بلغني أيها القمر السعيد.. ذو الرأي الرشيد..
أنه في زمان غير الزمان.. وبين بشرٍ ظاهرهم الزيف وباطنهم أشر ما يكون وكان..
في كوكب استعبد فيه القوي الضعيف.. واستغل الظالم العادل.. واستتر الجبان وراء ظهر الشجاع.. وساد المنافق والمرائي فوق كل ناطق بالحق وداعمٍ له..
كوكب استبد الظلم فيه حتى تحس وكأنه صار غيمة سوداء عزلت النور عن العالم بأكمله..
يومًا وراء يوم..
استسلم الناس للظلام.. وسلموا قلوبهم لعتمته ووحشته ووحشيته..
حتى قرر القمر أن يعتلي صفحة السماء بعد طول غياب..
غازيًا لغيماتها الداكنة ومبددًا لسوادها الذي طال سواده..
اعتلى عرشه وفرد ذراعيه..
فطافت فضيته اللامعة هنا وهناك تلمع في الحدقات وتنعش النفوس وتخطف النظرات وتخلب الألباب..
وتعيد الحياة لكوكب الحياة..
سحر ضيُّ القمر المتعطشين له وأسرهم..
حينها ضاعف القمر البدر في أنواره.. وتجلى قويًا..
ثم كشف عنها.. عن جوهرته الفريدة..
"جارة القمر"..
زهرة باسمة فريدة الألوان والعبير.. ليس في الزهور مثلها..
جنية رشيقة رقيقة كالنسمة.. تجري بين الأفلاك.. توحد الممالك والقلوب على الحب وعشق النور أينما حلت..
حلم فريد تغنى الشعراء بندرة تحققه..
نبع للحب الأفلاطوني الذي صار عبر الأزمان موالًا أسطوري يروي عن المعجزات والعجائب..
نظرت الزهرة للكون من حولها متلهفة والفضول يأسرها..
حتى سرق أنظارها وخلب لبها ذلك الكوكب بأنواره وأضوائه..
توسلت لجارها الحنون أن يرسلها إليه..
إلى هذا الكوكب المليء بكائناته الغريبة..
كائنات ظاهرها تبارك من سواه..
وباطنها نعوذ بالرحمن مما تجده فيه ومن شر ما تلقاه..
حذرها القمر أنها ما زالت بريئة تتلمس الخطى ولا قبل لها بهذا الكوكب ومن فيه..
ترجته فحن لرجائها حتى غلب حبه حذره..
وأصرت حتى غلب عنادها وإلحاحها حسمه..
حملها بين كفيه بعد أن دثرها بدثار من ضيائه..
وزينها بتاجٍ من لآلئه..
وحين تعانق والموج ليلًا.. سلمها للبحر ليوصلها حيثما أشارت وتمنت أن تكون..
لم تكن يومًا تلك الحذرة اليقظة الماكرة النبيهة الفطنة أبدًا.. بل كانت نقيض كل ذلك..
متسرعة تحسن الظن بجميع من حولها دون حساب أو تفكير..
تغلبها طيبتها وعفويتها فتظن ان كل القلوب نقية حنونة كقلبها..
تخدعها دمعة كاذبة فتبيع عمرها من أجل أن تزيلها وتمحي مرارتها عن أعين أصحابها..
ظلت تتنقل ما بين البشر..
هذا يطعن وهذا يغدر.. وهذا يمكر.. وهذا يفجر..
وهذا يسرق.. وهذا يخون..
وما بين ألمٍ وآخر.. تعد نفسها بخير سيجيء وتُمنيها..
لا بد وأن هناك خير..
سامحي وتجاوزي..
واصبري وصابري..
اصمتي واعفي وتغافلي..
ظلت تركض هنا وهناك..
تربت هنا.. وتسعد هنا.. وتحنو هنا..
وتبادر بالخير هنا.. قولًا وفعلًا..
بكل ما تملك من قوة وجهد.. وروح وطاقة.. وحب تفانٍ..
حتى أنهك كل ذلك قلبها..
واستهلك قواها.. وبدد ضحكاتها.. وأخفت بريقها..
وأُشربت في غياهب اليأس حتى كاد أن يبتلعها..
حينها قال القمر كلمته:
"كفى.. عودي إلى ها هنا..
عودي إليَّ ملاكي وجارتي.. جارة القمر"
وعادت..
عادت وقد ذبلت أوراقها الخضراء..
وتبدد نسيم بتلاتها..
وتبخر رحيقها بين جفاء القلوب وقسوة النفوس وجمودية المشاعر وجحود العقول..
ذهبت حيث كوكبهم زهرة يانعة تتوج غصنًا أخضر اللون والمضمون..
وعادت غصنًا يابسًا هشًا..
عادت جارة القمر وقد دهس قلبها.. وهتك حسن ظنها.. وأريق أملها على أرصفة قساة القلوب.. وعلى عتبات الخيانة والجحود والكراهية..
عادت وقد تبددت ابتسامتها وسكنها الخوف من كل من حولها..
واحتل الضباب عينيها.. وبدد القلق طمأنينتها..
عادت جارة القمر بعد أن تركت طيب أثرها في نفس كل من قابلتهم..
حتى ولو أنكروا هم ذلك.. ففي قرارة أنفسهم يعونه ويقرون به..
عادت جارة القمر إلى حيث كانت..
ولكن عادت وحيدة.. باهتة.. مرتجفة.. فقدت الثقة فيمن حولها للأبد..
عادت لتحتضن نفسها بنفسها..
سلمت نفسها لكفيّ القمر الحنون ليغلق عليها أنامله..
ويطبق عليها بأمانه ودفئه من جديد..
عادت جارة القمر..
ربما كانت على قيد الأحياء تسير على قدمين..
ولكنها باتت..
بلا روح ولا نبضٍ..
ولا أثر..
الليلة الثالثة والعشرون