هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  • التعليم السوداني بين العزلة وإعادة إنتاج الأمية
  • أصداء أزهري محمد على نقد متجدد للحكم في السودان 
  • معركة الكرامة: بين الخيانة والوفاء للوطن
  • بين رفقة الأحلام ورفقة التكنولوجيا أحلام تزهر بالمعرفة
  • طقوس الزواج السوداني بين الأصالة والمفارقة: من قطع الرهد إلى إشعار البنك
  • لقاء السحاب
  • يا صديقي.. لو كنا تزوجنا من زمان
  • رسالة بين القلب والعقل
  • ما وراء الغيم الأسود
  • حين عاد الصوت من الغياب
  • على حافة الفراغ.. حكاية قلب يبحث عن أنس
  • أمسية على ضفاف الذاكرة
  • تهت في عيونك
  • جاء موعد كتابتي إليك
  • عبارات مبالغ فيها لإبن تيمية
  • ابن تيمية فى مواجهة الوهابية 
  • لابوبو الجزء ٤
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شحاتة
  5. العرايس

في وسط الضلمة؛ لمحت عيون منوَّرة باللون الأبيض، كانت بتتحرَّك ببطء، ومعاها سمعت صوت خطوات بتتحرَّك بنفس الإيقاع. الخوف اللي جوَّايا خلاني أتخشِّب في مكاني، إحساسي بإني في مكان ضلمة وفي شيء غامض متربِّص بيّا إحساس مُرعب، وفي وسط دوامة الخوف اللي بَلعتني سألت نفسي: إيه المكان دَه وإيه اللي جابني هنا؟

الوقت فات وأنا بدوَّر على إجابة بدون فايدة، وانشغالي بالبحث عن إجابة خلَّاني ماخُدش بالي من حاجة كانت بتحصل بدون ما أنتبه. المسافة بيني وبين العيون كانت بتقِل، ومع قربها منّي سمعت صرخات رهيبة، حاجة كِدَه أشبه بوصف الصيحة، طاقتي كانت أضعف من إنها تتحمّله، صرخت وأنا بكتم وداني بإيدي وبضغط عليهم بكل قوّتي، دَه غير إني قفلت عينيا عشان ماشوفش العيون اللي قرَّبت منّي بدرجة مخيفة، وفضلت على الحال ده وأنا بنتظر مصير مجهول، بدون ما أعرف إيه اللي ممكن يحصل بعد ثواني!

فَتحت عيني على صوت إزاز بينكسر، عينيا كانت مزغللة والرؤية مش واضحة قدامي، وبمرور الثواني كل حاجة حواليا بدأت توضح، ساعتها استوعبت إني في أوضتي وعلى سريري، وإني لسَّه صاحية من كابوس اتسبِّب في إني اتفزعت وأنا نايمة، ونتيجة الفزع إن إيدي خبطت كوبّاية المَيَّه اللي جنبي على الكومودينو فوقعت انكسرت..

استعذت بالله من الشيطان؛ وبدأت أنظَّم أنفاسي عشان أسيطر على ضربات قلبي اللي كانت زايدة عن الطبيعي، في الوقت دَه باب أوضتي اتفتح ودخلت "ميرنا"؛ أختي التوءم، قرَّبت بخطوات سريعة ناحيتي وهي بتقول لي:

-أنتِ كويسة يا "عبير"؟

مجاوبتش على سؤالها، مُش لأني معرفش إن كنت كويسة ولا لأ؛ بالعكس، كُنت حاسّة بهبوط شديد مخليني مش قادرة أتكلّم، لكن رفعت إيدي عشان أحاول أقول لها: متقرَّبيش، خصوصًا لمَّا لمحت رجليها حافية وهي داخلة الأوضة، لكن إشارة إيدي مكانتش كفاية عشان تفهم اللي عاوزة أقوله، قرَّبت من السرير عشان تطمّن عليا، والنتيجة إنّها صرخت لمَّا داست على كَسر إزاز الكوباية اللي في الأرض، ساعتها بَس بدأت ترجع لورا وهي بتتنطَّط على رِجلها السليمة وماسكة رجلها اللي الإزاز دخل فيها، الدَّم كان بينقَّط منها، لمَّا شُفت المنظر قاومت حالة الوهن اللي عندي وقُمت من السرير، تفاديت الإزاز وأنا نازلة على الأرض، مسكتها من إيدها وسندتها، قعَّدتها على نهاية السرير وقعدت قدامها، رفعت رجلها المجروحة ولقيت قطعة إزاز غارزة فيها، جمّدت قلبي وسحبتها، بعدها كتمت الدَّم بإيدي، كل ده وماكنتش لسَّه قادرة أنطق، بَس لأن جِسم "ميرنا" كان بيتنفض في إيدي، حاولت أتجاوز الصمت والخوف اللي كنت فيهم، لسّاني كان تقيل وأنا بقول لها:

-تعالي ننزل نروح المستشفى.

جاوبتني وهي بتحاول تمثّل إنها كويّسة وقالت:

-الجرح بسيط، الموضوع مش محتاج مستشفى.

-طاوعيني واسمعي الكلام، تعالي ننزل.

-أنتي اللي طاوعيني وجاوبيني، إيه اللي بيحصل معاكي يا "عبير"؟ دي مُش أوّل مرَّة أدخل أوضتك وأنتي بتصرخي وصاحية من كابوس.

استغربت كلامها، خصوصًا إني بشوف الكابوس دَه للمرَّة الأولى، دَه غير ذهولي إنها عرفت إني شُفت كابوس من غير ما أجيب لَها سيرة، بَس قُلت في نفسي: شيء بديهي إن اللي بيصرخ لحظة ما بيقوم من النوم بيكون شايف كابوس، عشان كِده تجاوزت النقطة دي وعلَّقت على اللي لَفت انتباهي في كلامها وقُلت: 

-أنا أوّل مرَّة أشوف الكابوس دَه.

-لأ مُش أوّل مرَّة، من سنين والكابوس دَه بيتكرَّر معاكي.

دمَّاغي لفَّت والدنيا دارت بيّا، خصوصًا لمّا كمّلت كلامها وقالت:

-في السنين اللي فاتت حكيتي كتير عن الكابوس دَه، المكان الضلمة والعيون البيضا؛ الخطوات اللي رِتمها بطيء، وإيدك اللي بتقفلي بيها ودنك وأنتي بتحاولي تمنعي نفسك من سماع الصرخات.

كنت بسمعها وأنا مذهولة وبهِز راسي بالرَّفض، أنا مُش فاكرة أي حاجة من اللي "ميرنا" بتقولها، ولا فاكرة إني شُفت الكابوس ده قبل كِدَه أو إني حكيت لحد عنُّه، واللي رعبني إنها بتحكي عن تفاصيله وكأنها هي اللي شافته مش أنا.

إيدي ارتعشت فجأة، سيبت رجلها وقُمت من مكاني، وقفت قدامها وبحلقت فيها بدون ما أعلَّق، دماغي كانت هَتنفجر من التفكير، ماكنتش قادرة أصدَّق إن الكابوس بيتكرر وإني حكيت عنُّه، وفي نفس الوقت؛ ماكنتش قادرة أنكر حقيقة التفاصيل اللي قالتها، وبسبب كل دَه؛ لساني تِقل أكتر وأنا بنكر كلامها وبقول لها:

-التفاصيل اللي قُلتيها مظبوطة، لكن أنا ماشوفتش الكابوس دَه قبل النهارده ولا قُلت لِك عليه.

قامت من مكانها ووقفت على رجلها المجروحة بالعافية، مسكتني من إيدي وقالت لي:

-اهدي يا "عبير"، دَه مجرَّد كابوس حتى لو اتكرَّر.

