محاولة تفكيك العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية إثر حرب الاثني عشر يوما
1ــ من يتابع الشكل الراهن للعلاقات الإيرانية ــ الأمريكية في ظل عقوبات متلاحقة من واشنطن على طهران وتحدي إيراني يصل إلى حد القبول بالمواجهة العسكرية إذا لزم الأمر، وعدم التخلي عن الثوابت الوطنية المتعلقة بالحق في امتلاك برنامج نووي وعدم الخضوع للقوى الخارجية التي لطالما عانت منها البلاد، يفطن إلى أن الطرفين اختارا سبيل المواجهة والمضي قدما فيها إلى مداها الأبعد، وهو ما يمكن أن يفسر في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية.
2ــ تعد نظرية ما بعد الكولونيالية إحدى النظريات المهمة والمفيدة لجهة فهم وتحليل وتفكيك شكل المشهد الراهن في العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية، هذا إذا افترضنا جدلا أن هناك حملة أمريكية جديدة على إيران بأيادي إسرائيلية، وهو أمر دارج للغاية في الظرف الراهن لدى مجتمع تحليل السياسات في طهران ذلك الذي يرى أن هناك حربا جديدة على إيران لا مفر منها؛ خاصة أن كل مسوغات عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية في فجر الجمعة 13 يونيو 2025 ما تزال قائمة، بل أضيف إليها أزمة المفتشين النوويين واحتمال استخدام الترويكا الأوروبية آلية الزناد "سناب باك" الخاصة بإعادة كل حزم العقوبات الدولية على إيران كما كان هو الحال قبل توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة "الاتفاق النووي" لعام 2015.
3ــ ومن المهم للغاية أن هناك فريقا وازنا بين النخب الإيرانية حاليا لا يرى أمريكا ممثلا للنظام الدولي الراهن الذي تقوم العلاقات الدولية فيه على مبدأ القوة والردع والخضوع الاقتصادي فحسب؛ بل يراها من زاوية الإرث الاستعماري العميق، والكيفية التي تستمر بها ما تعرف بـ"المركزية الغربية" في صياغة المفاهيم السياسية العامة بدءا من "الدولة المتحضرة" و"دول التهديد"، ومرورا بـ"محور الشر" و"الآخر الشرقي" و"الإسلاموفوبيا" انتهاء إلى مرحلة "الدول المارقة" و"الإيرانوفوبيا"، وبالتالي فهذا الآخر الأمريكي هو تهديد ماثل أمام إيران يتحين الفرص تلو الأخرى للانقضاض عليها بهدف الاستحواذ على مقدراتها ونهب ثرواتها.
4ــ في القلب من هذا التوتر الذي يشطر الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط إلى شطرين غير متكافئين، تقف العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية كمرآة عاكسة لصراع أبعد من البرنامج النووي والعقوبات الاقتصادية والعمليات العسكرية، بمعنى أن الصراع يتخذ شكله في إيران الراهنة على أنه سردية مشبعة بأشباح التاريخ القريب، ومثقلة بإرث استعماري لم ينته بعد، وبتراكمات رمزية يعجز السلاح عن احتوائها، ويعجز العقل الإستراتيجي الغربي عن حل أحجياتها من دون تفكيك ذات النظرة الاستعلائية التي حكمت سياساته لقرون عديدة.
5ــ هكذا تبدو العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية مثل ساحة صراع رمزي بين مركز لا يزال يكتب العالم بلغته، وبين هامش يصر على كتابة نفسه بلغته الخاصة، ولو بدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، أو بالحبر الغاضب على أوراق يوقعها المرشد الأعلى علي خامنئي، أو بالإعلام الصارخ في وجه الوجود الأمريكي بقواعده وإعلامه وحاملات طائرات وغواصاتها النووية على مرمى البصر في الإقليم، ثم بالصواريخ الباليستية وبالطائرات المسيرات بل وباليورانيوم المخصب عند درجة نقاء تضاهي ستين بالمئة.
6ــ إنه الصراع الذي يجيش في الصدور بين المعسكرين الأول الإيراني الذي خضع للاحتلال والاستعمار في مرحلة الكولونيالية التقليدية بالسلاح، والثاني الأمريكي الذي دأب على السيطرة على ثروات الأمة الإيرانية، وقد تجلى ذلك في لحظة إسقاط حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953، عن طريق عملية أجاكس التي خططت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية، وتمكنت من تحييد مصدق وقذفه خارج التاريخ، ثم إعادة الشاه مرة أخرى من منفاه في إيطاليا لحكم البلاد.
