منسا موسى
الزمان 1324 ميلادية
هرول الفارس مسرعا متشحا بردائه الأبيض المميز بعلامات الصليب الأحمر المرسومة عليه عبر إحدى البوابات الخلفية للقلعة الملكية الإنجليزية .. و ما أن وصل لأحد الأبواب حتى كان بإنتظاره الشخص الذي أرسل إليه .. و ما أن رآه الفارس حتى ركع على إحدى ركبتيه و قال و هو يضرب بقبضته على صدره " عاش الملك إدوارد " .
فأشار الملك إليه بالنهوض قبل أن يلتفت شاردا ببصره عبر نافذة صغيرة عالية .. و مرت لحظات من الصمت قبل أن يقول " ريتشارد !! أنت أحد أكثر فرساني إخلاصا و ولاءا .. و هذا ما يجعلني أود أن أصارحك بشيء "
لم يعلق ريتشارد رغم ملامح الحيرة التي بدت عليه فاستطرد الملك و هو يلتفت إلى ريتشارد " هناك مؤامرة للإطاحة بي "
فعقد ريتشارد حاجبيه و هو يقول " من ذا الذي يجرؤ على الإقتراب من القلعة ليمس جلالتكم بسوء و نحن عصبة ؟ "
فقال الملك و في صوته شبح تألم " مع الأسف لن يحتاجوا للإقتراب من القلعة .. لأنهم بداخلها بالفعل "
امتقع وجه ريتشارد بلون أحمر و ملامح غاضبة قبل أن يضع قبضته على سيفه في حركة لا إرادية فقال الملك إدوارد و هو يربت على قبضة ريتشارد " أنا أعلم بوجود المؤامرة .. و لكن لا أعلم مدى عمقها .. و لا من انضم إليها .. لذلك يجب أن أسيطر على أكبر عدد من النبلاء قبل أن يتم تنفيذها "
رفع ريتشارد يده عن سيفه و تساءل " و كيف سيكون ذلك يا سيدي ؟ "
فقال الملك " لقد فكرت كثيرا لم أجد سبيلا سوى الذهب .. الذهب سيمنحنا الوقت اللازم للقضاء على كل الخائنين المتآمرين "
فبدت الحيرة على وجه ريتشارد فقد كان يعلم أن الوضع الإقتصادي سيء بسبب سوء تصرف الملك إدوارد نفسه .. و لكنه لم يكن يجرؤ على البوح بما يفكر فاستطرد الملك " لذلك أرسلت إليك .. سأرسلك هذه المرة في مهمة دبلوماسية .. الوحيد القادر على إقراضنا المال اللازم هو إمبراطور مالي ( منسا موسى ) "
غلبت الدهشة ريتشارد و هو يتساءل " و لكنه مسلم .. كيف سيقرض الذهب لقوم بينه و بينهم عداوة ؟ "
فابتسم الملك قائلا " ستقنعه أننا نساعد على استقرار البلاد للسماح للمسلمين بزيارتها و نعمل على تطوير العلاقات السياسية و التجارية و ننشر السلام بين العالمين لوأد الحروب و الفتن "
سادت لحظات من الصمت شرد فيها ريتشارد قليلا يفكر فيما قاله الملك .. الرحلة إلى جنوب أفريقيا طويلة و خطيرة .. حتى لو نجح في الوصول إلى منسا موسى فلا يوجد أي ضمانة لإقناعه أو حتى العودة سالما .. بالنسبة إليه رحلة إلى المجهول .. و لكنه لم يجد بدا من قبول المهمة " كما تريد جلالة الملك .. لقد وهبت روحي فداءا للمملكة و لجلالتك .. و سأفعل كل ما أستطيع لتحقيق المهمة بنجاح "
ابتسم الملك و ربت على كتفيه و هو يقول " بوركت يا ريتشارد .. كنت أعلم ألا أحد يناسب هذه المهمة مثلك .. و لكن احرص على ألا يعلم أحد مهما كان بمهمتك هذه .. ولا تهمس لنفسك بها .. و اخرج من المملكة متنكرا في أسرع وقت .. و اعلم أنك في سباق مع الزمن لننقذ المملكة من براثن المتآمرين ... هيا انطلق .. ليكن الرب راعيا لك في مهمتك "