-المشكلة مُش في الكابوس، المُشكلة إني فعلًا ماشوفتوش قبل كِدَه.

حاولت على قد ما تقدر تهدّيني وقالت لي:

-أنا عارفة إننا الفترة اللي فاتت عدّينا بضغوط كبيرة، آخرها موت ماما الله يرحمها، بعد ما كانت هي اللي فاضلة لنا من بعد وفاة بابا، إحنا ممكن نفتكر نفسنا تجاوزنا الضغوط وانتصرنا عليها، من غير ما نعرف إن هيَّ اللي انتصرت علينا وسابت جوَّانا أثر يتسبب لنا في كوابيس وينغَّص علينا حياتنا، وللأسف؛ الضغوط دي تأثيرها على النّاس بيختلف من شخص للتاني، وواضح إنها سايبة أثر كبير جوّاكي، واللي بيحصل معاكي دَه بسببها.

لمَّا شافت تأثير كلامها على ملامحي، حاولت تاخد الكلام في ناحية تانية، ابتسمت وهي بتكمّل الكلام وقالت...

-المرَّة دي كسرتي كوبّاية الميَّه بسبب الكابوس، وأنا دخلت أوضتك أجري كالعادة بمجرَّد ما سمعتك بتصرخي، والنتيجة إني دُست في الإزاز، بَس يلَّا، كله فداكي.

فضلت ساكتة وأنا مركّزة مع ابتسامتها وهي بتحاول تخرَّجني من دايرة الخوف اللي اترسمت حواليَّا، وابتسامتها زادت أكتر وهي بتقول لي:

-أنتي عارفة إنك توءَمي ومصلحتك تهمني.

كلامها لفت انتباهي؛ عشان كِده قُلت لها:

-عاوزة تقولي إيه يا "ميرنا"؟

-أنا شايفة إنك لازم تروحي لطبيب نفساني، أكيد محتاجة تتخلَّصي من ضغوط كتير جوَّاكي، المشوار دَه هيساعدك، وعن نفسي هروح معاكي.

برغم إن كلامها حوّل الخوف اللي جوّايا لطاقة غضب؛ لكن تمالكت أعصابي وقُلت لها:

-أنا مُش مجنونة عشان أروح لدكتور نفساني.

ابتسمت وحاولت تمتَص الغضب اللي ظَهر في نبرتي وقالت:

-مين قال إن اللي بيروح لدكتور نفساني مجنون، الطب النفسي أبعد ما يكون عن الكلام ده، النَّفس زي أي عضو في جسمنا، وارد جدًا إنها تتعب، أومّال عملوا الطّب النفسي ليه؟

-بَس...

-مَفيش بس، أنا فاهمة دماغك، إذا كنتي خايفة من كلام الناس في حالة لو حد شافنا وإحنا رايحين، أحِب أقول لِك إن أغلب اللي بيروحوا عيادات الطب النفسي بيحاولوا يخفوا هُويّتهم، ودي حاجة مفيش أبسط منها، إحنا ممكن نشوف أي طريقة نطمس بيها شخصياتنا الحقيقية.

بعد حوار طويل وشَد وجذب وافقت على اقتراحها، مُش لأني اقتنعت أمشي في الطريق ده؛ بالعكس، أنا رُحت وعندي إحساس إني شايلة صخرة فوق كتافي؛ لمجرد بس إني أخلص من إلحاحها، وهناك الحكاية كانت أشبه بمشهد تلفزيوني، أختي انتظرتني برّه وأنا قعدت في أوضة الكشف قدام الدكتور، كنت بحكي عن أي حاجة تيجي في بالي زي ما طلب، بدأت بالكابوس اللي شُفته؛ واللي "ميرنا" قالت إني بشوفه من سنين وبتأكّد على كده، وبعد الكابوس بدأت أحكي عن حياتي؛ طفولتي؛ الفترات الصعبة اللي عيشتها بعد موت أبويا وأمي الله يرحمهم، وفي النهاية الدكتور قال: إني وارد جدًا أكون شُفت الكابوس قبل كده وحكيت عنه لأختي، وإن حالتي النفسية اتسبِّبت في خلل في الذاكرة بيخليني أنسى أحداث معينة، وده شيء عادي وبيحصل كتير، وإن ده التفسير الوحيد اللي يخلّي أختي عارفة تفاصيل الكابوس بدون ما أفتكر إني حكيت عنه، وفي النهاية كتب لي على شوية مهدّئات وقال إني محتاجة أقضي فترة في مكان هادي، وبعد ما خرجنا من عند الدكتور ورجعنا بيتنا؛ "ميرنا" أختي اقترحت عليا نروح المزرعة بتاعتنا، ساعتها قُلت لها:

-هنعمل إيه في المزرعة؟ وبعدين إحنا ماروحناش هناك غير مرَّة واحدة أيام بابا الله يرحمه أوِّل لمَّا اشترى المزرعة، وكنّا لسَّه عيال صغيَّرة وقتها.

-هنروح نقعد كام يوم في هدوء، وبعدين سؤالك غريب، يعني إيه هنعمل إيه في المزرعة، دي مزرعتنا، ومن بعد بابا الله يرحمه مَنعرفش عنها حاجة غير عم "دسوقي" الحارس بتاعها اللي بيجيب لنا إيرادها كل كام شهر، أنا هكلَّمه وهطلب منّه يخلّي "ورد" مراته تجهّز البيت اللي هناك، وأعتقد مفيش هدوء زي هناك وأنتي محتاجة دَه.

بعد ما خلَّصت كلامها ابتسمت واتكلّمت بهزار وقالت:

-ولا أنتي لسَّه فاكرة المرَّة اللي رُحنا فيها هناك؛ لمَّا جريتي ودخلتي الأرض اللي ورا البيت وماسمعتيش كلام بابا، وساعتها وقعتي والتُراب غرَّق هدومك ووشّك، وقتها بابا زعَّق لك عشان ماسمعتيش كلامه لمَّا قال لِك: متروحيش ورا البيت عشان الأرض فيها تعابين، لكن أنتي كنتي شقيّة ومش بتسمعي الكلام ودخلتي تلعبي في الأرض واتكعبلتي ووقعتي.

عصرت دماغي وبدأت أدوَّر في ذاكرتي على الموقف اللي "ميرنا" بتحكيه، حقيقي مافتكرتش أي حاجة من اللي بتقوله، ردّيت عليها وأنا مصدومة وقُلت لها:

-إيه اللي بتقوليه ده؟ مفيش حاجة من دي حصلت!

-بقول لك إيه، لو مكانش عندي إثبات إنك كنتي بتحكي عن الكابوس السنين اللي فاتت؛ فأنا المرَّة دي عندي إثبات على كلامي.

بصِّيت لها باستغراب وسألتها:

-إثبات إيه اللي تقصديه؟

-صورة في ألبوم عندي فوق الدولاب؛ لحظة أجيبه تتأكّدي بنفسك.

سابتني وراحت أوضتها وبعدها رجعت بألبوم بشوفه لأوّل مرَّة وقالت:

-الألبوم ده جمعت فيه الصور اللي محدش اهتَم بيها، منهم صور أيام ما رُحنا المزرعة، ومن بينهم صورتك بعد ما وقعتي.

