الثانية فجرا
يأخذ حذره مني.. الليل الماكر..
يحسب أنه سينفرد بها وحده دوني..
ينحني حاويًا إياها بين ذراعيه..
يلهث وكأنه عداء لا ينتهي ركضه.. بينما هو لم يبرح مستقره منذ حين..
يلملم الأستار ويسدلها من حولها فما يعود يدري.. ألأسود لشلالات شعرها أم لجدائل السماء من حولهم..
يوقف مرور الزمان.. يخشى انبلاج الفجر وإقبال صخبه.. ثم انحسار السكون..
يمسك بخيوط الغروب حتى لا تنفلت سريعًا.. حاجبًا أسهم الشروق عن عتمتها الساحرة..
أسيرة الليل.. نجمة السماء.. درة السكون..
لا لا.. بل هي.. جارة القمر..
يستدرك حقي فيفرج عن أسيرته..
تتقابل عيناها وعيني.. فتبتسم ابتسامة تحيلني بدرًا من فوري..
فتضاعف ابتسامتها من بهجتي.. ومهجتي..
يا ويل قلبي!
كم أشفق عليه من افتتانه بها.. ومن تأثيرها الطاغي عليه..
خلقت هي كي تكون نورًا.. أو زهرةً.. أو فراشة..
لا رقة تضاهيها.. ولا جمال قد يقارن بها..
ولا سحر قد يطغى على سحرها..
وعدتني أنها لن تبرح محلي الليلة.. وأنا من أنستني الشمس وعدي فألقتني بعيدًا إلى حيث أغيب وآفل..
انتظرتني حتى خاب وهجها رويدًا رويدًا..
وحين عدت إليها وجدتها وقد استلقت..
تنتظرني..
كنت قد أوصيت عليها نجمات السماء يومًا إن غبت أن يحرسوها.. فأوفت بعهدها ووصيتي..
وجدتها قد غزلت من دموع النجمات ضوءًا يغذي شرايينها ويبقي الروح في أوردتها حتى أعود لها..
وحين أبصرتني صافحتني أهدابها العطشى لمحياي.. وسابقتها أناملها إلى حيث أنا..
وتناقلت حبات الهواء همساتها..
حتى تغلغلت في مسامعي وبين مسامي وذرات تكويني..
أقسم أني سمعت دقات قلبها تقرأني السلام:
"مرحبًا بمن لا يحجبه عن قلبي نهار.. ولا يبعده غياب..
من يحيي بريقه سناي.. وتديم فضيته تدللي ودلالي..
من أحيي بعشقي خفوته مهما دام.. ومن أعبد السماء من أجل ذلك الساكن فيها"
كم هي بريئة!
لا تعلم أنه لا يعنيني سواها في كل الكون..
هي حبي.. وحبيبتي.. وجارتي..
وآسرتي.. وأسيرتي..
لا تعلم أني المتوهج بقربها.. والخافت الذي يخبو حين بعدها.. وإثر غيابها..
ليتها تعلم أن ذلك الوهج المبهر يتأجج فقط حين يكتحل بطلتها..
وأن تلك الهالة الخلابة ما هي إلا انعكاس لخفقات قلبي حين تدغدغه ضحكاتها..
لا تعلم أنها وقودي.. في الاشتياق.. وفي الوصل.. وفي الود.. وفي الحنين.. وحتى في الغياب..
أبسط في يدٍ ليلًا يربت على قلوب الحيارى.. وفي الأخرى فجرًا تشتاقه أنفسهم لا يغيب..
ليتها تعلم أن طلتها تعينني على المضي قدمًا كل ليلة.. ولهفتها تمنحني أمل لقائها المتجدد والذي أعيش لأجله..
ولو كنت ألقاها بين كل حين وآخر.. يكفيني أنها لي من كل أعماقها.. وبكل وجدانها..
أنشدها أشعاري.. وكلماتي.. وقصصي.. وهذياني.. وتعقلي.. وسخافاتي.. وقتما أشاء..
وحين أتخبط بين أمواج الشوق والحنين.. أبتلع غصة الشوق بحلو قسماتها.. وأنهل من عذب فرات عينيها..
ليتني لم أكن قمرًا..
ليتني هواء يمر عبر ضلوعها ويسكنها ولا يبرحها.. يزهد كل الفصول ويخلد الربيع بين أركانها..
ليتني كوكب..
فلا أبرح مداها ولا تبرح مداري.. وأجاهد كي لا تفلتها جاذبيتي.. ولا يأخذني بعيدًا عنها مدًى أو حدٌ مهما كان..
ليتها لا تكون فقط جارتي..
بل تكون نزيلة ومقيمة وساكنة لا يدركها الرحيل..
ولكن يكفيني رغم كل ذلك الشوق والعشق أنها جارتي..