7ــ وهو ما رسخ في الذاكرة الجمعية للأمة الإيرانية التي رأت مفهوم "الهيمنة الغربية" وعايشته باعتباره الأصل البنيوي للعلاقة مع واشنطن، غير أن هذه الهيمنة تحولت من السيطرة المطلقة على المقدرات والثورات إلى محاصرة الأمة وعقابها لأنها خرجت عن النسق وتحدت النظام الكولونيالي الجديد في مرحلة ما بعد الكولونيالية السابقة.
8ــ فإيران ما بعد الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق لم تعد دولة مستقلة، بل تحولت ــ على الأقل في المخيال الشعبي الثوري ــ إلى ساحة تجريب لمقولات المركزية الغربية، بدءا من "التحديث القسري" مرورا بـ"العلمنة المفروضة"، وانتهاء بـ"التحالف الأمني" الذي كانت واشنطن ترى فيه مظلة، وكانت طهران ترى فيه قيدا من فولاذ، أحال البلاد في عهد الشاه من أمة ذات حضارة وقوة سياسية إقليمية إلى مجرد شرطي أمريكا في الخليج يضرب بالعصا كل من يشذ عن الطوع الأمريكي.
9ــ ولقد جاءت الثورة الإيرانية لعام 1979 لا باعتبارها حدثا سياسيا صرفا، بل بوصفها تكسيرا معرفيا في معمار الهيمنة، وإعلانا لرفض الخطاب الغربي الذي ينظر إلى غيره من الأمم بوصفها لا تزال في طور النقص، وفي حاجة دائمة إلى وصي "عاقل" يصدر لها النظام الديمقراطي والسياسات الاقتصادية والثقافات الاجتماعية.
10ــ فالثورة على هذا النسق وبهذا المعنى، لم تكن انقلابا على الشاه فقط، بل على فكرة "التابع" نفسها، وعلى النسق الذي قسم العالم إلى "سيد وتابع"، و"مركز وهامش"، و"غرب عقلاني وشرق عاطفي"؛ ولذلك أول أمر فعله الخميني تقريبا هو التحول الفكري من "التغريب إلى التعريب"، وقد رد الغرب بلسان واشنطن على هذا الخروج من الطاعة التاريخية، بحصار لغوي قبل أن يكون اقتصاديا وسياسيا، فصارت إيران "راعية للإرهاب"، و"نظاما مارقا"، و"محورا للشر".
11ــ وهي تسميات تكشف ــ من منظور ما بعد الكولونيالية ــ ليس فقط عن الخوف الغربي العام من البرنامج النووي الإيراني؛ بل عن فقدان المركز لقدرته على السيطرة على خطاب الهامش، وخوفا من تجرؤ الهوامش الأخرى على المركز فتصبح حالة النظام الدولي الذي تحكمه أمريكا كنظام سياسي خائف من ثورة شعبية على كيانه الهش، هذه الثورة لا تمثلها إلا الأمم التي تدرك حجم المفاسد التي ألحقها المركز بالهوامش.
12ــ من هنا يمكن فهم الأساس الذي بنت عليها طهران عصيانها وامتناعها عن الخضوع للمركز، فلقد أبدت طهران، خلال السنوات الست والأربعين الماضية، مقاومة عنيدة لكل محاولات الاحتواء المعرفي والسياسي، ولم تكن خلافاتها مع واشنطن خلافات على إجراءات؛ بل على التسمية نفسها، وعلى السيطرة الفكرية في حد ذاتها، وصارت تطالب بأن يكون لها الحق في توصيف علاقاتها مع أمريكا من منظورها هي وليس من منظور الآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة التي تصنف الأنظمة وتقولبها وتدافع عنها أو تهاجمها وفقا لخضوعها للإملاءات.
13ــ هنا برز السؤال الأصعب: من يملك الحق في توصيف الآخر؟! ومن يحق له أن يُعرف "الإرهاب" و"الدفاع المشروع" و"الحرية"؟! ومن بيده المضي قدما في علاقات التحالف أو علاقات العداء؟! للإجابة عن هذه الأسئلة التي تكتنفها علامات الاستفهام كانت الحاجة ماسة إلى إسقاط نظرية ما بعد الكولونيالية على الحالة الراهنة في العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية.
14ــ ففي ظل إدارتي ترامب الأولى والثانية، بدت العلاقات بين واشنطن وطهران ويكأنها مراوحة بين التفاوض والقصف، ولكن خلف هذه المراوحة تقبع أزمة أعمق، إنها أزمة خطاب من الدولة المركز نحو الدولة الهامش، فالإدارة الأمريكية بالرغم من اختلاف نبرتها التهديدية عن نبرة إدارة بايدن ومن قبله أوباما، لم تبرح موقعها الإمبريالي من حيث البنية، بحيث إنها لا تزال تصنف الآخر وتقولبه وتنمطه وتعاقبه وتفاوضه من الموقع الأعلى.
15ــ وقد قالها ترامب صراحة "عليكم أن تخضعوا لشروطنا وتأتوننا مستسلمين"، في حين أن إيران تفاوض وتحارب في حربها التي تصفها بأنها "مفروضة" من موقع الجرح التاريخي الغائر، بحيث إن كل خطوة في مسقط أو في روما، وكل تصريح عن احتمال العودة للمفاوضات، وكل طائرة إسرائيلية وأمريكية حلقت فوق أجواء طهران وقصفت مقدرات أمتها، تُقرأ في عاصمة القاجاريين لا بوصفها أداة عسكرية للإخضاع السياسي والإكراه الدبلوماسي، بل باعتبارها اختبارا جديدا لمعنى الكرامة الوطنية في عالم لا يعترف بندوب الجغرافيا ولا بأي لغة سوى لغة القوة المطلقة.
16ــ من هذا المنطلق وبعد حرب الأيام الاثني عشر (13 يونيو 2025 ــ 24 يونيو 2025م) فإن التصعيد العسكري بين إيران وأمريكا بأيادي إسرائيلية قادم لا محالة، مع ارتفاع احتمالات انخراط الولايات المتحدة في حرب شاملة ومطولة؛ لإخضاع إيران مرة واحدة وأخيرة وإلى الأبد.
17ــ على هذا النحو وفي ضوء "نظرية ما بعد الكولونيالية" لا تبدو تلك المواجهة المرتقبة صداما عسكريا صرفا، فالمواجهة ليست فقط حول منشآت ناتنز وفردو وأصفهان أو برنامج الطائرات المسيرة أو برنامج الصواريخ الباليستية أو حتى نزع سلاح حزب الله وقصة حصرية السلاح بيد الدولة التي ينادي بها الرئيس جوزيف عون في الظرف الراهن؛ بل عن رفض إيران أن تختزل في دور "الفاعل المزعج" الذي يجب تقويمه من جانب أمريكا "الوصية الراشدة" التي تعتبر نفسها أبا للأمم تؤدبها وتعاقبها وتحرمها من المصروف إذا اقتضت الضرورة ذلك.
18ــ في داخل إيران تنظر النخب على اختلاف توجهاتها وأطيافها على أنها وريثة حضارة كبرى ولا بد لها أن تكون مركزا روحيا وفلسفيا، ومكان ينطق بلسانه الخاص، وهو ما اتفق عليه المجتمع ــ للغرابة الشديدة ــ برغم كل التباينات الثقافية والعرقية والسياسية؛ لدرجة أن لصا قرر سرقة منزل فلما دخله وجده مركزا إسرائيليا لصناعة الطائرات المسيرة لصالح الموساد، فقرر الرجل ــ الذي برغم فساد أخلاقه إلا أنه يتمتع بحس وطني عميق ــ إبلاغ السلطات عن الأمر، وقد كرمه المدعي العام الإيراني بالفعل؛ لأنه اللص الوطني الذي علت عنده مصالح الأمة على مصالحه الشخصية.
19ــ أما إسرائيل في مثل هذا السياق فتمثل في المخيال الإيراني رأس الحربة لمشروع الهيمنة الغربية، وبالتالي فإن أي حرب معها، أو مع الولايات المتحدة، لن تفهم في طهران كصراعٍ على مقدرات ومواقف أو حتى على منشآت نووية؛ بل كحلقة جديدة في صراع أنطولوجي وجودي حول تعريف الذات وموقعها في هذا العالم المضطرب المفعم بالصراعات والتحديات.
20ــ على هذا النحو فإنه ما من أفق لتفاهم إيراني ــ أمريكي في المديين القريب والمتوسط، ما لم يتم حل العقدة بين البلدين من جذورها، إذ مهما انخرط الجانبان في مفاوضات سواء في مسقط أو في روما أو في غيرهما؛ فإن ذلك لن يؤدي إلى سلام مستدام وتسوية شاملة وفق مفهوم الحل النهائي، ما لم تفهم أمريكا البعد التاريخي في نظرة إيران لها، وما لم تغير من خطابها تجاه الآخر الإيراني، أو تنتظر أمريكا الخيار المستحيل وهو تخلي إيران عن إرثها التاريخي في صراعها مع واشنطن التي أسقطت مصدق ودعمت الشاه ووقعت العقوبات ونهبت الثروات على طول التاريخ المعاصر، أو أن تلجأ إلى المضي قدما في مخططها لإسقاط نظام ولاية الفقيه وحمل رضا بهلوي، ولي العهد السابق، على جناح طائرة من طراز "بي 2" وإجلاسه ــ عنوة ــ على قمة السلطة في قصر الباستور.