كانت بتكلمني وبتفتح الألبوم، فضلت تقلِّب لحد ما وصلت لصورة تخصّني، كنت واقفة بفستان أبيض مافتكرش إنه كان عندي أصلًا، التراب كان ماليه وشَعري منكوش، بَصّيت لها باستغراب وسألتها:

-الصورة دي إمتى وإزاي؟

استغربت سؤالي وقالت لي:

-دي وقت ما كنّا في المزرعة، عم "دسوقي" جاب لنا مصوَّراتي ياخد لنا كام صورة بما إنها أوّل مرَّة نروح هناك، لكن على حظّك بقى، المصوَّراتي وصل على وقوعك في الأرض، وبابا خلَّاه يصوَّرك عشان يفضل يفكَّرك بإنك يومها مَسمعتيش كلامه، لكن الله يرحمه بقى مات بعدها بوقت قليل، ماما احتفظت بالصورة ومكانتش بتحب إنك تشوفيها، وبما إني عارفة مكانها حطيتها في الألبوم بعد موتها.

الصورة كانت دليل قوي إني خطأ وهي صح، وقياسًا على كِدَه كل شيء سمعته منها مظبوط، أكيد مُش دي المرَّة الأولى اللي بشوف فيها الكابوس، وأكيد كمان حكيت لَها عنُّه قبل كده، لكن إزاي وإمتى؟ حقيقي مُش فاكرة، ولا فاهمة حصل إزاي، لكن التفسير الأقرب؛ إنه حصل بنفس الطريقة اللي الصّورة اتّاخدت بيها بدون ما أفتكر أو أفهم إمتى وإزاي، في شيء غلط، أنا كِدَه بييجي عليا أوقات بعيش فيها أحداث معرفش عنها حاجة، وعيي مَابيكونش حاضر، والأوقات دي ذاكرتي مُش بتحتفظ بيها، عشان كِدَه بدأت أقتنع بكلام الدكتور، أنا فعلًا محتاجة أفصل نفسي عن أي حاجة، وبكده مبقاش قدامي غير إني أوافق على اقتراح "ميرنا" وأروح المزرعة كام يوم.

بعد موافقتي "ميرنا" كلِّمت عم "دسوقي" عشان يخلّي مراته تنضَّف البيت، كل حاجة جهزت بسرعة وخلال يومين كنّا هناك، سيبت "ميرنا" تتكلم مع مرات عم "دسوقي" وشدّيت شنطتي ودخلت البيت، مكانش عندي طاقة أتكلّم مع حد، حسيت برغبة في الانعزال، وده سبب إني سحبت نفسي من وسطهم ومشيت، وجوَّه البيت؛ لمحت السلم الداخلي، شديت شنطتي وطلعت الدور اللي فوق، رجلي أخدتني لأوضة بابها مفتوح، كملت في طريقي ودخلتها. قفلت الباب وحطيت شنطتي، الأوضة كانت مكتومة، أي نعم مترتِّبة وكل حاجة فيها على سِنجة عشرة لكنها مخنوقة، مشيت ناحية الشباك وفتحته، وقفت أتنفّس الهوا اللي بدأ يدخل الأوضة، عيني كانت رايحة جاية في المكان برَّه، الشباك كان بيفتح على الأرض اللي ورا البيت، ولمّا انتبهت للملحوظة دي افتكرت كلام "ميرنا"، أكيد دي الأرض اللي بتقول إن بابا الله يرحمه حذَّرني منها وكسرت كلامه ودخلتها، والنتيجة إني وقعت وفستاني اتملا تُراب زي ما الصورة بتقول، لكن تعابين إيه اللي تخلّى أبويا يحذّرني من دخول الأرض؛ ركّزت مع الأرض اللي كانت عبارة عن مساحة فاضية ورا البيت وحوالين منها سور، وبعد كام دقيقة سألت نفسي: فين التعابين؟! ولَّا التعابين كانت موجودة وقتها وهجرت المكان! 

-"عبير"!

كان صوت "ميرنا"، بصيت لقيتها ورايا في الأوضة، حاولت أخفي أثر الخوف اللي كنت واثقة إنه ظاهر في ملامحي، ابتسمت وقُلت لها:

_أنتِ هنا يا "ميرنا"؟

_أنا هنا وبَنده عليكي من ساعتها وأنتي سارحة في ملكوت الله.

الابتسامة اللي حاولت أصنعها على وشّي اختفت، أنا فعلًا كنت بسمع صوتها للمرَّة الأولى، لكني حاولت أخرج من دايرة التوهان اللي اترسمت حواليّا ومشيت مع كلامها وقُلت:

_معلش، تلاقيني سرَحت شويّة وأنا واقفة في الشباك.

_ولا يهمّك، بَس كان رأيي تاخدي أوضة تانية شبّاكها بيفتح على الجناين مُش على الأرض البايرة دي، أكيد هيفرق معاكي.

_الجناين فيها عمّال بيشتغلوا، الأرض البايرة مفيهاش حد، وأنا محتاجة هدوء أكتر من أي حاجة.

_اللي يريَّحك، عمومًا "ورد" مرات عم "دسوقي" هتجهِّز لنا شوية مشلتت فلاحي وقشطة وحاجات من اللي بالك فيها دي، هَسيبك تغيَّري هدومك وأنا كمان هغيَّر هدومي وهنتظرك في الدور اللي تحت.

مُش هَنكر إني كنت لسّه بفكر في كلامها، إزاي ندهت عليا أكتر من مرَّة بدون ما أسمع، جايز سرَحت فعلًا بدون ما آخد بالي وإجابتي كانت انعكاس لحقيقة اللي حصل، لكن على أي حال، مديت إيدي أقفل الشباك عشان أعرف أغيَّر هدومي، ويادوب مسكت درفتين الشيش وبدأت أسحبه ناحيتي ولقيت إيدي اتخشِّبت، جسمي اتكلبش في بعضه وعيني بحلقِت في الأرض لمَّا شُفت بنت بتجري، معرفش ظهرت منين ولا إمتى، ولا قدرت أفهم إزاي تجاوزت السور، مُش ده وبَس اللي كان غريب بالنسبالي، الأغرب إنها كانت لابسة فستان طبق الأصل من اللي كنت لبساه في الصورة اللي مش فاكرة إني اتصوَّرتها في يوم من الأيام، عيني فضلت متابعاها وهي بتجري وبتتنطَّط، الفستان بلونه الأبيض كان بيضوي عليها، وفضلت على الحال ده لحد ما حركة البنت بدأت تهدا واتحوِّلت من جَري لخطوة بطيئة، كل ده كان بيحصل والبنت ضهرها ليّا، ومع الوقت لقيتها بترجع بضهرها ناحيتي، فضلت متابعاها لحد ما قرّبت من البيت، ومن المسافة دي قدرت أشوف تفاصيل شعرها وضفيرتها، وقدرت كمان أشوف النقوش اللي على فستانها، يعني لو البنت وشّها ليّا كنت قدرت أشوف ملامحها وأتعرَّف عليها.

حسيت برعشة مفاجأة في جسمي لمَّا لقيتها بتلتفت ناحيتي، ولمَّا ركّزت معاها اكتشفت إن في شيء مُش طبيعي بيحصل، جِسم البنت ثابت وراسها هي اللي بتتحرَّك ببطء، لحد ما لفَّت 180 درجة، وشّها بقى ناحيتي برغم إن ضهّرها ليّا، كانت بتبُص في الأرض، وفجأة رفعت وشّها لفوق ناحيتي وفتحت عينيها وابتسمت، اتخشِّبت في مكاني لأن شُفت عينيها ممسوحة ولونها أبيض تمامًا، ضربات قلبي زادت لمّا شُفت المنظر ده قدامي، النَّفس اللي أخدته اتحبس جوّايا من الخوف، لكن البنت تلاشت فجأة من قدامي بمجرَّد ما حسّيت بإيد بتمسكني من كتفي، بلعت ريقي وأنا بحاول أتخلَّص من الخوف اللي سيطر عليّا، لكن حسّيت بأمان شويّة لمّا سمعت صوت "ميرنا" بتقول لي:

