1ــ أغلى ما أملكُ في حياتي صورتان إحداهما مع أبي والأخرى مع أستاذي، وكلاهما كانا الأب والأستاذ معا.
2ــ الصورة مع "رجلٌ في أمّةٍ.. وأمّةٌ في رجل"، الأستاذ الذي يتطابق اسمه مع صفته وسمته، الدكتور/ السعيد رزق حجاج، فهو "سعيد" في الدارين ويضفي سعادة على كل من يقترب منه، وهو "رزق" لكل من يعرفه، وهو دائم الزيارة "حجاج" إلى بيت الله الحرام.
3ــ في مفتتحِ معلقتِه الخالِدة يتساءلُ عنترة: "هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ؟!"، وفي سؤالِ الشاعرِ الفارسِ الشيء الكثير والمعنى العميق.
4ــ وكأن عنترة يقولُ إن الشعراءَ كتبوا في كل الموضوعات ولم يتركوا مجالا إلا وأوسعوه كتابة وتفصيلا، ومع ذلك فهناك أشياء أو شخصيات مهما كُتِبَ عنها فإنها بحاجةٍ دائما إلى المزيدِ من الكتابةِ من أجلِ الشرحِ والبحثِ والتفصيلِ، ومن أجلِ ما هو أهم: منحُ الدروسِ الإضافية للأجيالِ المتعاقبة.
5ــ وسيرةُ أستاذِنا وإمامِ أساتذتِنا المؤرخ الجليل الأستاذ الدكتور/ السعيد رزق حجاج، نموذجٌ لتلك الحالة، إذ لا تعد تتابعًا مرسلًا لأيامِ رجلٍ أفنى عمرَه في تنشئةِ الأجيالِ وخدمةِ العلم، ولا هي حياةُ بنّاءٍ عظيمٍ أرّخَ لأعقد الفتراتِ في حياةِ أمتِنا، بل تتجاوز ذلك كلُه إلى كونِه الغاية والنموذج والمثال لما يجبُ أن يكون عليه العالم العامل الذي يعلمك من دون أن تدري أنه يلقنك المعرفة، ويطبع في عقلك القيمة من دون أن تشعر ومن دون أن تحسب لذلك حساب.
6ــ بمعنى أنه يمكن تقديم سيرة أستاذنا الدكتور/ السعيد رزق حجاج كونها منهجا تعليميا لمن يريد أن يصل إلى قلوب طلابه وعقولهم بأقصر الطرق، وأن يكون قدوتهم بالأفعال قبل الأقوال.
7ــ هنا يؤسسُ الأستاذُ لمنهجِهِ الخاص ويسيرُ عليه ومن ثم يرى طلابُه التطبيقَ العملي للمنهج ويتّبعونَه من دون أن يلقنهم أسسَ المنهج، بمعنى أن يتحول الأستاذُ إلى المنهج في حد ذاته، يصير هو ومهنجه صُنوين مُتلازمين، ومن هنا تأتي القيمة.
8ــ وفي سنوات عمره ــ كرجل سعيد يسعد كل من حوله ــ ظل العَلَمُ الأستاذ الدكتور/ السعيد رزق حجاج فوق قمة جبله العالي، يترفع عن الصغائر، ويكون كبيرا في المواضع التي يتصاغر فيها الكبار، نظرة الرضا من عينيه تعدل شهادة علمية، والكلمة من بين فكيه تضاهي ألف كتاب.
9ــ لذلك ــ ولأسباب أخرى ــ أصبح محورًا يلتفُّ طلابُ العلمِ حولَهُ في أوقاتِ الدرسِ الكبرى، وقد عنى بذلك أن يكون من الآباءِ المؤسسينَ لمدرسةِ مقتضاها أنّ على الأستاذِ أن يعرفَ ما ينبغي عليهِ أن يفعلَهُ، وأن يوجّهَ تلميذَهُ لما ينبغي عليه أن يفعلَهُ.
10ــ وقد جابَ أستاذنا ـ حفظه الله ـ العالمَ العربيَّ من مشرِقِهِ إلى مغرِبِهِ معلمًا وسفيرًا للأزهرِ الشريفِ، وذاعَ صيتُهُ في الجزائرِ والعراقِ والسُعُوديةِ، وغيرِها منَ الدولِ التي شكّلَ فيها وعيَ الأجيالِ حيالَ علاقاتِ بلادِهِمْ بما حولَها.
11ــ عليه لم يكن غريبا أن يحصل على جائزة رابطة العالم الإسلامي لأفضل كتاب في التاريخ الإسلامي، بالعام 2015م، وهذا لعَمري أقل ما يستحق في دنيا الناس.
12ــ ومما لا شكّ فيهِ فإنّ وجودَ عالمٍ بضخامتِهِ ــ كعبةُ أكاديميةُ يُحَجُّ إليها لفكِّ الطُلسُمِ الكامنِ حولَ تاريخ أمتنا الحديث والمعاصر ــ في حياةِ الباحثِ يُغنيهِ عنْ آلاف الأساتذة.
13ــ والأكيدُ أنَّ كلَّ الكلماتِ تتضاءلُ أمامَ فضائلِهِ، وقد كنتُ أعرفُ مسبقاً أنني مهما كتبتُ فإنّ العباراتِ ستظلُّ أمامَ علمِهِ وأبوّتِهِ كمثلِ القطرةِ إذا سقطتْ في البحرِ المحيطِ.
14ــ باختصار غير مخل: عيدُ ميلادٍ سعيدٍ لأمتنا؛ لأنه في مثل هذا اليوم الخامس والعشرين من مارس 1949 وُلِدَ: الأستاذ "السعيدُ".
15ــ وقد صدق الله عندما قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا}، وصدق من جاءوا قبلنا حين قالوا: "من جاور (السعيد) يسعد"، وقد جاورت نبلك وعلمك وأستاذيتك أستاذي وأبي الحبيب.