أتذكَّرُ كلَّ شيء، كنتُ واقفًا أمامَ المِصعد، حينما انطفأ الضوءُ فجأةً؛ فأظلمَ المكانُ من حولي، إلا زِرُّ المِصعد الذي احتفظَ بضوئهِ الأحمر.
للوهلةِ الأولى؛ ظننتُهُ انقطاعًا في التيارِ الكهربائي، لكن كيفَ يعملُ زِرُّ المِصعد؟!
هناكَ احتمالٌ آخر، لقد فسدت لمباتُ الكهرباء دفعةً واحدة، لعنتُ حارسَ العقار، كم هو لئيمٌ ذلكَ الرجل، يجمعُ منّا نقودًا تكفي لشراءِ أكثرِ اللمباتِ جودةً، بينما يقومُ بشراءِ أسوأ شيء؛ ليدَّخرَ قدرَ استطاعته، فتفسد اللمباتُ دفعةً واحدة، وأقفُ في عتمةٍ كهذه.
قمتُ بضغطِ زِرِّ المِصعد؛ فانفتحَ البابُ في حينها، رغمَ أن رقمَ الطابقِ كانَ يشيرُ إلى أنَّ المِصعدَ في طابقٍ آخر، قلتُ: ربما هو خللٌ جديد، لا بأس.
دخلتُ المِصعدَ وقمتُ بضغطِ زِرِّ الطابقِ الأرضي (G)، انغلقَ البابُ ووقفتُ في انتظارِ تحرُّكِ المِصعدِ للأسفل، لكنّي لم أشعُر بحركةٍ قط، ثمَّ انفتحَ البابُ؛ فوجدتُ نفسي في الطابقِ الأرضي!
يا إلهي! كيفَ يحدثُ هذا؟!
خرجتُ من المِصعدِ؛ فابتلعتني عتمةٌ أخرى، لعنتُ حارسَ العقارِ مرةً أخرى، ومضيتُ في طريقي بحذرٍ، كيلا أصطدِمَ بشيء، حتّى خرجتُ إلى الشارع، وقفتُ بجوارِ سيارتي ثمَّ نظرتُ من حولي، يا إلهي! الشارعُ عتمةٌ أيضًا!
جلستُ في سيارتي؛ ثمَّ أدرتُ المُحرِّكَ، تركتهُ قليلًا؛ كي ينعمَ بحرارتهِ قبل أن أتحرَّكَ في ذلكَ الشتاءِ البارِد، ليس هناكَ أقسى من الخروجِ إلى العمل في وقتٍ كهذا، وبرودةٍ قاتلةٍ كهذه.
ثمَّ تحرَّكتُ أخيرًا، وهنا اعتذرتُ لحارسِ العقار، فالمشكلةُ لا تكمنُ فيهِ على ما أظنُّ، كانَ كلُّ طريقٍ أسلكهُ تبتلعه العَتمة، وهكذا، حتى لمحتُ ذلكَ الجسدَ الأسود، كان شاحبًا يشبهُ الظلَّ، ينطلقُ أمامي بسرعةٍ ربما تفوقُ سرعةَ سيارتي، هناكَ مسافةٌ تفصلهُ عن الأرض، يا إلهي! ما هذا؟!
ظننتُ أنَّ العتمةَ هي أكثرُ شيءٍ غريبٍ يحدثُ لي؛ وذلكَ الجسدَ الشَّاحِبَ الذي يسبِقُني، لكنَّ ثمَّةَ شيءٍ أكثرُ غرابةً يحدثُ الآن، لقد ضللتُ طريقي، حيثُ وجدتُني أتبعُ ذلكَ الكيانَ الذي ينطلقُ أمامي، لا يسألني أحدكم لماذا؛ فأنا أرغبُ في فعلِ ذلك، دونَ إرادةٍ منّي!
أنطلقُ من طريقٍ مُعتِمٍ إلى آخر أكثر عتمةً، لا أعرفُ كم مرَّ من الوقتِ، ولا أينَ السياراتُ التي من المُفترضِ أن ألاحظَها بينَ الحينِ والآخر، لكنَّها طرقاتٌ يبدو أنّي أسيرُ فيها وحدي.
أخيرًا، توقَّفَ ذلكَ الكيانُ؛ فوقفتُ، ولا تسألني عن السببِ الذي جعلني أغادرُ سيارتي، ثمَّ مشيتُ؛ حيثُ أتبعُ ذلكَ الكيانَ الذي يسيرُ أمامي ببطءٍ شديد، لأتفاجأ بالأرض من حولي، ترتفعُ قليلًا في مواضعَ وتنخفضُ في أخرى، هناكَ حجرٌ يعلو مقدَّمةَ كل منطقةٍ مرتفعةٍ من الأرض، ما هذا؟ إنها شواهد، يا إلهي! أنا في مقابر!