-ليه منزلتيش يا "عبير"؟

حاولت أتجاوز وأنسى البنت اللي شُفتها، بصّيت ناحية "ميرنا" عشان أنزل معاها، ساعتها رِجلي مشالتنيش، وقعت في الأرض من الصدمة؛ لأن اللي ورايا مكانتش "ميرنا"؛ دي البنت اللي ظهرت في الأرض من لحظات، معرفش إزاي وصلت الأوضة ووقفت ورايا، وبرغم إن وشّها ناحيتي وبتبُص لي؛ لكن برضه ضَهرها كان ليّا، بصّيت لها برُعب وزحفت على الأرض لحد ما ضهري لزق في الحيطة، غمضت عيني ولفّيت إيدي حوالين راسي وبدأت أصرخ، وصرخة ورا التانية لحد ما حسيت بإيد بتحاول تبعد إيدي من حوالين راسي، وفي نفس الوقت سمعت صوت "ميرنا" من تاني وهي بتقول بنبرة كلها قلق:

-مالك يا "عبير" إيه اللي حصل؟

لمَّا سمعت صوتها من تاني إيدي بدأت تفِك تلقائيًا من حوالين راسي، وبالتدريج بدأت أرفع وشّي ناحيتها، أخدت وقت لحد ما فتحت عيني؛ لأني خُفت أتفاجأ بحد غير "ميرنا" زي ما حصل من شوية، لكن اللي خُفت منُّه مَحصلش، اللي قدامي كانت "ميرنا" فعلًا، مدَّت إيدها ناحيتي ومسكت إيدي وقالت لي:

-متخافيش؛ قومي معايا.

جسمي مكانش قادر يقاوم إيدها وهي بتسحبني من الأرض، كُنت زي حتة القُماش اللي من السهل أي حد يحرَّكها، وفي النهاية لقيت نفسي قايمة من مكاني وواقفة قدام الشباك عشان أمشي معاها، وقبل ما أتحرَّك خطوة عيني راحت ناحية الأرض، كانت فاضية ومافيهاش أثر لأي حد، ودَه اللي خلَّاني أأجّل أي حاجة ممكن أتكلِّم فيها.

نزلت معاه تَحت، ترابيزة السُّفرة كان عليها مِشلتِت فلاحي وحوالين منُّه خيرات ربنا، وبرغم المنظر اللي قدَّامي؛ شهيّتي كانت مقفول بالضَّبة والمفتاح، لكن من وقت للتاني كُنت بمِد إيدي وباكل لُقمة خفيفة عشان مالفِتش انتباه "ميرنا" إن في حاجة حصلت، وكمان عشان "ورد" مرات عم "دسوقي" مَتزعلش، السِّت برضه تعبِت وجهّزت كل الأكل ده، ومَاكنتش عايزة يوصلها إحساس إني متكبّرة عليها، وبعد ما خلَّصنا والأكل اتشال وبقينا لوحدنا "ميرنا" قالت لي:

-أنا طالعة أوضتي أرتاح شوية، إيه رأيك تيجي ترتاحي عندي؟

طول عمرنا وإحنا متعوّدين إن كل واحدة فينا ليها أوضتها الخاصة، دَه اللي خلاني استغربت كلامها وقُلت:

-أنا هكون مرتاحة في أوضتي.

-بس أنا خايفة عليكي، مُش هَيجرى حاجة لو قعدتي معايا في الأوضة، على الأقل لحد ما نشوف نتيجة العلاج، جايز ربنا يزيح الغُمَّة دي بقى وقلبي يبقى مطَّمن عليكي.

مَنكسرتش قدام كلامها وأصرِّيت أطلع الأوضة اللي اخترتها، قفلت الباب عليّا وغيَّرت هدومي، بعدها قفلت الشباك عشان أقطع حلقة الوصل اللي بيني وبين الأرض، قعدت على السرير وأنا فاكرة إني سدّيت الباب اللي الريح بتدخل لي منُّه، بَس اكتشفت إن قفل الشباك مكانش كفاية، لأن بمجرَّد ما لمحت الدنيا بتضلِّم من ورا خشب الشيش، بدأت أسمع صوت خطوات في الأرض، في البداية افتكرته عم "دسوقي"، قُلت: جايز دخل الأرض يعمل حاجة، ولمَّا بدأت أركِّز؛ لقيت إن الصوت جاي من بعيد وبيقرَّب بالتدريج، وشوية وبدأت أكتشف شيء جديد، الصوت مكانش لخطوات شَخص واحد، دي خطوات أكتر من شَخص ماشيين نَفس الماشية، الرِّتم واحد، ضربات قلبي زادت وجسمي اتنفض، حسيت برعشة؛ وكأن رجليهم بتدوس في جسمي مش في الأرض برَّه، وبرغم إني كنت على يقين إن الخوف احتلّني؛ لكني صلَبت طولي وقُمت من السرير، مشيت ناحية الشباك بخطوات بطيئة ووقفت وراه، الأرض فيها حاجات منوَّرة بالأبيض وبتتحرَّك، ده اللي اكتشفته وأنا ببُص من ورا الشيش، مكانش ناقصني غير إني أعرف مصدر الضوء اللي قدامي، استمرّيت في مقاومة الخوف اللي جوايا ومدّيت إيدي وفتحت الشباك حاجة بسيطة، وساعتها اتفاجأت بأكتر موقف صادم ممكن أشوفه في حياتي..

مَنظر الأرض كان صورة طبق الأصل من الكابوس، الضلمة المُخيفة، رنِّة الخطوات البطيئة، العيون اللي باللون الأبيض، اللي اختلف؛ إن دي عيون بنات في نفس سنّي وقت ما اتصوَّرت الصورة اللي في ألبوم "ميرنا" أختي، كلهم لابسين نفس الفستان الأبيض، شَعرهم منكوش والفساتين متوسَّخة، وشوشهم مبحلقة فيَّا وأنا واقفة في الشباك، بدأت أفتكر البنت اللي لمحتها لمَّا سمعت صوت أختي بتقول لي إني اتأخَّرت، كانت واقفة قدامهم وكل البنات من وراها، مقدرتش أتحمِّل المنظر، مديت إيدي اللي بترتعش وقفلت الشباك، بعدها وقفت آخد أنفاسي عشان جِسمي يهدا والرعشة تروح، في الوقت دَه قرَّرت ألتزم بالعلاج ومقرَّبش من الشباك مهما حصل، ومفيش ثواني والأوضة بقت ضلمة، وأوّل حاجة فكَّرت فيها إن الكهربا انقطعت..

بدأت أتحرَّك في الضلمة عشان أخرج من الأوضة وأشوف شمعة أو كشاف، ومع أوّل خطوة في اتجاه الباب حسيت إني واقفة في الأرض، العيون البيضا كانت محاوطاني من كل ناحية، في اللحظة دي دار صراع بين أنفاسي وضربات قلبي على مين أسرع من التاني، وضحية الصراع ده كانت أنا، وقفت متنَّحة قدام اللي بيحصل وسألت نفسي: ده كابوس ولا واقع؟ ولقيت إن الإجابة مش هَتغيَّر من اللي بيحصل؛ لأنه حتى لو كابوس فهو واقع في الوقت الحالي وبيحصل فعلًا، حاولت أحافظ على هدئي أطول وقت ممكن، وقفت لحد ما لمحت جوز عيون من اللي موجودين حواليّا وهمّا بيتحركوا ناحيتي ببطء، الدَّم اتجمّد في عروقي، أسناني خبَّطت في بعضها من الخوف، فضلت على الحال ده لحد ما وقفوا قدامي و فضلوا يبحلقوا فيا، ومع الوقت ضلمة الأوضة بدأت تنكسر بدون ما أعرف إيه مصدر الضوء، وقتها لقيت نفسي واقفة قدام نفس البنت، ضَهرها ليَّا وراسها ملفوفة 180 درجة ووشّها ناحيتي، ولأوّل مرَّة ألاحظ إن في درجات من الخوف تقدر تخلّيك تنسى كل ردود الأفعال اللي ممكن تعبَّر بيها عن خوفك؛ لأني وقفت زي عمود خرسانة صعب يزحزحه أي مؤثر من حواليه، عجزت عن أي رد فعل من ناحيتي وانتظرت رد فعلها، وفعلًا؛ قرَّبت منّي وكان بيفوح منها ريحة الموت، وساعتها ابتسمت وقالت بنبرة غليظة:

-كان ممكن تبقي من العرايس يا "عبير"، ومُش أنتِ وبَس؛ لأ، أنتِ أو أختك أو أي بنت تانية، أي بنت غيرنا كان ممكن تلبس الفستان الأبيض وتبقى عروسة، أنتِ نفسك لبستي الفستان في الصورة، لكن مكانش ليكي نصيب تلبسيه زيِّنا في الواقع، أنتِ جيتي هنا بعد الحكاية ما خلصِت، ومن وقتها وأنتِ شايلة أثر اللعنة جوَّاكي وعايشة بيه، وبرغم إن الحكاية بالنسبة للناس خلصت لكنها لسَّه مَانتهتش بالنسبة لينا، أصلها هاتنتهي بالطريقة اللي إحنا عاوزينها تنتهي بيها.

كل كلمة كانت بمثابة لُغز، اللي قالته كان زي الإيد اللي بتضغط على راسي عشان تغرَّقني أكتر في دوامة من الغموض، وبرغم إن جسمي تقريبًا كان في حالة شَلل تام، إلا إني قدرت أنطق بنبرة كلها رعشة وسألتها:

-تُقصدي مين بالعرايس؟ 

-العرايس اللي قدامك دول، كل جوز عيون عروسة فقدت روحها وجسمها، لكن الجزء اللي مش بيموت منهم فضل عايش في عيونهم، ومستني النهاية اللي إحنا عاوزينها.

بمجرَّد ما خلَّصت كلامها العتمة بدأت تنكسر عن باقي العيون، ساعتها شُفتهم كلهم بنفس المنظر، كانوا لابسين نفس الفستان الأبيض المتوسَّخ، شعرهم منكوش وضهرهم ليّا وروسهم ملفوفة 180 درجة ووشّهم ناحيتي، وبيبتسموا نفس الابتسامة وريحة الموت بتفوح منهم، وفي لحظة كلهم بدأوا يتحرَّكوا ناحيتي، وبعد كام خطوة عملوا دايرة حواليّا، بدأت أسمع صرخاتهم، غمَّضت عيني وكتمت وداني بإيدي للمرَّة التانية، لكن اللي بيحصل مطوِّلش، الصرخات اختفت، وبدأت ألمح رعشة في الضلمة اللي قدامي وأنا مغمَّضة، مزيج من الضوء الأبيض والعتمة بيتداخلوا في بعض، زي ما يكون بينهم صراع على مين اللي هيسيطر على المكان، توقَّعت الأسوأ لكن توقّعي خاب، الضوء الأبيض هوَّ اللي انتصر، فَتحت عيني لقيت نور الأوضة موجود؛ ولقيتني لوحدي في المكان، العرايس مكانش ليها أثر، جريت ناحية الشباك وفتحته من تاني، عيني جابت الأرض من أوِّلها لآخرها، وبرغم إن الضلمة مسيطرة عليها؛ لكن عرفت إن العرايس مالهومش أثر برَّه، ودَه لأن العيون البيضا مكانتش موجودة، لأن لو ذاكرتي مُش بتخونّي، العروسة اللي اتكلِّمت منهم قالت إن الجزء اللي مش بيموت منهم عايش في عيونهم، عشان كِدَه لمَّا مالقتش ليها أثر فهمت إنهم مُش موجودين؛ على الأقل في الوقت الحالي.

قفلت الشباك وخرجت من الأوضة، مشيت في الممر ناحية أوضة "ميرنا"، باب الأوضة كان مقفول، خبَّطت عليه عشان تفتح؛ لكنها مافتحتش، اضطريت أفتح الباب بشويش وأطّمن عليها، كانت رايحة في سابع نومة، قفلت الباب عشان ماتنزعجش وتقلق من النوم، مكانش عندي رغبة أرجع أوضتي، قرَّرت أنزل تَحت، ومع أول خطوة ناحية السلم؛ سمعت صوت خارج من أوضتي وبيندَه باسمي..

"عبير"...

اتمسمرت في مكاني؛ لأن الصوت كان صوت "ميرنا"، ساعتها لُغز جديد انضَم لباقي الألغاز اللي بدأت تحصل من وقت ما جيت هنا، إزاي سمعت صوت "ميرنا" خارج من أوضتي في نفس الوقت اللي شُفتها بعيني رايحة في سابع نومة جوَّه أوضتها؟ لكني خلاص؛ بقيت متعوِّدة على اللي بيحصل، واللي بيتعوِّد ما بيهرَبش، وبيواجه حتى لو كان خايف ومرعوب من جوَّاه، أخدت بعضي ورجعت على أوضتي، وبإيد مهزوزة مسكت أوكرة الباب وفتحتها ببطء، ساعتها شُفت "ميرنا"، كانت لابسة زي العرايس، الفستان الأبيض المتوسَّخ، شعرها كان منكوش، ضَهرها ليَّا وراسها ملفوفة 180 درجة ووشّها ناحيتي، وابتسمت لي وقالت:

-كُنتي هتبقي زينة العرايس يا "عبير"، لكن الحكاية خلصت قبل ما تيجي هنا.

بعدها قرَّبت منّي كام خطوة بدون ما تنقل رجليها من على الأرض وكملت كلامها...

-إيه رأيك في الفستان؟ بذمِّتك مُش لايق عليّا؟ وأكيد كان هيليق عليكي أكتر.

كُنت واثقة إن اللي قدَّامي مُش "ميرنا"، ده شيء تاني متجسِّد في هيئتها، وعرفت ده ببساطة لأن الصوت اللي بتتكلّم بيه كان صوت مختلف، أخدت خطوة لورا كانت كفيلة تخرَّجني من الأوضة، قفلت الباب بإيد مهزوزة زي ما فتحته، مشيت بهدوء في الممر، عدّيت على أوضة "ميرنا" ومكانش عندي فضول أفتح الباب، كنت متأكدة إنها نايمة..

نزلت السلم للدور الأرضي، وأثناء نزولي لمحت "ورد" مرات عم "دسوقي"، كانت بتنضَّف البيت، أوّل ما حسَّت بوجودي بصَّت ناحيتي وقالت:

-تحبّي أعمِل لِك حاجة يا ست "عبير"؟

قرَّبت منها وقُلت بهدوء:

-شكرًا يا "ورد".

بعدها لقيت نفسي بسألها...

-أنتِ متعوِّدة تنضَّفي البيت في وقت متأخَّر كِدَه؟

-أعمل إيه، اليوم كلُّه بيروح على العيال وأبوهم، مفيش قدّامي غير الوقت دَه أنضَّف فيه البيت.

-ربنا يعينك يا "ورد".

سيبتها ورُحت ناحية أقرب كُرسي، وأوّل ما قعدت لقيت نفسي بتنفض من مكاني، معرفش "ورد" اختفت ازاي في الثانية اللي عطيتها ضهري فيها وقعدت على الكرسي، بصيت في كل مكان من البيت ولقيتها فَص ملح وداب، وفجأة سمعت صوتها من ورايا:

-أعمل لِك شاي يا سِت "عبير"؟

بصّيت ناحيتها ولقيتها واقفة بتبُص لي، مكانش عندي تفسير لاختفائها وظهورها، وعشان أعدّي الموقف قُلت: أكيد المشكلة عندي أنا، أكيد عيني خدعتني، وجايز كل اللي بيحصل معايا هنا خداع بصري بسبب حالتي النفسية اللي الدكتور قال عليها..

