في ذكرى ميلاده التاسعة والتسعين...
الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما يكتب عن إيران: مزورا أم جاهلا أم كلاهما معا؟!
1ـ تحل غدا الجمعة 23 سبتمبر الذكرى التاسعة والتسعين لمولد الكاتب المصري الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل (1923 – 2016)، وفي تلك المناسبة كل عام تتجدد علامات الاستفهام وتعود إلى الواجهة من جديد، والسبب في ذلك مكان صاحبها ومكانته وتأثيره العميق بالفكر المصري والعربي في السنوات السبعين الأخيرة.
2ـ والأستاذ هيكل ــ عليه رحمة الله ورضوانه ــ هو شخصية مصرية فذة وفولاذية، لا يمكنك وأنت تقرأ له أو وأنت تتابع سيرة حياته إلا أن تعجب به وبمواهبه في ضبط علاقاته بجميع من حوله في السلطة والمجتمع، بل وتندهش من قدرته الاستثنائية على الكتابة والصياغة وإجراء المقابلات والمقدرة على النجاح الفريد.
3ـ بالتالي يشكل المرحوم الأستاذ هيكل على وجه الإجمال ظاهرة حقيقية في الفكر العربي المعاصر، لو لم يقر المرء بهذه الحقيقة فهو مغرض وينكر سطوع الشمس في رابعة النهار، ولا أدنى شك في ذلك.
4ـ لكن اللافت في الأستاذ هيكل ــ لأي باحث متخصص في الشؤون الإيرانية ــ هو أنه بدأ حياته بالكتابة عن إيران في كتابه الذائع "إيران فوق بركان" عام 1951 إبّان مسألة تأميم النفط على عهد الدكتور محمد مصدق، غير أن السؤال الهادئ المهم في هذا الصدد: لما لم يُعِدْ الأستاذ طباعة هذا الكتاب الذي أصدرته دار "أخبار اليوم" الغراء وكان ثمنه في هذا الوقت 18 قرشا؟!
5ـ الإجابة ببساطة: أن هيكل كتب الكتاب وهو ابن 28 عاما، ولما كبر أكثر ونضج أكثر رأى أن فيه من الأخطاء ما يرقى إلى كونها خطايا لا يمكن أن يرتكبها صحفي مصري موهوب يحمل أمانة تصدير سمعة جيدة عن بلده إلى العالم الخارجي عموما، وإلى الشعب الإيراني على وجه الخصوص.
6ـ من الأخطاء الكارثية مثلا في كتاب "إيران فوق بركان" أن يجد القارئ في الصفحة 77 من الطبعة الأولى والوحيدة يقدم المرحوم الأستاذ هيكل آية الله أبو القاسم الكاشاني ويقول بالحرف الواحد: "وأما آية الله فهو لقب أسبغه عليه أنصاره مبالغة في إظهار تفانيهم في طاعته". (الصورة من الكلام في أول تعليق).
7ـ هنا يثول السؤال: هل الأستاذ هيكل الذي ذهب إلى إيران وإلى الحوزة وجاب العالم شرقا وغربا لا يعرف أن "آية الله" هو درجة علمية تمنحها الحوزة الفقهية لعلمائها بشروط معينة بعد اجتهاد ونشر أبحاث ومؤلفات وخلافه؟! هل كان يعرف ويخفي عن القارئ العربي؟! أم كان يجهل ويكتب أي كلام يخطر في باله ظانًا أن أحدا لن يحاسبه، وأن القراء هم أسرى تحت سطوة قلمه، وأنهم يجب أن يقولوا سمعا وطاعة في ظل هذه العلاقة بين الأسير والسجَّان؟!
8ـ شخصيا استعرت الكتاب من المؤرخ الكبير أستاذي الدكتور مصطفى رمضان عام 2006 وأعدته بعد قراءته مرة واحدة فقط، ثم اشتريته بعد معاناة وبحث طيلة 13 عاما بـ400 جنيه في عام 2019 بعد أن كلفت كل تجار الكتاب القديمة الذين أعرفهم بالبحث عن الكتاب والإتيان بنسخة لي، خاصة أن أبناء الأستاذ لم يطبعوا الكتاب مع المجموعة الكاملة لأعماله في دار الشروق بعد وفاته، عليه رحمة الله.
9ـ لقد طبعوا كل كتبه في المجموعة الكاملة باستثناء هذا الكتاب!
10ـ نأتي للكتاب الأكثر شهرة في التخصص وهو "مدافع آية الله" الذي حكى لي عنه أستاذي العالم الجليل المرحوم الدكتور/ عبد الوهاب المسيري، وهو الذي نقل الكتاب من الإنجليزية إلى العربية بمساعدة الأستاذ الشريف خاطر، مدير الدراما بالإذاعة المصرية.
11ـ الكتاب محتشد بالحكايات الملفقة خاصة عن الإمبراطورة فرح بهلوي، والسبب في ذلك بسيط وهو أنه طلب إجراء مقابلة معها في العام 1980 عندما كانت مقيمة في دار ضيافة رئاسية بحي مصر الجديدة وقد اعتذرت له لأسباب تخصها، سوف أشرحُها ــ في المكان والزمان المناسبين ــ بالتفصيل كما حكتها هي لي في مقابلات مطولة ــ مسجلة بالصوت والصورة ــ أجريتها معها في نهاية شهر يوليو من عام 2019.
12ـ للتدليل على هذا التلفيق يمكن أن نسوق مثالا واحدا صارخا فقط في هذا الصدد، فلو راجع القارئ الصفحة 231 على سبيل التحديد (الشروق، ط7، 2006) سيجد في الفقرة الأولى حكاية عن مكالمة هاتفية بين الإمبراطورة وبين الأمير صدر الدين آغا خان (1933 ـ 2003)، وقد عرّفه الأستاذ بأنه "رئيس هيئة الإغاثة الدولية للاجئين بالأمم المتحدة في جينيف".
13ـ يروي الأستاذ أن فرح ديبا أو الإمبراطورة فرح بهلوي زوجة الشاه اتصلت بمكتب الأمير بعد نجاح الثورة وسفرها مع زوجها إلى المكسيك عام 1979 وطلبت منه جواز سفر تابع للأمم المتحدة باعتبارها وزوجها وعائلتها من اللاجئين السياسيين.
14ـ الواقع أن هذه الرواية لم تحدث بتاتا لسبب بسيط، وهو أنه بمراجعة الموقع الرسمي لهيئة الإغاثة الدولية للاجئين بالأمم المتحدة في جينيف التي أوردها الأستاذ نجد أن الأمير صدر الدين كان قد تولى المنصب بين عامي 1966 ـ 1977، أي أنه لم يكن موجودا في هذا المنصب من الأساس وقت وقوع الرواية التي أوردها الأستاذ هيكل، عليه رحمة الله.
15ـ صورة من الصفحة في ثاني تعليق. وهذا رابط صفحة الأمير صدر الدين على الموقع الرسمي للأمم المتحدة: https://bit.ly/3o4OYfK. (تاريخ الزيارة: 21 سبتمبر 2022 الساعة 11 مساء بتوقيت القاهرة).
16ـ السؤال الذي يشغل بال أي باحث حتى لو مبتدئ في الشؤون الإيرانية: كيف وقع الأستاذ هيكل في هذه الأخطاء وهو من هو، وقد آتاه الله عقلا ضخما كالجبل؟! كيف لم يتدارك هذه الأمور التافهة في الطبعات المتلاحقة للكتاب وهي خطايا تطعن في الخاصرة من كتاب واسع الانتشار تمت ترجمته إلى 22 لغة في قارات الكوكب الخمس؟!
17ـ الإجابة التي يمكنك أن تعتقدها يقينا أنه هو السبب؛ لأنه لم يُقَرِّب منه إلا أتباع لا ناصحين، كان يجيد فن الابتعاد عن الناس والجلوس العالي في برجه بمكتبه الملاصق لشيراتون القاهرة على الضفة الغربية لنيل الدقي، أو العزلة البعيدة في منزله الريفي ببرقاش، كما لم يقبل محاورة أي باحث متخصص ــ على حد علمي ــ على مدى عمره التسعيني أبدا في أي ملف كتب فيه بدءا من إيران ومرورا بتركيا وانتهاء بكوريا وروسيا واليابان وغيرها من الملفات الصعبة التي اقتحمها بضراوة بدءا من العام 1941 حتى رحل عن عالمنا.
18ـ مع كل ما سبق يبقى المرحوم الأستاذ هيكل ظاهرة نادرة في تاريخ العرب المعاصر، وهو أهم وأشهر صحفي على الإطلاق في تاريخ تلك المهنة، وبرغم أخطائه البشرية وخطايا نفسه الكثيرة، يكفيه أنه من كتب خطاب نصر أكتوبر للرئيس السادات الذي يضاهي في روعته وفي أهميته النصر الذي حققه الأبطال على الضفة الشرقية من القناة.
19ـ ثم تبقى سيرة صعود الأستاذ هيكل من حارة ضيقة في الجمالية إلى قمة العالم الرحبة، حكاية ملهمة لكل من يريد أن يصبح شيئا ما، والمؤكد أن الأستاذ لم ينل هذه المكانة إلا بتعب وبعمل وبقراءة وثقافة رفيعة وقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في أغلب الأوقات.
20ـ رحم الله الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل وغفر له، رواياته الأدبية غير المحبوكة التي قدمها للقارئ في صورة الحقائق التاريخية