الثانية فجرا
عزيزي صاحب المقام الكبير
حسنًا..
لا تقلق يا قمري..
ولا تبتئس لغيابي..
"أنا بخير"
ما زال صدري يعلو ويهبط..
ما زالت أنفاسي تسرق من الفجر النسمات..
ومن الشروق نداه..
ومن الشمس دفئها..
ومن الليل مِسكه وعنبره..
ما زالت أناملي تداعب الفراشات..
وبشرتي تتحنى بألوانها الحنون..
وأصابعي تنعم بنعومة ملمسها..
ما زلت أحتضن الكون بحنان بين ذراعي..
وأسبق الريح كلما ناداني ودعاني للسباق..
ومهما تخللتني رعشة الوحدة.. وبرودتها المؤلمة..
فأنا ما زلت أضحك.. وأبتسم..
وتلمع عيناي بالمحبة عاكسة حبي وولعي بالحياة..
أداعب وجنات الورود وأملأ رئتي بعبيرها النقي..
ما زلت أغمض عيني وأنطلق في رحلات خيالي..
أنزع الشمس من مستقرها وأضعها دبوسًا ناريًا يزين خصلات شعري الحريري..
وما زالت حدقتي اللامعتان تعكسان لون المساء..
أقضم من الغيمات قضماتٍ منعشةٍ باردةٍ لذيذة..
وأسبق الغزالات والنمور..
أريح ظهري فوق أمواج البحور..
وألهث بكل تعبٍ جميل وسعادة..
ورغم إنهاكي ما زلت أربت على خدود المنهكين..
وأهمس في حنايا قلوبهم..
"لا تحزنوا ولا تقنطوا..
ما زال هناك أمل.. ما دام في الصدر نفس يتردد"
أنزع من شهب الفضاء نورًا يمحو عتمات قلبي وضيقه..
أرتمي بين أشباهي..
لا.. هم ليسوا فقط أربعون.. أشباهي كثيرون..
أعرفهم جيدًا حتى ولو كانوا لا يعرفونني..
عيوني مرآة تعكس الألوان..
حتى ولو غادرت الألوان مواطنها..
ولساني ينطق بشذرات الأمان..
حتى ولو هجرت المعاني أعشاشها..
ولو غادر كل الكون كونه..
ما زلت أنا هنا..
ولو تعثرت بين ظلمات الآلام..
وسقط مرات ومرات..
وبكيت واعترضت ويئست واستسلمت..
بكل كبرياء سأنهض شامخة مرفوعة الرأس..
وأقول:
"أنا بخير"
سأعلم من حولي معنى العطاء.. ولو تناسوه..
وألقن القساة فضل الحنان.. ولو وأدوه..
سأصمت في وجه الجهلاء..
وأصمد في وجه البخلاء..
بخلاء الإنسانية والمشاعر الآدمية..
سأكمل طريقي حتى أظل أتنفس..
وأبقى بين الأحياء أسير..
سأعقد مع النوم هدنة سلام..
له مني عيني فقط.. وأنا لي قلبي وذهني لنعيش في أمان..
مهما تألمت سأبتلع الآهة وأكمل في صمت..
"سأبقى في خير"
سأنسج حرائر الذكريات..
وأربط الذاكرة بالأماكن والوجوه..
سأصافح صفحات كتبي..
وأعانق حروفها ونقاطها وسطورها..
سأعهد بقلبي لك يا قمري ولن أقلق عليه بعد الآن..
لن أشغل بالي برفقة أو بوحشة..
بوحدة أو بصحبة..
سأعانق غربة روحي.. وأعتاد ذهاب أنفاسي..
سأصافح الشوارع الجديدة..
والملابس العصرية..
والتجمعات المتكلفة..
والمرايا المزيفة..
والضحكات الزائفة..
سأتقبل أصحابها..
وسأتقبل اختلافي عنهم.. واختلافهم عني..
سأهجر نفوري من البسمات المنمقة.. والمدح المتقن..
وسأترك الدفة للّحظات توجهها كيفما تشاء..
لن أسقط.. فلا خيار لدي..
إما أن أكمل.. وإما أن تبتلعني الأيام وتدهسني بين أنيابها..
سأقر بيني وبين نفسي بكراهيتي لكل من خدشوا بكارة مشاعري..
وسأعلن على الملأ نفوري وتنصلي من زيف شعاراتهم وتلونهم وكذبهم..
وسأحتوي بين راحتيّ من تبقى معي من أحبتي في عشي الصغير..
سألقم جوع حناجرهم بصدق مشاعري..
وأبدد خوفهم بصدق نبضي وأحيله أمنًا وطمأنينة..
لن أترك نفسي للغربة تنهشها أكثر من ذلك..
ليس لدي الكثير من الخيارات..
ولكني أمتلك الخيار الأوحد والأهم..
فأنا أمتلك:
"منى.. جارة القمر"
وأنا وحدي المسؤولة عنها وعن قلبها وسعادتها وأمانها وطمأنينتها..
ولو غادرها وخذلها كل من حولها..
سأعينها دومًا ألا تنهار..
مهما تاقت نفسها لراحة الاستسلام..
وشارفت أقدامها أن تصل إلى حافة التيه..
سأعيدها بكل سلام إلى أحضاني..
وأذكرها بها.. بــــ"منى"
الصبورة الحمولة..
"الأمومة والطفولة"
وسأردد دومًا بين جنباتها:
"لقد صبرتُ كثيرًا.. ومشيتُ طويلًا..
وحققت نجاحًا جميلًا..
ولن أتوقف الآن.. حتمًا لن أتوقف الآن"
وأنتَ يا قمري..
"فقط أرجوك.. عِدني ألا تترك يدي أبدًا أبدًا..
عِدني أرجوك ألا تخذلني..
فلم يعد لدى قلبي أمل.. ولا قمر.. سواك"
جارتك