كل حاجة بتأكّد لي إن خطوة الدكتور النفسي كانت صَح، بَس لقيت نفسي وقعت في دوامة تانية، يا ترى العلاج وفترة الراحة هيقدروا يغيَّروا حاجة من الواقع الأليم ده؟ ولا هخرج من هنا وأنا في حالة أسوأ من اللي كنت عليها، خصوصًا إن المكان اللي المفروض يساعدني أتجاوز اللي أنا فيه، بقى هوَّ العقبة الأكبر قدامي.

لمَّا لقيتها لسَّه بتبُص لي بدون ما تتكلِّم، ردّيت عليها وقُلت لها:

-شكرًا يا "ورد"، لو احتَجت حاجة هطلبها.

بعد ما ردّيت عليها فضلت واقفة، قرأت في ملامحها إنها عايزة تقول حاجة، ساعتها سألتها:

-عايزة تقولي حاجة؟

قرَّبت منّي وعينيها على الشبابيك المقفولة، ولمّا وصلت عندي، عينها راحت ناحية شباك بعينه، مأخدتش وقت كتير عشان أستوعب إنه الشباك اللي تحت أوضتي، يعني بيبُص على الأرض، بعدها بلعت ريقها وقالت لي:

-الأرض اللي ورا البيت ملعونة، فيها عرايس كتير لابسين الفساتين البيضا، أقصد الأكفان يعني.

بعدها سكتت شويَّة وسألتني...

-ألا أنتِ عُمرك لبستي فستان أبيض يا ست "عبير"؟

جسمي قشعر وأنا بتأمّل ابتسامتها الغامضة، وفي نفس الوقت كنت بفتكر صورتي، والمرَّة دي الجمود مكانش مسيطر على جسمي وبس، دَه كمان سيطر على لساني وماقدرتش أنطق، دخلت في حالة صمت رهيبة، حتى "ورد" نفسها مَنطقتش كلمة بعد اللي قالته، سابتني ومشيت ناحية المطبخ، فضلت متابعاها لحد ما دخلت، بعدها سمعت صوت حنفية المَيَّه اتفتحت، ومعاها سمعت صوت خبط في الأطباق والحِلل، استغربت إزاي قالت الكلام الغريب ده، وبعدها سابتني لدماغي اللي شَرَدِت بسبب كلامها ودخلت تشتغل في المطبخ عادي.

قطع شرودي صوت باب البيت لمَّا اتفتح، عيني راحت ناحيته، كان عم "دسوقي" اللي لقيته بيبُص لي وبيسألني:

-إيه اللي مصحّيكي دلوقت يا سِت "عبير"؟ محتاجة حاجة؟

-مافيش يا عم "دسوقي". كل الحكاية إني قلقانة ومُش جايلي نوم، قُلت أنزل أقعد تحت شوية، أنت اللي جاي تعمل إيه دلوقت؟!

-ما تآخذنيش يعني، أنا متعوِّد كل ليلة أدخل أشقَّر على البيت، أشوف الشبابيك والبيبان وأطمِّن، أصل الأمر ما يسلمش، وبعدين البيت دايمًا لوحده، وقبل ما أدخل أوضتي لازم أدخل أطمّن بنفسي.

-فيك البركة يا عم "دسوقي".

-تسلمي يا ست الكل، محتاجة منّي حاجة؟ أصل "ورد" مراتي تعبانة في الأوضة ولازم أرجع لها!

الدنيا دارت بيّا، عيني راحت ناحية المطبخ وأنا مذهولة، لكن كالعادة تجاوزت اللي حصل وسألته:

-بتقول "ورد" مراتك مالها؟

-بعيد عنّك؛ عندها دور حرارة من العصر ونايمة زي الفسيخة في السرير، عن إذنك هروح أطمن عليها.

خرجت من ذهولي وسألته معرفش لساني نطقه إزاي وقُلت:

-عندك أولاد إيه يا عم "دسوقي"؟

-أنا ومراتي لفّينا كتير على الدكاترة زمان عشان حكاية الخلفة دي، لكن ربّنا مُش رايد، الحمد لله.

سابني وخرج من البيت، وبدأت أربط بين كلام ورد لمَّا قالت وقتها رايح على جوزها وعيالها، وبين كلامه اللي سمعته دلوقت، لأني فهمت منُّه إن اللي كانت بتكلِّمني من شوية مُش "ورد"، فضولي أخدني ورُحت المطبخ، ولمَّا دخلت شُفت "ورد"، لكن كانت لابسة فُستان أبيض وهيئتها نفس هيئة العرايس، الفستان المتوسَّخ والشعر المنكوش، وشّها مبحلق فيا بعيونها البيضا برغم إن ضَهرها ناحيتي، ولأن مهما الإنسان بقى متعوِّد وقادر يتجاوز حاجات كتير، لكن طاقته ليها نهاية، لقيت نفسي بنهار وبنزل في الأرض وأنا بصرخ، الدنيا بدأت تضلِّم من حواليا، عيني زغللت والرؤية من حواليّا بقت مشوَّشة، ومع الضلمة والتشويش؛ بدأت أشوف من حواليّا العيون البيضا وأسمع صوت خطوات بطيئة، دَه غير الصرخات اللي بدأت ترِن؛ بس المرَّة دي عجزت إني أرفع إيدي وأكتم بيها وداني؛ لحد ما بدأت أفقد إحساسي بكل حاجة حواليّا بالتدريج.

"آية الكرسي، كانت بتتردِّد بصوت أكتر من شخص"...

الصوت كان بيرِن في وداني، في الوقت ده؛ كنت حاسَّه إني شيء متجمِّد في بعضه وبيفِك بالتدريج، ومع كل ثانية بتفوت كنت بستوعب الدنيا من حواليا، وبمرور الوقت لقيت نفسي في حالة أشبه بالوعي، لكنه مُش وعي كامل، ماكنتش لسه قادرة أفتح عيني، يعني مُش قادرة أتعرَّف على أصوات النّاس اللي بتقرأ آية الكرسي، وكمان مش قادرة أحدد المكان اللي أنا فيه، عيني المقفولة خلَّت الدنيا من حواليّا ضلمة، وطالما قُلت ضلمة يبقى أكيد عرفتوا أنا كنت شايفة نفسي فين؛ الأرض، لكن التوقيت كان مختلف، رجعت طفلة عندي 10 سنين، نفس السّن اللي أبويا الله يرحمه اشترى فيه المزرعة وأخدنا الزيارة الأولى والأخيرة ليها، اللي شُفته خلاني أتأكد إن شَكل الأرض مَختلفش عن دلوقت، كأن مفيش حد بيدخلها أو بيقرَّب منها، وفي وسط الضلمة سمعت صوت أبويا وهو بيقول لي: "العبي هنا يا عبير، بلاش الأرض اللي ورا البيت عشان مفيش حاجة تقرصك"..