حاولتُ أنّ أفرَّ هاربًا فلم أستطع، ثمَّ وقفتُ حيثُ توقَّفَ ذلكَ الكيانُ، وهنا وجدتُ نفسي أنظرُ عندَ قدمي؛ لأتفاجأ باسمي محفورًا على الشاهدِ الذي أمامي!
فررتُ؛ كفريسةٍ تحاولُ الفرارَ من أنيابِ ذئبٍ جائع، ركضتُ نحوَ سيارتي التي تركتُ محرِّكها يعملُ وأنا أغادرها، ثمَّ انطلقتُ دونَ أن أعرفَ صوبَ أيِّ مكانٍ أتَّجه؛ فالعتمةُ لازالت تحاصرُني، خوفي، صورةُ قبري الذي التقطتها عيناي.
لم أكُن أقصدُ مكانًا بعينهِ؛ كل ما أريده هو أن أهربَ من ذلكَ المكانِ الذي يمثِّلُ لي نهايتي، انطلقتُ بسرعةٍ مُريبة، دونَ أن أرى الطريقَ أمامي؛ ولم أكُن أعلمُ أنّي أسلِّمُ نفسي لنهايتي الحقيقية.
آخرُ ما أذكرهُ أنّي دخلتُ طريقًا صخريًا، ولم يجعلني ذلك أخفضُ من سرعتي، كانت السيارةُ ترتجُّ؛ بينما أزيدُ من سرعتها، حتى تفاجأتُ بأنّي أسقطُ من فوقِ مُنحدرٍ، تصطدِمُ رأسي بشدَّةٍ في سقفِ السيارة وهي تنقلبُ بي، أشعرُ ببرقٍ في عيني، وكأنَّها تبصرُ للمرةِ الأخيرةِ قبلَ انطفائها، هناك شعورٌ مؤلمٌ آخر؛ فرأسي من الداخلِ تمتلئ بما يُشبه الماء السّاخن، إنَّه نزيفٌ داخلي، لكنَّ جسدي، لا، ليسَ هناكَ ما أشعرُ بهِ في جسدي، فأنا بلا جسدٍ الآن!
ثمَّ انتقلتُ إلى عتمةٍ أكبر، أكثر وحشةً، عتمةٍ لم يكن فيها إلا آخر ما شعرتُ بهِ، وآخر ما رأيت، قبري!
انتفضتُ على رنينِ منبِّه الهاتف، قمتُ مذعورًا أتحسَّسُ جسدي، لعنتُ الكوابيسَ، والنومَ، وتلكَ الهواجسَ التي تصطحبني دائمًا لأحلامٍ سوداء.
أطفأتُ رنينَ المنبّه، الذي اتَّضحَ لي أنَّه ربما ينبِّهني للمرَّةِ الألفِ؛ دونَ أن أشعُرَ به، لقد تأخرتُ على عملي، ركضتُ نحوَ الحمامِ؛ فوضعتُ رأسي أسفلَ ماءِ الصنبورِ البارد، كان لابدَّ لي أن أفيقَ مما رأيت.
ارتديتُ ملابسي على عجلٍ؛ ثمَّ تناولتُ هاتفي ومفتاحَ سيارتي، خرجتُ مسرعًا؛ كي ألحقَ بعملي، وقفتُ أمامَ المِصعدِ؛ ثمَّ قمتُ بضغطِ الزِّر لاستدعائه، لكنَّ بابَه انفتح ووجدتُه أمامي، رغم أن رقمَ الطابقِ كان يشيرُ إلى أنَّ المِصعدَ في طابقٍ آخر، ثمَّ انطفأ الضوءُ فجأةً، لقد ابتلعتِ العتمةُ كلَّ شيء، تمامًا كما رأيتُ قبلَ أن أستيقظَ، وها أنذا؛ أدخلُ إلى المِصعدِ دونَ إرادةٍ منّي!
أنا لا أعرفُ ماذا سيحدثُ بعد ذلكَ، أو ربما عرفتُ مُسبقًا، لكنّي أحاولُ إقناعَ نفسي أنَّ لا شيءَ ينتظرُني، لكنَّ لي أمنيةً واحدة فقط، هي أن أستيقظَ مرةً أخرى على رنينِ منبّه هاتفي اللحوح!