مؤخرا كنت في محاضرة لعدد من شبان الباحثين الواعدين وقد لاحظت أنهم متوترون ومشتتون وقد قال لي بعضهم قبل المحاضرة إنه لا يعرف كيف يبدأ وما الذي عليه فعله؛ فبدأت المحاضرة بالقصة التالية:
في عام ٢٠٠٦ تعلمت أحد أهم الدروس في حياتي إن لم يكن أهمها على الإطلاق، كنت قد أنهيت دراستي الجامعية في مرحلة الإجازة العالية "الليسانس"، وأتأهب للاستعداد للالتحاق بالعامين التمهيديين المؤهلين للحصول على درجة التخصص "الماجستير".
في تلك الأثناء انصب اهتمامي الحصري على إيران وما يجري فيها وكان انتخاب محمود أحمدي نجاد بخطابه الصارخ المعادي للغرب مادة مثيرة للاهتمام بعد ٨ سنوات من خطاب انفتاحي نوعا ما في عهد سلفه الفيلسوف محمد خاتمي.
عرفت أن الجامعة وضعت شرطا للالتحاق بالعامين التمهيديين وهو اختبار قبول شفوي لكل المتقدمين. وقع حظي السعيد بين يدي الأستاذ الدكتور السعيد رزق حجاج الذي درس لدفعتي مادة أصول الشؤون الأوروبية في الصف الثالث الجامعي والذي سيصبح بعد ذلك والدي الروحي وأحد الملهمين الكبار في حياتي وفي مسيرتي المهنية.
جلست بين يديه فقال لي: حدثني عن الكتاب الأبيض؟
وقعت الصدمة على قلبي كالجبل؛ لأنني أسمع عن هذا الموضوع للمرة الأولى في حياتي ولو لم أجب سيتم رفضي وإقصائي وإنهاء مسيرتي العلمية حتى قبل أن تبدأ.
فكرت بسرعة واستلهمت طريقة بعض المتحدثين في القنوات الفضائية وأجبت كالتالي: "الكتاب الأبيض هو أحد أهم الكتب لأنه يؤسس لما بعده وهو دليل على تطور الأحداث السياسية في الفترة التي قبله وأعتقد أن مثل هذا الكتاب كان مهما جدا في ذلك الوقت نظرا لحاجة كل الأطراف الفاعلة في المشهد إليه كما أنه مهم لمن يريد....".
قاطعني أستاذنا الدكتور حجاج وقال لي كلماته التي لا أنساها وكأنها حدثت أمس: "انظر يا محمد.. ركزي معي جدا.. لقد لاحظت فيك موهبة بحثية في مرحلة الليسانس.. اسمع مني جيدا.. أنا أسألك عن مسألة في الشؤون الفلسطينية وأعرف أنك تريد التخصص في الشؤون الإيرانية.. وأتنبأ لك بأن تكون علما في مجالك، لكن عليك أن تتذكر دائما أن عملنا لا يقوم بتاتا على الفهلوة وحلاوة الكلام المرصوص الذي لا قيمة له، وأنت هنا لست في امتحان ولا في جلسة محاكمة، وكل ما في الأمر أننا نريد أن نطمئن على قدرتك على البحث وإلمامك بالمواد التي ستدرسها، الأشرف لك أن تقول "لا أعلم" لو سئلت في غير فنك.. ابدأ من الآن في القراءة والسعي والتعلم وعليك أن تهتم باللغات.. وبالتوفيق بإذن الله في حياتيك العلمية والشخصية".
***
انتهت القصة الافتتاحية في المحاضرة والتي خضعت لقاعدة "كسر الجليد" بين المتحدث والمستمع، وساد الصمت جميع الحضور وكأن على رؤوسهم الطير وفهموا جميعا ما عليهم فعله لكي يبدأوا ولكي يصبحوا باحثين شرفاء.