في اللحظة دي؛ حسّيت بشيء غريب بيجذبني ناحية الأرض، جريت جوَّاها زي المسحورة، وفي نفس الوقت العيون البيضا بدأت تظهر عين ورا التانية، وبرغم كِدَه استمرّيت في الجَري والتنطيط، لحد ما حسّيت إن في إيد مسكت رجلي وأنا بجري، وكانت النتيجة إني وقعت في الأرض، بعدها اتنقلت لمشهد تاني، شُفت أبويا الله يرحمه وهو ماسكني من إيدي وداخل بيّا المندرة بتاعة البيت، فستاني كان متوسَّخ وحالتي حالة، أمي وأختي كانوا قاعدين، ساعتها أبويا كلّمني بعٌنف وقال لي:

-مبسوطة كِدَه يا "عبير"، مُش قُلت لك بلاش تدخلي الأرض، أنا بعيني دي بشوف فيها تعابين من وقت ما اشتريت المزرعة، وكنت ناوي أجيب شركة مقاومة حشرات وزواحف تنضَّفها، الحمد لله إن مفيش حاجة قرصتك، ولو على الفستان اللي اتوسَّخ بسيطة، كل اللي مزعَّلني إني خلّيت "دسوقي" يجيب مصوَّراتي ياخد لنا كام صورة، بما إن دي أول مرة تدخلوا فيها المزرعة، هتتصوَّري إزاي بالفستان كِدَه، شُفتي بقى نتيجة عدم سمعانك الكلام؟

ويادوب أبويا خلَّص كلامه؛ ولقيت عم "دسوقي" داخل ومعاه المصوَّراتي، وساعتها أبويا قال لي:

-عقابًا ليكي بقى هتاخدي صورة وأنتِ كِدَه، عشان كل ما تشوفيها تفتكري إنك ماسمعتيش كلامي.

بعد كلام أبويا كل المشاهد اللي بتدور قدامي تلاشت، الضلمة رجعت من تاني، لكن العيون البيضا مكانتش موجودة، ولا كان في أثر لكل اللي بشوفه في الضلمة، في الوقت دَه صورتي اللي في الألبوم ظهرت قدامي فجأة، وكأن حصل معايا فلاش باك فكَرني بتفاصيل الصورة اللي كانت لغز بالنسبالي. 

شَهقت وأنا بفتح عيني؛ خرجت من ذهول لذهول، كُنت في أوضة غريبة بدخلها لأوّل مرَّة، جنبي 3 شيوخ قاعدين على كنبة جنب السرير اللي ممدّدة عليه، كان بيردّدوا في آخر كلمات من آية الكرسي، ولمَّا لقوني فتحت عيني صدَّقوا، ساعتها واحد منهم ابتسم لي وقال:

-حمد الله على سلامتك يا بنتي.

رديت عليه وأنا مُش فاهمة حاجة وسألته:

-أنا فين؟

-في بيتك ومطرحك يا ست "عبير"، أنتي عندنا في الأوضة وبقالك أسبوع مُش دريانة بالدنيا، حمد الله على سلامتك.

اللي رَد عليا واحدة سِت، لمَّا ركزت شوية لقيتها "ورد"، كانت واقفة وجنبها جوزها ومعاهم "ميرنا" أختي، ولأني ماكنتش فاهمة حاجة سألت:

-إيه اللي حصل وإيه أصلًا اللي جابني هنا؟!

ساعتها أختي اتكلَّمت وقالت:

-قلقت في وقت متأخر ورُحت أوضتك أطَّمن عليكي، ولمَّا لقيتها فاضية نزلت الدور الأرضي، لقيتك واقعة على باب المطبخ ومُش دريانة بنفسك، كل اللي كان طالع على لسانك: "العرايس؛ العرايس، الفستان الأبيض"، وكلام غريب ماكنتش فاهمة منُّه حاجة، جريت على عم "دسوقي" عشان يلحقك، وساعتها "ورد" جَت معانا رغم إنها كانت راقدة في السرير، ساعدتني أشيلك من الأرض وجيبناكي على الأوضة هنا، ومن بعدها عم "دسوقي" جاب مولانا والشيوخ اللي معاه يشوفوكي، لأن حالتك وقتها مكانتش طبيعية.

لمَّا أختي خلَّصت كلامها بصّيت ناحية الشيخ اللي كان بيبتسم لي وسألته:

-إيه الحكاية بالظبط؟ أنا فيَّا إيه؟

الشيخ ابتسم وقال لي:

-اطَّمني، حاليًا مبقاش فيكي حاجة.

-تقصد إيه بالكلام ده؟

-أقصد إن حكايتك بدأت من زمان لمَّا دخلتي الأرض وانتهت برجوعك ليها من تاني، وأنا طول الأسبوع بزورك وبعمل لِك جلسات علاج بالقرآن ورُقية أنا والشيوخ اللي معايا.

كلامه فَتح عندي باب الفضول عشان أعرف أكتر، دَه اللي خلاني سألته تاني وقُلت له:

-برضه مُش فاهمة حاجة، إيه علاقتي بالأرض وإيه حكايتها؟

-الأرض ملعونة من زمن طويل، بَس للأسف محدِّش كان يعرف الحكاية دي، واللعنة سببها هَدر دَم بنات في سِن ما قبل البلوغ، دَم البنات دي كان بيتقدِّم قرابين لفتح مقابر بيقولوا إنها في جِبال قريِّبة من المكان هنا، واللي عمل الحكاية دي عصابة بتتاجر في الآثار، كانوا بيخدّروا البنت ويلبّسوها كَفن ويسمّوها عروسة، وبعد ما تندبح دمّها بيترَش على باب المقبرة، أما جسمها كان بيندفن في الجبل بدون كفن، والفستان اللي هوَّ الكفن كان بيندفن في مكان تاني مجهول، وللأسف؛ الأرض اللي ورا بيتكم اندفن فيها أكفان كتير، ولأن الأكفان بتكون شايلة ريحة أصحابها، فالقرين الخاص بكل عروسة أو بنت ارتبط بالمكان اللي الكفن فيه، عشان كِدَه أبوكي الله يرحمه كان بيشوف تَعابين في الأرض زي ما عرفت من عم "دسوقي"، لكن دي مش تعابين زي ما كان فاهم، دول قُرناء البنات اللي أكفانهم في الأرض، لكن دخولك الأرض حرَّك اللعنة اللي موجودة، لأن العرايس وقت ما دمهم اتهدر كانوا في سنِّك، عشان كِدَه أثر اللعنة اللي في الأرض عاش معاكي وكنتي بتشوفيهم في الكوابيس؛ اللي اللعنة كانت بتمحيها من ذاكرتك في كل مرة لحد ما ييجي الوقت المناسب اللي هتفتكري فيه الكابوس، والوقت ده هيكون الوقت اللي الحكاية هتتقفل فيه بشكل نهائي، والوقت ده هو وقت رجوعك البيت اللي في المزرعة من تاني بعد السنين الطويلة دي، ولأن ده الوقت اللي الحكاية مكتوب لها تتقفل فيه، القُرناء قدروا يستغلّوكي وفضلوا وراكي لحد ما كشفوا الحقيقة على لسانك، لأن لولا اللي لسانك نطق بيه وأنتِ واقعة على باب المطبخ؛ مكُنّاش هنعرف إن المكان هنا له علاقة بالعرايس أو البنات اللي كانت بتختفي من فترة طويلة في البلد.

الذهول كان أبسط رد فعل على اللي سمعته من الشيخ، ولقيت نفسي بسأله سؤال بيلح عليّا:

-أبويا الله يرحمه كان يعرف الحكاية دي؟

-محدِّش أصلًا كان يعرف إن الأرض هنا مدفون فيها فساتين العرايس، الأكفان يعني.

لمَّا الشيخ قال كِدَه؛ لقيت عم "دسوقي" دخل في الخط واتكلِّم:

-أبوكي الله يرحمه اشترى المزرعة من راجل طيِّب، الراجل ده كان اشترى الأرض عشان يوسَّع مساحة البيت، وبنى حوالين منها سور لحد ما ييجي الوقت المناسب، لكنه باع المزرعة كلها بالبيت عشان حصلت له ظروف، وأبوكي مكانش يعرف حاجة، ولا حد فينا كان يعرف إن الأرض ليها علاقة بالحكاية القديمة دي، لكنُّه حذَّرك منها عشان كان بيظهر فيها تعابين من وقت للتاني، أنا بعيني دي كنت بشوفهم برضه، لكن ماكنتش أعرف إنهم بسم الله الحفيظ يعني قٌرناء زي ما مولانا قال. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم.