إنطلق ريتشارد إلى بيته ليعد نفسه للرحلة و قد قام خلع عن نفسه عباءة الفرسان و تنكر في زي مواطن عادي .. حمل معه ما يكفيه من ذهب و طعام قبل أن يُطرق باب بيته بطرقات يعرفها .. فتح الباب فإذا هي شابة حملت في ملامحها قدر كبير من الجمال .. دلفت سريعا و أغلقت الباب خلفها قبل أن تعانقه في حرارة و هي تقول : " ريتشارد .. لقد افتقدتك كثيرا في اليومين المنصرمين "
فقال ريتشارد و هو ينظر إليها في حب " ماري حبيبتي ..مهام الفرسان لا تنفذ كما تعلمين .. و أنتِ تعملين في خدمة الملكة .. فلا يوجد ما نستطيع فعله في الوقت الراهن سوى خدمة من نخدمهم حتى تمر هذه الأيام المضطربة .. كيف أتيتِ إلي دون أن تلحظك الملكة ؟ "
فابتسمت ماري و هي تقول " بين ذراعيّ عشيقها الدوق روجر الملكة لا تلاحظ شيئا .. تظل تتجرع من خمر العشق لتتناسى إهمال ملكك الشاذ الذي يقضي لياليه بين الخمر و الفجور .. من الجيد أنه لم يتخذك عشيقا حتى الآن .. لقتلتك بنفسي "
فضحك ريتشارد و هو يقول " لستُ نوعه المفضل و أشكر الرب على هذا .. و رغم ذلك فالقسم الذي أقسمناه يحتم علينا خدمة الملك مهما كانت شخصيته و أهواءه .. هذا أفضل من أن تسقط البلاد في الفوضى و نحن محاطون بهذا القدر من الأعداء "
قال جملته الأخيرة و قد بدا جادا قلقا مما أثار قلق ماري و هي تربت على وجهه و تتساءل " ماذا هناك يا ريتشارد ؟ " ثم لاحظت فجأة ملابسه و هيئته و جراب سفره فاستطردت متسائلة في دهشة " ماذا حدث ؟ و لماذا ترتدي هكذا ؟ "
فجذبها برفق ليجلسا إلى أريكة و قد وضعه يديها بين كفيه ليطمئنها و هو يقول " سأغيب قليلا خارج البلاد في مهمة عاجلة و سرية "
فقالت بقليل من الغضب و الحزن " كنت ستذهب دون أن تودعني ؟ "
فقال و على شفتيه إبتسامة خفيفة " علمت بأمرها منذ قليل و لم أستطع أن أعرضك إلى الخطر .."
فتسائلت في دهشة " خطر ؟! أي خطر في القلعة ؟ "
فتنهد قبل أن يبتسم و هو يقبلها على رأسها و يقول " فقط عديني أن تنتبهي إلى نفسك إلى أن أعود .. و صلي من أجلي كي يوفقني الرب في مهمتي "
فقالت ماري " أنت تقلقني كثيرا يا ريتشارد .. و لكنني قد اخترتك و أنت فارس للمملكة و أصبحت ملكا على قلبي .. و أقسمت بيني و بين نفسي على ألا أجعل من نفسي سببا لتخاذلك أو جبنك .. أحببتك شجاعا و سأدعمك و أنتظرك و أصلي من أجلك كل ليلة لتعود إلى ذراعيّ من جديد .. أعلم أن مهامك سرية فلن أشق عليك بأسئلتي حولها .. و لكن عدني أنك ستعود إلي سالما ..و عدني أن تكون لسعادتنا نصيب في حياتنا .. "
فاحتضنها بشدة و هو يقول " أعدك أنها مهمتي الأخيرة فقط للحفاظ على المملكة .. لنتزوج في أمان و سلام "
و بعد مزج دموعهما و ابتساماتهما بكلمات الحب و الوعود المزيلة بقُبَل الأمل , امتطى جواده و انطلق يشق أستار الليل إلى الميناء ليجد إحدى السفن التجارية المتوجهة إلى إفريقيا .. و بعد أن وجدها و قد أوشكت على الرحيل استطاع ان يشتري مكانا له على ظهرها قبل أن يجلس متكئا إلى أحد أركانها ناظرا إلى السماء متأملا النجوم و ذهنه تعصف به الأفكار و التساؤلات عن كيفية إتمام مهمته و إنقاذ المملكة , و عن كيفية إقناع المنسا بتقديم العون إليهم .. و بين كل هذا يطل على قلبه وجه حبيبته ماري فيبتسم و يهدأ قليلا .. و يصلي في نفسه كي تجمعهما الأقدار مرة أخرى .
