1- في ذكرى احتفالات أكتوبر عام 1995 وحين كان الطفل يجلس بالمقعد الأول فى الفصل برفقة زملائه طالبا بالصف الرابع الابتدائي بمعهد بني سويف الديني الأزهري القديم، دخلت الأستاذة مديحة عبد الرحمن، المدرسة التي تجمع على نحو نادر بين "الخير والحق والجمال"، وطلبت أن يكتب الطلاب موضوع تعبير عن حرب أكتوبر، وعندما سألها الأولاد عن عدد الأسطر المطلوبة قالت: "على قدر ما تقدروا المهم ألا يقل الموضوع عن 9 أسطر".
2- انتهى اليوم الدراسي وعاد الطفل المفعم بالأمل والمشغول بالتفكير في شؤون الدنيا وفي تاريخ بلاده وأمجادها ولحظات كرامتها الوطنية، إلى بيته وبدأ يكتب الموضوع فإذا به يتجاوز الكراسة كلها (28 ورقة)، ولأن عددا من أصدقاء أبيه كانوا من الأبطال الذين شاركوا في صناعة النصر، إلى جانب عدد من آباء زملائه ومعلميه؛ فقد قرر أن يكتب الموضوع فى كشكول كبير (80 ورقة).
3- هكذا ظل طارق محسوب أبو النصر، الطفل البالغ من العمر نحو 10 سنوات، أسبوعا كاملا يكتب ويدوّن ويحلل ليخرج بموضوع الإنشاء الذي طلبته المدرسة.
4- وعندما عاد إليها في الحصة التالية ومعه 80 ورقة (160 صفحة) مكتملة فيها شهادات من أبطال الحرب أنفسهم، وانطباعاته الشخصية عن المعجزة، كانت المُعلمة على موعد مع اكتشاف أن الطفل لا بد أن يصبح كاتبا أو مفكرا أو مؤرخا أو شيئا ما من هذا القبيل.
5- نظرت الأستاذة مديحة عبد الرحمن إلي تلميذها بكثير من الدهشة والذهول، وتأملت عينيه اللامعتين الدامعتين بنشوة الإعجاب، واصطحبته إلى شيخ المعهد الأستاذ سيد زهران، وأخبرته بأنها طلبت من الطفل موضوع إنشاء 9 أسطر فعاد إليها بـ"كتاب"، ثم قالت: "ألا تتفق معي يا أستاذ سيد أن لدينا عباس عقاد صغير في المعهد؟!".
6- ساعتها أراد الأستاذ سيد زهران أن يخلِّد اللحظة، وامتطى صهوة الحكاية، وتشبث بإغراء الفخر، واستدعى أمجاد الأزهر الشريف، ونظر مليا إلى شرفة الحجرة إذ تقسم ضوء النهار إلى شرائح، وتأمل انعكاس الغد في جبين الطفل الصغير، ومنحه مكافأة قدرها 12 جنيها، وأرسل الكشكول ذي المئة وستين صفحة في مظروف ذهبي اللون إلى المنطقة الأزهرية، مخبرا قياداته بأن في معهده طائرا ليس ككل الطيور، لونه زاهي جدا لدرجة تميزه بحدة عن الآخرين.
7- من يومها أيقن الطائر الطفل أنه لن يفعل شيئا إلا التغريد، وأن تغريده لن يكون إلا إرضاءً للحق والخير والجمال، وأن ولاءه لن يكون إلا لربه ووطنه وجيش بلاده الذي صنع هذه الملحمة.