في المساء تجف ينابيع الروح..
وتنضب شلالات السعي..
ويهجم السكون..
في بعض الليالي قد يبخل القمر بضيائه..
فيتركنا والظلام سواء..
وبداخلنا خواء..
صامتين كالعدم الفارغ من الهواء..
لا يمحي خواءه أي ضوء..
فلا يجدي مع صمت العدم أصوات..
لا يقدر على قهرها سوى أن تكتب..
تكتب سطورًا وصفحاتٍ..
تؤنس وحشة القلب..
""ليس الليل انحباس الضوء بأفول الشمس""
""الليل انحسار الضياء بذهاب الرفقة""
يتسرب إلى القلب ناعمًا مخادعًا يتشعب بين حناياه..
يذهب رجاحته.. ودفئه.. وسعادته.. وإقباله على الحياة..
"ليل النفس عتمة سرمدية لا يزيلها سوى لمسة محب صادق"
ليل قاسيٌ..
لا يعرف عبورًا سريعًا.. بل لا يعترف سوى بالاحتلال والإقامة..
يحتل الأنفاس ناثرًا صمته.. جموده.. سكونه..
وذلك الحزن القميء الذي لا صوت له..
يهمس بصوت كالفحيح..
مخيف لا طمأنينة بين ثناياه..
ليل النفس عنوانه وديدنه الوحدة حتى يضمن الخلود..
لا تجدي معه مفاوضات ولا هدنة سلام..
ينزل على مائدة الزيف.. حاملًا أحباره السرية..
والتي سرعانًا ما تزول وتزول معها العهود والاتفاقيات بكل سهولة ودون أدنى مجهود..
يطوي الجميع بين أجنحة مهارته في النقاش.. والحوار..
لا يترك لهم فرصة إبداء الرأي..
يجلس ملكًا يتقلد طاولتنا..
حيث أجلس أنا والوحدة محاربين على شفا جرفٍ هاوٍ لا سلام بيننا ولا استقرار..
ويحكم هو..
ليل النفس.. يحكم بيننا وفي عينيه قد حسم الأمور كلها بالفعل منذ أزمان..
الليل والوحدة متلازمان.. فكيف له أن يجعلني أفوز وأنجو بنفسي من براثنهما..
يجلسان قبالتي.. يسكبان السحر في عروقي..
ويجعلاني أدمن السكون والخنوع حتى أستسلم لهما..
يغذيان عقلي من نهم الذكريات حتى تصيبني تخمة الشبع.. فتأنف نفسي العالمين..
يقدمان لي طقوسًا يعلمان أني أعشقها..
قهوتي المضبوط.. أوراقي الوردية.. وكتبي الرومانسية..
فأنا أنسى حين حضورهم كل شيء..
وأنهل منهم وأؤدي طقوسي بتمام الإيمان واليقين..
في الليل..
تنام المخلوقات.. وتبقى الأرواح يقظة لا تنام..
تتهافت الفراشات على ضوء المصابيح..
وتتصاعد الأبخرة العطرية راقصة كي تغوي القمر..
وأبقى أنا في شرفتي..
أعانق قلادتي المفضلة..
وبركان يشتعل في صدري يتجدد كل ليلة يود لو يثور فأستريح..
يتعبني الألم فأغمض وأسلم نفسي للظلام..
يغمس أصابعه بين خصلات شعري يغترف من رحيقه..
ويهمس في أذني أن اكتبي تلك الكلمة حتى تهدأي:
"أحبك"
أكتبها بمداد الحنين..
وأبصمها بتلك التهجدات التي لا تهدأ في صدري..
تتسابق زفراتي مع أبخرة فنجان قهوتي..
يصنعان مزيجًا ساحرًا يخلب الألباب عطره..
وكأنه يقر ها هنا قد خلق الحب..
وها هنا يرقد ويستكين..
ألتقم رشفاتٍ منه وكأنني بها أستقل حافلة الخلود.. لأنطلق..
وقد سحرتني تعويذة الساحرة العجوز..
وأسرتني حبيسة برج الليل إلى أبد الآبدين..
في الليل..
لا تعرف الكتابة قواعد ولا ترتيب..
بل هي مناجاة صرفة بين القلب وقلبه..
حبل نجاة يتدلى من السماء يبعث أنفاسه في الأرواح فيبقيها نابضة دافئة ساكنة..
في الليل..
تعشق الوحدة ووحشتها وقسوتها..
وتكتب عنها بينما تعانقها وتسلمها نفسك طواعية.. وكأنه إقرار منك أنه لا أحد يعرف السبيل لإرضائك سواها..
تبتسم وأنت تفرد ذراعيك وتلقي نفسك بين أمواجها..
بينما هي تفتح لك ذراعيها تستقبلك باسمة تتعهد لك بأنك ستنجو وستكون معها في أمان.. حتى ولو بقيت وهي وحيدين إلى الأبد..
كل ليلة..
بعدما أنهي ماراثوني اليومي.. أستلقي لأسكب كلماتي عوضًا عن الدموع.. حتى يرتاح قلبي وتهدأ أفكاري التي تتصارع في رأسي مطالبة بحريتها..
أكتم أنفاسي وأنا أنشد السكون..
فيهمس القلم ""أنا هنا""
وتصيح الأوراق "" أعيدي لأراضينا الحياة""
وتصرخ الصفحات أن اروينا فنحن عطاشى لأحبارك وزفراتك..
تتردد أصواتها بين الجدران تبعث بي قوة لا أدري من أين انبعثت.. فأقوم ومعي ظلي يتراقص سعيدًا بتحررنا جميعًا من براثن الليل..
ولا يعرف أننا صرنا أسراه الأثيرين..
في الليل..
يتكلم الجميع.. ويبقى الليل صامتًا يصغي ولا يقاطع..
لا يجادل.. ويسجل الأحداث دونما بادرة تزييف..
في الليل..
لا تخف الوحدة.. بل أحسن استقبالها واجلس معها جلسة المحبين فتنعش وترتوي..
ساعدها..
أطفئ الأنوار..
وهيئ الأجواء..
اسكب لنفسك كوبًا من القهوة..
وافتح دفاترك..
فربما..
في لحظة صمت خالدة..
قد تكتب ملحمة فارقة..
ومعها يولد من وحدتك نص..
يخلد ذكراك.. ويبقى..