************
شعر ريتشارد بالتوتر يتسلل عبر عروقه إلى نفسه و هو يرى شاطيء الميناء يقترب و لم يكن هذا ما يثير قلقه قدر شعوره بأن أحد ما يتتبعه عن كثب .. حاول أن ينفض هذا الأمر عن رأسه و هو يقول في نفسه " لابد أنه أثر قيامي بمهمة سرية ..فلا أحد يعلم عن أمرها شيء سوى الملك ذاته .. سأقوم بها " و دون أن يشعر كانت يداه تضغط على مقبض خنجره المعلق إلى خصره .. لم يستطع إحضار سيفه الضخم كي لا يلفت إليه الأنظار .. فسيوف الفرسان مميزة الشكل .
عدل غطاء رأسه كي يخفي معظم وجهه قبل أن يهبط إلى الميناء و يقطعه في سرعة .. ابتاع بعض اللحم المقدد و الخبز و أعاد ملأ قربتيه بالماء قبل أن يقوم بتجهيز جواد قوي ليقطع به رحلته إلى مالي عبر أرض موريتانيا و قبائل المور .. لم يكن يحاول الاختلاط بأحد سوى عند مروره بأحد الأسواق للتزود بطعام أو شراب له و لجواده .. و غير ذلك كان يهيء لنفسه مكانا آمنا لنيل قسط من الراحة .. و رغم ذلك لم يكن يتخلص من شعوره الخفي بأن أحد ما يتتبعه .. فكان إن استبد به التعب اتبع وسائل التمويه التي تعلمها على أيادي معلميه في الحرب ليضلل عدوه عن مكان راحته و نومه .
و ما أن عبر إلى بلاد مالي حتى بدا جليا أن هناك من يتتبعه .. حينما هبط إلى أحد الوديان في منتصف النهار لاحت منه التفاتة ليرى أربعة فرسان ملثمين أعلى تلة .. توقف عن الحركة و قد مرت لحظات من النظرات المتبادلة بينه و بين الفرسان الذين فطنوا إلى أنه قد كشف أمرهم .. تبادلوا النظرات فيما بينهم قبل أن يجمعوا أمرهم على مهاجمته و قد انطلقوا صوبه قبل أن يطلق العنان لجواده هاربا منهم .. و جرت مطاردة قوية قبل أن يدرك أن جيادهم أشد قوة و أكثر سرعة من جواده و قد ظن ريتشارد أن قلبه أشد خفقانا من قلب جواده ليس خشية على حياته .. إنما خشية على ألا يتم مهمته الملكية لإنقاذ المملكة .. شعر فجأة بتهاوي الجواد قبل ان يطلق أحد مطارديه سهما إلى فخذ جواده ... و ما أن انتصب واقفا حتى أحاطوا به و قد استل كل منهم سيفه فاستل هو بدوره خنجره و قد أدرك أن فرصة انتصاره في هذه المعركة باتت ضعيفة .. كشف احدهم وجهه مبتسما في خبث فأصابت الدهشة ريتشارد وهو يردد " جون !! "
فقال جون " كنا ننوي الترصد لك في طريق العودة ربما استفدنا مما أتيت من أجله .. و لكنك للأسف قد كشفت أمرنا و صار لزاما علينا القضاء على حياتك الآن .. تصور مدى غضبي "
فقال ريتشارد " هل تآمرتم من أجل إسقاط الملك إدوارد , ملككم ؟"
فضحك جون قائلا " إسقاط ؟ لا يا عزيزي .. سينتهي أمر هذا الشاذ إلى الأبد .. من المؤسف أن ينتهي أمرك معه .. كنت لأعرض عليك الإنضمام لنا و لكنني متأكد أنني سأهدر وقتي معك "
فعدل ريتشارد من وقفته لتأخذ وضعا قتاليا و هو يقول " إذن كفانا إهدارا للوقت "
فضحك جون و هو يشير لرفاقه أذانا ببدء المعركة فهجم أحدهم على ريتشارد الذي تلقاها بإحترافية تفادى بها ضربة سيفه قبل أن يسدد له طعنة بذراعه و أخرى بظهره و ثالثة حز بها عنقه , فهاجمه الإثنان الآخران و دارت بينهم معركة شرسة أصيب ريتشارد خلالها بعدة جراح قبل أن يتمكن من القضاء على أحدهما و بينما هم بالقضاء على الآخر قذفه جون بخنجره فاخترق جانبه و سقط أرضا في إعياء شديد .. فضحك جون و هو يتقدم إليه و يقول " ظننت َ أنك ستنجو ؟ .. ربما في حياة آخرى .."
و أشار إلى رفيقه ليقضي عليه .. و ما أن رفع سيفه حتى صرخ صرخة مكتومة ..التفت إليه جون ليجد رفيقه و قد اخترق عنقه سهم قبل أن يسقط صريعا فالتفت للخلف ليجد فارسا ملثما يهرول بجواده كالبرق اتجاه جون قبل أن يضرب عنقه بسيفه ليطيح برأسه .. ابتسم ريتشارد و هو يرى رأس جون في السماء قبل أن يسقط .. تقدم إليه الفارس الملثم و قد بدا عملاقا قويا قبل أن يقول في صوت رخيم بلكنة غير إنجليزية " تماسك .. ربما ستنجو "
و غاب ريتشارد عن الوعي تماما ...
*****************
أفاق ريتشارد من غيبوبته ليجد نفسه ليلا مغطى بحرام من جلد النمور و قد تم تضميد جراحه و لكنه لايزال متألما من أثر الطعنة التي تم كيها بالنار .. و وجد نفسها لا يزال بالصحرا و بقربه قد أوقدت نار للتدفئة و الإستنارة و قد جلس إليها رجلان أسمرا البشرة أحدهما ذو ملامح قوية و أكثر طولا و قوة جسدية فعرف أنه الفارس الذي أنقذه .. سعل ريتشارد و هو يحاول الجلوس فالتفتا إليه و قد قام إليه الفارس ليساعده و هو يقول " لازلت حيا .. و هذا شيء جيد .. "
فتلفت ريتشارد حوله و هو يقول " كم من المدة ظللت فيها غائبا عن الوعي ؟ "
فقال الرجل " هذه هي الليلة الثالثة .. نتنقل ببطء بسببك .. صدقني لقد قاومت رغبتي في تركك طعاما للسباع أكثر من مرة " قال جملته الأخيرة و قد بدا مازحا .. بينما قال ريتشارد " لا أعلم كيف أشكرك على صنيعك .. إنك لا تعلم ماذا أنقذت "
فقال الرجل و هو يشير إلى رفيقه ليحضر شرابا من إناء على النار " لا عليك .. و لكنني لاحظت أنك مقاتل بارع .. فقط خنجرك الصغير لم يسعفك أمام ميزتهم العددية .. و يبدو .. أنهم قد قطعوا شوطا طويلا وراءك عبر البحار "
قالها ببعض الخبث فنظر إليه ريتشارد في توتر دون أن يقول شيئا فقال الفارس " أنت في افريقيا أيها المقاتل .. ملامحكم جميعا من السهل أن يتم تمييزها بين الناس ..كما تستطيعون تمييز ملامحنا في بلادكم .. لتقل لي الآن سبب كل هذا .. و لماذا أنت هنا .. أتى الفتى بقدح من الشراب فناوله ريتشارد الذي تذوقه فوجد فيه مرارة ولكنه مستساغ فتسائل " ما هذا ؟ "
فابتسم الفارس و هو يقول " هذا شراب القهوة .. نصنعه من بذور اكتشفناها .. ستساعدك على استعادة نشاطك "
فرشف ريتشارد رشفة أخرى و هو يقول " تبدو جيدة .. سأخبرك الآن بما أتى بي هنا .. و أنا على ثقة بأنك ستساعدني .. فأنت تبدو نبيلا "
ابتسم الفارس قبل أن يقص عليه ريتشارد كل شيء يخص مهمته , و ما أن انتهى حتى تنامى إلى مسامعهما أصوات خيول تقترب , و بينما بدا القلق على وجه ريتشارد كان الفارس الذي لم يبد قلقا يبتسم و هو يداعب لحيته و يقول " حسنا أيها الشاب .. لدي لك نبأين أحدهما جيد و الآخر سيء .. " لم يعلق ريتشارد بينما استطرد الفارس " الجيد هو أنني منسا موسى الذي تبحث عنه و تلك الأصوات التي تقترب هي مقدمة قافلتي حيث أنني عائد من الحج .. و لكن جرت العادة أنني انطلق باكرا عنهم بغرض الصيد و المغامرة .. فأنا لا أحب أن يلهيني الترف عن خشونة الحياة .. ربما لو اتبع ملكك هذا الأسلوب لنجا "
فردد ريتشارد هامسا " لنجا ؟! "
فأومأ موسى برأسه و هو يقول " و هذا هو الخبر السيئ .. يبدو أنه عقب سفرك قد تمكنوا منه .. وردت الأخبار بأن الملكة قد تعاونت مع اللورد مورتيمر من أجل الإطاحة بالملك إدوارد .. و قد تم إعدامه "
أصاب ريتشارد الحزن و الصدمة لما سمع بينما ربت موسى على كتفه و هو يقول في أسف " يؤسفني ما حدث أيها الشاب و يؤسفني أن رحلتك لم توفق فيها .. ستكون ضيفا لي إلى أجل غير مسمى حتى تقرر ما إذا كنت تريد العودة إلى ديارك أو البقاء" .
ثم تركه موسى ليستقبل جنوده و قافلته بينما بقى ريتشارد شارد الفكر و قد شعر بأن كل حياته ذهبت هباءا و ليست المهمة فقط .. فبإعدام الملك و معرفة من تآمروا ضده بولاءه للملك و مهمته الخاصة اصبح من المستحيل أن يتركوه حيا لو عاد إلى المملكة .. و ماذا عن حبيبته ماري التي لا يستطيع أن ينسى أمرها .. شعر أنه في مأزق لا مناص منه .. و ما إلى خروج من سبيل .
*************
مر عامان و ريتشارد في قصر منسا موسى و قد ذهل مما عرف في مالي و ما رآه في موسى .. كان منسا موسى رجل علم و فارس مقدام و قد أقام مراكز العلم و الدراسة و خاصة جامعة سانكوري في مالي المزدهرة التي أصبحت كعبة للعلم و مركزا عالميا في تجارة الذهب .. و قد ضحك ريتشارد عندما اكتشف أن رحلة الحج التي قام بها منسا موسى تسببت في اضطراب سعر الذهب في العالم بسبب كم الذهب الذي تصدق به في الطريق .. و الأكثر طرافة أن موسى أثناء عودته كان قد تصدق بكل ما كان يحمله حتى أنه اقترض لإكمال رحلة عودته .
التحق ريتشارد بمجالس العلم و كان من آن إلى آخر يقابل منسا موسى الذي كان يسرد عليه قصص عن عائلته و خاصة عن أخيه الأكبر محمد الذي تنازل عن العرش من أجل رحلة استكشافية عظيمة قام بها صوب الغرب .. فقد كان فلكيا و عالما كبيرا و اهتم برحلات الاستكشاف .. و لكن رحلته الأخيرة لم يعد منها بعد .. ولا أحد يعرف عنه شيء حتى الآن .
كان ريتشارد يتابع أخبار المملكة عن طريق التجار أو المسافرين .. و قد علم من أحدهم أن ولي العهد ابن الملك إدوارد على العكس من والده تماما .. فلم يكن بالرقيق الباحث عن الملذات .. بل صار عنيفا مقاتلا يبدو دائم الغضب .. حتى أن أحد المسافرين قد قال شيئا عن نظرات الغضب التي ينظرها إلى والدته و اللورد مورتيمر .. شعر ريتشارد بعدها أن عليه التواصل مع الأمير الصغير .. فقد بدا الأمل في استعادة حياته بين أصابع الأمير الآن .. فاجتمع بمنسا موسى و ليشاركه أفكاره .. فقال موسى " نستطيع إيصال رسالة مع هدية إلى الأمير مع رسول متنكر في هيئة تاجر لنرى كيف سيتقبلها.. و لا مانع لدي من تحقيق هدفك الأول من رحلتك هنا لإنقاذ مملكتك .."
فابتسم ريتشارد في فرح وهو يقول " لا أعرف كيف لي أن أشكرك على كل شيء .. أنت غاية في الكرم و النبل حتى مع من يخالفك في العقيدة "
فابتسم منسا موسى و هو يقول " عقيدتي و نشأتي علماني حب الناس لا كراهيتهم .. نحن نحارب فقط لدفع الظلم و لنشر الرحمة و الإنسانية .. لا مجال للخيانات في العقيدة .. بل من الأنفس المريضة التي تتوق إلى النجاح و لو بدهس و خيانة الآخرين .. تعلمنا من نبينا الكريم الحكمة و التواضع و الزهد في الدنيا .. فصار لنا ما ترى من علم و ذهب و نجاحات تحت أقدامنا .. و رغم ذلك لا تسيطر علينا بل نزهد فيها أكثر فأكثر .. لأننا ننشد الآخرة و ما بعد الموت .. فلا قيمة لعداء ولا خيانة و لا دماء مسفوحة لرغبات دنيوية فانية .. لقد احترمت تفانيك و ولائك لملكك رغم شخصيته الدنيئة .. و عدم حب ذاتك هو ما جعلني أساعدك .. و من يعلم ؟! .. ربما صداقتنا تفيد مستقبل السلام بين مملكتين و قد تمتد إلى العالم ."
فابتسم ريتشارد و هو يقول " فليباركك الرب يا سيدي .. لقد تعلمت منك الكثير طوال مدة مكوثي هنا .. و أتمنى أن تدوم صداقتنا التي هي بلا شك شرف لي " .
***********
تجول التاجر حسين في مدينة لندن بضعة أيام يمارس فيها تجارة الأعشاب و الجلود و بعض الزيوت العطرية مراقبا الأجواء حول القلعة .. و ما أن علم بخروج اللورد و الملكة في نزهة حتى قدم نفسه إلى حراس القلعة بصحبته صندوق كبير من البضائع الأفريقية كهدية للعائلة الملكية .. و هم بدورهم سمحوا له بمقابلة الأمير الشاب الذي ما أن انفرد به حتى سلمه رسالة مزيلة بتوقيع ريتشارد الفارس المخلص لوالده الراحل , يبلغه فيها بأنه قد أتمم المهمة و على استعداد كي يتحرك لإعدام الخونة و استعادة العرش .. ابتهج الأمير كثيرا لما تراءت له الفرصة للإنتقام من الرجل الذي طعن والده ليحل محله في كل شيء .. فأرسل برده على الفور بأنه في انتظار قوة الذهب لتدعمه في مسعاه لاستعادة العرش المغتصب .. و أنه سيقوم بتأمين الإنتقال بعد أن يقوم بالإتفاق مع النبلاء .. و أنهى الرسالة بجملته " لن يستنشق هواء المملكة بعد الآن سوى المخلصون لنا .. من يرفض دعمنا سينتهي أمره " .
كان ريتشارد على رأس رحلة العودة مع الذهب و في صحبته مجموعة من جنود منسا موسى المتنكرين في أزياء تجار .. و ما أن وصلوا ليلا إلى نقطة الإلتقاء بالأمير و من معه من الجنود و النبلاء الذين وافقوا على دعم الأمير حتى قاموا بتسليم جزء من الذهب إلى النبلاء كما تم وعدهم .. و في سرعة قام الجميع بحركتهم اتجاه القلعة .
إندفع الأمير إلى مخدع الملكة فانتفض مورتيمر و الملكة من نومهما ليصيح الأول "ماذا هناك ؟ ما هذا الجنون ؟ " ليجد ريتشارد يلحق بالأمير كاشفا عن وجهه فبدا الذعر على مورتيمر و هو يردد " أنت ؟ .. كيف تجرؤ.." قالها و هو ينتفض ليستل سيفه بينما عاجله الأمير بوضع سيفه على رقبته فصاحت الملكة " ماذا تفعل ؟ "
فابتسم الأمير و في عينيه حماسة الدم و هو يقول " لا شيء .. أنتقم فقط "
و في هذه اللحظة دخل أحد الجنود حاملا جوال أفرغ ما فيه على الأرض فإذا هي رؤوس النبلاء الذين رفضوا دعم الأمير و كانوا أصدقاءا للورد مورتيمر .. فبدا الذعر على مورتيمر و لم ينبس ببنت شفة بينما صاح الأمير " خذوه ليتم إعدامه على باب القلعة "
فصاحت الملكة " أرجوك لا تفعل هذا "
فصاح في وجهها " لا يسعك غير قبول هذا و إلا قمت بتعليق جثتك بنفسي بجانبه قبل أن أطعمها للكلاب .. لابد أن تخجلي من خيانتك لأبي .. لقد مضى هذا العهد .. و القادم عهدي .. عهد الملك إدوارد الثالث " ثم تركها و غادر هو و جنوده , و في صبيحة اليوم التالي أعلن نفسه بين الشعب أنه أصبح الملك و أصبح ريتشارد قائد للحرس الملكي , و في هذه الأثناء التقى ريتشارد بمحبوبته ماري و التزم بوعده معها باستغلاله لعلو رصيده لدى الملك بأن يتقدم لخطبتها لتصبح زوجته المستقبلية ..
و بعد أن انفرد الملك إدوارد الثالث بريتشارد قال في حماسة " سيبدأ عهد جديد الآن .. أنا أعلم أن والدي قد أساء التصرف و اتبع شهواته مما جعله فريسة سهلة لأعداءه .. و لكنني سأصحح مساره و سأنهض بهذه الأمة على غرار جدي إدوارد الأول .. "
فتساءل ريتشارد في تردد " و ماذا عن الملكة ؟"
فعقد الملك حاجبيه و هو يقول " يكفيها أني قد أبقيت على حياتها .. و لكن هذا لسبب ما .. لنا في عرش فرنسا نصيب لا أحب أن أفقده .. سألقنهم درسا يوما ما "
فابتسم ريتشارد و هو يقول " تبدو سياسيا محنكا كجدك تماما يا سيدي "
فابتسم الملك و هو يقول " لقد أخبرتك أنني سأسير على دربه ... و لا تقلق بالنسبة لعهدك مع منسا موسى .. سيكون مرحبا به في أي وقت و لن ننسى مساعدته أبدا "
فقال ريتشارد " ربما نقوم بزيارته يوما ما يا سيدي الملك "
فأومأ الملك مبتسما و هو يقول " بعدما تستقر الأمور بالتأكيد .. أما الآن ماذا عن الشراب الذي أخبرتني عنه ؟ اسمه القهوة أليس كذلك ؟ "
فضحك ريتشارد قائلا " نعم سيدي الملك هذا الشراب العجيب من بذور أفريقية تسمى بذور البن .. يسبب النشاط للذهن و يطرد النوم على عكس الخمر تماما .. محبوبتي ماري تقوم بتحضيره الآن لجلالتكم "
ضحك الملك و هو يقول " سنرى ماذا أهدتنا افريقيا الدافئة .. ربما علينا أن نزورها فعلا يوما ما .. تلك البلاد عامرة بخير لا تشهده بلادنا الباردة .. من يعلم .. ربما تصبح ملكا لنا "
قالها مبتسما لكنها أصابت قلب ريتشارد بالقلق .. فقد بدا له أن شهية الملك إدوارد للحرب ستدمر كل شيء في المستقبل .
***تمت ****