جارة القمر
---
لطالما تمنيت لو كنت غير مرئية!
لا يراني أحد.. بينما أرى الجميع..
أجوب الأرجاء براحة وسعادة..
أتجول بدلالي وعفويتي.. وبساطتي..
أنطلق هنا وهناك بحرية.. بلا قيود..
ألهو وألعب وأجرى.. كما يحلو لي..
أرتدي ما أشاء.. وأفعل ما أشاء..
وأخرج وقتما أشاء..
لا أحمل عبء تدخل مزعج.. أو تطفل سمج.. أو نظرات فضولية سواء كانت ساخرة أو مستنكرة..
تمنيت لو أتمتع بوحدة فريدة من نوعها..
لا أعبأ فيها ببشر ولا قيود..
ولا تقاليد أو أعراف..
أن أعيش الحياة وأتذوقها..
ولكن..
في ركن ما بداخلي..
تكمن تناقضات مربكة..
رغم يقيني بأن الوحدة جميلة إلا أني أخافها جدًا..
ورغم إدعائي بأني قوية إلا أني في قرارة نفسي أدرك أنني هشة جدًا..
رغم جموحي واندفاعي اللذان يسبقان في بعض الأحيان حذري وتعقلي..
وما بين يقين وشك..
وصبر وجزع..
أعترف بأني من داخلي مشتتة جدًا جدًا..
وخائفة جدًاااا.....
أخاف أن أعيش بلا رفقة..
أو أموت فأفارق أحبتي.. وتنهش أوصالي براثن الوحدة..
أخاف ألا يعود لإسمي وجود ولا لطيفي ذكر..
أخاف أن ينساني الجميع وأبقى بلا صحبة..
أخاف من الأماكن المظلمة والضيقة والعالية..
أخاف أن يتوق كفي لعناق حين ينبسط طلبًا له فلا يجد كفًا آخر يحتويه ويصافحه.. ويطمئنه..
فيعود منكسرًا خالي الوفاض..
أخاف من كلمة قد تجرحني..
أو خذلان قد يسلب طمأنينتي..
أو لقاء قد يؤجج لهيب ذكريات لا يخبو..
أخاف التعلق ومن ثم الفقد..
أخاف القرب الذي يعقبه فراق..
أخاف من كل شيء..
فلا شيء بات يمنحني الراحة..
بل تصاحبني غصة مريرة دائمة تجعلني أريد أن أبكي ولا تبرح حلقي..
تكونت نتيجة لكل أزمة.. وألم.. وخذلان..
وتغيرت معهم نظرتي للأشياء.. وللأشخاص.. وللمشاعر..
باتت فاترة جامدة بلا حياة..
لم يعد هناك ما قد يجعلني أنبهر أو أصرخ فرحًا وأقفز من السعادة..
أو ما يجعل قلبي يدق ويخفق.. ويطرب لحدوثه..
لم يعد هناك ما قد يؤثر في مجريات أيامي..
جميعها مشاهد مكررة.. وبدايات فاترة.. وسيناريوهات عبثية بلا جدوى..
ربما هو ذلك ما يسمونه النضج..
ربما نضجت حقًا..
ذلك النضج الذي لا يرتبط بعمرٍ..
بل هو نتاج التجارب والمواقف والأزمات..
نضج جعلني فهمت ما قصده محمود درويش في كلماته وأشعاره.. وشعرت بمغزى سخرية صلاح جاهين المريرة في رباعياته..
جعلني أتساءل مع كل سطر أقرأه عما عاشه ذلك القلب ليثور بركانه بكل هذه الفيضانات والبراكين من التعابير والكلمات.. والألم..
نضج كلفني كثيرًا للحصول عليه.. ودفعت الثمن غاليًا حين حصلت عليه..
أكثر شيء يزعجني ويؤرقني هو ذلك الشعور بداخلي والذي لا أدري كنهه..
وكأنه حنين خامد مازالت بذرته لم تجف وتتيبس..
لأيامٍ.. وعيونٍ.. وأشخاصٍ.. ومواقف..
حنين رغم جمال الشعور به إلا أنه يغرقني أكثر في دوامات بحار الوجع.. والخوف..
الخوف اللا مبرر ..
من اللحظة التالية.. من القادم..
من الأيام والأشخاص والمستقبل..
خوف يغمسني في خضم من المشاعر المختلطة..
حزن مقبض..
نفس محطِّمة..
قلب مكسور..
حنين مهلك..
خاطر مفتت..
كم هو صعب ما قد مررت به!
ربما يكون الآتي أيضًا صعبًا.. أو أصعب..
ولكن الأصعب والأثقل على النفس هو أن تعيش التجارب الواحدة تلو الأخرى.. فتخلص لنفس النتيجة..
الرفض والنفور والهوان..
ورغم كل ذلك..
تحن وتشتاق..
ربما مازال بداخلي جزء لم ينضج بعد حقًا..
مادمت أنني مازالت أرى قيمتي في عين من أحب.. وليست نابعة من حبي وتقديري لذاتي.. وذلك ما يودي بروحي دومًا للسقوط في هاوية الألم الحقيقي..
ويغرقها في دوامة التساؤلات المهلكة..
هل أهمهم؟ هل أعنيهم ويعنيهم وجودي من عدمه؟
هل مازالوا على عهد الحب أم ملوا الوصال؟
هل لا يفرق الوجود معهم من العدم؟
هل كان كل ذلك الحب وهمًا وسرابًا؟
تساؤلات تجتاح كياني كتسونامي مدمر لا يترك من خلفه شيء ولا يذر..
فقط.. أطلال نفسٍ جاءت بريئة فلوثتها أيدي الأيام..
عاشت على الأمل وبه..
وعن الحب نقبت بين الصخور حتى تعبت أناملها وتجرحت.. فكلت ووهنت وسقط كتفاها..
وصار كل ما تأمله هو أن تكون غير مرئية..
فلا تثقل بعبئها على عابر أو تنفر منها مقيم..
تعيش كريمة وتمر كريمة وتنزوي كريمة..
لا ترجو قادمًا جديدًا.. فما عادت تحتمل فقدًا آخر..
فكل فجر حتمًا يليه غروب..
وكل ربيع يعقبه ذبول..
تجلس منتظرة تحقق رجائها..
أن تضحى غير مرئية..
يرعاها القمر بأستاره..
تختبئ خلف خيوطه الفضية..
وحين الرحيل تذهب معه..
مع أمل عودة البدر يومًا..
وعودتها..
جارة القمر...