مكانش عندي رغبة أعلَّق على كلام عم "دسوقي"، كملت كلامي مع الشيخ وسألته:

-والحل إيه في حكاية الأرض؟

-أنتِ غايبة عن الدنيا بقالك أسبوع، ودَه وقت مُش قليّل وممكن حاجات كتيرة تحصل فيه، أنا والشيوخ اللي معانا لمَّا سمعنا اللي بتقوليه حفرنا في الأرض، ولمَّا لقينا أوّل كفن اتأكِّدنا من كلامك، ساعتها كمِّلنا حفر ومَسيبناش أي كفن في الأرض، ولمَّا الحكاية اتعرفت البلد اتقلبت وبلَّغنا الحكومة، والكلاب البوليسية قدرت تتبع ريحة الأكفان وتوصل لجثث أصحابها اللي مدفونة في الجبل، والجثث طلعت واندفنت في المقابر، أي نعم متحلِّلة ومش باقي منها غير شوية عضم، لكن في النهاية إكرام الميِّت دَفنه، ولازم يندفن بطريقة تليق بيه، وإلا قرينه هيفضل غضبان.

-والنَّاس اللي هدرت دَم البنات دي حد عرف طريقهم؟

-النّاس دي اتمسكت من سنين طويلة وأخدوا جزاءهم، وساعتها اتعرف إنهم سبب اختفاء بنات كتير في البلد، لكنهم مقالوش خطفوا كام بنت وأخدوا دمها قربان عشان الشيلة متكونش تقيلة عليهم، لكن قتل بني آدم زي قتل ألف، كله بيودّي لحبل المشنقة، وقتها اعترفوا على مكان كام بنت، وساعتها كل بيت اختفى منُّه بنت عرف مصيرها، لحد الأكفان اللي خرجت من الأرض بتاعتكم، تقريبًا كِدَه كل بنت اختفت في السنين اللي فاتت جثّتها ظهرت، وكان دورنا إننا نعالجك من أثر وقوعك في أرض اتلعنت بلعنة الدم ومسكونة بقُرناء البنات اللي أكفانهم فيها وكانوا في حالة غضب، أصل غضبهم مُش سهل، وعشان يوصلوا إنهم ينطقوا بالسِّر على لسانك مكانش سهل برضه، أنتِ اتأذيني نفسيًا عشان تظهري حقيقة مخفيَّة، ودفعتي ضريبة من روحك عشان تريَّحي روح بنات الجَشع قطف حياتهم وهُمَّا في نفس سنِّك وقتها، كان ممكن تبقي عروسة دمّها يترش على باب مقبرة لو وقعتي في إيدهم، لكن القدر اختار لِك دور تاني في الحكاية، يعني بدل ما تبقي عروسة من العرايس، كُنتي الدليل اللي وصَّل الناس لمكانهم. الأرض خلاص بقت نضيفة، والعرايس ارتاحت في قبورها، والحِمل اللي كان متقَّل روحك خلاص خلِصتي منُّه، نستأذن إحنا بقى.

الشيخ خلَّص كلامه وقام، والشيوخ اللي معاه قاموا، لمَّا خرجوا من الأوضة عم "دسوقي" خرَّج يوصَّلهم، وقتها حسيت إن جسمي خفيف، زي ما أكون رجعت طفلة من تاني، قُمت من السرير وطلبت من أختي نروح البيت، منتظرتش موافقتها، خرجت من الأوضة، وفي الطريق للبيت عيني لمحت الأرض، مكانش فيها شِبر إلا وكان محفور، عرفت فعلًا إن الأسبوع اللي غِبت فيه عن الوعي حصلت فيها حاجات كتير، واتحل فيه لُغز واضح إنه حيَّر بلد بحالها، وحيَّرني وطلَّع عيني معاه.

في اليوم ده صمِّمت نسيب المزرعة ونرجع شقّتنا، وفعلًا، رجعت أنا وأختي، ولمَّا وصلنا دخلت أوضتي وقعدت أفكَّر، وقُلت في نفسي: الحياة عجيبة فعلًا، وعلى قد ما الإنسان مُخيَّر، لكنه مُسيَّر في الحاجات اللي بيكون سبب فيها، يعني أنا دخلت الأرض صدفة زمان عشان ألعب وحصل معايا اللي حصل، وخرجت منها بلعنة؛ أو خلّوني دلوقت أقول: خرجت منها بأمانة شيلتها طول السنين اللي فاتت، وعِشت حياة مش مفهومة مسيطر عليها كابوس واحد كنت بشوفه وبنساه، العيون البيضا اللي قرين كل عروسة كان بيظهر من خلالها، لحد الوقت المناسب اللي افتكرت فيه الكابوس، وكان سبب إني أزور الدكتور النفساني؛ واللي طلب منّي أمشي على مُهدِّئات وأقضّي فترة في مكان هادي، عشان دايرة القَدَر تلِف وترجَّعني للمزرعة والبيت والأرض اللي وراه في وقت القدر هوَّ اللي محدِّده، كل دَه حصل بدون ما أعرف إن وقت ظهور الحقيقة قرَّب، وإني برغبتي أو بدونها كنت هروح هناك، القَدر رايد إن دَه يحصل.

-أنتِ أحسن دلوقت يا "عبير"؟

صوت "ميرنا" أختي قطع تفكيري، اتفاجئت إنها واقفة على باب الأوضة، ردّيت عليها وقُلت لها:

-أنا عُمري ما كُنت كويِّسة زي دلوقت.

ابتسمت لي ولفَّت وشها عشان تمشي، لكني لمحت ألبوم الصور في إيدها، الفضول أخدني أشوف صورتي من تاني، طلبت منها الألبوم، وساعتها جَت عندي وسابته على الكومودينو وقالت لي:

-الألبوم معاكي، اتفرَّجي عليه براحتك، يظهر إن صورتك بالفستان السماوي وحشتك.

سابتني وخرجت، فتحت الألبوم وأنا فاكرة إنها اتلغبطت في لون الفستان، قلِّبت فيه لحد ما وصلت للصورة إياها، ساعتها حسيت بذهول جديد، جايز ده آخر ذهول اتعرَّضت لُه في الحكاية كلها، الفستان فعلًا كان سماوي مش أبيض، ساعتها خطر في بالي تفسير للي حصل، زي ما العرايس قدروا يخلّوني أشوف كل الأحداث اللي فاتت، خلّوني برضه أشوف الفستان باللون ده، كأنهم خلُّوني أشوف نفسي مكانهم عشان أحِس بيهم، وما أندمش في يوم على المشقَّة اللي عيشتها في سبيل إنهم يرتاحوا في رقدتهم، زي ما أنا مُش ندمانة دلوقت وأنا بقفل الألبوم وبرجَّعه مكانه من تاني على الكومودينو، ومعاه بقفل الحكاية كلها وأنا بحمِد ربنا ألف مرَّة إني كُنت مُجرَّد سبب في الحكاية، وإني مانكتبش عليّا أكون عروسة من العرايس. 

تمت...

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
4↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
5↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
6↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
7↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
8↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
9↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
10↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350299
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205029
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190033
4الكاتبمدونة زينب حمدي176656
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138309
6الكاتبمدونة مني امين118807
7الكاتبمدونة سمير حماد 112547
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103773
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101106
10الكاتبمدونة مني العقدة98511

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

598 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع