ في كوخٍ خشبيٍّ.
الكوخُ يقبعُ وسطَ الغابةِ، هكذا لاحَ ضوءُ نافذتهِ لي حينَ تعطَّلتُ على الطريقِ الرئيسية، تريَّثتُ قليلًا قبلَ أن أخطو خطوةً أخرى، فاعتادت عيناي العتمةَ؛ فأبصرتُ ما حولي قليلًا. رأيتُ شجرةً عجوزًا، نَفَضَت أوراقَها وَوَقفَت عاريةَ الفروع، تتدلَّى من غصنٍ غليظٍ فيها أرجوحةٌ قديمةٌ، كانت تهتزُّ قليلًا، وكأنَّ شخصًا فوقَها يتأرجحُ بهدوء.
أرجأتُ الأمرَ إلى الرياحِ، ثمَّ تابعتُ سيري، ولمَّا اقتربتُ من الكوخِ وجدتُ بابَه موارِبًا، مَنَعَتني أخلاقي من اقتحامِهِ فناديتُ:
_مرحبًا، هل من أحدٍ هنا؟
لم أجِد سوى الصمتِ، رفعتُ عينيَّ صوبَ النافذةِ الحمراء؛ فلمحتُ ظلًّا يتحرَّكُ، فأدركتُ أنَّ شخصًا ما كادَ يستجيبُ لندائي، فناديتُ مرةً أخرى:
_مرحبًا؛ هل هناكَ أحدٌ بالداخل؟
دخلتُ الكوخَ مُضطرًّ؛ كان قديمًا مُتهالكَ الأثاث، لم يشغلْني ذلكَ كثيرًا، فليس لي هدفٌ سوى طلب المساعدة، ثمَّ جذبَ انتباهي ذلكَ الخيالُ المُسرعُ، المصحوبُ بصوتِ خطواتٍ، وهو يصعدُ السُّلَّمَ الصاعدَ لأعلى، دفعني فضولي؛ فصعدتُ. في نهايةِ مَمَرٍّ قصيرٍ، لمحتُ بابَ الغرفةِ الحمراء، لقد بدا مثلما بَدَتِ النافذةُ من الخارج، جررتُ أقدامي إليها، ولمَّا دخلتُها وجدتُها مليئةً بالدُّمى التي تشعُّ ضوءًا أحمرَ، لقد كانت الدُّمَى هي مصدرُ ذلكَ الضوء، ثمَّ تحرَّكتُ صوبَ النافذةِ حينَ سمعتُ صوتَ الأرجوحةِ المُعلَّقةِ بالشجرةِ وهو يزدادُ؛ فرأيتُ فتاةً صغيرةً تتأرجحُ فوقَها.
أدركتُ أنَّ الأمرَ ليسَ على ما يُرام، وأنَّ الأرجوحةَ لم تكُن تتحرَّكُ بفعلِ الرياح؛ لقد نسيتُ أن الهواءَ ساكنُ لا يحرِّكُ ورقةً، وأنَّ التي أراها ليست بفتاةٍ، وربما كانت تجلسُ فوقَ الأرجوحةِ حينَ كنت أنظرُ إليها بالأسفل، ولم أرَها بالطبع.
غادرتُ الغرفةَ الحمراءَ؛ ومن ثمَّ خرجتُ من الكوخِ؛ فوجدتُ الأرجوحةَ شاغرةً، لكنها تهتزُّ من تلقاءِ نفسها، رفعتُ عينيَّ صوبَ النافذةِ، فوجدتُها هناكَ، تنظرُ إليَّ من الأعلى، ولم أعرف كيفَ صعدت أثناء نزولي دونَ أن ألمحها، وذلكَ ما أثار خوفي؛ فغادرتُ المكان.
ثمَّ عدتُ إلى السيارةِ، حينها نظرتُ خلفي فلم ألمح إلا الغرفةَ الحمراءَ؛ كما رأيتُها قبل أن أتبعَ ضوءَها، جلستُ في السيارةِ حابسًا أنفاسي؛ كيلا يخرجَ معها الخوفُ القابعُ بداخلي، حتى لاحَ النهارُ في السماء، فرأيتُ الكوخَ من بعيدٍ، قديمًا مُتهالكًا، بينما كانت الغرفةُ مظلمةً لا ضوءَ فيها.
انتبهتُ إلى صوتِ سيارةٍ تتوقَّفُ خلفي، في مرآةِ السيارةِ؛ لمحتُ مُزارعًا يغادرُ سيارته باتجاهي، ولما اقتربَ من نافذةِ سيارتي قال:
_هل يمكنني مساعدتك؟
_تعطَّلتِ السيارةُ، لو تسحَبُني إلى ورشةٍ قريبةٍ أكونُ مُمتنًّا.
بعدَ أن علَّقَ جنزيرًا في وجهِ سيارتي؛ موصِلًا إيَّاهُ بمؤخرةِ سيارته، جلستُ بجانبهِ وهو يتجهُ بي إلى ورشةٍ قريبةٍ؛ ليقصَّ عليَّ قصةً يعرفُها، لأنَّهُ يسكنُ بالقربِ من الكوخِ؛ حيثُ قال:
_لقد كانَ بالقُربِ منكَ كوخٌ به غرفةٌ تُضاءُ بالأحمرِ ليلًا؛ يسكنها شبحُ الفتاةِ التي قُتِلَت فيها؛ يُقالُ أنَّ روحها تسكُنُ الدُّمى الخاصةَ بها، إنها لازالت في الغرفةِ، وهي التي تشعُّ ضوءًا أحمرَ، أنت تعرفُ أن الأشباحَ تُفضِّلُ اللونَ الأحمرَ، لقد غادرَ أهلُ الفتاةِ الكوخَ بعد حادثِ مقتلِها، لأنهم كانوا يرونَ شبحَها كل ليلةٍ جالسًا في غرفتِها المُضاءَةِ بالأحمر، هل رأيتَ ضوءَ الغرفةِ الحمراءِ يلوحُ من بعيدٍ؟
أفقتُ من شرودي؛ وقلتُ:
_لا، لم ألمَحَ شيئًا.
نعم كذبتُ، لكنَّ خوفًا بداخلي دفعني إلى إنهاءِ الحديث، فربما إن أجبتُه "نعم"؛ يستمرُّ في سردِ ما لا أحبُّ سماعَه، فاكتفى بأن قالَ لي:
_هذا شيءٌ جيد.
ثمَّ خيَّم الصمتُ علينا؛ ولا أعرفُ كيفَ أمسكتُ لساني، ولم أبُح له أني كنتُ داخلَ الغرفةِ الحمراء، ورأيتُ كل ما قصَّهُ عليَّ رأيَ العين.
...